لماذا ليس هناك أمل في صلاح قريب للتعليم العالي في السودان !
البروفيسور/ الوليد محمد الأمين *
11 June, 2022
11 June, 2022
سلسلة مقالات (1)
بقلم: البروفيسور / الوليد محمد الأمين *
يعاني التعليم العالي في السودان من إشكاليات هيكلية تراكمت في السنوات التالية لاستقلال البلاد وزادت وتيرتها بعد ذلك لأسباب مختلفة . وعودا على بدء في شأن بدايته في السودان فتاريخ التعليم العالي في البلاد يعود إلى فترة قريبة نسبيا ، فقد تأسست نواة جامعة الخرطوم الحالية في العام 1902 تحت مسمى كلية غردون التذكارية ، وفي العام 1945 سُميت بكلية الخرطوم الجامعية ، ثم بعد ذلك وباستقلال البلاد في العام 1956 تحول اسمها إلى جامعة الخرطوم . وجامعة الخرطوم ذاتها أو كلية غردون التذكارية أنشأها الانجليز كتخليد لذكرى الجنرال تشارلزغردون الذي قُتل في الخرطوم على أيدي مقاتلي الحركة المهدية . مقابل ذلك نجد بعض المصادر ترُّدُ نشأة التعليم العالي في السودان إلى قيام المعهد العلمي بأمدرمان في العام 1912 ، كمقابل أو كنسخة سودانية من الأزهر بمصر ، وهذا المعهد هو ما تطور في النهاية ليصبح جامعة أمدرمان الاسلامية في العام 1965 ، غير أن جامعة الخرطوم تظل هي النواة الحقيقية للتعليم العالي في السودان بتعريفه الحداثوي .
وعلى الرغم من أن الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري كان دكتاتورياً عقائدياً في بعض أوقاته ودكتاتورياً بلا عقيدة و بلا فكرة في أوقات أُخرى ، فقد استعان النميري في سنوات حكمه ، خاصة في بداياتها بالعديد من المتعلمين والتكنوقراط . غير أنه وكما في التسلسل الطبيعي لكل الدكتاتوريات ينتهي الأمر بلاعقي الأحذية من التكنوقراط وغيرهم للبقاء حول الرئيس القائد ويضمحل دور المفكرين أو أصحاب الآراء المستقلة منهم. أدت هذه الاستعانة بالمتعلمين في بداية ما عرف بثورة مايو إلى تطور معقول في التعليم العالي في السودان شمل البنيات التحتية وكذلك القوانين. وفي تلك الفترة ضُمّت كل المعاهد والكليات التي كانت تتبع للمصالح والوزارات إلى التعليم العالي . وكذلك فقد قامت في تلك الفترة بعض المعاهد والكليات الوسيطة بمعاونة من البنك الدولي وهي معهد أبوحراز الزراعي ، معهد أبو نعامة الزراعي و كلية الهندسة الميكانيكية عطبرة. أما في العام 1975 وكما هو معروف فقد أُنشئت جامعتا الجزيرة وجوبا ، كأول الجامعات خارج الخرطوم العاصمة .
استمر الحال كذلك إلى نهاية الثمانينات وظلت في السودان فقط ست من الجامعات والكليات هي جامعة الخرطوم ، جامعة الجزيرة ، جامعة جوبا ، جامعة أمدرمان الإسلامية ، كلية الأحفاد الجامعية للبنات ( أنشئت في العام 1966 وتم ترفيعها إلى جامعة في العام 1995) وكلية أمدرمان الأهلية ( أنشئت في العام 1986 وتم ترفيعها إلى جامعة في العام 1995) . وكانت هذه الجامعات والكليات جميعها تستوعب عددا محدودا من الطلاب ، بينما كانت جامعة القاهرة فرع الخرطوم بالمقابل تستوعب أعدادا كبيرة من الطلاب الذين كان يتم تدريسهم المنهج المصري في التاريخ والجغرافيا بل وفي كل العلوم الأخرى بطبيعة الحال . هذا مع الإشارة بالطبع إلى أن الجامعة الفرع كانت تقوم بتدريس العلوم الانسانية دون بقية العلوم التطبيقية .
في العام 1991 وبعد استيلاء الجبهة الإسلامية في السودان على الحكم بانقلاب الإنقاذ في العام 1989 ، أعلنت الدولة ما أسمته بثورة التعليم العالي ، والتي كان من أهم قراراتها التوسع الكبير في التعليم العالي وتجفيف وإيقاف الابتعاث الخارجي وتقليص عدد الطلاب السودانيين الدارسين في الخارج . كذلك كان من أهم مرتكزات ثورة التعليم العالي ما عرف بالتأصيل والاتجاه نحو التعريب .
غني عن القول إن مؤسسات التعليم العالي عانت باعتبارها واحدة من مؤسسات الدولة السودانية من علل الدولة على وجه العموم ، غير أن التوسع في فتح الجامعات ( بلغ عدد الجامعات الحكومية حتي ديسمبر 2018 الرقم 34 - ثلاث منها سُميت أو صُنفت على أنها جامعات حكومية ذات طبيعة خاصة - ، بينما بلغ عدد الكليات والجامعات غير الحكومية حتى ذلك التاريخ عدد 101 مؤسسة ) ، هذا التوسع أدي في بعض ما أدى إلى إهمال معايير الجودة الأكاديمية بل ومعايير الجودة الأخلاقية قبل ذلك . يضاف إلى ذلك تحول التعليم العالي شيئا فشيئا إلى سلعة أو خدمة ربحية بالأساس بانتشار مؤسسات التعليم العالي الخاصة ، ذلك بالطبع دون إغفال أهمية التعليم غير الحكومي في الإرتقاء بالتعليم العالي على وجه العموم في مجالات مختلفة ليس أقلها إتاحة الفرص لعدد أكبر من الطلاب للحصول على الشهادات الجامعية وتوفير بعض التخصصات التي قد لا تتوفر في الجامعات الحكومية لأسباب مختلفة ، غير أن المسألة في السودان لا تزال بحوجة للمزيد من الضبط والحوكمة .
في المقابل وعلى الصعيد المجتمعي ارتفعت الأصوات المنادية بضبط العملية التعليمية في البلاد وضرورة إغلاق أو فرض رقابة لصيقة على مؤسسات التعليم العالي خاصة غير الحكومية منها ، وبالتحديد مسألة التساهل في شروط القبول لكليات الطب ، غير أنك تجد ذات المنادين بأهمية هذا الضبط هم ذاتهم من يسارعون لإدخال أبنائهم وبناتهم في هذه المؤسسات رغم تدني تحصيلهم وقدراتهم البائنة ، متوسمين فيهم وفيهن نجابة أفلتت من وسائل التقويم والقياس التربوية.
التوقعات العالية للطلاب بعد الثورة (ديسمبر 2018 وما تلاها ) ظهرت في بعض المطالب غير المنطقية عند النظر إليها من البعد الأكاديمي بينما رأى فيها الطلاب مطالب مشروعة مسنودين بما أسموها بالشرعية الثورية وجهدهم في اسقاط النظام السابق . وكما هو حاصل على طول تاريخ الممارسة السياسية السودانية فإن الحركة الطلابية تم تجييرها واستغلالها لصالح المطالب الحزبية وأحياناً الفئوية .
