ورقــة أخـــيـــــرة: قصة قصيرة
د. أحمد الخميسي
24 June, 2022
24 June, 2022
ahmadalkhamisi2012@gmail.com
لم أكن قد رأيته منذ زمن، لكنني فوجئت به مساء اليوم وأنا أشق عتمة الشارع إلى منزلي، كان واقفا يترنح مستندا بكفه إلى جدار عمارة، وهو يتنفس بصعوبة وقد بدا الانهاك واضحا عليه. لبثت صامتا أنظر إليه. انقضى زمن طويل منذ أن صادفته أول مرة في مولد السيدة زينب، حين كنا صغارا نقصد المولد لركوب المراجيح أو للتفرج بألعاب سيرك داخل خيمة مهلل قماشها. رأيته حينذاك قرب جدار المسجد. جذبني إليه وجه أسمر وسيم، وشارب صغير، وبسمة مخاتلة ماكرة. كان واقفا تحت بصره صندوق خشبي على ثلاثة قوائم، يجري بين أنامله ثلاث أوراق لعب بصور الولد والبنت والشايب. اقتربت منه ووقفت بين العيال الآخرين أتابعه وهو يرفع عاليا أمام وجوهنا صورة البنت ثم يخلطها بسرعة مع الصورتين الأخريين، مرة وأخرى ثم يضع الأوراق الثلاث مقلوبة على سطح الصندوق، وينبهنا بقوله: " البنت هي الإجابة التي تفوز. أين البنت؟". مددت إصبعي عدة مرات إلى ما تخيلته صورة البنت، لكني خسرت مرات عديدة ودفعت في كل مرة قرش صاغ وأنا مذهول من ثقتي السابقة المطلقة في موضع الصورة. كانت الأوراق الثلاث ملقاة تحت بصري ثابتة، أحدق بها، لكنني اخطيء مرة بعد الأخرى كأن القدر يسخر بي.
بعد ذلك بنحو عام قصدت مولد السيدة، ورحت أفتش عن الرجل لكني لم أجده، وخاب أملي أن أراه وأربح ولو مرة. درت بين خيام الألعاب وحلقات الذكر ولم أره، ثم انقضت نحو عشر سنوات، وتعلق قلبي بفتاة من سني، وكنت قد نسيته تقريبا إلى أن فوجئت به يمشي بجواري وأنا خارج من الجامعة أتجه إلى محطة الأتوبيس. دققت في هيئته. هو. لم تتبدل ملامحه تقريبا. نفس البسمة المخاتلة الجذابة. بسط صندوقه الخشبي على الرصيف، وأبرز صورة البنت بجدائلها الطويلة، وخلطها بالصورتين الأخريين بسرعة البرق، ثم فرد الثلاث على سطح الصندوق وقال لي بنظرة تشع مكرا:" أين الصورة الرابحة؟". تذكرت خيباتي السابقة في الفوز فتردت في الإشارة إلى الصور، فبادرني بالقول: " ثلاث ورقات. الحب هو التفاهم. الحب هو الرغبة. الحب هو الألفة". رفع الأوراق وعاد يخلطها بسرعة ووضعها تحت بصري. مددت إصبعي أشير إلى الورقة، فرفعها إلى أعلى. لم تكن البنت. خسرت. رآني واجما فربت على كتفي قائلا: " لا تبتأس. هي اللعبة. المهم الاستمرار". حمل صندوقه وترك المكان، ولوح لي بكفه من بعيد وهو يختفي وسط الزحام.
قبل أن أنهي تعليمي الجامعي كان لي صديق أكثر من أخ، أكل في بيتي، وارتدى قمصاني، وما إن احتجت إليه مرة حتى أظهر أنه غير ما تخيلت فقطعت علاقتي به، وكنت أحكي ما جرى لزميل لي في العمل ونحن جالسين في مقهى، وحين غادرت المقهى رأيت الرجل قرب كشك السجائر الملاصق لمحطة الأتوبيس. أبرز لي الورقات الثلاث وقال لي:" اختر. الانسانية أن تغفر. الانسانية أن ترد الصاع صاعين لكي لا يطمع فيك الآخرون. الانسانية أن تحب البشر كما هم وليس كما تريد لهم أن يكونوا". خلط الأوراق بسرعة ووضعها تحت بصري ولم أستطع الوصول إلى الصورة المنشودة.
