واقع المسلمين بين أسس الوحدة وعوامل الفرقة (2/2) 

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ahmedm.algali@gmail.com


    تناول االقسم الأول من هذه الدراسة :أسس الوحدة بين المسلمين،كما عرضنا لعوامل الإختلاف التي طرأت على المجتمع الإسلامي فأدت الى نشأة الخلاف بين مكوناته،وفي هذا القسم من الدراسة، نبين في المحور الثالث أثر تلك الخلافات في وحدة الأمة الاسلامية والانشقاقات بين مكوناتها،كما نعالج  في المحور الرابع والاخير السبل الى اصلاح الأمة والعودة بها الى وحدتها.

المحور الثالث: أثر الخلافات في وحدة الأمة الإسلامية

   إذا ما استثنينا الفلاسفة وبعض الطوائف الباطنية، الذين وضعوا- الى حد ما- الدين الإسلامي في مقابلة مع الفلسفة اليونانية، والأفكار الغنوصية، فإنَّ الجماعات التي أشرنا إليها-من صوفية ومتكلمين وسلفيين...الخ، كان يجمعها – على اختلاف فيما بينها- شعور مشترك بالإنتماء للإسلام، وكانت تعمل داخل الإطار الإسلامي الذي يتقيد إلى حد كبير بالقرآن والسنة، وما شذ من تلك الجماعات وتطرف لم يكن لهم ذلك الوزن الذي نسبه إليهم كتاب الفرق ومؤرخوها، وهذه مسألة لابد أنَّ نشير إليها ، ذلك أنَّ كتاب الفرق، مثل الأشعري في (مقالات الإسلاميين)، والبغدادي في (الفرق بين الفرق)، والشهرستاني في (الملل والنحل)،وغيرهم من مؤرخي الفرق الإسلامية، تأثروا في تصنيفهم للفرق بالحديث الصحيح الذي ورد عن الرسول ﷺأنه قال: " ألا إنَّ من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ،وان هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ،ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنَّة ،وهي الجماعة،وانه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الاهواء ،كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق و لا مفصل إلا دخله." ، وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ:" ليأتين على أمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل،حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية،ليكونن من أمتي من يصنع ذلك ،وإن بني إسرائيل تفرقت على ثلاث وسبعين ملة ،كلها في النار إلا واحدة،قالوا :من هي يا رسول الله ،قال: ما أنا عليه وأصحابي". وفي بعض الروايات: هي الجماعة.( رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم).

وقد حاول كتاب الفرق تطبيق هذا الحديث حرفياً، ومن ثم قسموا الناس إلى طوائف، والطوائف إلى فرق صغيرة، سعياً للوصول إلى الرقم الذي أشار إليه الحديث، مع أن الحديث لم ينص على أن هذه الفرق ستظهر جميعاً خلال القرن الثالث أو الرابع الهجري، الذي كتبت فيه تلك الكتب، كما أنَّ الحديث يمكن أن يفهم بأنَّه يراد به تحذير المسلمين من أن يقعوا فيما وقع فيه اليهود والنصارى من اختلاف وتفرق،أو أنَّ هذه الفرق ستظهر على امتداد مسيرة الأمة الإسلامية،لا في تلك الفترة المحدودة التي قيدها كتاب الفرق ومؤرخوها.

إن من ينظر في كتب الفرق يخرج بانطباع أن هذه الأمة قد انقسمت خلال القرون الأولى إلى جماعات متنازعة، وإذا كان ذلك كذلك ، فمن هم أولئك الذين فتحوا العالم ونشروا الإسلام في أصقاع الدنيا المترامية؟ ، ومن الذين أقاموا الحضارة وعلموا الدنيا كلها؟

حقيقة الأمر أنه رغم هذه الجماعات التي ظهرت هنا وهناك فإنَّ السواد الأعظم من المسلمين ظل متمسكاً بكتاب الله تعالى وسنة رسوله  ، وظل الإطار الإسلامي العام هو الذي يظلل المجتمعات المسلمة ويحكمها، وظل شعور الإنتماء للإسلام وللأمة الإسلامية حياً لدى أفراد المجتمع الإسلامي لفترة طويلة من الزمان، وذلك رغم نشوء الدويلات هنا وهناك، ونشوب الصراع بينها.

 ولعل هذا الشعور بالإنتماء الإسلامي،ووحدة الأمة الإسلامية، هو الذي مكن لرجل كابن خلدون (732هـ-808هـ/ 1332 - 1406م) ، أن ينتقل في شمال إفريقيا من غير أن تحده حدود إقليمية، ويستقر به المقام في مصر، ويتولى فيها القضاء إلى أن يتوفى ويدفن بها من غير أن يشعر بأنه غريب. ومكن للشيخ محي الدين بن عربي(560-628 ه)، أن يرتحل من الأندلس، قاطعاً المسافات البعيدة، مارا بشمال إفريقيا ومصر والحجاز، ويستقر به المقام أخيرا بالشام،- ويسمى حي شهير  من أحياء دمشق العريقة باسمه"حي الشيخ محي الدين بمنطقة الصالحية بدمشق.

مظاهر الفرقة وبداية الإنحلال في المجتمع الإسلامي:

     مع تقدم الزمن نمت الخلافات وتطورت وتحولت إلى عصبيات ومنازعات، وتفشت أسباب الفرقة بين الجماعات الإسلامية، وأسهم هذا في تخلف المجتمعات الإسلامية، فكرياً وعلمياً وحضارياً،وقعدت تلك النزاعات بالأمة وأوقفت تقدمها الحضاري..وبدأت بعض العوامل تنخر في جسد الأمة وتفقدها المناعة وتعمل على لإضعافها ،وانتهت بها الى الجمود الذي ساد جميع الجوانب العلمية والثقافية والإجتماعية. وتمثلت تلك العوامل فيما يلي:

الخلل في العقيدة وضعف أثرها في النفوس:

 قد كانت العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد ،الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي،وعاملاً هاماً في وحدة المسلمين ،وتماسك قوتهم.ولم تلبث العقيدة أن تعرضت لهزة عنيفة نتيجة لاختلاط المفاهيم ،وغبش التصورات لدى فيئات عديدة في المجتمع الإسلامي ،الأمر الذي أدى الى التمزق  المذهبي والتفرق الطائفي،وانتشار البدع والخرافات،وشيوع الصوفية الرهبانية والفلسفية،وغلبة الرؤية الإرجائية ،والعصبية المذهبية،فانعكس ذلك على حياة الناس وسلوكهم. (انظر: التطور والتجديد في درسات العقيدة الاسلامية ، احمد الجلي، وقائع مؤتمر التجديد في الفكر الاسلامي ،ص:207-250)