في الجامعات أو مؤسسات التعليم العالي علي وجه العموم ارتفعت الأصوات بضرورة القضاء على تركة النظام السلطوي السابق وإعادة البريق إلى التعليم العالي في السودان . والحق أن التعليم العالي في السودان تدهور بدرجة كبيرة في ظل النظام السابق ، غير أن هذا التدهور بدأ قبل ذلك إن توخينا الدقة والإنصاف ، فمنذ نهاية السبعينات وربما منتصفها ، فارق السودان كقُطر سكة التحديث على كل المستويات ، فمع بدايات الانهيار الاقتصادي وازدياد معدل هجرة الطبقات المتعلمة لم يكن التعليم بمنأى عن تأثير ذلك . ربما قلل من حدة ذلك أول الأمر محدودية الجامعات وقتها ، فحتي العام 1989 كان بالسودان عدد محدود من الجامعات لا يتعدى الخمس . وعلى الرغم من التدهور المستمر والفشل الذي لازم الدولة السودانية منذ الاستقلال فقد كانت جامعة الخرطوم بحق منارة علمية في المنطقة ، غير أن ذلك يمكن فهمه إن نظرنا إلى المسألة من منظور توفرها على خيرة طلاب السودان وقتها ( وهو الأمر الذي استمر بطريقة أو بأخرى وإن بنسبة أقل حتى وقتنا الحاضر ) ، ففي ظل محدودية عدد المدارس الثانوية بل وحتى المتوسطة وقتها ، كان العدد المحدود الذي يتيسر له دخول الجامعة يفعل ذلك بعد منافسة شرسة وانتخاب معقّد ، ضِفْ إلى ذلك ما بدأت به الجامعة من طاقم تدريس بريطاني مرموق ونظام تدريس ولوائح مشابه لما هو معمول به في جامعة لندن ، وكان من نتائج ذلك أن المستوي العالي لخريجي الجامعة كان رافداً جيداً للخدمات الوطنية ما بعد الإستعمار، وساهم خريجو الجامعة بقدر معقول في تقدم ونهضة بعض دول الإقليم ، ولكن ذلك بالطبع كان مساهمة مدفوعة الأجر فيما عرف بالاغتراب حيناً وبالهجرة حيناً آخر . لكن ما حدث بعد ذلك أن الدول التي كان السودان متقدما عليها في مجال التعليم العام والعالي أخذت بأسباب التقدم واللحاق بركب الحضارة بينما تقهقهر السودانيون وظلوا يعيدون ذات معاركهم الدونكشوتية في محاربة طواحين الهواء !
صاحب الانهيار الاقتصادي في السودان بدءً من منتصف السبعينات انهيار متوقع في جميع مناحي الدولة السودانية ولم يكن التعليم العالي بمنأى عن ذلك ، خاصة عند الأخذ في الاعتبار نظرة الحكومات العسكرية صاحبة الفترة الأطول في حكم السودان لمسألة التعليم ، والأسوأ من ذلك بالطبع نظرتهم للبحث العلمي . فاقم من كل ذلك مع تمكن الاسلاميين من حكم البلاد بالقهر المغلف بالدين أن قضت سياسة تعريب المناهج والتدريس باللغة العربية على ما تبقي من رمق للتعليم في السودان . وفي هذا الإطار يرى الدكتور النور حمد والأستاذ خلف الله عبود الشريف إن " تدهور التعليم في السودان ظاهرة ظلت تتجلى بشكل تدريجي عبر عقود فترة ما بعد الاستقلال ، غير أنه ليس من الإنصاف في شيء، وليس من التزام المنهج العلمي في شيء أن نلقي بكل تبعات تدهور التعليم على نظام الإنقاذ ، فالتعليم قبل الإنقاذ لم يكن بخير، ولكنه، على التحقيق ، كان أفضل حالا مما آل إليه أمره في عهد الإنقاذ" ، ورغم أن الدراسة المعنية ركزت على التعليم العام إلا أنها تنطبق كذلك في الكثير من جوانبها على التعليم العالي ( أنظر : مناهج الإنقاذ التعليمية : دراسة نقدية ، حمد والشريف ، 2006).
التوسع المضطرد في الجامعات واستسهال إنشاء الجامعات دون توفير معيناتها الأساسية من معامل وورش وقاعات مجهزة ولو بالحد الأدني من المعينات ، مترافقاً مع انعدام الرؤية فيما يختص بالبحث العلمي لدى الجهات المسؤولة في الدولة وكذلك لدى الأساتذة الجامعيين أنفسهم ، أدّى في النهاية إلى تفريخ أعداد كبيرة من الطلاب المتعلمين تعليماً متواضعاً ومعدومي المقدرة – أو محدوديها على الأقل – على التفكير النقدي . لم يكن من ضمن الاهتمامات الكبيرة لمرحلة حكم الاسلاميين في السودان بالطبع تطوير ملكة التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات ، ففكرة الإسلام السياسي نفسها في جانبها السلفي تقوم على إلغاء فضيلة التفكير النقدي . ونظرة متعجلة إلى المنتوج البحثي لطلاب الدراسات العليا في الجامعات السودانية كافية لتوضيح ذلك . وعلى الرغم من أن تدهور التعليم العالي في السودان لا يمكن رده فقط لفترة حكم الإسلاميين ، إلا أن الوزر الأكبر في هذا التدهور تتحمله حكومات ما عرف بثورة الإنقاذ الوطني ، ليس فقط لطول فترة بقائها على سدة الحكم في السودان ( ثلاثون عاما ) ولكن كذلك لأن التطور الذي حدث في هذه الفترة في مجال حوكمة التعليم العالي وضبط الجودة فيه وتبادل الخبرات والانفتاح العالمي على التجارب الدولية مقابل انعزال السودان بدواعي التأصيل حينا ولأسباب الحظر الأميركي والعزلة الدولية في الأحيان الأخرى ، هذا التطور في هذه الفترة المعنية لم يكن مسبوقا من قبل في تاريخ المنطقة على الأقل ، ونحن إذا نظرنا للمسألة في منظورها الأشمل فسنجد أن التطور البشري على وجه العموم وما أنجزته البشرية في العقود الثلاثة الأخيرة فاق كل ما كانت تنجزه البشرية في قرون قبل ذلك ! كان من نتائج تلك العزلة وذلك التقوقع في حالة السودان أن تقدمت جامعات الدول العربية والإفريقية في الأقليم كلها على كل الجامعات السودانية بلا استثناء يذكر .
على كل حال تضاعفت أعداد الجامعات عاماً بعد عام في ظل ما عرف بثورة التعليم العالي وتضاعف بالمقابل عدد الأساتذة . وللإنصاف مرة أخرى ينبغي اللإشارة إلى أنه لم يكن من الممكن أو المقبول حتى أن تظل سياسات التعليم العالي وقبول الطلاب كما كانت عليه في السابق بقبول عدد محدود للغاية من الطلاب الجالسين لامتحانات الشهادة السودانية ، وكذلك لم يكن من الممكن أو من العدل أن تستمر سياسة تمويل الطلاب السودانيين الدارسين في الخارج من قبل الدولة ومعاملتهم معاملة تفضيلية في سعر العملة الحرة ، ما أدى إلى أن يقوم هؤلاء الطلاب أنفسهم بالمتاجرة في العملة الحرة مستغلين السعر التفضيلي الممنوح لهم ! وهناك بالطبع أسباب أخرى لا مجال لذكرها واستعراضها هنا جعلت من غير الممكن استمرار السياسات القديمة في التعليم العالي في السودان . غير أنه وبالمقابل لم يصاحب هذا التضاعف في عدد الجامعات والأساتذة أي مردود علمي معتبر ، لا مردود بحثي كما اسلفنا بل ولا حتى مردود أكاديمي بتأليف كتب منهجية محترمة على الأقل . سيرد الكثيرون على مقولتي هذه بالتحدي بأنهم نشروا عدد كذا وكذا من الأوراق العلمية ، وآخرون بأنهم ألّفوا عدد كذا وكذا من الكتب : ولكنها في الحقيقة ليست غير هدر للورق ولحبر المطابع.
السؤال الأساس في هذه المقالة هو: لماذا ليس هناك أمل في صلاح قريب للتعليم العالي في السودان ؟ في الحقيقة ورغم السهولة التي تتبدى في الإجابة على مثل هذا السؤال من شاكلة ضعف البنى التحتية وافتقار الجامعات السودانية للكوادر المؤهلة في الكثير من المجالات وهجرة الأساتذة وضعف المعينات اللوجستية من خدمات الانترنت وغير ذلك ، في الحقيقة أقول فإن الأمر للأسف يتعدى ذلك إلى مسألة انقطاعنا عن العالم ومفارقتنا لدرب التفكير العولمي باعتبارنا جزءً من العالم ، ما انتهى بنا إلى التقوقع الذي نحن فيه الآن ، وهي مسألة ليس من اليسير حلها في ظل أحوالنا الماثلة ! ولعله من سوء الطالع أن هذا الانقطاع وهذه العزلة قد طالت البلاد في بداية التسعينات ، العقد الذي كان البداية الفعلية أو الأكثر تسارعا في مجال التكنولوجيا والابتكارات المتعلقة بها وانتشار شبكة الانترنت وهيمنتها على الأنشطة الحياتية والعلمية ، كل ذلك ترافق بالطبع مع تزايد الحوجة للتعامل باللغة الإنجليزية واللغات الحية عموما في وقت قرر فيه النظام الحاكم في السودان وقتها تعريب المناهج وتبني اللغة العربية كلغة للتعليم الجامعي .
إن الأسباب من شاكلة ضعف البنى التحتية وضعف الكوادر ومثل ذلك يمكن التغلب عليها بالقرارات الصعبة والشجاعة من مثل إغلاق بعض الجامعات أو الكليات ، ودمج بعضها ببعض وكذا من مثل تخصيص جامعة واحدة مثلا للعلوم الطبية وواحدة للعلوم الزراعية وهكذا ، غير أن هذه القرارات المصيرية تتطلب شجاعة لا تتوفر لدى متخذ القرار السوداني ، ما أدى في النهاية إلى أن يتم القبول لكليات الزراعة في كل الجامعات السودانية لهذا العام 2022 بنسبة دخول لم تتعد ال 50% إلا في جامعة الخرطوم حيث بلغت نسبة الدخول فيها 65% ! غني عن القول بالطبع إن الزراعة في العصر الحديث لم تعد هي الزراعة في الخمسينات والستينات من القرن الفائت . رغم ذلك يطالب الطلاب وأولياء أمورهم وقطاع كبير من المجتمع على وجه العموم بأن تستمر الدولة في سياسة مجانية التعليم العالي شاملا كليات مثل ما ذكرناها لا تتعدى نسب الدخول إليها الحد الأدنى من النجاح في الشهادة السودانية ولا تمتلىء المقاعد المخصصة للقبول بها إلا بعد القبول الثاني ، ناهيك عن كليات أخرى ككليات الدعوة والإعلام ، التربية ، الشريعة وكليات أخرى بلغت نسبة المقاعد الشاغرة فيها بعد إعلان نتيجة القبول للدور الأول أرقاما وصلت إلى 97 % من المقاعد المتوفرة أو المتاحة المتاحة للمنافسة ! لا يعني ذلك بالطبع أن المسألة بهذه البساطة ، فثمة بعض الكليات الطبية أو الهندسية على سبيل المثال يمكن النظر إليها بحسب مؤشرات رغبة الطلاب في التقدم للالتحاق بها ، يمكن النظر إليها ككليات نخبة أو ذات مرغوبية عالية ، ولكن خريجي هذه الكليات لا تتوفر لهم فرص العمل عند تخرجهم مما يجعل من الاستمرار في القبول بأعداد كبيرة في هذه الكليات في الجامعات الحكومية ضربا من الهدر غير المرشد للموارد الشحيحة .
أركز هنا في ما تبقى من هذه المقالة على ما سميته بالسبب الرئيس أو أحد الأسباب الرئيسة التي تعوق تقدم جامعاتنا السودانية للحاق بركب جامعات المنطقة ولا أقول العالم في وضعنا الراهن ، أي مفارقة جامعاتنا لمعايير الحوكمة والجودة المعيارية في التعليم العالي . في بدايات العام 2020 ومن ضمن حزمة الإصلاحات التي ابتدرتها وشرعت فيها حكومة الفترة الإنتقالية تحت رئاسة الدكتور عبدالله حمدوك شرع البنك الدولي في مد يد العون لقطاع التعليم العالي في السودان بالمساعدات الفنية . في واحدة من هذه المساعدات أرسل البنك الدولي بعض خبرائه وكان أن حضرنا باعتبارنا مديري الجامعات الحكومية وقتها المحاضرة وحلقة النقاش التي قدمها الخبير المبعوث من البنك الدولي لتقييم أوضاع الجامعات السودانية وفق معايير محددة . زار المبعوث الدولي بعدها بعض الجامعات السودانية كانت جامعة الزعيم الأزهري من ضمنها حيث اجتمع بنا في الجامعة (المدير وأمين الشئون العلمية رفقة ممثل البنك الدولي في مكتب السودان هنا ) . طاف المبعوث كذلك ببعض مباني الجامعة والتقى بعض الطلاب ، وأذكر أنني يومها طلبت من الطلاب والطالبات الذين التقى بهم التحدث معه بكامل الشفافية دون وضع مساحيق التجميل كما تعودنا تحت ستار الكرامة الوطنية والسمعة الطيبة وغير ذلك ، من نافلة القول أن الأسئلة كانت محددة وموضوعية وكذا الإجابات التي شملت النقص في الخدمات الأساسية مثل دورات المياه ،الخدمات الطلابية ، طريقة عرض وتقديم المحاضرات ومدى الاستفادة منها والسكن الطلابي وغير ذلك من الأسئلة المحددة !
بعد عدة أشهر سألت السيد وكيل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وقتها عن تقييم البنك الدولي للزيارة فأجابني بأن ذلك سيصدر في تقرير قادم ، إلا أن المؤشرات لديهم في البنك الدولي كما أخبره الخبير بعدها تشير بجلاء إلى أن التعليم العالي في السودان هو دون المستوى المطلوب ولا يستوفي الكثير من المعايير الأدنى المطلوبة .
لم تكن هذه الاستعانة بالمؤسسات الدولية المختصة والبنك الدولي هنا على وجه التخصيص هي الأولى في مسيرة التعليم العالي في السودان ، ففي عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري سبقت الإشارة إلى المعاهد التي أُنشئت بمعونة من البنك الدولي ، وفي كتابه " الديمقراطية راجحة وعائدة في السودان " كتب السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء في فترة الديمقراطية الثانية ( 1985-1989) : " ولدى زيارتي للبنك الدولي ناقشت مع رئيسه خطة يمولها البنك لإعادة تأهيل مؤسسات التعليم العالي ، فوافق وانتدب لجنة فنية لدراسة الأمر في السودان ، وقد وضع البرنامج ويشارك في تمويله البنك الدولي واليونسكو مع ما تخصص الحكومة من اعتمادات لإعادة التأهيل " . إلا أنه وعلى الرغم مما ذكره السيد الصادق المهدي أعلاه وأهمية ذلك ، إلا أنه يجب أن نلحظ أن الانهيار كان قد بدأ قبلها وأخذ في التسارع حتى في مفاهيم التعامل مع العالم ، ففي ذات الكتاب يذكر السيد الصادق أن أولى توصيات اللجنة القومية لتأهيل التعليم العالي وقتها كانت " تأصيل مناهج التعليم العالي كيلا يكون أداة للتغريب " ! من الواضح أن السودان قد فارق سكة التحديث بالكلية منذ ما قبل حكم الإنقاذ ، ولكن الانقاذ بالطبع سرّعت به . ولعله من الجدير بالملاحظة في أيامنا هذه الانتباه إلى المفارقة المضحكة المبكية في تذيل جامعاتنا لسلم التصنيف الأكاديمي قصاد ارتفاع تصنيف جامعات الخليج على سبيل المثال وتحسرنا على حالنا دون الانتباه إلى ما تبذله حكومات هذه الدول في سبيل الرفاه واللحاق بالعالم والتخلي عن دعوات الظلامية ونبذها في حين تزهر هذه الدعوات في السودان تحت شعارات التدين والتمسك بالدين القويم وأحلام إصلاح العالم !
بالطبع كان من المفترض أن تتكرر الزيارات وتبادل الخبرات وكان من المفترض أن يتولى البنك الدولي رفد الجامعات السودانية بالكفاءات المطلوبة في مجال حوكمة التعليم العالي وفي المجالات الأخرى من التدريب ورفع الكفاءات والدخول في برامج رفع القدرات حيث وضعت الخطط والمشاريع لذلك متلمسة أوجه القصور والضعف الحقيقية في بنية التعليم العالي في السودان . انتهى كل ذلك بالطبع بعد التطورات السياسية في السودان والانقلاب من قبل القوى العسكرية على الشراكة التي كانت قائمة مع القوى المدنية المنوط بها التعامل مع المجتمع الدولي وهيئاته المدنية ، حيث توقفت المنظمات الدولية ومن ضمنها البنك الدولي عن التعامل المباشر مع السودان . في الحقيقة لم نفقد فقط دعم البنك الدولي ، ففي جامعة الزعيم الأزهري وحدها على سبيل المثال كانت كلية السياحة والفنادق قد ابتدرت تواصلا مع السفارة الإيطالية بالخرطوم في مجال التغذية والمطابخ ، وكان من المؤمل أن يُتوّج ذلك التواصل بدعم مقدر في مجالات البنية التحتية والتدريب ، غير أن السفارة اعتذرت بعد تغير الوضع السياسي في البلاد ، قبل ذلك فقدنا التعهد الكوري بالتأهيل الكامل والدعم الفني واللوجستي لمركز تقانة المعلومات بالجامعة الذي كان قد شُيّد أصلا قبل عدة سنوات بدعم من الحكومة الكورية ، ومؤخرا كذلك فعلت ذات الشيء منظمة الداد DAD الألمانية التي كانت الجامعة قد تحصلت على دعم منها عن طريق المنافسة لتمويل وترتيب ورشة تدريبية لمديري العلاقات الخارجية بالجامعات السودانية في مجال عولمة التعليم العالي برعاية وإشراف خبراء من ألمانيا ودول أخرى ، ولكن الذي حدث أن المنظمة الألمانية المعروفة والمرموقة أرسلت اعتذارها في مايو المنصرم بالتأجيل للعام القادم أو الذي يليه أو ربما سحب التمويل بالكلية ، مسببة ذلك بالوضع السياسي في السودان ! لا يخفى بالطبع المجهودات التي لابد أنها قد بذلت خلف هذه المشاريع من المقابلات والزيارات للجامعة ، هذا بالطبع عدا المخاطبات والإجراءات الفنية المصاحبة ، كما لا يخفى الترتيب والاجتهاد الذي بذل فيها ولأجلها من قبل الجهات المختصة بالجامعة .
