مجزرة القيادة العامة في سياق تاريخي (2/2)
عبدالله مكاوي
1 June, 2022
1 June, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
سبق ذكر، ان مجزرة القيادة العامة، ما هي إلا تعبير عن حقيقة (طبيعة وتركيبة) المجلس العسكري، ومنظومة عمل الدولة (المرحلة) التي يتحكمون فيها. وعليه، نحن حيال مجرمون محترفون يحتكمون علي منظومة اجرامية (اجهزة امنية ومؤسسات اقتصادية) تسمي مؤسسات الدولة. واهمية هذه الخلفية، انها توضح طبيعة التحديات، ومن ثمَّ اختيار اسلوب العمل وطريقة التعامل، للعبور الي المطلوبات الاستراتيجية الممثلة في دولة مدنية وحكم ديمقراطي. وبناء علي اعلاه، ردة الفعل او طريقة التصرف حيال اولئك المجرمين وما يحوزنه من مصادر للقوة، هي ما يمثل معضلة الثورة او العقبة الكؤود امام مشروع التغيير.
في هذا السياق لا يمكن القول ان الجلوس مع العسكر او ابرام الوثيقة الدستورية، كان خطأ او صحيح، حتي تلصق بقوي الحرية والتغيير التهم او يكال لها المديح. ولكنها حسابات سياسية فرضتها عوامل محددة ومعقدة، استصحبت طبيعة الظروف والقوة المسيطرة المذكورة اعلاه. وعلي الخصوص ردة فعل هؤلاء العسكر المجرمين تجاه نزع السلطة منهم، وعدم استنكافهم تحويل البلاد الي محرقة، سبق وان اختبرناها في دارفور وساحة اعتصام القيادة العامة. ولكن لو كان هنالك لوم يوجه لقوي الحرية والتغيير سواء اثناء التفاوض او المشاركة، هو نسيانها او تساهلها او تغافلها عن اغراض ونوايا العسكر وما يضمرونه من غدر بالثورة واجهاض للانتقال. وهو ما كان يستدعي اليقظة والوحدة والتركيز علي سلامة الانتقال اكثر من مكاسب الاحزاب المكونة للحرية والتغيير. مع العلم ان هذه التنبيهات لم تتوقف منذ دخولهم في لجة التفاوض وصولا لمرحلة الشراكة خلال الفترة الانتقالية.
والحال كذلك، انقلاب 25 اكتوبر ما هو إلا اعلان للنوايا الشريرة والعمل في الظلام، وتصفية حساب مع الثورة والثوار منذ ازاحة البشير. لان الوقوف مع الثورة في حسابات العسكر، ليس اكثر من خطوات تنظيم (ترتيبات تتقاطع مع مصالح الثوار)، يتم خلالها ازاحة البشير ورموز الاسلاميين، بعد ان تحولوا الي عبء علي مصالح جنرالات النظام المرتبطين بمحور الشر العربي. ومن هنا كانت هشاشة التسوية او الشراكة بين المدنيين والعسكريين. لياتي اجهاضها انقلابيا علي قطع آخر خيوط الثقة بين الطرفين، وهو ما كرس بدوره لازمة الثقة المستفحلة، وعقد المشهد المعقد مسبقا. المهم، رغم ان غرض التسوية كعملية سياسية، تحرير السلطة من قبضة العسكر تدريجيا، وتخليص العسكر من وهم الوصاية. وهو ما فشل عمليا، بسبب اصرار الجنرالات علي احتكار السلطة وفرض الوصاية بقوة السلاح! إلا ان ذلك لا يعني فشل السياسة كلغة متحضرة، واهمية القوي السياسية كتطبيق عملي للسياسة علي ارض الواقع. لان البديل عن السياسة والقوي السياسية هي الاستبداد العسكري او الفوضي العارمة. ولكن في ذات الوقت، الفعل السياسي الناضج تعبر عنه الممارسة الديمقراطية وحرية الراي والحوار المفتوح، من غير تخوين ونبش للنوايا! وانما المعيار الموضوعية في الطرح والقابلية للتطبيق، حتي لا تتحول لغة السياسة العقلانية الي حماسة عاطفية تفرش الطريق الي جهنم. وتحضرني هنا كتابات (دعوات) الاستاذ زين العابدين صالح التي تركز دائما علي فضيلة الحوار في افق ديمقراطي، وهو بمثابة البدر الذي نفتقده في ظلام هذه الايام الحالكات.
