ومضات عن الأغنية الكردفانية (5)

 


 

 

في نهاية الأربعينات سجلت الإذاعة البريطانية مقابلة مع امرأة كردفانية تسمي سعيدة بت دلدوم عن أغنيات الجراري. كان ذلك بعد أن ألقت الحرب العالمية الثانية أوزارها؛ فشدت سعيدة بذلك اللحن الكردفاني الخالد الذي صار على لسان كل متذوقي إيقاع الجراري: داك براقا قبلي فوق عربي وفوق إبلي يا بخيت أحلبلي لبن أم زور طايبلي وكل الذين كانوا يرصدون حركة الغناء في السودان لمحوا صوتا مختلفاً؛ مقارنة مع الأغنية التي خرجت من مجتمع أم درمان بعد المهدية وكانت جماعا لثقافات عدة، انصهرت ونتج عنها ما يعرف بأغنية أم درمان، وهي تتميز بصبغة خاصة من حيث الكلمات والتلحين، عبرت بها عن نفسها ولم يعد لها جديد على المستوي الرأسي حتى ظهرت فرقة فنون كردفان وقامت بالنقلة الثانية في الأغنية السودانية حيث أعادت الوجدان غير المصنوع مرة أخري مثلما نجد في قول الشاعرة والمغنية الكردفانية: أبويا دقاني ما تقولو ذلاني قلبي انشغل تاني بالبيت الريحاني وبهذا عاد الغزل والتشبيب دون حواجز لغويه أو اجتماعية كثيرة. وفي تقديري أن هذه اللونية كانت أكثر قربا للوجدان العام من رواد أغنيه أم درمان؛ فرغم أن الشعراء والملحنين كانوا تلقوا تعليما نظاميا واضحا إلا أنهم أخذوا أشعارهم من أفواه الشعب: الليلة غاب تومي خلوني ياخلايق نعد نجوم الليل نار الغرام ضايق ولم تدخل الأغنية الكردفانية إلى "الضرا الفني" السوداني تلك اللغة الغريبة، التي تدرك المعني بشكة سهم، ولكنها سمحت لإيقاعات الجراري والمردوم والكرنق والتوية، والأخيرة في بنائها أشبه ببناء أغنيه الحقيبة، وفي ظني أنها يمكن أن تكون الأب الشرعي لأغنيه الحقيبة؛ لأنها أقدم من قدوم ود الفكي لأم درمان ومن أمثلتها: السجادة الأهلها عجم أم ريدا لا كمل لا تم تلك اللغة وايقاعاتها جاءت للأغنية السودانية بجديد وهو إدخال ما يعرف بأرباع التون وصارت إرثاً حتى أن مؤلفا موسيقيا ضخما مثل محمد وردي توقف عندها في أغنيته الرائعة: بنحب من بلدنا ما برّه البلد سودانيّة تهوَى عاشق ود بلد في عيونها المفاتن شيء ما ليهُ حد التّوب المهبهب فوق أم الضّفائر والخد المعطّر زي أحلى الأزاهر والخطوة الأنيقة ترنيمة مشاعر أنا بيك كل عمري بمشيلها وبسافر وأستطيع القول إن داخل كتاب الأغنية السودانية هناك ملف مختلف عن السائد هو الأغنية الكردفانية التي أتت بجديدها على مستوي الكلمات والألحان والموضوع، والرجوع بالأغنية الي النهر القديم الأكثر قربا من الوجدان العام وهو التراث والموروث الشعبي الذي يتميز ببساطة الكلمات وصدقها، مع لحن وإيقاع نابع من بيئة الناس وطبيعة معيشتهم. هذه المداخلة الثرة أو "الرمية" الجميلة التي أفادني بها المخرج المبدع محمد علي مخاوى هي في واقع الأمر أفضل مدخل للحديث عن بدايات الأغنية الكردفانية وروادها من الشعراء والمطربين والموسيقيين. فمن حيث المنشأ، خرجت الأغنية الكردفانية من رحم التراث، وتصدر لها موهوبون من الرجال المبدعين فأخرجوا للناس نماذج من اللحن ذات طابع خاص من كافة الجوانب الفنية. وقد ذكرنا سلفاً أن فرقة فنون كردفان قد نشأت في مطلع ستينات القرن الماضي، إبان فترة حكم الجنرال عبود، لتكون منصة انطلاق للأغنية الكردفانية التي برزت إلى حيز الوجد منذ فترة ليست بالقصيرة قبل ذلك التاريخ، بيد أن مطربي كردفان قد بدأوا كمقلدين يرددون أغنية الوسط، لكن الراحل الكبير والشاعر الفذ إدريس محمد عبد الله البنا، عندما كان يتولى إدارة مصلحة الثقافة في الأبيض، اقترح على فناني كردفان أن يؤدوا أغانيهم الكردفانية فطفقوا ينقبون في التراث الكردفاني الأصيل حتى أخرجوا لنا هذه الدرر التي ساعد في تطويرها ووضع اللزمات الموسيقية لها أفذاذ من الشعراء مثل عبد الله الكاظم ومحمد عبد الله مريخة. والراحل الكاظم كتب أغنيات كثيرة لمختلف مطربي كردفان منها "عيني عليك باردة" للراحل ابراهيم موسى أبا: والله الليموني" "ونجوم الليل وقدريشنا" للدكتور عبد القادر سالم "ويا قلبي الله يصبرك " لصديق عباس و"وست الفريق وشقيش" لعبد الرحمن عبد الله و"ويمه الله من الريد" للفنانة زينب خليفه. وفي بواكير الستينات من القرن الماضي كانت الأبيض تستقبل أصوات شابة من الرجال والنساء، منهم حسن حسان الزبير ذلكم الرجل الأنيق الذي شدا بأغنياته التي كان يرددها كل الناس ويقول فيها: مالكم يا عوازل مالكم بينا وأعذرني ما كان بأيدي ولكنه لم يغني من التراث الكردفاني ولم يغني في الحفلات العامة، وليس لديه تسجيلات في الإذاعة أو الوسائط. وظهرت في تلك الفترة الفنانة عائشة متيانق، من جنوب السودان، وحسبما علمت أنها لا تزال على قيد الحياة وتقيم في الأبيض. وظهر مجموعة كبيرة من المطربين الشباب آنذاك من أمثال عبد القادر سالم وعبد الرحمن عبد الله وإبراهيم موسى أبا، ومن المطربات زينب خليفة وأم بلينا السنوسي، وصلاح محمد الحسن. وظهر من الموسيقيين محمداني مدني وجمعة جابر وفيما بعد عبد الله محمد نور وأميقو وغيرهم.

gush1981@hotmail.com

 

آراء