الإستبداد السياسي،وضعف الشورى :

  قد كان الحكم الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين يقوم على الشورى بين الناس ،والعدل بين الرعية،والتوافق بين الساسة والعلماء،ولكن  الفتنة  التي ضربت المجتمع الإسلامي وأدت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان ، فتحت الباب لتغيرات عديدة في حياة الناس أدت في النهاية إلى شيوع الإستبداد بالحكم ،وصيرورته ملكية تتغالب مع غيرها،فأهملت الشورى في تعيين الحكام وفي الحكم،رغم تقرير القرآن: " وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ " ، وأصبح الحكم وراثياً ،مما ترتب عليه تولي الحكم من ليس لديه الكفاءة والأهلية لرعاية الناس ،ونتج عن ذلك كله اهمال رأي الجماعة الإسلامية، وفقدان التواصل بين الحاكم والمحكومين،والفصام بين الساسة والمفكرين ،مما كان له فيما بعد آثار سلبية انعكست على حياة الناس ومسيرة المجتمع،واهمال الأحكام الإسلامية ،واشاعة المحاباة واباحة الدماء ،وغير ذلك من أنواع الفساد في الحكم، والخلل في المجتمع.

طغيان القبلية والإقليمية والعرقية على مفهوم الأمة:

 كان من الآثار التي ترتبت على التغير السياسي،طغيان القبلية ،وظهور الحركات الشعوبية،والنعرات العرقية. فقد جاء الإسلام إلى البشرية جمعاء، لتقويض أسس المجتمع الجاهلي الذي قام على وحدة القبيلة ،والصراع بين افراده، ولتكوين  أمة واحدة تجتمع على الوحدة الإنسانية،وتربطها أواصر العقيدة وتتوحد بوشائج الدين . وقد أدرك المسلمون الأوائل هذه الحقيقة فتخلوا عن أنماط حياتهم القديمة وانخرطوا في الحياة الجديدة. ولكن لم يلبث أن خلف من بعدهم خلوف، وهنت عرى الإسلام في نفوسهم فارتدوا الى التشبث بالقبيلة والتعلق بالعشيرة، فصارت أمة الإسلام قبائل وشيعاً تتقاتل على السلطة والمال، ودب بين أفرادها الخلاف فأصبحوا أعداء يقتل بعضهم بعضا..فالقبلية باعتبارها قسيماً للأمة وليست قسماً منها، تمثل عاملا من أكبر العوامل التي أدت إلى تدهور الحضارة الإسلامية، يقول الدكتور عماد الدين خليل" أكد الإسلام مفهوم الأمة وجاء هذا التأكيد في أكثر من موضع في كتاب الله تعالى، وكان عصر الرسالة سعياً موصولاً لتحقيق هذا المفهوم الذي أستكمل أسبابه بإعلان " براءة "، في العام التاسع للهجرة وتصفية الوجود الوثني ،وجاء الراشدون لكي يمضوا خطوات واسعة في تعزيز هذا المفهوم ،ومده إلى أوسع الآفاق ،حيث تحققت عالمية الدولة الإسلامية، وأصبح مفهوم الأمة ينطوي على كل الجماعات والشعوب التي انتمت إلى هذا الدين بغض النظر عن ألوانها وأصولها القومية وبيئاتها الجغرافية.. ولكن ما لبثت النزعات التفكيكية أن أخذت تطل برأسها منذ بدايات مبكرة ، ونشب صراع قاس ومرير بين تيارين هما تيار الإسلامية بمفهومها الوحدوي، وتيار العرقية أو القبلية بمفهومها الانفصالي الضيق ، وقد انعكس هذا في جملة حلقات خطيرة من مثل الردة والفتنة والصراع الدامي بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وصولا إلى الحركة الشعوبية التي أعلنت الحرب المكشوفة على كل ما هو عربي" . وهكذا استبدل الناس بتلك الدعوات الجاهلية،مبدأ الاخاء الإسلامي ،ووحدة الأمة التي دعا إليها الإسلام، وأكدتها مبادؤه وتعاليمه.وقاد ذلك كله الى انقسام الدولة الاسلامية الى دويلات ،فدخل الوهن والضعف على الجميع،وقاد ذلك إلى الفشل الذي حذر منه القرآن ونهى عنه :قال تعالى:( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )، الأنفال: 46.( انظر: مدخل الى الحضرة الاسلامية،عماد الدين خليل،ص:163-64)

الظلم الاجتماعي:

إنَّ الظلم الاجتماعي ،وسوء توزيع الثروة ،وتشرذم المجتمعات إلى أقليات تملك وتحكم ،وأكثريات تجوع وتمتهن،من أخطر العوامل في تفتتيت الأمم والجماعات،وتدهور الدول والحضارات. وقد اشار ابن خلدون الى أن الظلم مؤذن بخراب العمران ،وقال في مقدمته الشهيرة:" اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من ان غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم ،وأذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت ايديهم عن السعي الى ذلك ،والعمران ووفوره ونفاق اسواقه إنما بالأعمال،فاذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الاحوال،فخف ساكن القطر،وخلت دياره ،وخربت أمصاره،واختل باختلاله حال الدولة والسلطان." المقدمة،ابن خلدون، الفصل الثالث والأربعون،،"في أن الظلم مؤذن بخراب العمران” ،ص:477".

ويقول :" ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور ،بل الظلم أعم من ذلك‏.‏ وكل من أخذ ملك أحد ،أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق ،أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‏.‏ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة،والمعتدون عليها ظلمة ،والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة ،وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله‏.‏ واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم ، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة: من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‏.‏ فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع، لما أدى إليه من تخريب العمران ،كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً‏.‏ وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر‏."."نفس المصدر ،ص:478-479".

    وقد أصاب هذا الداء المجتمع الإسلامي ،الذي كان يسوده العدل والتكافل ،فبدت فيه بوادر الظلم والتمزق الإجتماعي،وساد فيه التمييز بين فيئات المجتمع ،ومن ثم ظهرت  العديد من الثورات والحروب الأهلية التي استنزفت طاقات الأمة، كان دافعها الأساسي رفع الظلم،وتحقيق العدل والعودة بالحياة الإسلامية إلى العمل بكتاب الله و سنة رسوله .