بانقضاء عشرة أعوام سنحت لي فرصة السفر إلى الخارج، فوجدته إلى جواري وأنا لم أحسم أمري بعد، رأيته بنفس البسمة الماكرة الجذابة، لكنه كان قد كبر قليلا. أبرز الأوراق الثلاثة وتركها معلقة أمامي في الهواء لحظات، ثم قال: " في السفر سبعة فوائد. الوطن لا يتكرر ولا يستبدل. الوطن ليس فندقا نهجره إذا ساءت فيه الخدمة". خلط الأوراق وبسطها وقال: " اختر". لكني لم أستطع الوصول إلى صورة البنت.
عدت من السفر بعد أكثر من عشرة أعوام ، ولم يصادفني الرجل، ولا عاد يطرأ على بالي حتى مساء اليوم حين رأيته واقفا يترنح لصق جدار عمارة مستندا بكفه اليسرى إلى الجدار، خامدا، وقد انطفأت في عينيه النظرة المازحة المخاتلة كأنه ظل على التراب تحت ضوء القمر. لبثت أتطلع إليه أترقب أن يقول شيئا بعد كل تلك السنوات لكنه لم ينطق بحرف. قطعت الصمت الكثيف الذي اكتنف الشارع والأشجار وسألته:" أين الأوراق؟". مال رأسه متعبا يمينا ويسارا. تلامست ركبتاه ترتجفان، ثم انهار على الرصيف. فرد ساقيه أمامه يلهث ثم مد ذراعه إلى جيب الجاكتة، لكن يده انزلقت خارج الجيب عدة مرات فأعاد الكرة بعصبية إلى أن استل ورقة واحدة ورفعها إلي. رأيت الورقة من ظهرها المنقوش بمثلثات حمراء دقيقة، أما الصورة فكانت مخفية في الناحية الأخرى. لمح أنني مشوش فتمتم بمشقة: " لم تعد أمامك فرصة للخطأ. هي ورقة واحدة أخيرة". قالها وتراخت ذراعه إلى جواره مغمضا عينيه فانفكت أصابعه عن الورقة وارتفعت ترفرف قرب هامات الشجرة وأنا أتبعها ببصري، ثم توقفت في الجو لحظة، فهرولت متقدما صوبها وقد فردت ذراعيي لأمسك بها، لكنها رفرفرت ثانية وارتفعت متقدمة إلى الأمام. توقفت أراقبها حتى سكنت في الجو لحظة، وقبل أن أندفع صوبها حلقت عاليا بعيدا في العتمة والسكون فظللت واقفا مكاني تحت ضوء القمر في غمرة الصمت المطبق غير قادر على الحركة.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
لم أكن قد رأيته منذ زمن، لكنني فوجئت به مساء اليوم وأنا أشق عتمة الشارع إلى منزلي، كان واقفا يترنح مستندا بكفه إلى جدار عمارة، وهو يتنفس بصعوبة وقد بدا الانهاك واضحا عليه. لبثت صامتا أنظر إليه. انقضى زمن طويل منذ أن صادفته أول مرة في مولد السيدة زينب، حين كنا صغارا نقصد المولد لركوب المراجيح أو للتفرج بألعاب سيرك داخل خيمة مهلل قماشها. رأيته حينذاك قرب جدار المسجد. جذبني إليه وجه أسمر وسيم، وشارب صغير، وبسمة مخاتلة ماكرة. كان واقفا تحت بصره صندوق خشبي على ثلاثة قوائم، يجري بين أنامله ثلاث أوراق لعب بصور الولد والبنت والشايب. اقتربت منه ووقفت بين العيال الآخرين أتابعه وهو يرفع عاليا أمام وجوهنا صورة البنت ثم يخلطها بسرعة مع الصورتين الأخريين، مرة وأخرى ثم يضع الأوراق الثلاث مقلوبة على سطح الصندوق، وينبهنا بقوله: " البنت هي الإجابة التي تفوز. أين البنت؟". مددت إصبعي عدة مرات إلى ما تخيلته صورة البنت، لكني خسرت مرات عديدة ودفعت في كل مرة قرش صاغ وأنا مذهول من ثقتي السابقة المطلقة في موضع الصورة. كانت الأوراق الثلاث ملقاة تحت بصري ثابتة، أحدق بها، لكنني اخطيء مرة بعد الأخرى كأن القدر يسخر بي.