هذا الانقطاع المتطاول عن العالم لم يؤثر فقط على قطاع التعليم العالي وحده ، فأجهزة الدولة كلها ومؤسساتها عانت من ذات الأمر بدرجات متفاوتة . إن الأثر الأكبر لهذا الانقطاع ربما تبدى في غياب ثقافة الجودة والكفاءة وضبط معايير العمل . وهذه وإن كانت من نقائص الشخصية السودانية على وجه العموم في غياب المحاسبة والرقابة ، فقد زاد انقطاعنا عن العالم الطين بلة في غياب واضمحلال مثل هذه المفاهيم . إن نظرة واحدة إلى حال التعامل في مطار الخرطوم أو في شركة الكهرباء أو حتى في مؤسسة الشرطة السودانية لكافية بتوضيح مفارقة السودان لدرب التطور في العالم المعاصر . إزاء ذلك كيف يتسنى التوقع من مدير الجامعة المعنية أن ينهض بالجامعة إذا كان هو نفسه ربيب هذه المؤسسة وثقافة الانعزال ! كان بعض ما أحدثته ثورة ديسمبر المجيدة هو رفع الروح المعنوية للسودانيين وعودة الثقة لدى قطاع كبير منهم بأنهم قادرون على الفعل والتغيير ، غير أنه وللأسف ولغياب التخطيط الملازم لشخصيتنا فقد استبدلنا الابتزاز الديني الذي كان سائدا في عهد الاسلاميين بالابتزاز الثوري ! وصعد إلى سدة الكثير من المؤسسات من لا فرق بينهم وبين منسوبي النظام السابق غير التوجه الفكري ، لا ننكر بالطبع نظافة اليد لدى الغالب الأعم منهم ، وربما كان مرد ذلك في بعض الحالات إلى أنهم لم يكونوا قد أُختبروا بعد ، ولكن ذلك على كل حال لم يُعِنّا على تجاوز أثر فقدان الرؤية واضمحلال الكفاءة وغياب المفكرين الذي كان سمة بارزة لمتبوئي المناصب في النظام السابق فإذا بمتسلقي الثورة وشعارات الكفاح المسلح يفعلون ذات الرزايا .
لا يُتوقع والحال كذلك من منسوبي الجامعات بوضعهم الحالي بل ووضع البلد برمتها ، لا يُتوقع منهم إحداث أي اختراق لازم للارتقاء بالتعليم العالي في السودان . إن جُلّ ما يمكن توقعه هو المحافظة على الوضع الراهن ومنعه من التدهور أكثر ، والحال كذلك يصبح استمرار العام الدراسي في الجامعة المعنية انجازا يعتد به ! ليس ذلك بالطبع لعجز منسوبي الجامعات عن النهوض بها ( وذلك بالطبع أحد الأسباب ولكنه ليس على الإطلاق جزافا هكذا ) إنما أيضا بسبب عدم وضوح الرؤية لدى متخذي القرار وكذلك عدم وجود تصور واضح لما نريده من التعليم العالي في السودان أو على الأقل للوسائل التي يجب علينا اتباعها للوصول إلى ما نريده . وما أعنيه بعدم وجود تصور واضح هو عدم بلورة التصورات والرؤى المتفرقة والمتناثرة لدى المهتمين بالتعليم العالي من المتخصصين والعلماء – على قلتهم وعلى قلة من يحولون إفكارهم وتصوراتهم إلى خطط عمل ومقالات مكتوبة منهم ، عِوض نثرها في الونسات واللقاءات الإذاعية والصحفية – بلورتها في خطة عمل واضحة ومحددة بقيد زمني واضح . لن تعدم أي جامعة أن تبرز لك ورقيا أو على موقعها الالكتروني الفقير استراتيجيتها وأهدافها ورؤيتها ، والحقيقة فمسألة الاستراتيجية هذه فشت في السودان بعد اعجاب الحكومات السابقة في عهد الاسلاميين بتجربة ماليزيا في النهوض فصارت كل مؤسسة حكومية وقتها ملزمة ، أخلاقيا أو قل مظهريا على الأقل ، بتوضيب رؤية استراتيجية للمؤسسة ووضعها في مكان بارز ، ثم لاشيء بعد ذلك !
في يوليو من العام 2020 أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الخطة الإستراتيجية للتعليم العالي والبحث العلمي 2021 – 2025 في 45 صفحة ، وتحت العنوان الفرعي الأولويات الاستراتيجية كانت الأولوية الرابعة هي الارتقاء بجودة التعليم العالي (كانت التاسعة من مجموع الأولويات العشر هي تعزيز الإدارة والقيادة والحوكمة على المستوى الوزاري والمؤسسي) . وهاتان النقطتان رغم أهميتهما العالية - ويحمد لواضعي الخطة الانتباه إليهما - ( على الرغم من أنك قد تجد ذات العبارات مبثوثة في خطط سابقة لهذه الوزارة أو لغيرها إن توفرت !) ، إلا أن وسائل التنفيذ المقترحة لم تركز على التواصل مع الهيئات الدولية واعتماد المعايير الدولية في تقييم جامعاتنا ، بالطبع قد يفهم من كون الخطة هي خطة خمسية اهتمامها بإنقاذ ما هو ماثل ومنعه من الإنهيار الكلي ثم بعدها التفكير في اللحاق بالعالم المتحضر !
أختم هذه الكتابة بالتنبيه إلى ضرورة الخروج من وهم مقدرتنا على النهوض متى ما عدنا إلى ما كنا عليه قبل حكم الإنقاذ ، فالسياسات ما قبل الإنقاذ ربما كانت جيدة في وقتها الذي وضعت فيه ، إلا أنه ومن قبيل الإنصاف ربما توجب علينا الاعتراف بأنه كان لابد من تغيير لتلك السياسات ، فالاستمرار في سياسة القبول المحدود ، القبول المجاني للطلاب وتوفير الإعاشة والترحيل وغير ذلك مما تعده بعض الاتجاهات الفكرية من مكتسبات الحركة الطلابية وحقا للمواطن على الدولة ، هذه السياست لم يكن لها أن تستمر إن رغبنا في نهضة حقيقية وجذرية للتعليم العالي في السودان . أضف إلى ذلك حوجتنا إلى الاعتراف بحتمية الاستعانة بالمؤسسات الدولية العاملة والمهتمة بالتعليم العالي ، بل وربما يتطلب الأمر حوجتنا إلى تعيين والاستعانة بخبراء أجانب في بعض هذه المجالات . كذلك ينبغي على متخذي القرار اتخاذ القرارات المؤلمة ولكن الضرورية من دمج بعض الجامعات بعضها ببعض ، إغلاق بعضها لأجل مسمى أو للأبد ، إغلاق العديد من الكليات والتخصصات وكذلك وضع رؤية متكاملة لمسألة تمويل التعليم العالي والتكلفة الحقيقية للطالب ، ووفقا لها – أي التكلفة - يمكن تحديد جدوى الإنفاق على بعض التخصصات ، إذ ليس من المعقول ولا من المنطقي حتى أن تتكفل الدولة بتمويل التعليم الجامعي لطالب لن يعمل في مجال تخصصه ، بل وربما اختار هذا التخصص من باب لزوم ما يلزم .
ب . الوليد محمد الأمين هو المدير السابق لجامعة الزعيم الأزهري ، وهو واحد من مديري الجامعات الذين عينهم رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في أكتوبر 2019 وأقالهم الفريق البرهان في مارس 2022 .
wmelamin@hotmail.com
بقلم: البروفيسور / الوليد محمد الأمين *
يعاني التعليم العالي في السودان من إشكاليات هيكلية تراكمت في السنوات التالية لاستقلال البلاد وزادت وتيرتها بعد ذلك لأسباب مختلفة . وعودا على بدء في شأن بدايته في السودان فتاريخ التعليم العالي في البلاد يعود إلى فترة قريبة نسبيا ، فقد تأسست نواة جامعة الخرطوم الحالية في العام 1902 تحت مسمى كلية غردون التذكارية ، وفي العام 1945 سُميت بكلية الخرطوم الجامعية ، ثم بعد ذلك وباستقلال البلاد في العام 1956 تحول اسمها إلى جامعة الخرطوم . وجامعة الخرطوم ذاتها أو كلية غردون التذكارية أنشأها الانجليز كتخليد لذكرى الجنرال تشارلزغردون الذي قُتل في الخرطوم على أيدي مقاتلي الحركة المهدية . مقابل ذلك نجد بعض المصادر ترُّدُ نشأة التعليم العالي في السودان إلى قيام المعهد العلمي بأمدرمان في العام 1912 ، كمقابل أو كنسخة سودانية من الأزهر بمصر ، وهذا المعهد هو ما تطور في النهاية ليصبح جامعة أمدرمان الاسلامية في العام 1965 ، غير أن جامعة الخرطوم تظل هي النواة الحقيقية للتعليم العالي في السودان بتعريفه الحداثوي .
وعلى الرغم من أن الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري كان دكتاتورياً عقائدياً في بعض أوقاته ودكتاتورياً بلا عقيدة و بلا فكرة في أوقات أُخرى ، فقد استعان النميري في سنوات حكمه ، خاصة في بداياتها بالعديد من المتعلمين والتكنوقراط . غير أنه وكما في التسلسل الطبيعي لكل الدكتاتوريات ينتهي الأمر بلاعقي الأحذية من التكنوقراط وغيرهم للبقاء حول الرئيس القائد ويضمحل دور المفكرين أو أصحاب الآراء المستقلة منهم. أدت هذه الاستعانة بالمتعلمين في بداية ما عرف بثورة مايو إلى تطور معقول في التعليم العالي في السودان شمل البنيات التحتية وكذلك القوانين. وفي تلك الفترة ضُمّت كل المعاهد والكليات التي كانت تتبع للمصالح والوزارات إلى التعليم العالي . وكذلك فقد قامت في تلك الفترة بعض المعاهد والكليات الوسيطة بمعاونة من البنك الدولي وهي معهد أبوحراز الزراعي ، معهد أبو نعامة الزراعي و كلية الهندسة الميكانيكية عطبرة. أما في العام 1975 وكما هو معروف فقد أُنشئت جامعتا الجزيرة وجوبا ، كأول الجامعات خارج الخرطوم العاصمة .
استمر الحال كذلك إلى نهاية الثمانينات وظلت في السودان فقط ست من الجامعات والكليات هي جامعة الخرطوم ، جامعة الجزيرة ، جامعة جوبا ، جامعة أمدرمان الإسلامية ، كلية الأحفاد الجامعية للبنات ( أنشئت في العام 1966 وتم ترفيعها إلى جامعة في العام 1995) وكلية أمدرمان الأهلية ( أنشئت في العام 1986 وتم ترفيعها إلى جامعة في العام 1995) . وكانت هذه الجامعات والكليات جميعها تستوعب عددا محدودا من الطلاب ، بينما كانت جامعة القاهرة فرع الخرطوم بالمقابل تستوعب أعدادا كبيرة من الطلاب الذين كان يتم تدريسهم المنهج المصري في التاريخ والجغرافيا بل وفي كل العلوم الأخرى بطبيعة الحال . هذا مع الإشارة بالطبع إلى أن الجامعة الفرع كانت تقوم بتدريس العلوم الانسانية دون بقية العلوم التطبيقية .
في العام 1991 وبعد استيلاء الجبهة الإسلامية في السودان على الحكم بانقلاب الإنقاذ في العام 1989 ، أعلنت الدولة ما أسمته بثورة التعليم العالي ، والتي كان من أهم قراراتها التوسع الكبير في التعليم العالي وتجفيف وإيقاف الابتعاث الخارجي وتقليص عدد الطلاب السودانيين الدارسين في الخارج . كذلك كان من أهم مرتكزات ثورة التعليم العالي ما عرف بالتأصيل والاتجاه نحو التعريب .
غني عن القول إن مؤسسات التعليم العالي عانت باعتبارها واحدة من مؤسسات الدولة السودانية من علل الدولة على وجه العموم ، غير أن التوسع في فتح الجامعات ( بلغ عدد الجامعات الحكومية حتي ديسمبر 2018 الرقم 34 - ثلاث منها سُميت أو صُنفت على أنها جامعات حكومية ذات طبيعة خاصة - ، بينما بلغ عدد الكليات والجامعات غير الحكومية حتى ذلك التاريخ عدد 101 مؤسسة ) ، هذا التوسع أدي في بعض ما أدى إلى إهمال معايير الجودة الأكاديمية بل ومعايير الجودة الأخلاقية قبل ذلك . يضاف إلى ذلك تحول التعليم العالي شيئا فشيئا إلى سلعة أو خدمة ربحية بالأساس بانتشار مؤسسات التعليم العالي الخاصة ، ذلك بالطبع دون إغفال أهمية التعليم غير الحكومي في الإرتقاء بالتعليم العالي على وجه العموم في مجالات مختلفة ليس أقلها إتاحة الفرص لعدد أكبر من الطلاب للحصول على الشهادات الجامعية وتوفير بعض التخصصات التي قد لا تتوفر في الجامعات الحكومية لأسباب مختلفة ، غير أن المسألة في السودان لا تزال بحوجة للمزيد من الضبط والحوكمة .
في المقابل وعلى الصعيد المجتمعي ارتفعت الأصوات المنادية بضبط العملية التعليمية في البلاد وضرورة إغلاق أو فرض رقابة لصيقة على مؤسسات التعليم العالي خاصة غير الحكومية منها ، وبالتحديد مسألة التساهل في شروط القبول لكليات الطب ، غير أنك تجد ذات المنادين بأهمية هذا الضبط هم ذاتهم من يسارعون لإدخال أبنائهم وبناتهم في هذه المؤسسات رغم تدني تحصيلهم وقدراتهم البائنة ، متوسمين فيهم وفيهن نجابة أفلتت من وسائل التقويم والقياس التربوية.
التوقعات العالية للطلاب بعد الثورة (ديسمبر 2018 وما تلاها ) ظهرت في بعض المطالب غير المنطقية عند النظر إليها من البعد الأكاديمي بينما رأى فيها الطلاب مطالب مشروعة مسنودين بما أسموها بالشرعية الثورية وجهدهم في اسقاط النظام السابق . وكما هو حاصل على طول تاريخ الممارسة السياسية السودانية فإن الحركة الطلابية تم تجييرها واستغلالها لصالح المطالب الحزبية وأحياناً الفئوية .
في الجامعات أو مؤسسات التعليم العالي علي وجه العموم ارتفعت الأصوات بضرورة القضاء على تركة النظام السلطوي السابق وإعادة البريق إلى التعليم العالي في السودان . والحق أن التعليم العالي في السودان تدهور بدرجة كبيرة في ظل النظام السابق ، غير أن هذا التدهور بدأ قبل ذلك إن توخينا الدقة والإنصاف ، فمنذ نهاية السبعينات وربما منتصفها ، فارق السودان كقُطر سكة التحديث على كل المستويات ، فمع بدايات الانهيار الاقتصادي وازدياد معدل هجرة الطبقات المتعلمة لم يكن التعليم بمنأى عن تأثير ذلك . ربما قلل من حدة ذلك أول الأمر محدودية الجامعات وقتها ، فحتي العام 1989 كان بالسودان عدد محدود من الجامعات لا يتعدى الخمس . وعلى الرغم من التدهور المستمر والفشل الذي لازم الدولة السودانية منذ الاستقلال فقد كانت جامعة الخرطوم بحق منارة علمية في المنطقة ، غير أن ذلك يمكن فهمه إن نظرنا إلى المسألة من منظور توفرها على خيرة طلاب السودان وقتها ( وهو الأمر الذي استمر بطريقة أو بأخرى وإن بنسبة أقل حتى وقتنا الحاضر ) ، ففي ظل محدودية عدد المدارس الثانوية بل وحتى المتوسطة وقتها ، كان العدد المحدود الذي يتيسر له دخول الجامعة يفعل ذلك بعد منافسة شرسة وانتخاب معقّد ، ضِفْ إلى ذلك ما بدأت به الجامعة من طاقم تدريس بريطاني مرموق ونظام تدريس ولوائح مشابه لما هو معمول به في جامعة لندن ، وكان من نتائج ذلك أن المستوي العالي لخريجي الجامعة كان رافداً جيداً للخدمات الوطنية ما بعد الإستعمار، وساهم خريجو الجامعة بقدر معقول في تقدم ونهضة بعض دول الإقليم ، ولكن ذلك بالطبع كان مساهمة مدفوعة الأجر فيما عرف بالاغتراب حيناً وبالهجرة حيناً آخر . لكن ما حدث بعد ذلك أن الدول التي كان السودان متقدما عليها في مجال التعليم العام والعالي أخذت بأسباب التقدم واللحاق بركب الحضارة بينما تقهقهر السودانيون وظلوا يعيدون ذات معاركهم الدونكشوتية في محاربة طواحين الهواء !