المهم لن يتم تغيير من دون استعداد وقابلية للتغيير، وهو ما لن يمر إلا عبر التخلص من المسلمات، وعلي راسها هنالك طريق واحد وآلية واحدة وجهة واحدة لها القدرة علي احداث التغيير المنشود. لاننا والحال هذه نعاود المرواحة في ذات المربع، باستعصام كل طرف بطرحه، وهو ما يقود لفشل الجميع غالبا. ولو صدف وحدث نجاح لاحد الاطراف، لابد وان يستبدل استبداد بآخر، غض النظر عن العنوان والشعار المرفوع.
وفي هذا الاطار يجب التذكير ان الثورة هي اصلا لم تنجح جذريا، حتي يكون في امكانها احداث تغيير جذري، يُمكِّنها من تغيير قوانيين اللعبة لصالح القوي الثورية وتحقيق مطالبها كاملة مكملة. وذلك لان قوي ومصالح النظام القديم ما زالت متمكنة وتملك التاثير في المشهد، وهو ما اقتضي الدخول في عملية التسوية والشراكة المغدورة. والحال كذلك، ليس هنالك مكان للحديث عن التغيير الجذري من دون هزيمة ساحقة لقوي النظام القديم وازاحته من المشهد، بجنرالاته ومؤسساته واساليب عمله وثقافته، واحلال البديل الناجز محله. ولن يتم ذلك دون القدرة علي فعل ذلك بادوات عملية وليس نظرية، مع الوضع في الاعتبار ان محصلة ثلاثة عقود من الخراب المنتظم الشامل هي كل تركتنا من الانقاذ. وذلك مع التاكيد ان لجان المقاومة هي من دفعت الكلفة الاعلي للوصول لهذه الشراكة، ولم تنل شيئا من هذه الشراكة. عكس قوي الحرية والتغيير التي تسرعت في الوصول لهذه الشراكة، لتتم مكافأتها بنيل نصيب الاسد المدني الي حين. لكن هذا لا يعني ان الجنرالات باطماعهم ومخاوفهم وتركيبتهم السالف ذكرها، هم في وارد ترك السلطة او السماح بحدوث تغيير جذري، اول ما يعني تحجيم نفوذ العسكر وردهم لوظيفتهم الاساسية.
وكما هو معلوم التغيير الجذري في واقعنا الملغوم يعني ضمن ما يعني، افتكاك السلطة من جنرالات دمويين، وانهاء مسيرة تاريخية طويلة من سيطرة العسكر علي السلطة، احدثت تشوهات في ثقافة ووعي ونفسية العسكر، ومن ثمَّ علاقتهم بالدولة ومؤسساتها ومواردها، وبالمدنيين ودورهم. وذلك لا يعني سيطرة الجنرالات علي الاجهزة العسكرية والموارد الاقتصادية فقط، ولكن الاسوأ من ذلك احتكامهم علي سردية معادية للثورة والثوار، تجد صداها داخل المؤسسة العسكرية ولدي بسطاء المواطنين بمساعدة بعض رجال الدين والتحكم في المادة الاعلامية. كما لا يتورع هؤلاء الجنرالات عن العمالة والارتزاق للخارج، للحصول علي الدعم من اجل البقاء في سدة السلطة.
اي المسالة ببساطة تتعلق بمواجهة مجرمين يحتمون بسلاح الدولة واجهزتها ومواردها، ويدافعون عن مصالح عصابات مجردة من القيم والاخلاق، ومن ثمَّ تركهم في السلطة يعني استنزاف عافية الدولة وثرواتها، وانتهاك حقوق المواطنين، كما ان اخراجهم من السلطة عملية في غاية الصعوبة وتحمل مخاطر تعريض الدولة وسلامة المواطنين للخطر.