بعد ذلك بنحو عام قصدت مولد السيدة، ورحت أفتش عن الرجل لكني لم أجده، وخاب أملي أن أراه وأربح ولو مرة. درت بين خيام الألعاب وحلقات الذكر ولم أره، ثم انقضت نحو عشر سنوات، وتعلق قلبي بفتاة من سني، وكنت قد نسيته تقريبا إلى أن فوجئت به يمشي بجواري وأنا خارج من الجامعة أتجه إلى محطة الأتوبيس. دققت في هيئته. هو. لم تتبدل ملامحه تقريبا. نفس البسمة المخاتلة الجذابة. بسط صندوقه الخشبي على الرصيف، وأبرز صورة البنت بجدائلها الطويلة، وخلطها بالصورتين الأخريين بسرعة البرق، ثم فرد الثلاث على سطح الصندوق وقال لي بنظرة تشع مكرا:" أين الصورة الرابحة؟". تذكرت خيباتي السابقة في الفوز فتردت في الإشارة إلى الصور، فبادرني بالقول: " ثلاث ورقات. الحب هو التفاهم. الحب هو الرغبة. الحب هو الألفة". رفع الأوراق وعاد يخلطها بسرعة ووضعها تحت بصري. مددت إصبعي أشير إلى الورقة، فرفعها إلى أعلى. لم تكن البنت. خسرت. رآني واجما فربت على كتفي قائلا: " لا تبتأس. هي اللعبة. المهم الاستمرار". حمل صندوقه وترك المكان، ولوح لي بكفه من بعيد وهو يختفي وسط الزحام.
قبل أن أنهي تعليمي الجامعي كان لي صديق أكثر من أخ، أكل في بيتي، وارتدى قمصاني، وما إن احتجت إليه مرة حتى أظهر أنه غير ما تخيلت فقطعت علاقتي به، وكنت أحكي ما جرى لزميل لي في العمل ونحن جالسين في مقهى، وحين غادرت المقهى رأيت الرجل قرب كشك السجائر الملاصق لمحطة الأتوبيس. أبرز لي الورقات الثلاث وقال لي:" اختر. الانسانية أن تغفر. الانسانية أن ترد الصاع صاعين لكي لا يطمع فيك الآخرون. الانسانية أن تحب البشر كما هم وليس كما تريد لهم أن يكونوا". خلط الأوراق بسرعة ووضعها تحت بصري ولم أستطع الوصول إلى الصورة المنشودة.
بانقضاء عشرة أعوام سنحت لي فرصة السفر إلى الخارج، فوجدته إلى جواري وأنا لم أحسم أمري بعد، رأيته بنفس البسمة الماكرة الجذابة، لكنه كان قد كبر قليلا. أبرز الأوراق الثلاثة وتركها معلقة أمامي في الهواء لحظات، ثم قال: " في السفر سبعة فوائد. الوطن لا يتكرر ولا يستبدل. الوطن ليس فندقا نهجره إذا ساءت فيه الخدمة". خلط الأوراق وبسطها وقال: " اختر". لكني لم أستطع الوصول إلى صورة البنت.
عدت من السفر بعد أكثر من عشرة أعوام ، ولم يصادفني الرجل، ولا عاد يطرأ على بالي حتى مساء اليوم حين رأيته واقفا يترنح لصق جدار عمارة مستندا بكفه اليسرى إلى الجدار، خامدا، وقد انطفأت في عينيه النظرة المازحة المخاتلة كأنه ظل على التراب تحت ضوء القمر. لبثت أتطلع إليه أترقب أن يقول شيئا بعد كل تلك السنوات لكنه لم ينطق بحرف. قطعت الصمت الكثيف الذي اكتنف الشارع والأشجار وسألته:" أين الأوراق؟". مال رأسه متعبا يمينا ويسارا. تلامست ركبتاه ترتجفان، ثم انهار على الرصيف. فرد ساقيه أمامه يلهث ثم مد ذراعه إلى جيب الجاكتة، لكن يده انزلقت خارج الجيب عدة مرات فأعاد الكرة بعصبية إلى أن استل ورقة واحدة ورفعها إلي. رأيت الورقة من ظهرها المنقوش بمثلثات حمراء دقيقة، أما الصورة فكانت مخفية في الناحية الأخرى. لمح أنني مشوش فتمتم بمشقة: " لم تعد أمامك فرصة للخطأ. هي ورقة واحدة أخيرة". قالها وتراخت ذراعه إلى جواره مغمضا عينيه فانفكت أصابعه عن الورقة وارتفعت ترفرف قرب هامات الشجرة وأنا أتبعها ببصري، ثم توقفت في الجو لحظة، فهرولت متقدما صوبها وقد فردت ذراعيي لأمسك بها، لكنها رفرفرت ثانية وارتفعت متقدمة إلى الأمام. توقفت أراقبها حتى سكنت في الجو لحظة، وقبل أن أندفع صوبها حلقت عاليا بعيدا في العتمة والسكون فظللت واقفا مكاني تحت ضوء القمر في غمرة الصمت المطبق غير قادر على الحركة.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري