30/يونيو يوم مشهود
عبدالله مكاوي
3 July, 2022
3 July, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للجرحي والحرية للمعتقلين بصفة عاجلة وللبلاد وشعوبها كافة. لو كانت هنالك كلمة سر لاستمرار وصمود هذه الثورة الباسلة، واحتفاظها بوهجها رغم تقادم الزمن (ثلاثة سنوات ونصف)، واكلافها الباهظة بسبب مواجهتها سطوة عدميين (وجوديا) ومعدمين (قيميا)! لكانت هذه الكلمة هي سخاء التضحيات التي يقدمها الثوار، فداءً للوطن وردا لكرامة المواطنين واعلاءً لشعارات الحرية والسلام والعدالة.
فهؤلاء الشهداء رغم احزان الفراق وجلل المصاب واعتصار الالم الممزوج بالاسف والغضب، إلا انهم بصنيع الفرسان الذي يظهرونه، وبجسارتهم التي تليق بابطال الاساطير، يكشفون عن جانب مضئ من اصالة وعزة وشموخ شعوب هذه الديار. والي اي مدي ان الابتلاءات والمحن المتساقطة عليها من تسلط وانحراف بعض بنيها، قد تُعَرِض احتمالها للتضعضع وممارساتها للتشوه، إلا ان رسوخ قيم الشجاعة والإيثار والتكافل في جذور ثقافاتها او صلب عاداتها وتقاليدها، يحافظ علي امكانات تصديها ومقاومتها لعاديات الزمان. كما ان هذا النموذج الثوري البطولي الذي لا يكل ولا يمل ولا يدخر نفسا في سبيل بلده، يؤكد ان الطغمة الانقلابية الغادرة بمختلف مكوناتها، وهي تستبيح ذات البلاد، وتعكف علي اذلال اهلها، وتتذلل لاسيادها الاقليميين، هي اشبه بكائنات غريبة الديار منبتة الجذور لا تمت بصلة للشعوب السودانية. وفوق انها تفتقد للكرامة والمروءة والاستقامة، فهي اقرب لاجتماع الخبث والخبائث، الجبن والغدر، النفاق والتزلف..الخ. واذا كان الاسلامويون الضالون انحطوا بالسلطة الي محض رافعة اجتماعية ومادية ونفسية لجماعة وضيعة وافراد منحرفين. فسلطة الانقلابيين انحدرت بالسلطة الي وصمة عار لكل من يشارك فيها او يدعمها باي شكل من الاشكال. والحال ان الاسلامويين كانوا من الذكاء بمكان للاستعانة باصحاب مواهب او نصف مواهب للدفاع عنهم وتبرير جرائمهم! اما انقلاب حميدتي البرهان فهو من الافلاس بمكان، ليستعين بهجو وما يسمي مستشارون اعلاميون وخبراء عسكريون (نموذج للجهل والصفاقة والتبلد) ليدافعوا عنهم. وعموما، يصعب حتي لاصحاب المواهب العبقرية الدفاع عن جيفة متعفنة، او عمليات نهب وسلب وجرائم ضد الانسانية ترتكب علي الهواء مباشرة.
اما بخصوص مليونية 30/يونيو، فاعتقد ان انسب وصف تستحقه هي وصف المفاجأة. فهذه المواكب لم تفاجئ المتابعين، ولكن قبل ذلك المشاركين انفسهم! فلا اعتقد ان هنالك من كان يتصور خروج بهذا الحجم والاتساع في كل فجاج السودان! ورغم قطع وسائل الاتصال للتعتيم علي المشهد واستباحته بواسطة العسكر، إلا ان ما تكشف عقب ذلك، عكس ضخامة المواكب وتغطيتها كل البلاد ومختلف الاعمار من الجنسين. وهذا ان دل علي شئ، فهو يدل علي ان هذه الثورة، تختلف حقا عن غيرها من الثورات، التي انتظمت هذه البلاد ما بعد الاستقلال. وتؤكد ان لجان المقاومة هي صاحبة الفارق الحاسم بين هذه الثورات. فالثورات السابقة تغلب عليها سمة النقابات وطابع الطبقات السياسية، اي النزعة المطلبية (كيانات محددة واحتياجات محدودة في افق محدد). اما هذه الثورة فتغلب عليها السمة الشبابية ذات المطالب الجذرية، سواء في ارتفاع سقف مطالبها او امتداد مطامحها (طغيان الثوري علي السياسي، اي اما امتلاك كل شئ او لا رغبة في شئ). ومن هنا شدة جموح هذه الثورة وعصيانها علي التحكم، ليس من جانب العساكر الانقلابيين واعداء الثورة المتآمرين، ولكن وهو الاهم حتي من جانب الطبقة السياسية المعارضة.