الترف والتكاثر:

الترف مجاوزة حد الاعتدال بنعمة، أو الإكثار من النعم التي يحصل بها الترف،وقد ورد ذكر الترف في عدد من الآيات القرآنية تحذر كلها من الترف وما يؤدي اليه من فساد وانهيار للقيم والأخلاق ، فالترف ،كما يقال، "يزيل النعم"، وأحد العوامل المنذرة بزوال الأمم وانهيار الحضارات.وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة وحذر منها. يقول تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) الإسراء: 16. ويقول تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ،فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ، لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) الأنبياء: 11-14. (حَتَّى إذَا أَخَـــذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ) ،المؤمنون:64.

كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف جملة وتحذر من تعلُّق القلب به، وغلو الإنسان في الإنغماس في متع الحياة وملذاتهــا، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه والإنصراف عنه إلى مـا هو خير في الدارين.ومن الأحاديث ما رواه عمرو بن عوف أن النبي -ﷺ- قال: " فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم ،كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها ،وتهلككم كما أهلكتهم"  (صحيح مسلم،الزهد والرقائق)، وما رواه عبد الله بن عمرو أن النبي -ﷺ- قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة". (صحيح ابن ماجة :الرقم :2920).

 ودعوة الإسلام إلى ترك الترف، ومحاربته له، لا تعني ترك النعم والملذات، وإنما المراد الإقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بالدنيا ،والركون إليها، وإلا فإنّ النبي ﷺ،الذي حذر من الترف وأحوال المترفين قد قال: " إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس" (صححه الالباني في صحيح الجامع  1/ 359)، وقال -ﷺ- لوالد أبي الأحوص:" فإذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته" ، وقد كان من دعائه - ﷺ -: "اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي". (صحيح مسلم : 2720)

 وقد اشار القرآن الكريم الى أفراد وأمم وشعوب أصابها داء الترف فاوردها المهالك ،فقارون الذي وهبه الله المال الوفير فطغى وافترى ،وادعى ان ما فيه من نعيم اعطيه بعلم من عنده ،فأهلكه الله بأن خسف به وبداره الارض.وقوم عاد الذين منحهم الله تعالى القوة والنعيم والعز والترف ،وبسطة في الاجسام والاموال، ولكنهم جحدوا بنعم الله عليهم،وافسدوا في البلاد وطغوا ،فصب الله عليهم العذاب ( الفجر:6-14). وسبأ الذين ابطرتهم النعم فلم يشكروا، فجعلهم الله احاديث ومزقهم كل ممزق، ( سبأ :15-19) ،وهكذا كان مصير الحضارات الغربية اليونانية والحضارة الرومانية، وحضارة الفرس. ولم يكن المسلمون استثناء فقد كان من أسباب انهيار حضارتهم  في بغداد، انتشار المعاصي والذنوب،والترف والفساد، فكانت النتيجة هي الدمار والخراب،وحلت بهم السنن الالهية التي لا تتخلف.

التحلل الخلقي والسلوكي.

 تشكل الأخلاق عاملاً حاسماً في صلاح الأفراد و المجتمعات ،وتقدم الأمم والشعوب. فتخلف الأمة وتقدمها رهين بما يسود فيها من قيم وأخلاق، وأخلاق الخير القائمة على معايير سليمة،مؤشر على صلاح الأمة،كما أنَّ أخلاق الشر المنطلقة من قواعد فاسدة تكون عاملاً رئيساً في انحلال الأفراد والجماعات ،وتفكك الروابط بين الناس،وسبيلاً لتخلف الأمم والشعوب.

    إنَّ بقاء الأمم وازدهار حضارتها ،واستدامة منعتها ، رهن بسلامة أخلاقها ،وانضباط قيمها واستقامة سلوك أفرادها ،فإذا سقطت الأخلاق سقطت الدولة ،وآلت إلى الزوال .

وإنَّما الأمم الأخلاق ما بقيت    فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

   فلا مكان لأمة و لا لدولة و لا لأسرة إلا بمقدار ما تمثل في العالم من صفات عالية ،وما تحقق من أهداف كريمة. فلو  رفع الإنسان شعار الإسلام ،وادعى التمسك بالقرآن وكانت فعاله مخالفة لما رفع من شعارات ،فلن يجديه الشعار شيئاً، ومن أقوال الإمام ابن تيمية المشهورة: " إنَّ الله ينصر الدولة العادلة،وإن كانت كافرة،و لا ينصر الدولة الظالمة ،وإن كانت مؤمنة".  ( مجموعة الفتاوى ، ابن تيمية، 28/62-63)

  فالمجتمع الإنساني في حاجة إلى الأخلاق،فالصدق والأمانة وحفظ العهد، مثلاً لا بد منها لإستقرار العلاقات الإجتماعية بين الناس ،ولو لم يعتمد الناس عليها لما تبين للناس نوايا الآخرين,ولما كان هناك تماسك بين الناس، ولما وثقنا بنقل الأخبار،ولما اطمأن الناس للعهود والمواثيق، ولتقطعت العلائق والروابط بين الناس .والمجتمع الذي يقوم على الكذب مصيره الإنحلال والتفكك ،ثم التخلف الحضاري ،وينتهي به الأمر إلى الخراب والدمار. لذا شدد الإسلام على ضرورة المحافظة على قيمة الصدق ،ونهى عن الكذب : " إنَّ الصدق يهدي إلى البر ،وإنَّ البر يهدي إلى الجنة ،وإنَّ الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً،وإن الكذب يهدي إلى الفجور،وإنَّ الفجور يهدي إلى النار،وإنَّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" (البخاري،كتاب الأدب، حديث رقم: 5629)

وقال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النحل:105 . وقوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الأنعام:144 .وتبعاً لذلك حرم الإسلام شهادة الزور ،والقذف بالباطل،لما تؤدي إليه من فساد في المجتمع ،وفتن بين الناس.

   وفي المقابل نجد أنَّ الشرور والرذائل تولد شروراً في المجتمعات،فالحسد مثلاً من الرذائل التي نهى عنها الإسلام لما يترتب عليه من نتائج نفسية واجتماعية سيئة على الأفراد وعلى الجماعات.وهو من الأدواء التي إذا أصابت النفس الإنسانية أضنتها وأشقتها،وجعلتها مصدر أذىً للآخرين، الذين امتحنهم الله بفاضل من نعمه ومزيد من عطائه. إذ يتولد عنه الغيبة ،والنميمة والبغي،والعدوان والظلم،والإتهام بالباطل،وافتراء الكذب،والجور في الحكم،والسرقة ،والغش ،والقتل،وهكذا يقود الحسد إلى كل جريمة قبيحة منكرة. ويتفاوت الحاسدون في مدى ارتكابهم للجرائم،ويكون لكل منهم نسبة تساير ضعف إيمانه،وقلة دينه وخوفه من ربِّه. وهكذا يفعل الحسد في تقطيع وشائج المودة بين الناس،ويفسد الصداقات،ويثير الإحن بين القرابات،ويولد في الناس العداوات،ويفكك أفراد المجتمع،ويباعد بين الجماعات،مما يؤدي بالتالي إلى ضعف الأمة.

     وقد التزم أفراد الجيل الأول الذي حمل لواء تأسيس الحضارة الإسلامية، واقامة المجتمع الإسلامي، بقيم عالية من الصدق والأمانة والوفاء بالعهد ،والمساواة والعدل والشجاعة والإخلاص والتضيحة والإيثار، وغيرها من القيم التي حض عليها القرآن وأولتها السنة اهتماماً كبيراً. ،ولكن لم يلبث أن سرى الوهن في ذلك المجتمع، وظهرت بين الناس الممارسات المنحرفة التي تمس السلوك،من انغماس في الملذات،وتفشي الخمر والميسر والغناء والرقص والفحش،وتلك الرذائل التي تمس القيم الأخلاقية، كالغش والكذب والأثرة والكبر والرياء والغدر والنفاق والخيانة وشهادة الزور.وتضاءل الإحساس بالمسؤولية ،وغياب رقابة الضمير،والتدليس وعدم الإلتزام بالعهود وانعدام الأمانة وتفشي الظلم... الخ.

التخلف العلمي والمعرفي:

 إنَّ الإسلام بقيمه وتعاليمه حوَّل إنسان الجزيرة العربية من كمِ مهمل لا قيمة له و لا أثر له في ما يجري حوله ،إلى قوة هائلة فاعلة . وانتقل به من حياة الفراغ والدعة، إلى أن يصبح طاقة فذة في ميدان الفعل والإنجاز ، وإلى قدرة مذهلة في مجال العطاء والإبداع .. فحرر الإسلام العقل وكرمه ، ونقل المسلم نقلة معرفية بعيدة المدى،تمثلت في آيات نزلت في كتاب الله : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) العلق:1-5، تحث على العلم والمعرفة وادوات القراءة والتعلم . وفوق هذا وجه القرآن الإنسان نحو التأمل والنظر في جوانب الكون المختلفة ، والإنتفاع بما فيه من خيرات ، والإعتماد  على قانون السببية، وأرسى بذلك أسس منهج البحث التجريبي، الذي قامت عليه النهضة العلمية لدى المسلمين . ونتج عن ذلك كله ميلاد الحضارة الإسلامية التي تولدت عنها نهضة علمية كبرى في كل مجالات العلوم،وشهد العالم الإسلامي خلال القرون الأولى للإسلام حركة علمية نشطة،ازدهرت على اثرها علوم اللغة والأدب وعلوم التفسير والحديث،فضلاً عن  العلوم البحتة أو التطبيقية كالطب والفلك والرياضيات والكيمياء والهندسة.( انظر: دراسات في الثقافة الاسلامية ، احمد محمد احمد الجلي، ص:303-312)

 ولكن لم يليث الحال ان تغير فأهمل المسلمون العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرفوا الأوقات وانفقوا الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة،وساء الأمر بمرور الزمان فشاعت بين الناس الخرافات واستبد الجهل والشعوذة .

العوامل الخارجية:

• بالاضافة إلى تلك العوامل الداخلية التي ظلت تنخر في جسد الأمة،وتنهك قواها،هبت على الأمة الإسلامية عواصف خارجية .واصبح العالم الإسلامي مسرحاً للفتن والحروب التي حركتها  بعض القوى الحاقدة على الإسلام، منتهزة حال الضعف التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية. ومن تلك الحروب ،الحروب الصليبية ، او "حروب الفرنجة"، كما اسماها المسلمون. وقد بدأت الحروب الصليبية بصيحة البابا أوربان الثاني،في مجمع كليرمونت،سنة 1095م،وحثه جميع ملوك وأمراء وشعوب أوروبا للزحف على أرض الشرق،لإنقاذ بيت المقدس،والقبر المقدس،وبقية الأماكن المقدسة في فلسطين،من أيدي المسلمين،وأيضا بحجة حماية المسيحيين في المشرق،وتسهيل طرق الحجاج الى القدس.(انظر تاريخ الحروب الصليبية ،رنسيمان، 1/159-160) . وقد استمرت الحروب الصليبية قرابة قرنين من الزمان:( 1095-1292م)،قام خلالها الصليبيون بشن ثمان حملات براً وبحراً،ضد بلاد الشام،ومصر،وشمال أفريقية،وارتكبوا فيها أبشع المذابح التي سجلها تاريخ البشرية.ويكفي الإشارة الى ما قام به الفرسان الصليبيون من ابادة لجميع سكان القدس،من المسلمين واليهود وخوارج النصارى،الذين كان عددهم نحو ستين ألفاً، ،ولم يستثنوا منهم امرأة و لا ولداً و لا شيخا".( انظر:حضارة العرب،جوستاف لوبون ،ص:496-497).

  كما جاء المغول والتتار، ليكملوا ما بدأه الصليبيون ، فقضوا على الخلافة الإسلامية ودمروا عاصمتها بغداد.وقد ابتلى العالم الإسلامي بموجات من الزحف المغولي الذي لم يرحم صغيراً ولا كبيراً وانطلق يدمر كل شيء في طريقه حتى انتشر الفزع والهلع في كل مكان، ففي التاسع من المحرم سنة 656هـ / السادس عشر من يناير سنة 1258م وصلت جيوش هولاكو إلى بغداد، وأعمل السيف في أهلها لمدة أربعين يوماً، فقتل المغول من المسلمين عدداً ًكبيراً ،من بينهم الخليفة العباسي المستعصم بالله وآل بيته ، ولم ينج من بين أيديهم إلا العدد القليل. وقضى هولاكو بذلك على الخلافة الإسلامية ثم تقدم نحو بلاد الشام.وفي سنة 658هـ/ 1259م ،دخل جيش المغول إلى حلب عنوة بعد أن رفض حاكمها الإستسلام ،وأعملوا في أهلها القتل والأسر ،وسقطت دمشق في أيديهم ،واستمروا في إسقاط كافة البلدان بالشام حتى وصلوا إلى غزة والخليل ،وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال. ولكن المماليك تصدوا للمغول في موقعة عين جالوت( 1260 م)، ، التي  انتصر فيها المماليك انتصارا ساحقا على المغول، و أدت لإنحسار نفوذهم في بلاد الشام وخروجهم منها نهائيا وإيقاف المد المغولي. كما أدت المعركة لتعزيز موقع دولة المماليك كأقوى دولة إسلامية في ذاك الوقت لمدة قرنين من الزمان(1250-1517م)  أي إلى أن قامت الدولة العثمانية.( :1299 - 1924م).

    ثم جاء الإستعمار بشقيه القديم والحديث يحمل خُططاً مدروسة واستراتيجيات محددة للقضاء على الأمة الإسلامية. وقد بدأ الإستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي منذ منتصف القرن السادس عشر، وشاركت فيه معظم الدول الأوربية هولندا،وروسيا القيصرية، والامبراطورية البريطانية،و فرنسا، وأسبانيا،وايطاليا.ووقعت معظم الدول الإسلامية تحت الاحتلال الأوربي من  أندونيسية ،و شبه القارة الهندية ومصر وشمال افريقية :الجزائر، تونس. والمغرب،و ليبيا،و قبرص,و جنوب اليمن،الى  السنغال ونيجيريا.

     ولم يقتصر الإستعمار الأوروبي على احتلال الأرض ونهب الثروات، بل سعت الدوائر الإستعمارية الأوروبية  إلى طمس الهوية الدينية والثقافية  والحضارية واللغوية للشعوب الإسلامية، وعملوا على تغيير المنظومة القانونية، وتفكيك المنظومة الإجتماعية الإسلامية ومظاهرها المختلفة.وحيكت المؤامرات ووضعت الخطط ، لتمزيق العالم الإسلامي، وإضعافه، واستغلال موارده الطبيعية من أجل بنـاء الإقتصاديات الأوروبية المزدهرة في تلك المرحلة، مما كان له مضاعفات سياسية ونفسية وثقافية على مجمل العلاقات التي تربط دول العالم الإسلامي بالدول الأوروبية، وبالولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد.ونشأت نتيجة للإستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي أوضاع وجدت بسببها الدول الإسلامية -بعد الاستقلال - نفسها أمام أزمات كبيرة نتيجة لشيوع الفقر والجهل والمرض وسوء الإدارة والفساد، ولانعدام الشروط الموضوعية لإقامة هياكل جديدة للدولة المستقلة. وقد ترتبت على تلك الأوضاع مشاكل كثيرة ظلت تتفاقم، فتعطّـلت عملية النمو في مناطق، وتعثرت في مناطق أخرى، وتباطأت في جُلِّ الأقطار. ( انظر: العالم العربي الحديث والمعاصر .تخلف فاستعمار فمقاومة، علي المحجوبي، ط1/2009).

   ولولم تكن الأمة ضعيفة منهكة القوى لما كان لتلك القوى الخارجية ذلك الأثر المدمر.ولكن جاءت الحروب الصليبية والأمة في أدنى درجات التفرق والتشتت والضعف والإنحلال ،ولم تستطع أن ترد تلك الحملات إلا بعد أن استعادت عافيتها،وهكذا كان الحال بالنسبة للغزو المغولي ،والحروب الإستعمارية.

    وفي الوقت الذي مالت فيه شمس الأمة الإسلامية الى الغروب، بدأت تظهر في العالم قوى جديدة، لاسيما في أوروبا التي استفادت من الحضارة الإسلامية ،  ونتج عن ذلك بزوغ حركة النهضة الاوربية  ، وما صحبها من مطامع أوروبة في خيرات العالم الإسلامي وثرواته، وتولد لدى الأوربيين الشعور بأنَّ الفرصة مواتية لهم للانتقام من المسلمين الذين دحروا جيوش الصلبيين وغزواتهم، وردوهم خاسرين.

وقد استخدمت أوروبا كل الوسائل من أجل القضاء على الوجود الإسلامي،من غزو عسكري وحرب نفسية وغزو فكري،ونتيجة لذلك وقعت معظم الدول الإسلامية تحت الإحتلال من قبل الدول الغربية، كبريطانية وفرنسة وإيطالية وألمانية، ومُزِّقَتْ البلاد الإسلامية ووضعت لها حدود وحواجز على أسس جغرافية أو عرقية أوعنصرية ، لا يتجاوزها المسلم إلا بإذن كما أراد المستعمرون. وحاول المستعمرون إثارة النعرات القومية والفروق اللغوية ،والعصبيات المذهبية والانتماءات الحزبية، تمكيناً للفرقة بين المسلمين ولمزيد من التشظي والانقسام، ومحو المشاعر الإسلامية من نفوس المسلمين، وإزالة رابطة العقيدة التي تربط بينهم. (العالم العربي الحديث والمعاصر،مصدر سابق)

 ورغم تلك المؤامرات و الجهود الكبيرة التي بذلها المستعمرون،من أجل القضاء على مقومات الأمة الإسلامية، فقد بقي الإسلام حياً، وظلت جذوته متقدة في نفوس كثير من المسلمين، فكانت عوناً لهم في الحفاظ على هويتهم،وايجاد القوة المعنوية التي حركت فيهم مشاعر العزة،وأدت إلى تخليص الدول الإسلامية من الإستعمار العسكري، ومحركاً أساسياً لكل حركات التحرير، في الجزائر والمغرب ومورويتانيا، وليبيا والسودان والعراق ومصر والشام ،والصومال وغيرها من بلاد المسلمين. ا( اانظر: الاسلام و حركات التحرر العربيه  شوقي ابو خليل ،ط5،  1991 / 1991)

وبعد خروج المستعمر العسكري، ومع بدايات الصحوة الإسلامية، شعر المسلمون، وتفتحت عيونهم على واقعهم المرير، من تشتت كلمتهم، وتفرق جماعتهم، وانقسامهم إلى دويلات، ومن ثم بدأوا السعي إلى إصلاح أحوالهم، وتدارك ما فاتهم، وحماية أنفسهم من المؤامرات التي تحاك ضدهم.وشهدت الساحة الإسلامية،عدة مشاريع من أجل نهضة الأمة ووحدتها وعديد من تيارات التغيير . فالتيار الليبرالي مثلا يرى أن النهضة لا تتحقق إلا بتطبيق الليبرالية، والتيار اليساري الاشتراكي الذي ساد خلال القرن العشرين يرى أن لا نهضة إلا بالاشتراكية، والتيار الفكري الإسلامي في نموذجه السلفي مثلا يرى أن لا نهضة إلا بإعادة إنتاج نفس مواصفات الإجتماع الإسلامي الذي تجسد في لحظة تاريخية ماضية ( اللحظتين النبوية والراشدية). ولكن للأسف لم ينجح أيًّاً من تلك المشاريع في إحداث النهضة المطلوبة ،أو السير بالأمة في سبيل التطور والتغيير .

المحور الرابع: سبل الإصلاح والوحدة:

بعد عدة تجارب مرت بها الدول الإسلامية المعاصرة ، وتلمس وسائل الإصلاح في مناهج أخرى مستوردة، تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أمر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وإذا كان الأمر، كذلك فيبقى علينا تلمس أسباب الإصلاح ووسائله فيما يأتي:

الرجوع إلى الكتاب والسُنَّة:

   فالكتاب والسُنًّة هما المصدران الأصليان لتلقي الإسلام. عقيدة وشريعة،عبادة وأخلاقاً، سلوكاً ومعاملة، فالقرآن كما وصفه الله سبحانه وتعالى يهدي للتي هي أقوم (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) الإسراء: 9.. والتي هي أقوم: تشمل كل شؤون المسلم الدنيوية والأخروية، ما يتعلق بعقيدته وعبادته وأخلاقه وشؤونه الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.

فالقرآن يمدنا بالحقائق الأساسية فيما يتعلق بكل تلك المجالات، كما يمدنا بالمنهج الذي نستعين به في فهم تلك الحقائق وتطبيقها، وسُنًّة الرسول ﷺ كانت وما زالت مبينة للقرآن الكريم وموضحة لأحكامه، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ....) النحل: 44. كما أن سيرته صلوات الله وسلامه عليه، تمثل التطبيق العملي للقرآن، كما بينت السيدة عائشة  عندما سئلت عن خلق رسول الله فقالت: "كان خلقه القرآن".( المسند ،حديث رقم: 25813)

 ومن ثم ينبغي أن يتخذ القرآن منطلقاً لصياغة الرؤية القرآنية في المعرفة ،والإنسان والحياة والقيم،الاجتماعية،وربط المسلم بها،وان تصاغ البرامج التعليمية والبرامج الإعلامية،والموجهات العامة في الإقتصاد والسياسة،وفقاً للمنهج القرآني.وبما ان الوقوف على منهج القرآني عمل بشري ،فلا بد من الاتفاق على الأسس التي يقوم عليها التعامل مع تلك المصادر الالهية ( القرآن والسُنًّة) ،ووضع آلية لرفع الخلاف حول فهمها.هذا مع الاستعانة والاستفادة من كل التجارب الإنسانية التي مرت بها البشرية ،وادت الى نهضة الشعوب الغربية، وتخير ما يتوافق مع قيم الإسلام ومباديئة.

تجاوز الخلافات التاريخية، التي قسمت الأمة وأحدثت الفرقة بين طوائفها،سواء في مجال العقيدة أو العبادة او السلوك. فقضية الإمامة التي شغلت الناس خلال التاريخ ولا تزال تشغلهم حتى يومنا هذا، ويختلفون حول من أحق بها؟ وكيف يتعين القائم بها بعد رسول الله ﷺ ؟ لا صلة لها بواقعنا المعاصر الذي لم نعد نتحكم في أقدار دولنا وتوجهاتها، ومن العجب أن نختلف حول شئ لم تعد لنا الحرية في تصريفه وتوجيهه.

كما أن كثيرا من القضايا الكلامية والمسائل الفلسفية كانت وليدة ظروف تاريخية،ومؤثرات ثقافية تجاوزها الزمن ولم تعد مقبولة الآن، وعليه فإن ما ارتبط بها من مشكلات لاينبغي أن تشغل المسلم اليوم، والتحدي الماثل أمامنا ليس حول فكر المعتزلة وأصولهم، أو كسب الأشاعرة ، أو قضية الإستواء على العرش، أوالعلاقة بين الصفة والذات، بل إنًّ أكبر تحد أمام المسلمين هو موجات الإلحاد، والعلمانية المتسلحة بالعلم المعاصر، وموجات الفساد الأخلاقي وانهيار القيم وسيادة النزعة المادية وطغيانها على حياة الناس. فينبغي صرف الجهود نحو تخليص الناس من براثن الإلحاد وشراك الشرك والضلال، بدلا من إهدار الطاقات والجهود في قضايا تجاوزها الزمان وعفى عليها التاريخ. وتجاوز هذه الخلافات لا ينبغي أن يكون عن طريق اغفالها ،بل لا بد من الحوار حولها.فالخلاف بين السُنًّة والشيعة طال أمده،وتجاوز كثيراً من قضاياه التاريخ،ولكن لا يزال يبعث بين الحين والآخر.وتتخذه كثير من الدوائر سبيلاً الى بث الفرقة بين المسلمين وإثارة النزاعات بينهم،ومن ثم لا بد من وضع أسس مرجعية تكون حكماً فيما ينشب من خلاف.كما ان الخلاف بين السلفيين فيما بينهم ، وبينهم وبين الصوفية ،تجاوزت النكفير والتفسيق والتبديع الى،صراعات سالت فيها دماء المسلمين،في بعض الأحيان.

البعد عن العصبية المذهبية:

 أقر الشرع الخلاف حول المسائل الفقهية، نظراً لاختلاف وجهات النظر حول فروع الإسلام، فقد جاءت بعض نصوص الشرع في صورة نصوص مباشرة: تدلُّ على أحكام فقهية معينة؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وحِلّ البيع، وتحريم الربا، وقواعد الميراث، وغيرها. وورد البعض الآخر في شكل قواعد كلِّية: تدلُّ على جزئيات وفروع كثيرة؛ كمعيار التفاضل بين الناس، وحرمة الاعتداء، وحِلّ الطيبات، وتحريم الخبائث، وغيرها.  وفي هذا النوع الأخير أفسح المجال للناس كي يستخدموا عقولهم في واقعات زمانهم. وإذا كان الأمر كذلك فيجب البعد عن العصبية المذهبية حول هذه الإجتهادات، ولنذكر أنًّ أصحاب المذاهب وأئمتها،وهم الرواد في هذا المجال لم يدع أحد منهم الناس إلى التمسك بمذهبه وترك اجتهادات الآخرين، بل كان كل واحد منهم،يؤكد التزامه بالقرآن والسُنًّة ،وان ما ينتهي اليه من اقوال لا يعدو ان يكون رأياً بشرياً عرضةً للقبول والرد ،والصحة والبطلان.  فقد ورد عن الإمام ابي حنيفة قوله :“ إذا جاء الحديث عن رسول الله  فعلى العين والرأس،وإذا جاء عن الصحابة فعلى العين والرأس،وإذا جاء عن التابعين ،فهم رجال ونحن رجال“،ويقول ايضا: "هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه". ومالك كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطيء، فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة".وقال ايضاً:“كل انسان يؤخذ من كلامه ويترك الا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم “. والشافعي كان يقول: " إذا صح الحديث فهو مذهبي ، و إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله ﷺ،فاعملوا بكلام رسول الله ، واضربوا بكلامي عرض الحائط".ويقول:“ رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب“. والإمام أحمد كان يقول: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي، ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا"( العبادات في القرآن والسنة ، احمد الغندور، ص: 45)

     واجتهادات العلماء في فروع الشريعة قد تكون صحيحة صائبة، وقد تجانب الحق والصواب، ومن ثم فليس هناك إلزام باتباع عالم واحد بعينه والإعراض عمن سواه، لأنه لا عصمة لأحد من البشر بعد رسول الله ﷺ. وحينما نأخذ برأي واحد من العلماء فلا يكون هذا تقليداً لشخصه، وإنما لحكم استنبطه من كتاب الله أو سُنًّة رسوله ﷺ، ولما له من مكانة علمية وثقة، فنحن مأمورون بأن نسأل أهل العلم، لقوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ،الأنبياء: 7. وهم مأمورون بتبليغ ما علموا: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة: 122.

مراعاة أدب الإسلام في  الخلاف:

 إذا حدث خلاف، وهو لابد حادث لاختلاف طبائع الناس وتفاوت مقدراتهم العقلية وتحصيلهم العلمي، فلا بد أن نتأدب بأدب الإسلام في ادارة الخلاف، وهذا أمر للأسف يفتقده كثير من المسلمين، ومن ثم يتحول الخلاف بينهم إلى نزاع وشقاق، ومن أهم الآداب التي اوجبها الاسلام في الحوار ما يلي:

أ‌- التعاون فيما اتفق عليه -وهو كثير -وان يعذر الناس بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه : فالمسلمون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم تجمعهم أصول عامة، إذ تجمعهم، كلمة التوحيد، ووحدة القِبلة، ويحكمهم كتاب واحد ورسالة واحدة، كما يجمعهم جميعاً الإيمان بالبعث بعد الموت، والعرض على الله يوم الحساب، كما أنًّهم جميعاً ينتمون لتاريخ مشترك، وتحوطهم التحديات والمخاطر التي تحدق بالجميع، ولا تميز بين انتماءاتهم. وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن يكون سعيهم جميعاً إلى ما يجمع كلمتهم، ويوحد جهودهم وطاقاتهم، ويحفظ عليهم وحدتهم ، ويتجنبوا ما يثير الفرقة والشقاق بينهم.

ب‌- استشعار معاني الإخاء وروح الجماعة: وإذا كان الإسلام ينظر ويقدر الرابطة العامة التي تربط بين الناس جميعاً على اختلاف أديانهم ومللهم ونحلهم، وخاطبهم جميعاً بقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: 13.، فهذه المشاعر ينبغي أن تكون أقوى بين المسلمين الذين يجمعهم فوق الرباط الإنساني العام رباط العقيدة والإيمان. وقد أكد الإسلام هذه الرابطة الأخيرة فقرر الإخاء والموالاة بين المسلمين فقال تعالى :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) الحجرات:10، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة: 71. ومن ثم أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان بقوله: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة:2. وأوجب حقوقا كثيرة لكل فرد من أفراد الجماعة بعضهم على بعض، ومن أهمها : المحبة والمودة. والنبي  يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخية ما يحب لنفسه" ، وشدد على لزوم جماعة المسلمين والحفاظ على وحدتهم بقوله :" عليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد" ، وقوله" " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية".

  وسمى الله تعالى السعي للفرقة والتحاسد والطعن والعدواة وإشاعة البغضاء بين المسلمين كفرا، فقال :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.) آل عمران : 100-101.

ج- اللجوء إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن لحل الخلاف بين المسلمين. وقد ألزم الله تعالى المجادلة بالحسنى والحوار بالتي هي أحسن حتى مع أهل الكتاب فقال :( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت: 46.،وأمر موسى وهارون بالرفق واللين في الخطاب مع فرعون رغم طغيانه وعناده فقال : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه : 43-44. ، وإذا كان هذا هو أمر الله مع الخصوم والطغاة، فمن باب أولى أن يختار المسلم أحسن الأساليب وأفضلها مع الناس جميعا ً:المسلم،وغير المسلم.

ويستلزم الجدال بالحسنى البعد عن المراء والجدل بالباطل والبعد عن الطعن والتجريح والفحش في القول ، قال ﷺ:" ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء".

وكما قيل:

جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان

والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول :"  وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!". ( التِّرْمِذِيُّ،رقم: 2616).كما يستلزم حسن الحوار الاستماع إلى الرأي الآخر، وإعطاء الآخرين فرصة البيان والتوضيح، وعدم الحكم (على الرأي) قبل معرفته ، وقديما قال الإمام الغزالي : " إن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه رمى في عماية". "ولا يحكم على الحق بالرجال كما قال الإمام علي  بل اعرف الحق تعرف أهله."

الاهتمام بقضايا الأمة العامة:

  بدلا من الإنصراف والإستغراق في الخلافات الجزئية بين الجماعات والطوائف.ينبغي الإهتمام بقضايا الأمة،وما أكثر قضايا الأمة لمن يتأملها. فأمة تعدادها يبلغ المليار ونصف مسلم، ودولها أكثر من خمسين دولة، وتمتلك أكبر مخزون من الثروات الطبيعية، من بترول ومعادن ومياه وأراضٍ زراعية، وتمتلك من الطاقات البشرية الكثير والكثير، ورغم ذلك فهي من أضعف الأمم، وأقلها إسهاماً في الحياة الإنسانية العامة، وتحيط بها الأدواء القاتلة، من مرض وجهل وفقر، ومن ثم أصبحت مطمع الطامعين، تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، وهم ليسوا قليلا كما رأينا ، بل هم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، كما عبر حديث الرسول  ( انظر: سنن ابي اؤود كتاب الملاحم،باب في تداعي الأمم على الإسلام).

فأمة هذا حالها تحتاج إلى جهد كل فرد من أبنائها، وطاقة كل واحد منا، وجهاد واسع في السعي إلى نهضتها وحمايتها من المخاطر التي تحيط بها.فكل فرد من أفراد الأمة ينبغي أن يعتبر نفسه مهما كان وضعه، على ثغر من ثغورها لا ينبغي أن تؤتي الأمة من قبله.وكل طائفة وكل جماعة مهما كان أسلوبها في العمل، تحتاج الأمة إلى جهدها وعملها، فالمهتمون بالعقيدة والمهتمون بالتربية ،ومن يهتم بالإصلاح الاجتماعي والتهذيب الأخلاقي، كل هؤلاء تحتاج إليهم الأمة ويمكن أن يقوموا بأدوار متكاملة يكمل بعضها بعضاً، وتقود جهودهم في النهاية إلى تحقيق آمال الأمة ووحدتها.

خلاصة البحث:

    قد رأينا من خلال هذا الدراسة ان القواعد التي تجمع بين المسلمين ،والأسس التي يمكن ان تقوم عليها الوحدة اقوى من أسباب الفرقة وعوامل الإختلاف ،وأنه اذا صحت النوايا وقويت العزائم ،والتزم الجميع بأدب القرآن في قبول الرأي الآخر،يمكن تجاوز العقبات التي تحول بين جمع كلمة الأُمًّة ،وتعاون جماعاتها واتفاق كلمتها . ودفعاً في هذا الإتجاه نحو الوحدة والتوافق يمكن أن نقدم التوصيات التالية :

أولاً :لابد من خلق المناخ الملائم والصحي لبذر بذور الوحدة، وذلك من خلال استحضار أسباب الإصلاح التي أشرنا اليها في المبحث الرابع والمتمثلة في: الإتفاق على الوحي كمرجعية  للأمة ،وتجاوز الخلافات التاريخية ،والبعد عن العصبية المذهبية ،ومراعاة أدب الإسلام في الخلاف ،والإهتمام بقضايا الأُمًّة الكلية والترفع عن الخوض في وحل الجزئيات.

ثانياً :من أجل ايجاد آلية فاعلة تسهم في تحقيق جمع كلمة الأُمًّة عرباً ومسلمين لا بد من البدء بتفعيل المنظمات الموجودة الآن ،فهناك جامعة الدول العربية التي تجاوز عمرها السبعة عقود ،ومنظمة التعاون الإسلامي التي قامت من أجل حماية الأقصى والدفاع عن فلسطين ،وغيرها من المنظمات الإقليمية الأخرى التي انشئت من أجل  تحقيق بعض طموحات أهلها في المغرب العربي أو الخليج ،وهذه المنظمات جميعها لم تحقق أيَّاً منها هدفاً من أهدافه.فالجامعة التي يفترض أن تجمع كلمة العرب ،أصبحت ميداناً للصراع بين القوى الكبرى بالوكالة،ومنظمة التعاون الإسلامي، لم تعدو أن تكون منبراً للشجب والإستنكار ،والمنظمات الإقليمية ،حذت حذو المنظمات السالفة في فقدان الإستراتيجيات وسلبية المواقف. وأحسب ان هذه المنظمات جميعها تملك من امكانات العمل ووسائل التنفيذ ما يؤهلها للقيام بدور اكثر ايجابية وفاعلية  ،ولكنها  تحتاج الى العزيمة السياسية، وتحديد الاهداف ورسم الإستراتيجيات، والواقعية في العمل واتخاذ القرارات.

 ثالثاً: إن أيَّ عمل جاد  يسعى نحو الوحدة، ينبغي أن يبدأ بإقامة مشاريع اقتصادية ،واجتماعية وثقافية مشتركة ،وإرجاء المشاريع السياسية حتى تأتي نتيجة طبيعية للتكامل الإقتصادي والتنسيق الإجتماعي والإطار الثقافي الجامع.كما ينبغي التركيز على إصلاح التعليم ،وأجهزة التربية ،والإعلام ،وربطها جميعاً بخطط التنمية ،ودعم هوية الأمة ،وحماية لغتها وقيمها.وإلاَّ ضاعت الهوية ،وتحلحلت القيم في ظل الغزو الثقافي ،والصراع الحضاري ،والتحديات التي تمثلها العولمة.

رابعاً:على الجماعات الإسلامية السودانية ،المتشاكسة أن تراجع مواقفها ،وتتبنى الجدال بالحسنى وقبول الرأي الاخر منهجاً ،وتتجنب التكفير والتفسيق والتبديع لكل مخالف للآخر في الرأي. كما عليهم ان يدركوا أن في الساحة السودانية متسع للجميع،وفي الإسلام بشموله وسعة آفاقه، مجال لأن تركز كل جماعة على الجانب الذي تميل اليه:من عقيدة وعبادة وأخلاق،من غير عصبية لرأي أو موقف مسبق تجاه الآخرين .فالسلفيون الذبن يركزون على العقيدة وتصحيحها،والحركة الاسلامية التي تركز على القضايا الإجتماعية والسياسية ،والصوفية الذين يركزون على التربية الخلقية والروحية ،لو التزموا جميعاً  بما ورد في القرآن والسُنَّة ،وراجع كل فريق ما يذهب اليه وقاس تعاليمه بهذين المصدرين ، واتبعوا منهج القرآن في الدعوة والإرشاد، لما حدثت الخصومة بين السلفية والطرق الصوفية ، كما يظهر في الخطب والندوات التي يقيمها بعض السلفيين، وتدين فيها مسلك الطرق الصوفية وتصفه بأنه مسلك فيه الكثير من الشرك و(الاستعانة بالأولياء الصالحين عوضاً عن الاستعانة بالخالق سبحانه وتعالى) ،ولو راجع الصوفية في السودان تراثهم الصوفي،ونقوا كتب شيوخهم او وجهوا نقدا لها ،ولو التزم الصوفية بتعاليم القرآن والسُنَّة الصحيحة في العقيدة و السلوك لما وقعوا فيما وقعوا فيه من تقديس للأشخاص،ولابتعدوا عن شبهة الشرك التي يصفهم بها خصومهم ، ولما سلكوا طرقاً في العبادة والذكر، جانبوا فيها منهج القرآن في العبادة والسلوك . ولو نظر السلفيون، وحاولوا الخروج من القوالب التي وضعوا أنفسهم فيها لما تهجموا على الإخوان المسلمين بأنهم" لم يتركوا أصلاً من أصول الإسلام إلاَّ نقضوه"،وأن "أغلب ممارساتهم الدعوية والسياسية بدعة في الدين منكرة تجب محاربتها والوقوف في وجهها ،ولو التزموا بمنهج القرآن في الدعوة بالحسنى واللين في المعاملة،والورع في القول لما اطلقوا عبارات السب والشتم، والتحذير والتحريض، والرمي بالبدعة والضلال والمروق؛ والإحتقار في تعاملهم مع المخالفين لهم.فعلي الجميع الرجوع الى القرآن والالتزام بدعوته الى الاعتصام بحبل الله ،وعدم التفرق والاختلاف،والامتثال لقول الله تعالى: (" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ،ال عمران:  .103



أ.د. احمد محمد حمد الجلي

ahmedm.algali@gmail.com

 

آراء