ومواجهة هذا الواقع الشائك الحساس البائس، هي ما يفترض مدار الهموم والتشاور والتحاور بين كل القوي الوطنية المتضررة من الانقلاب. ومؤكد واقع بهذا التعقيد والبؤس ليس في وسع جهة واحدة او اسلوب واحد معالجته. والدليل ان اكبر واشجع عمل يمارس لمواجهة هذا الانقلاب هو خروج المليونيات. ورغم كلفته العالية، وبمساعدة الضغوط الخارجية والتردي الاقتصادي، لم يعمل إلا علي فرملة الانقلاب وتعقيد عمل الانقلابيين، ولكنه لم يستطع ازاحتهم.
لكل ذلك يجب عدم الاستهانة بحجم التحدي وخطورته، وهو ما يستدعي بناء مشروع معارض يملك الحد الادني من المشتركات، سواء في كيفية التخلص من الانقلاب او ترتيبات استكمال المرحلة الانتقالية؟ ولتسهيل بناء هكذا مشروع يجب وضع الاهداف المطلوبة، وطريقة الوصول اليها، محل نقاش بين كل الاجسام المعارضة. اي هل المطلوب حل جذري وهو ما يتطلب توافر مطلوبات ووسائل عمل معينة، تؤدي لانحياز المؤسسة العسكرية (غير ثورية) والكتلة الحرجة (غير سياسة) للتغيير الجذري؟ ام الوصول لتسوية جديدة بشروط جديدة تستصحب مخاوف واطماع المؤسسة العسكرية، مع توافر كافة الضمانات لعدم الانتكاس والردة للانقلابات. والحوار حول هذه الخيارات يحسم بالجدل، ووضع كافة الاحتمالات وحدود الامكانات محل الاختبار، ويمكن ان توسع دائرة الحوار وتطرح الخيارات للتصويت او الاستفتاء.
وبما ان العلاقة بين قوي التغيير ولجان المقاومة بوصفهما القوي الاكبر في الساحة، يشوبها البرود وقلة الثقة بعد تجربة قوي الحرية والتغيير في الشراكة واداءها المخجل. فذلك يتطلب من قوي الحرية والتغيير الاكتفاء بدور المساهم في المشروع المعارض وليس دور القائد، الذي يترك للجان المقاومة، بعد وضع الترتيبات الادارية والاجرائية التي تسمح بذلك. فهذه الوضعية كافية لاعادة الثقة، اقلاه من اجل الوطن ودماء الشهداء وعلي راسهم ضحايا مجزرة القيادة العامة.
واخيرا
مؤكد كلمة تسوية كلغة سياسية تم ابتذالها والاساءة لها من قبل الانقلابيين، كجزء من اساءة عسكرية ومليشياوية (حميدتية برهانية) شاملة طالت السلطة وسمعة البلاد والاقتصاد والسياسة والتاريخ والتنمية..الخ. وللاسف هذه الاساءة انسحبت ليس علي كل من يطرحها، وانما علي قيمتها ووظيفتها كافق للحل يناسب اوضاع معقدة وخطيرة كواقعنا. اي التسوية ليست اكثر من مراعاة لتوازن القوي وبلوغ الغايات باقل كلفة، ولو في زمن اطول. او بتعبير آخر هي الواقعية في مقابل الاماني. كما ان التسوية اذا اتقن اداءها بحقها، تسمح لنا ليس بتحرير السلطة من القبضة العسكرية، ولكن قبل ذلك تحرير المؤسسة العسكرية من اختطاف الجنرالات، كمقدمة لتحرير السلطة. اي التسوية يجب ان تكون مع المؤسسة العسكرية، اي مراعاة مخاوفها واطماعها وتشوهات وعيها وتاريخ ممارساتها الخاطئة. لذلك رفض التسوية يجب الا يكون مجرد تهم تكال لمن يطرحها، ولكن بطرح البديل العملي، لكيفية استخلاص السلطة من قبضة الجنرالات، ومعالجة اخطاء وتجاوزات المؤسسة العسكرية، وهم يشكلون القوة الفعلية علي الارض؟! ودمتم في رعاية الله.