لذلك من اكبر آثار مواكب 30/يونيو الارتدادية، انها اعادة خلط الاوراق مجددا، فمن ناحية لجان المقاومة ستصبح اكثر تمسك بسقف مطالبها. ومن ناحية القوي السياسية المعارضة، ستصبح اكثر ارتهان للجان المقاومة. ومن ناحية الانقلابيين فقد شككت هذه المواكب في نجاعة مخططاتهم لاجهاض الثورة، وقدرتهم علي الاستفراد بالسلطة. اما الكيزان وبسبب غرورهم وعنادهم واحتقارهم للآخرين، سيظلون علي حالهم غير قابلين للتغيير، ومن ثمَّ ليس لديهم بدائل غير التآمر مع كل من يعمل ضد الثورة. اما المجتمع الدولي وبما في ذلك الدول الاقليمية المتآمرة، فمؤكد ان الرسالة وصلت اليهم، وانه ليس هنالك استقرار لهذه البلاد، من دون الوضع في الاعتبار مطالب هؤلاء الثوار.
واهم ما خرجت به مليونية30/يونيو يمكن اجماله في الآتي:
اولا، ان الثورة متجذِّرة في هذا الجيل من الشباب وليست امرا طارئا. وعليه لجان المقاومة صاحبة التاثير الاكبر في المشهد (متغيير مستقل). ومن ثمَّ تشكل رقم يصعب تجاوزه او تحييده او خداعه في ايٍ من معادلات الحلول الحقيقية.
ثانيا، هذه المليونية اعادة الثورة الي صدارة المشهد، والثقة للثوار، والآمال بان هنالك امكانية للتغيير المنشود (حق وراءه مطالب عنيد)، بعد الانسداد الذي احدثه الانقلاب الارعن علي المشهد السياسي.
ثالثا، ليس هنالك استقرار في ظل شرعية مزيفة او بالاحتكام للغة السلاح والارهاب. وان اعادة اساليب الانقاذ في السيطرة علي السلطة وفرض الامر الواقع، بالعنف والاكراه والاحتيال، قد تجاوزته الاحداث ووعي الثوار.
رابعا، ان سطوة العسكر والمليشيات والحركات المسلحة بما يملكونه من سلاح، و وضع يدهم علي موارد البلاد، ورهن قرارهم للخارج، قد يطيل امد الازمة ويرفع كلفة البقاء، ولكنه لن يمكنهم من فرض الاستقرار او شراء الشرعية كما يشتهون، مهما كانت قدرات اجهزتهم الدعائية وامتداد مظلة المنتفعين. لان حسم المعركة علي الارض، وليس داخل دهاليز القصر كما يتوهم الانقلابيون وشرذمتهم الانتهازيون. ومُضي اكثر من نصف سنة علي الانقلاب، ووقوفه محلك سر، ان لم يتراجع الي الخلف حتي علي مستوي سيطرته، لهو اكبر دليل علي فشله لمن به مزعة حياء او قلة عقل. اما اذا استهوتهم مغالطة الاغلبية الصامتة، فلماذا لم تخرج لتاييدهم، كما يفعل الفلول ورجالات الادارة الاهلية والمغفلين النافعين امثال ترك؟
خامسا، وهو الاكثر اهمية، يتعلق بالسؤال حول كيفية الاستفادة من زخم هذه المليونية وغيرها من المليونيات، وعلي الخصوص توظيف حالة التضامن التي تصنعها المليونيات والمواكب آنيا ومستقبليا، طالما الامر يتعلق بمشروع طموح يستهدف التحول الديمقراطي والدولة المدنية والتنمية المستدامة؟
واول خطوة تتعلق بكيفية صناعة التضامن والزخم العريض بطريقة تجعله تحت الطلب عند الحاجة؟ ومن بعدها السعي نحو التطوير وزيادة التنظيم والفعالية. ومن ثمَّ يتم استخدامه في اغراض ومجالات متعددة (ما بعد ثورية اذا جاز التعبير). وعلي سبيل المثال قيادة حملات المقاطعة ضد شركات الاتصال، نسبة لمواقفها المتواطئة مع الانقلابيين المجرمين وضد الثوار الشرفاء! وقبل ذلك ضد ما يفترض انها التزامات تجاه مشتركيها! ويمكن ان تشمل المقاطعة مطالبات من نوع تحسين الخدمات وتخفيض الاسعار. وكذلك يمكن مقاطعة منتجات اسامة داوود بعد تورطه في مؤامرة الميناء الاخيرة التي ترقي لدرجة العمالة، من اجل مكاسبه الخاصة، وهو يتبلس دور رجل الاعمال الشاطر (معني بالارباح) العابر للحدود (تجاه عباءة بن زايد وتحت امرته والاصح مجرد حاشية هامشية في شلته).
وكذلك يمكن الاستفادة من هكذا زخم، في تنفيذ مخطط يستهدف التاثير علي صغار الضباط والجنود، بتوضيح الحقائق لهم باهداف الثورة، وازالة سوء الفهم بينهم والثوار، الذي صنعه واستثمر فيه كبار الجنرالات. وذلك بالتزامن مع فضح فساد كبار الجنرالات، وكيف يوظفون مداخيل الجيش وغيره من الاجهزة النظامية لمصالحهم الخاصة، بعد اختطافهم لتلك المؤسسات؟ واهم مدخل لازلة سوء الفهم هو اعادة تعريفهم بدور المؤسسة العسكرية المهنية، ومهمة الضباط والجنود المهنيين تجاه شعوبهم. ويمكن ان تشمل وسائل التاثير المقاطعة الاجتماعية للمنتمين لهذه المؤسسات طالما ظلوا يتخاذلون عن واجبهم في حماية المواطنين العزل. وكذلك التذكير بالدور البطولي (الرجولي كما يستهويهم) للضابط حامد وجنوده الشجعان وغيره من صغار الضباط الذين انحازوا للثورة استجابة لنداء الضمير الصاحي، بعد تجيير ضمير المؤسسة العسكرية لخدمة كبار جنرالاتها. وهؤلاء الجنرالات المزيفون، شكلوا طبقة خادمة للراسمالية الريعية في الداخل والخارج. ومن ثم توظيف المؤسسة العسكرية كمجرد حارس (غفير) لهذه الانشطة الطفيلية. (وانا اذكر كلمة غفير تذكرت مقطع فيلم لعلاء ولي الدين يلعب فيه دور عسكري يرسل صياحه بكل غباء وجدية، هااااا مين هناك، ويتقدم ناحية اللاشئ، تاركا بلاوي تجري من خلفه، ويا للعجب كل ذلك يتم تحت حمايته!!).
والقصد من هذه الجزئية الاخيرة، اي افتكاك المؤسسة العسكرية من قبضة جنرالاتها، ان تكون جزء من مشروع الخلاص من الانقلاب وبصورة اخص قادة المكون العسكري، باعتبار مجرد وجودهما في المشهد باي كيفية، هو نسف لاي تطلعات للتغيير وانجاز لفردوس الدولة المدنية المفقود. والمؤكد ان امثال اولئك المتسلطين علي السلطة ومن ثم مصير البلاد واحوال العباد، هم ليس في وارد ترك السلطة باي حال من الاحوال، لان السلطة هي القيمة الوحيدة التي يملكونها لافتقادهم لاي قيمة اخري. وعليه، مسألة اخراجهم من السلطة دونها خرط القتاد. وهو ما يستدعي مخطط اشمل يعمل علي جبهتين، احداها استهداف مصادرة قوة الانقلابيين ومن ضمنها او علي راسها كسب جانب المؤسسة العسكرية السابق ذكره. وجانب آخر، يعتني بتعزيز مصادر قوة المعارضين، ويقف علي راسها وحدة القوي الثورية والمعارضة. ولكن من المعلوم وكما ظل يُردد ويتم التنبيه له دون طائل، ان هنالك عقبات تقف حائل دون وحدة الصف المعارض بسبب تجربة قوي الحرية والتغيير المخجلة مع العسكر والسلطة من ناحية. ومن ناحية استعصام لجان المقاومة بسقف مطالبهم الجذرية، كاستجابة لدغدغة الشعارات المثالية! من دون وضع اعتبار لا لمعقوليتها في ظل بقاء الانقلاب، بكل ما يشكله من مصالح لقادته وداعميه في الداخل والخارج، ولا قدرة البلاد بتركيبتها الاجتماعية وتجربتها السياسية ومرحلتها التاريخية علي تحمل تبعات وضغوطات التغيير الجذري، وكانه مجرد تغيير ملابس وليس عادات وتقاليد وممارسات راسخة لعشرات السنين ان لم نقل قرون، ناهيك عن تضارب المصالح الذي لا يخلو منه مجتمع او مرحلة تاريخية! وما يجعل الامر شائكا بصورة اكبر ان انتصار مليونية 30/يونينو، من جهة زاد من حدة جذرية الثورة ومطالبها واستقلال لجان المقاومة. ومن جهة، ان ما رافقها من استشهاد اعداد كبيرة، وبصورة وحشية تصدر عن حقد وجهل ومركبات نقص، تسم من يتصدي للمواكب من العساكر، بعد شحنهم ضد الثوار من قبل كبار الجنرالات وعلي راسهم البرهان! فكل ذلك يجعل ممكنات العمل السياسي للقوي السياسية اكثر صعوبة، بل مجرد التعامل مع هؤلاء العسكر الدمويين، حتي ولو علي شروط تركهم السلطة فهو امر عسير. لان ما يناسبهم هو المحاسبة والقصاص علي ما اقترفوه وما زالوا يقترفوه من جرائم تمثل كل رصيدهم في الفضاء العام.
وعموما، السودان بتركيبة حكومته الانقلابية الراهنة، يشكل حالة نموذجية لكيفية حكم القتلة الغادرين والجهلة الطامحين والحاقدين المنافقين؟ وما يترتب علي ذلك من وضعية مزرية علي كافة الصعد تحاكي الجحيم. وان تتجاسر ثورة علي هكذا واقع رهيب واليم، لهو دلالة كافية علي ان اقوي ما يملكه الانسان، وما لا تستيطع ان تنازعه عليه قوي في الارض، هو ايمانه بحقه في العيش بكرامة واستعداده لدفع الثمن. وغالبا هذا مصدر عظمة الثورة السودانية السلمية، التي لم تنطفئ جذوتها لما يقارب الاربع سنوات، رغم ما تواجهه من تآمر من كافة الجهات. ويكفيها دا ويكفيها صاح، كما عبر المبدع حميد.
واخيرا
كم فجعني خبر رحيل الكاتب القدير حيدر احمد خير الله، وما زاد القلب حسرة، انه ورد لخاطري اكثر من مرة، ان اسال عن سبب غيبة استاذ حيدر وغيره من الكتاب في الفترة الاخيرة، وهم من هم، صنع في دواخلنا مكانة خاصة لمحبتهم واحترامهم. وهو من هو، يخفف من وطاة احزاننا في وطن كأن قسمته بين الاوطان تعاقب المحن والخذلان. وهو من هو، يبصرنا بمواطن الخلل والضعف، ويكفينا شر المخاطر بتصديه الجاسر لمكامن الفساد سواء في المؤسسات او ضد الافراد، مع استعداده لدفع الثمن. في ظل سلطة ليست فاسدة ولكنها متسلطة بجهاز الدولة، وتملك من القذارة ما يسمح لها بتلفيق التهم والاعتقال دون مبررات، بل والتعذيب حد الموت داخل بيوت الاشباح. وهو من هو، لا يجامل في الوطن او يخشي لومة لائم في الحق، ولو من رفقاء الدرب، وهي خصلة تكاد تكون معدومة في مجتمع يعتاش علي المجاملات وخشية اغضاب الاحباب، وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان حيدر حقق وعاش معني الحرية بعد ان آمن به وتمثله في نفسه (تمظهر في شكل شجاعة)، او كما فهمه من استاذه محمود محمد طه. وهو بهذا عاش العيش طوال حياته، وهو ما سيمنحه العيش بعد مماته. نسأل الله الرحمة والمغفرة لحبيبنا حيدر وخالص التعازي لاسرته وكامل معارفه واصدقاءه، ولانستثني خاصتنا من العزاء ونحن من احببناه في الوطن. وهو ما يذكرنا بزميله الذي نعاه استاذ حيدر سابقا وهو يشاركه ذات الخصال ونشاركه ذات المحبة، الاستاذ حسن وراق رحمه الله. وكون كل هؤلاء يتشاركون نفس الصحيفة ومع كوكبة اخري شبيهة، فهذه شهادة وفاء وتقدير ومحبة صادقة لصحيفة الجريدة وللعاملين بها ولرئيس تحريرها بصفة خاصة (وما عارفين نقول في حقكم شنو، وبدل الطيور علي اشكالها تقع، نفضل القول الناس السمحين علي قلب صحيفتهم الراقية يجتمعون). ودمتم في رعاية الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للجرحي والحرية للمعتقلين بصفة عاجلة وللبلاد وشعوبها كافة. لو كانت هنالك كلمة سر لاستمرار وصمود هذه الثورة الباسلة، واحتفاظها بوهجها رغم تقادم الزمن (ثلاثة سنوات ونصف)، واكلافها الباهظة بسبب مواجهتها سطوة عدميين (وجوديا) ومعدمين (قيميا)! لكانت هذه الكلمة هي سخاء التضحيات التي يقدمها الثوار، فداءً للوطن وردا لكرامة المواطنين واعلاءً لشعارات الحرية والسلام والعدالة.
فهؤلاء الشهداء رغم احزان الفراق وجلل المصاب واعتصار الالم الممزوج بالاسف والغضب، إلا انهم بصنيع الفرسان الذي يظهرونه، وبجسارتهم التي تليق بابطال الاساطير، يكشفون عن جانب مضئ من اصالة وعزة وشموخ شعوب هذه الديار. والي اي مدي ان الابتلاءات والمحن المتساقطة عليها من تسلط وانحراف بعض بنيها، قد تُعَرِض احتمالها للتضعضع وممارساتها للتشوه، إلا ان رسوخ قيم الشجاعة والإيثار والتكافل في جذور ثقافاتها او صلب عاداتها وتقاليدها، يحافظ علي امكانات تصديها ومقاومتها لعاديات الزمان. كما ان هذا النموذج الثوري البطولي الذي لا يكل ولا يمل ولا يدخر نفسا في سبيل بلده، يؤكد ان الطغمة الانقلابية الغادرة بمختلف مكوناتها، وهي تستبيح ذات البلاد، وتعكف علي اذلال اهلها، وتتذلل لاسيادها الاقليميين، هي اشبه بكائنات غريبة الديار منبتة الجذور لا تمت بصلة للشعوب السودانية. وفوق انها تفتقد للكرامة والمروءة والاستقامة، فهي اقرب لاجتماع الخبث والخبائث، الجبن والغدر، النفاق والتزلف..الخ. واذا كان الاسلامويون الضالون انحطوا بالسلطة الي محض رافعة اجتماعية ومادية ونفسية لجماعة وضيعة وافراد منحرفين. فسلطة الانقلابيين انحدرت بالسلطة الي وصمة عار لكل من يشارك فيها او يدعمها باي شكل من الاشكال. والحال ان الاسلامويين كانوا من الذكاء بمكان للاستعانة باصحاب مواهب او نصف مواهب للدفاع عنهم وتبرير جرائمهم! اما انقلاب حميدتي البرهان فهو من الافلاس بمكان، ليستعين بهجو وما يسمي مستشارون اعلاميون وخبراء عسكريون (نموذج للجهل والصفاقة والتبلد) ليدافعوا عنهم. وعموما، يصعب حتي لاصحاب المواهب العبقرية الدفاع عن جيفة متعفنة، او عمليات نهب وسلب وجرائم ضد الانسانية ترتكب علي الهواء مباشرة.
اما بخصوص مليونية 30/يونيو، فاعتقد ان انسب وصف تستحقه هي وصف المفاجأة. فهذه المواكب لم تفاجئ المتابعين، ولكن قبل ذلك المشاركين انفسهم! فلا اعتقد ان هنالك من كان يتصور خروج بهذا الحجم والاتساع في كل فجاج السودان! ورغم قطع وسائل الاتصال للتعتيم علي المشهد واستباحته بواسطة العسكر، إلا ان ما تكشف عقب ذلك، عكس ضخامة المواكب وتغطيتها كل البلاد ومختلف الاعمار من الجنسين. وهذا ان دل علي شئ، فهو يدل علي ان هذه الثورة، تختلف حقا عن غيرها من الثورات، التي انتظمت هذه البلاد ما بعد الاستقلال. وتؤكد ان لجان المقاومة هي صاحبة الفارق الحاسم بين هذه الثورات. فالثورات السابقة تغلب عليها سمة النقابات وطابع الطبقات السياسية، اي النزعة المطلبية (كيانات محددة واحتياجات محدودة في افق محدد). اما هذه الثورة فتغلب عليها السمة الشبابية ذات المطالب الجذرية، سواء في ارتفاع سقف مطالبها او امتداد مطامحها (طغيان الثوري علي السياسي، اي اما امتلاك كل شئ او لا رغبة في شئ). ومن هنا شدة جموح هذه الثورة وعصيانها علي التحكم، ليس من جانب العساكر الانقلابيين واعداء الثورة المتآمرين، ولكن وهو الاهم حتي من جانب الطبقة السياسية المعارضة.
لذلك من اكبر آثار مواكب 30/يونيو الارتدادية، انها اعادة خلط الاوراق مجددا، فمن ناحية لجان المقاومة ستصبح اكثر تمسك بسقف مطالبها. ومن ناحية القوي السياسية المعارضة، ستصبح اكثر ارتهان للجان المقاومة. ومن ناحية الانقلابيين فقد شككت هذه المواكب في نجاعة مخططاتهم لاجهاض الثورة، وقدرتهم علي الاستفراد بالسلطة. اما الكيزان وبسبب غرورهم وعنادهم واحتقارهم للآخرين، سيظلون علي حالهم غير قابلين للتغيير، ومن ثمَّ ليس لديهم بدائل غير التآمر مع كل من يعمل ضد الثورة. اما المجتمع الدولي وبما في ذلك الدول الاقليمية المتآمرة، فمؤكد ان الرسالة وصلت اليهم، وانه ليس هنالك استقرار لهذه البلاد، من دون الوضع في الاعتبار مطالب هؤلاء الثوار.
واهم ما خرجت به مليونية30/يونيو يمكن اجماله في الآتي:
اولا، ان الثورة متجذِّرة في هذا الجيل من الشباب وليست امرا طارئا. وعليه لجان المقاومة صاحبة التاثير الاكبر في المشهد (متغيير مستقل). ومن ثمَّ تشكل رقم يصعب تجاوزه او تحييده او خداعه في ايٍ من معادلات الحلول الحقيقية.
ثانيا، هذه المليونية اعادة الثورة الي صدارة المشهد، والثقة للثوار، والآمال بان هنالك امكانية للتغيير المنشود (حق وراءه مطالب عنيد)، بعد الانسداد الذي احدثه الانقلاب الارعن علي المشهد السياسي.
ثالثا، ليس هنالك استقرار في ظل شرعية مزيفة او بالاحتكام للغة السلاح والارهاب. وان اعادة اساليب الانقاذ في السيطرة علي السلطة وفرض الامر الواقع، بالعنف والاكراه والاحتيال، قد تجاوزته الاحداث ووعي الثوار.