صاحب الانهيار الاقتصادي في السودان بدءً من منتصف السبعينات انهيار متوقع في جميع مناحي الدولة السودانية ولم يكن التعليم العالي بمنأى عن ذلك ، خاصة عند الأخذ في الاعتبار نظرة الحكومات العسكرية صاحبة الفترة الأطول في حكم السودان لمسألة التعليم ، والأسوأ من ذلك بالطبع نظرتهم للبحث العلمي . فاقم من كل ذلك مع تمكن الاسلاميين من حكم البلاد بالقهر المغلف بالدين أن قضت سياسة تعريب المناهج والتدريس باللغة العربية على ما تبقي من رمق للتعليم في السودان . وفي هذا الإطار يرى الدكتور النور حمد والأستاذ خلف الله عبود الشريف إن " تدهور التعليم في السودان ظاهرة ظلت تتجلى بشكل تدريجي عبر عقود فترة ما بعد الاستقلال ، غير أنه ليس من الإنصاف في شيء، وليس من التزام المنهج العلمي في شيء أن نلقي بكل تبعات تدهور التعليم على نظام الإنقاذ ، فالتعليم قبل الإنقاذ لم يكن بخير، ولكنه، على التحقيق ، كان أفضل حالا مما آل إليه أمره في عهد الإنقاذ" ، ورغم أن الدراسة المعنية ركزت على التعليم العام إلا أنها تنطبق كذلك في الكثير من جوانبها على التعليم العالي ( أنظر : مناهج الإنقاذ التعليمية : دراسة نقدية ، حمد والشريف ، 2006).
التوسع المضطرد في الجامعات واستسهال إنشاء الجامعات دون توفير معيناتها الأساسية من معامل وورش وقاعات مجهزة ولو بالحد الأدني من المعينات ، مترافقاً مع انعدام الرؤية فيما يختص بالبحث العلمي لدى الجهات المسؤولة في الدولة وكذلك لدى الأساتذة الجامعيين أنفسهم ، أدّى في النهاية إلى تفريخ أعداد كبيرة من الطلاب المتعلمين تعليماً متواضعاً ومعدومي المقدرة – أو محدوديها على الأقل – على التفكير النقدي . لم يكن من ضمن الاهتمامات الكبيرة لمرحلة حكم الاسلاميين في السودان بالطبع تطوير ملكة التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات ، ففكرة الإسلام السياسي نفسها في جانبها السلفي تقوم على إلغاء فضيلة التفكير النقدي . ونظرة متعجلة إلى المنتوج البحثي لطلاب الدراسات العليا في الجامعات السودانية كافية لتوضيح ذلك . وعلى الرغم من أن تدهور التعليم العالي في السودان لا يمكن رده فقط لفترة حكم الإسلاميين ، إلا أن الوزر الأكبر في هذا التدهور تتحمله حكومات ما عرف بثورة الإنقاذ الوطني ، ليس فقط لطول فترة بقائها على سدة الحكم في السودان ( ثلاثون عاما ) ولكن كذلك لأن التطور الذي حدث في هذه الفترة في مجال حوكمة التعليم العالي وضبط الجودة فيه وتبادل الخبرات والانفتاح العالمي على التجارب الدولية مقابل انعزال السودان بدواعي التأصيل حينا ولأسباب الحظر الأميركي والعزلة الدولية في الأحيان الأخرى ، هذا التطور في هذه الفترة المعنية لم يكن مسبوقا من قبل في تاريخ المنطقة على الأقل ، ونحن إذا نظرنا للمسألة في منظورها الأشمل فسنجد أن التطور البشري على وجه العموم وما أنجزته البشرية في العقود الثلاثة الأخيرة فاق كل ما كانت تنجزه البشرية في قرون قبل ذلك ! كان من نتائج تلك العزلة وذلك التقوقع في حالة السودان أن تقدمت جامعات الدول العربية والإفريقية في الأقليم كلها على كل الجامعات السودانية بلا استثناء يذكر .
على كل حال تضاعفت أعداد الجامعات عاماً بعد عام في ظل ما عرف بثورة التعليم العالي وتضاعف بالمقابل عدد الأساتذة . وللإنصاف مرة أخرى ينبغي اللإشارة إلى أنه لم يكن من الممكن أو المقبول حتى أن تظل سياسات التعليم العالي وقبول الطلاب كما كانت عليه في السابق بقبول عدد محدود للغاية من الطلاب الجالسين لامتحانات الشهادة السودانية ، وكذلك لم يكن من الممكن أو من العدل أن تستمر سياسة تمويل الطلاب السودانيين الدارسين في الخارج من قبل الدولة ومعاملتهم معاملة تفضيلية في سعر العملة الحرة ، ما أدى إلى أن يقوم هؤلاء الطلاب أنفسهم بالمتاجرة في العملة الحرة مستغلين السعر التفضيلي الممنوح لهم ! وهناك بالطبع أسباب أخرى لا مجال لذكرها واستعراضها هنا جعلت من غير الممكن استمرار السياسات القديمة في التعليم العالي في السودان . غير أنه وبالمقابل لم يصاحب هذا التضاعف في عدد الجامعات والأساتذة أي مردود علمي معتبر ، لا مردود بحثي كما اسلفنا بل ولا حتى مردود أكاديمي بتأليف كتب منهجية محترمة على الأقل . سيرد الكثيرون على مقولتي هذه بالتحدي بأنهم نشروا عدد كذا وكذا من الأوراق العلمية ، وآخرون بأنهم ألّفوا عدد كذا وكذا من الكتب : ولكنها في الحقيقة ليست غير هدر للورق ولحبر المطابع.
السؤال الأساس في هذه المقالة هو: لماذا ليس هناك أمل في صلاح قريب للتعليم العالي في السودان ؟ في الحقيقة ورغم السهولة التي تتبدى في الإجابة على مثل هذا السؤال من شاكلة ضعف البنى التحتية وافتقار الجامعات السودانية للكوادر المؤهلة في الكثير من المجالات وهجرة الأساتذة وضعف المعينات اللوجستية من خدمات الانترنت وغير ذلك ، في الحقيقة أقول فإن الأمر للأسف يتعدى ذلك إلى مسألة انقطاعنا عن العالم ومفارقتنا لدرب التفكير العولمي باعتبارنا جزءً من العالم ، ما انتهى بنا إلى التقوقع الذي نحن فيه الآن ، وهي مسألة ليس من اليسير حلها في ظل أحوالنا الماثلة ! ولعله من سوء الطالع أن هذا الانقطاع وهذه العزلة قد طالت البلاد في بداية التسعينات ، العقد الذي كان البداية الفعلية أو الأكثر تسارعا في مجال التكنولوجيا والابتكارات المتعلقة بها وانتشار شبكة الانترنت وهيمنتها على الأنشطة الحياتية والعلمية ، كل ذلك ترافق بالطبع مع تزايد الحوجة للتعامل باللغة الإنجليزية واللغات الحية عموما في وقت قرر فيه النظام الحاكم في السودان وقتها تعريب المناهج وتبني اللغة العربية كلغة للتعليم الجامعي .
إن الأسباب من شاكلة ضعف البنى التحتية وضعف الكوادر ومثل ذلك يمكن التغلب عليها بالقرارات الصعبة والشجاعة من مثل إغلاق بعض الجامعات أو الكليات ، ودمج بعضها ببعض وكذا من مثل تخصيص جامعة واحدة مثلا للعلوم الطبية وواحدة للعلوم الزراعية وهكذا ، غير أن هذه القرارات المصيرية تتطلب شجاعة لا تتوفر لدى متخذ القرار السوداني ، ما أدى في النهاية إلى أن يتم القبول لكليات الزراعة في كل الجامعات السودانية لهذا العام 2022 بنسبة دخول لم تتعد ال 50% إلا في جامعة الخرطوم حيث بلغت نسبة الدخول فيها 65% ! غني عن القول بالطبع إن الزراعة في العصر الحديث لم تعد هي الزراعة في الخمسينات والستينات من القرن الفائت . رغم ذلك يطالب الطلاب وأولياء أمورهم وقطاع كبير من المجتمع على وجه العموم بأن تستمر الدولة في سياسة مجانية التعليم العالي شاملا كليات مثل ما ذكرناها لا تتعدى نسب الدخول إليها الحد الأدنى من النجاح في الشهادة السودانية ولا تمتلىء المقاعد المخصصة للقبول بها إلا بعد القبول الثاني ، ناهيك عن كليات أخرى ككليات الدعوة والإعلام ، التربية ، الشريعة وكليات أخرى بلغت نسبة المقاعد الشاغرة فيها بعد إعلان نتيجة القبول للدور الأول أرقاما وصلت إلى 97 % من المقاعد المتوفرة أو المتاحة المتاحة للمنافسة ! لا يعني ذلك بالطبع أن المسألة بهذه البساطة ، فثمة بعض الكليات الطبية أو الهندسية على سبيل المثال يمكن النظر إليها بحسب مؤشرات رغبة الطلاب في التقدم للالتحاق بها ، يمكن النظر إليها ككليات نخبة أو ذات مرغوبية عالية ، ولكن خريجي هذه الكليات لا تتوفر لهم فرص العمل عند تخرجهم مما يجعل من الاستمرار في القبول بأعداد كبيرة في هذه الكليات في الجامعات الحكومية ضربا من الهدر غير المرشد للموارد الشحيحة .
أركز هنا في ما تبقى من هذه المقالة على ما سميته بالسبب الرئيس أو أحد الأسباب الرئيسة التي تعوق تقدم جامعاتنا السودانية للحاق بركب جامعات المنطقة ولا أقول العالم في وضعنا الراهن ، أي مفارقة جامعاتنا لمعايير الحوكمة والجودة المعيارية في التعليم العالي . في بدايات العام 2020 ومن ضمن حزمة الإصلاحات التي ابتدرتها وشرعت فيها حكومة الفترة الإنتقالية تحت رئاسة الدكتور عبدالله حمدوك شرع البنك الدولي في مد يد العون لقطاع التعليم العالي في السودان بالمساعدات الفنية . في واحدة من هذه المساعدات أرسل البنك الدولي بعض خبرائه وكان أن حضرنا باعتبارنا مديري الجامعات الحكومية وقتها المحاضرة وحلقة النقاش التي قدمها الخبير المبعوث من البنك الدولي لتقييم أوضاع الجامعات السودانية وفق معايير محددة . زار المبعوث الدولي بعدها بعض الجامعات السودانية كانت جامعة الزعيم الأزهري من ضمنها حيث اجتمع بنا في الجامعة (المدير وأمين الشئون العلمية رفقة ممثل البنك الدولي في مكتب السودان هنا ) . طاف المبعوث كذلك ببعض مباني الجامعة والتقى بعض الطلاب ، وأذكر أنني يومها طلبت من الطلاب والطالبات الذين التقى بهم التحدث معه بكامل الشفافية دون وضع مساحيق التجميل كما تعودنا تحت ستار الكرامة الوطنية والسمعة الطيبة وغير ذلك ، من نافلة القول أن الأسئلة كانت محددة وموضوعية وكذا الإجابات التي شملت النقص في الخدمات الأساسية مثل دورات المياه ،الخدمات الطلابية ، طريقة عرض وتقديم المحاضرات ومدى الاستفادة منها والسكن الطلابي وغير ذلك من الأسئلة المحددة !
بعد عدة أشهر سألت السيد وكيل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وقتها عن تقييم البنك الدولي للزيارة فأجابني بأن ذلك سيصدر في تقرير قادم ، إلا أن المؤشرات لديهم في البنك الدولي كما أخبره الخبير بعدها تشير بجلاء إلى أن التعليم العالي في السودان هو دون المستوى المطلوب ولا يستوفي الكثير من المعايير الأدنى المطلوبة .
لم تكن هذه الاستعانة بالمؤسسات الدولية المختصة والبنك الدولي هنا على وجه التخصيص هي الأولى في مسيرة التعليم العالي في السودان ، ففي عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري سبقت الإشارة إلى المعاهد التي أُنشئت بمعونة من البنك الدولي ، وفي كتابه " الديمقراطية راجحة وعائدة في السودان " كتب السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء في فترة الديمقراطية الثانية ( 1985-1989) : " ولدى زيارتي للبنك الدولي ناقشت مع رئيسه خطة يمولها البنك لإعادة تأهيل مؤسسات التعليم العالي ، فوافق وانتدب لجنة فنية لدراسة الأمر في السودان ، وقد وضع البرنامج ويشارك في تمويله البنك الدولي واليونسكو مع ما تخصص الحكومة من اعتمادات لإعادة التأهيل " . إلا أنه وعلى الرغم مما ذكره السيد الصادق المهدي أعلاه وأهمية ذلك ، إلا أنه يجب أن نلحظ أن الانهيار كان قد بدأ قبلها وأخذ في التسارع حتى في مفاهيم التعامل مع العالم ، ففي ذات الكتاب يذكر السيد الصادق أن أولى توصيات اللجنة القومية لتأهيل التعليم العالي وقتها كانت " تأصيل مناهج التعليم العالي كيلا يكون أداة للتغريب " ! من الواضح أن السودان قد فارق سكة التحديث بالكلية منذ ما قبل حكم الإنقاذ ، ولكن الانقاذ بالطبع سرّعت به . ولعله من الجدير بالملاحظة في أيامنا هذه الانتباه إلى المفارقة المضحكة المبكية في تذيل جامعاتنا لسلم التصنيف الأكاديمي قصاد ارتفاع تصنيف جامعات الخليج على سبيل المثال وتحسرنا على حالنا دون الانتباه إلى ما تبذله حكومات هذه الدول في سبيل الرفاه واللحاق بالعالم والتخلي عن دعوات الظلامية ونبذها في حين تزهر هذه الدعوات في السودان تحت شعارات التدين والتمسك بالدين القويم وأحلام إصلاح العالم !
بالطبع كان من المفترض أن تتكرر الزيارات وتبادل الخبرات وكان من المفترض أن يتولى البنك الدولي رفد الجامعات السودانية بالكفاءات المطلوبة في مجال حوكمة التعليم العالي وفي المجالات الأخرى من التدريب ورفع الكفاءات والدخول في برامج رفع القدرات حيث وضعت الخطط والمشاريع لذلك متلمسة أوجه القصور والضعف الحقيقية في بنية التعليم العالي في السودان . انتهى كل ذلك بالطبع بعد التطورات السياسية في السودان والانقلاب من قبل القوى العسكرية على الشراكة التي كانت قائمة مع القوى المدنية المنوط بها التعامل مع المجتمع الدولي وهيئاته المدنية ، حيث توقفت المنظمات الدولية ومن ضمنها البنك الدولي عن التعامل المباشر مع السودان . في الحقيقة لم نفقد فقط دعم البنك الدولي ، ففي جامعة الزعيم الأزهري وحدها على سبيل المثال كانت كلية السياحة والفنادق قد ابتدرت تواصلا مع السفارة الإيطالية بالخرطوم في مجال التغذية والمطابخ ، وكان من المؤمل أن يُتوّج ذلك التواصل بدعم مقدر في مجالات البنية التحتية والتدريب ، غير أن السفارة اعتذرت بعد تغير الوضع السياسي في البلاد ، قبل ذلك فقدنا التعهد الكوري بالتأهيل الكامل والدعم الفني واللوجستي لمركز تقانة المعلومات بالجامعة الذي كان قد شُيّد أصلا قبل عدة سنوات بدعم من الحكومة الكورية ، ومؤخرا كذلك فعلت ذات الشيء منظمة الداد DAD الألمانية التي كانت الجامعة قد تحصلت على دعم منها عن طريق المنافسة لتمويل وترتيب ورشة تدريبية لمديري العلاقات الخارجية بالجامعات السودانية في مجال عولمة التعليم العالي برعاية وإشراف خبراء من ألمانيا ودول أخرى ، ولكن الذي حدث أن المنظمة الألمانية المعروفة والمرموقة أرسلت اعتذارها في مايو المنصرم بالتأجيل للعام القادم أو الذي يليه أو ربما سحب التمويل بالكلية ، مسببة ذلك بالوضع السياسي في السودان ! لا يخفى بالطبع المجهودات التي لابد أنها قد بذلت خلف هذه المشاريع من المقابلات والزيارات للجامعة ، هذا بالطبع عدا المخاطبات والإجراءات الفنية المصاحبة ، كما لا يخفى الترتيب والاجتهاد الذي بذل فيها ولأجلها من قبل الجهات المختصة بالجامعة .
هذا الانقطاع المتطاول عن العالم لم يؤثر فقط على قطاع التعليم العالي وحده ، فأجهزة الدولة كلها ومؤسساتها عانت من ذات الأمر بدرجات متفاوتة . إن الأثر الأكبر لهذا الانقطاع ربما تبدى في غياب ثقافة الجودة والكفاءة وضبط معايير العمل . وهذه وإن كانت من نقائص الشخصية السودانية على وجه العموم في غياب المحاسبة والرقابة ، فقد زاد انقطاعنا عن العالم الطين بلة في غياب واضمحلال مثل هذه المفاهيم . إن نظرة واحدة إلى حال التعامل في مطار الخرطوم أو في شركة الكهرباء أو حتى في مؤسسة الشرطة السودانية لكافية بتوضيح مفارقة السودان لدرب التطور في العالم المعاصر . إزاء ذلك كيف يتسنى التوقع من مدير الجامعة المعنية أن ينهض بالجامعة إذا كان هو نفسه ربيب هذه المؤسسة وثقافة الانعزال ! كان بعض ما أحدثته ثورة ديسمبر المجيدة هو رفع الروح المعنوية للسودانيين وعودة الثقة لدى قطاع كبير منهم بأنهم قادرون على الفعل والتغيير ، غير أنه وللأسف ولغياب التخطيط الملازم لشخصيتنا فقد استبدلنا الابتزاز الديني الذي كان سائدا في عهد الاسلاميين بالابتزاز الثوري ! وصعد إلى سدة الكثير من المؤسسات من لا فرق بينهم وبين منسوبي النظام السابق غير التوجه الفكري ، لا ننكر بالطبع نظافة اليد لدى الغالب الأعم منهم ، وربما كان مرد ذلك في بعض الحالات إلى أنهم لم يكونوا قد أُختبروا بعد ، ولكن ذلك على كل حال لم يُعِنّا على تجاوز أثر فقدان الرؤية واضمحلال الكفاءة وغياب المفكرين الذي كان سمة بارزة لمتبوئي المناصب في النظام السابق فإذا بمتسلقي الثورة وشعارات الكفاح المسلح يفعلون ذات الرزايا .
لا يُتوقع والحال كذلك من منسوبي الجامعات بوضعهم الحالي بل ووضع البلد برمتها ، لا يُتوقع منهم إحداث أي اختراق لازم للارتقاء بالتعليم العالي في السودان . إن جُلّ ما يمكن توقعه هو المحافظة على الوضع الراهن ومنعه من التدهور أكثر ، والحال كذلك يصبح استمرار العام الدراسي في الجامعة المعنية انجازا يعتد به ! ليس ذلك بالطبع لعجز منسوبي الجامعات عن النهوض بها ( وذلك بالطبع أحد الأسباب ولكنه ليس على الإطلاق جزافا هكذا ) إنما أيضا بسبب عدم وضوح الرؤية لدى متخذي القرار وكذلك عدم وجود تصور واضح لما نريده من التعليم العالي في السودان أو على الأقل للوسائل التي يجب علينا اتباعها للوصول إلى ما نريده . وما أعنيه بعدم وجود تصور واضح هو عدم بلورة التصورات والرؤى المتفرقة والمتناثرة لدى المهتمين بالتعليم العالي من المتخصصين والعلماء – على قلتهم وعلى قلة من يحولون إفكارهم وتصوراتهم إلى خطط عمل ومقالات مكتوبة منهم ، عِوض نثرها في الونسات واللقاءات الإذاعية والصحفية – بلورتها في خطة عمل واضحة ومحددة بقيد زمني واضح . لن تعدم أي جامعة أن تبرز لك ورقيا أو على موقعها الالكتروني الفقير استراتيجيتها وأهدافها ورؤيتها ، والحقيقة فمسألة الاستراتيجية هذه فشت في السودان بعد اعجاب الحكومات السابقة في عهد الاسلاميين بتجربة ماليزيا في النهوض فصارت كل مؤسسة حكومية وقتها ملزمة ، أخلاقيا أو قل مظهريا على الأقل ، بتوضيب رؤية استراتيجية للمؤسسة ووضعها في مكان بارز ، ثم لاشيء بعد ذلك !
في يوليو من العام 2020 أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الخطة الإستراتيجية للتعليم العالي والبحث العلمي 2021 – 2025 في 45 صفحة ، وتحت العنوان الفرعي الأولويات الاستراتيجية كانت الأولوية الرابعة هي الارتقاء بجودة التعليم العالي (كانت التاسعة من مجموع الأولويات العشر هي تعزيز الإدارة والقيادة والحوكمة على المستوى الوزاري والمؤسسي) . وهاتان النقطتان رغم أهميتهما العالية - ويحمد لواضعي الخطة الانتباه إليهما - ( على الرغم من أنك قد تجد ذات العبارات مبثوثة في خطط سابقة لهذه الوزارة أو لغيرها إن توفرت !) ، إلا أن وسائل التنفيذ المقترحة لم تركز على التواصل مع الهيئات الدولية واعتماد المعايير الدولية في تقييم جامعاتنا ، بالطبع قد يفهم من كون الخطة هي خطة خمسية اهتمامها بإنقاذ ما هو ماثل ومنعه من الإنهيار الكلي ثم بعدها التفكير في اللحاق بالعالم المتحضر !
أختم هذه الكتابة بالتنبيه إلى ضرورة الخروج من وهم مقدرتنا على النهوض متى ما عدنا إلى ما كنا عليه قبل حكم الإنقاذ ، فالسياسات ما قبل الإنقاذ ربما كانت جيدة في وقتها الذي وضعت فيه ، إلا أنه ومن قبيل الإنصاف ربما توجب علينا الاعتراف بأنه كان لابد من تغيير لتلك السياسات ، فالاستمرار في سياسة القبول المحدود ، القبول المجاني للطلاب وتوفير الإعاشة والترحيل وغير ذلك مما تعده بعض الاتجاهات الفكرية من مكتسبات الحركة الطلابية وحقا للمواطن على الدولة ، هذه السياست لم يكن لها أن تستمر إن رغبنا في نهضة حقيقية وجذرية للتعليم العالي في السودان . أضف إلى ذلك حوجتنا إلى الاعتراف بحتمية الاستعانة بالمؤسسات الدولية العاملة والمهتمة بالتعليم العالي ، بل وربما يتطلب الأمر حوجتنا إلى تعيين والاستعانة بخبراء أجانب في بعض هذه المجالات . كذلك ينبغي على متخذي القرار اتخاذ القرارات المؤلمة ولكن الضرورية من دمج بعض الجامعات بعضها ببعض ، إغلاق بعضها لأجل مسمى أو للأبد ، إغلاق العديد من الكليات والتخصصات وكذلك وضع رؤية متكاملة لمسألة تمويل التعليم العالي والتكلفة الحقيقية للطالب ، ووفقا لها – أي التكلفة - يمكن تحديد جدوى الإنفاق على بعض التخصصات ، إذ ليس من المعقول ولا من المنطقي حتى أن تتكفل الدولة بتمويل التعليم الجامعي لطالب لن يعمل في مجال تخصصه ، بل وربما اختار هذا التخصص من باب لزوم ما يلزم .
ب . الوليد محمد الأمين هو المدير السابق لجامعة الزعيم الأزهري ، وهو واحد من مديري الجامعات الذين عينهم رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في أكتوبر 2019 وأقالهم الفريق البرهان في مارس 2022 .
wmelamin@hotmail.com