//////////////////////////
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
سبق ذكر، ان مجزرة القيادة العامة، ما هي إلا تعبير عن حقيقة (طبيعة وتركيبة) المجلس العسكري، ومنظومة عمل الدولة (المرحلة) التي يتحكمون فيها. وعليه، نحن حيال مجرمون محترفون يحتكمون علي منظومة اجرامية (اجهزة امنية ومؤسسات اقتصادية) تسمي مؤسسات الدولة. واهمية هذه الخلفية، انها توضح طبيعة التحديات، ومن ثمَّ اختيار اسلوب العمل وطريقة التعامل، للعبور الي المطلوبات الاستراتيجية الممثلة في دولة مدنية وحكم ديمقراطي. وبناء علي اعلاه، ردة الفعل او طريقة التصرف حيال اولئك المجرمين وما يحوزنه من مصادر للقوة، هي ما يمثل معضلة الثورة او العقبة الكؤود امام مشروع التغيير.
في هذا السياق لا يمكن القول ان الجلوس مع العسكر او ابرام الوثيقة الدستورية، كان خطأ او صحيح، حتي تلصق بقوي الحرية والتغيير التهم او يكال لها المديح. ولكنها حسابات سياسية فرضتها عوامل محددة ومعقدة، استصحبت طبيعة الظروف والقوة المسيطرة المذكورة اعلاه. وعلي الخصوص ردة فعل هؤلاء العسكر المجرمين تجاه نزع السلطة منهم، وعدم استنكافهم تحويل البلاد الي محرقة، سبق وان اختبرناها في دارفور وساحة اعتصام القيادة العامة. ولكن لو كان هنالك لوم يوجه لقوي الحرية والتغيير سواء اثناء التفاوض او المشاركة، هو نسيانها او تساهلها او تغافلها عن اغراض ونوايا العسكر وما يضمرونه من غدر بالثورة واجهاض للانتقال. وهو ما كان يستدعي اليقظة والوحدة والتركيز علي سلامة الانتقال اكثر من مكاسب الاحزاب المكونة للحرية والتغيير. مع العلم ان هذه التنبيهات لم تتوقف منذ دخولهم في لجة التفاوض وصولا لمرحلة الشراكة خلال الفترة الانتقالية.
والحال كذلك، انقلاب 25 اكتوبر ما هو إلا اعلان للنوايا الشريرة والعمل في الظلام، وتصفية حساب مع الثورة والثوار منذ ازاحة البشير. لان الوقوف مع الثورة في حسابات العسكر، ليس اكثر من خطوات تنظيم (ترتيبات تتقاطع مع مصالح الثوار)، يتم خلالها ازاحة البشير ورموز الاسلاميين، بعد ان تحولوا الي عبء علي مصالح جنرالات النظام المرتبطين بمحور الشر العربي. ومن هنا كانت هشاشة التسوية او الشراكة بين المدنيين والعسكريين. لياتي اجهاضها انقلابيا علي قطع آخر خيوط الثقة بين الطرفين، وهو ما كرس بدوره لازمة الثقة المستفحلة، وعقد المشهد المعقد مسبقا. المهم، رغم ان غرض التسوية كعملية سياسية، تحرير السلطة من قبضة العسكر تدريجيا، وتخليص العسكر من وهم الوصاية. وهو ما فشل عمليا، بسبب اصرار الجنرالات علي احتكار السلطة وفرض الوصاية بقوة السلاح! إلا ان ذلك لا يعني فشل السياسة كلغة متحضرة، واهمية القوي السياسية كتطبيق عملي للسياسة علي ارض الواقع. لان البديل عن السياسة والقوي السياسية هي الاستبداد العسكري او الفوضي العارمة. ولكن في ذات الوقت، الفعل السياسي الناضج تعبر عنه الممارسة الديمقراطية وحرية الراي والحوار المفتوح، من غير تخوين ونبش للنوايا! وانما المعيار الموضوعية في الطرح والقابلية للتطبيق، حتي لا تتحول لغة السياسة العقلانية الي حماسة عاطفية تفرش الطريق الي جهنم. وتحضرني هنا كتابات (دعوات) الاستاذ زين العابدين صالح التي تركز دائما علي فضيلة الحوار في افق ديمقراطي، وهو بمثابة البدر الذي نفتقده في ظلام هذه الايام الحالكات.
المهم لن يتم تغيير من دون استعداد وقابلية للتغيير، وهو ما لن يمر إلا عبر التخلص من المسلمات، وعلي راسها هنالك طريق واحد وآلية واحدة وجهة واحدة لها القدرة علي احداث التغيير المنشود. لاننا والحال هذه نعاود المرواحة في ذات المربع، باستعصام كل طرف بطرحه، وهو ما يقود لفشل الجميع غالبا. ولو صدف وحدث نجاح لاحد الاطراف، لابد وان يستبدل استبداد بآخر، غض النظر عن العنوان والشعار المرفوع.
وفي هذا الاطار يجب التذكير ان الثورة هي اصلا لم تنجح جذريا، حتي يكون في امكانها احداث تغيير جذري، يُمكِّنها من تغيير قوانيين اللعبة لصالح القوي الثورية وتحقيق مطالبها كاملة مكملة. وذلك لان قوي ومصالح النظام القديم ما زالت متمكنة وتملك التاثير في المشهد، وهو ما اقتضي الدخول في عملية التسوية والشراكة المغدورة. والحال كذلك، ليس هنالك مكان للحديث عن التغيير الجذري من دون هزيمة ساحقة لقوي النظام القديم وازاحته من المشهد، بجنرالاته ومؤسساته واساليب عمله وثقافته، واحلال البديل الناجز محله. ولن يتم ذلك دون القدرة علي فعل ذلك بادوات عملية وليس نظرية، مع الوضع في الاعتبار ان محصلة ثلاثة عقود من الخراب المنتظم الشامل هي كل تركتنا من الانقاذ. وذلك مع التاكيد ان لجان المقاومة هي من دفعت الكلفة الاعلي للوصول لهذه الشراكة، ولم تنل شيئا من هذه الشراكة. عكس قوي الحرية والتغيير التي تسرعت في الوصول لهذه الشراكة، لتتم مكافأتها بنيل نصيب الاسد المدني الي حين. لكن هذا لا يعني ان الجنرالات باطماعهم ومخاوفهم وتركيبتهم السالف ذكرها، هم في وارد ترك السلطة او السماح بحدوث تغيير جذري، اول ما يعني تحجيم نفوذ العسكر وردهم لوظيفتهم الاساسية.
وكما هو معلوم التغيير الجذري في واقعنا الملغوم يعني ضمن ما يعني، افتكاك السلطة من جنرالات دمويين، وانهاء مسيرة تاريخية طويلة من سيطرة العسكر علي السلطة، احدثت تشوهات في ثقافة ووعي ونفسية العسكر، ومن ثمَّ علاقتهم بالدولة ومؤسساتها ومواردها، وبالمدنيين ودورهم. وذلك لا يعني سيطرة الجنرالات علي الاجهزة العسكرية والموارد الاقتصادية فقط، ولكن الاسوأ من ذلك احتكامهم علي سردية معادية للثورة والثوار، تجد صداها داخل المؤسسة العسكرية ولدي بسطاء المواطنين بمساعدة بعض رجال الدين والتحكم في المادة الاعلامية. كما لا يتورع هؤلاء الجنرالات عن العمالة والارتزاق للخارج، للحصول علي الدعم من اجل البقاء في سدة السلطة.
اي المسالة ببساطة تتعلق بمواجهة مجرمين يحتمون بسلاح الدولة واجهزتها ومواردها، ويدافعون عن مصالح عصابات مجردة من القيم والاخلاق، ومن ثمَّ تركهم في السلطة يعني استنزاف عافية الدولة وثرواتها، وانتهاك حقوق المواطنين، كما ان اخراجهم من السلطة عملية في غاية الصعوبة وتحمل مخاطر تعريض الدولة وسلامة المواطنين للخطر.
ومواجهة هذا الواقع الشائك الحساس البائس، هي ما يفترض مدار الهموم والتشاور والتحاور بين كل القوي الوطنية المتضررة من الانقلاب. ومؤكد واقع بهذا التعقيد والبؤس ليس في وسع جهة واحدة او اسلوب واحد معالجته. والدليل ان اكبر واشجع عمل يمارس لمواجهة هذا الانقلاب هو خروج المليونيات. ورغم كلفته العالية، وبمساعدة الضغوط الخارجية والتردي الاقتصادي، لم يعمل إلا علي فرملة الانقلاب وتعقيد عمل الانقلابيين، ولكنه لم يستطع ازاحتهم.
لكل ذلك يجب عدم الاستهانة بحجم التحدي وخطورته، وهو ما يستدعي بناء مشروع معارض يملك الحد الادني من المشتركات، سواء في كيفية التخلص من الانقلاب او ترتيبات استكمال المرحلة الانتقالية؟ ولتسهيل بناء هكذا مشروع يجب وضع الاهداف المطلوبة، وطريقة الوصول اليها، محل نقاش بين كل الاجسام المعارضة. اي هل المطلوب حل جذري وهو ما يتطلب توافر مطلوبات ووسائل عمل معينة، تؤدي لانحياز المؤسسة العسكرية (غير ثورية) والكتلة الحرجة (غير سياسة) للتغيير الجذري؟ ام الوصول لتسوية جديدة بشروط جديدة تستصحب مخاوف واطماع المؤسسة العسكرية، مع توافر كافة الضمانات لعدم الانتكاس والردة للانقلابات. والحوار حول هذه الخيارات يحسم بالجدل، ووضع كافة الاحتمالات وحدود الامكانات محل الاختبار، ويمكن ان توسع دائرة الحوار وتطرح الخيارات للتصويت او الاستفتاء.
وبما ان العلاقة بين قوي التغيير ولجان المقاومة بوصفهما القوي الاكبر في الساحة، يشوبها البرود وقلة الثقة بعد تجربة قوي الحرية والتغيير في الشراكة واداءها المخجل. فذلك يتطلب من قوي الحرية والتغيير الاكتفاء بدور المساهم في المشروع المعارض وليس دور القائد، الذي يترك للجان المقاومة، بعد وضع الترتيبات الادارية والاجرائية التي تسمح بذلك. فهذه الوضعية كافية لاعادة الثقة، اقلاه من اجل الوطن ودماء الشهداء وعلي راسهم ضحايا مجزرة القيادة العامة.
واخيرا
مؤكد كلمة تسوية كلغة سياسية تم ابتذالها والاساءة لها من قبل الانقلابيين، كجزء من اساءة عسكرية ومليشياوية (حميدتية برهانية) شاملة طالت السلطة وسمعة البلاد والاقتصاد والسياسة والتاريخ والتنمية..الخ. وللاسف هذه الاساءة انسحبت ليس علي كل من يطرحها، وانما علي قيمتها ووظيفتها كافق للحل يناسب اوضاع معقدة وخطيرة كواقعنا. اي التسوية ليست اكثر من مراعاة لتوازن القوي وبلوغ الغايات باقل كلفة، ولو في زمن اطول. او بتعبير آخر هي الواقعية في مقابل الاماني. كما ان التسوية اذا اتقن اداءها بحقها، تسمح لنا ليس بتحرير السلطة من القبضة العسكرية، ولكن قبل ذلك تحرير المؤسسة العسكرية من اختطاف الجنرالات، كمقدمة لتحرير السلطة. اي التسوية يجب ان تكون مع المؤسسة العسكرية، اي مراعاة مخاوفها واطماعها وتشوهات وعيها وتاريخ ممارساتها الخاطئة. لذلك رفض التسوية يجب الا يكون مجرد تهم تكال لمن يطرحها، ولكن بطرح البديل العملي، لكيفية استخلاص السلطة من قبضة الجنرالات، ومعالجة اخطاء وتجاوزات المؤسسة العسكرية، وهم يشكلون القوة الفعلية علي الارض؟! ودمتم في رعاية الله.
//////////////////////////