رابعا، ان سطوة العسكر والمليشيات والحركات المسلحة بما يملكونه من سلاح، و وضع يدهم علي موارد البلاد، ورهن قرارهم للخارج، قد يطيل امد الازمة ويرفع كلفة البقاء، ولكنه لن يمكنهم من فرض الاستقرار او شراء الشرعية كما يشتهون، مهما كانت قدرات اجهزتهم الدعائية وامتداد مظلة المنتفعين. لان حسم المعركة علي الارض، وليس داخل دهاليز القصر كما يتوهم الانقلابيون وشرذمتهم الانتهازيون. ومُضي اكثر من نصف سنة علي الانقلاب، ووقوفه محلك سر، ان لم يتراجع الي الخلف حتي علي مستوي سيطرته، لهو اكبر دليل علي فشله لمن به مزعة حياء او قلة عقل. اما اذا استهوتهم مغالطة الاغلبية الصامتة، فلماذا لم تخرج لتاييدهم، كما يفعل الفلول ورجالات الادارة الاهلية والمغفلين النافعين امثال ترك؟
خامسا، وهو الاكثر اهمية، يتعلق بالسؤال حول كيفية الاستفادة من زخم هذه المليونية وغيرها من المليونيات، وعلي الخصوص توظيف حالة التضامن التي تصنعها المليونيات والمواكب آنيا ومستقبليا، طالما الامر يتعلق بمشروع طموح يستهدف التحول الديمقراطي والدولة المدنية والتنمية المستدامة؟
واول خطوة تتعلق بكيفية صناعة التضامن والزخم العريض بطريقة تجعله تحت الطلب عند الحاجة؟ ومن بعدها السعي نحو التطوير وزيادة التنظيم والفعالية. ومن ثمَّ يتم استخدامه في اغراض ومجالات متعددة (ما بعد ثورية اذا جاز التعبير). وعلي سبيل المثال قيادة حملات المقاطعة ضد شركات الاتصال، نسبة لمواقفها المتواطئة مع الانقلابيين المجرمين وضد الثوار الشرفاء! وقبل ذلك ضد ما يفترض انها التزامات تجاه مشتركيها! ويمكن ان تشمل المقاطعة مطالبات من نوع تحسين الخدمات وتخفيض الاسعار. وكذلك يمكن مقاطعة منتجات اسامة داوود بعد تورطه في مؤامرة الميناء الاخيرة التي ترقي لدرجة العمالة، من اجل مكاسبه الخاصة، وهو يتبلس دور رجل الاعمال الشاطر (معني بالارباح) العابر للحدود (تجاه عباءة بن زايد وتحت امرته والاصح مجرد حاشية هامشية في شلته).
وكذلك يمكن الاستفادة من هكذا زخم، في تنفيذ مخطط يستهدف التاثير علي صغار الضباط والجنود، بتوضيح الحقائق لهم باهداف الثورة، وازالة سوء الفهم بينهم والثوار، الذي صنعه واستثمر فيه كبار الجنرالات. وذلك بالتزامن مع فضح فساد كبار الجنرالات، وكيف يوظفون مداخيل الجيش وغيره من الاجهزة النظامية لمصالحهم الخاصة، بعد اختطافهم لتلك المؤسسات؟ واهم مدخل لازلة سوء الفهم هو اعادة تعريفهم بدور المؤسسة العسكرية المهنية، ومهمة الضباط والجنود المهنيين تجاه شعوبهم. ويمكن ان تشمل وسائل التاثير المقاطعة الاجتماعية للمنتمين لهذه المؤسسات طالما ظلوا يتخاذلون عن واجبهم في حماية المواطنين العزل. وكذلك التذكير بالدور البطولي (الرجولي كما يستهويهم) للضابط حامد وجنوده الشجعان وغيره من صغار الضباط الذين انحازوا للثورة استجابة لنداء الضمير الصاحي، بعد تجيير ضمير المؤسسة العسكرية لخدمة كبار جنرالاتها. وهؤلاء الجنرالات المزيفون، شكلوا طبقة خادمة للراسمالية الريعية في الداخل والخارج. ومن ثم توظيف المؤسسة العسكرية كمجرد حارس (غفير) لهذه الانشطة الطفيلية. (وانا اذكر كلمة غفير تذكرت مقطع فيلم لعلاء ولي الدين يلعب فيه دور عسكري يرسل صياحه بكل غباء وجدية، هااااا مين هناك، ويتقدم ناحية اللاشئ، تاركا بلاوي تجري من خلفه، ويا للعجب كل ذلك يتم تحت حمايته!!).
والقصد من هذه الجزئية الاخيرة، اي افتكاك المؤسسة العسكرية من قبضة جنرالاتها، ان تكون جزء من مشروع الخلاص من الانقلاب وبصورة اخص قادة المكون العسكري، باعتبار مجرد وجودهما في المشهد باي كيفية، هو نسف لاي تطلعات للتغيير وانجاز لفردوس الدولة المدنية المفقود. والمؤكد ان امثال اولئك المتسلطين علي السلطة ومن ثم مصير البلاد واحوال العباد، هم ليس في وارد ترك السلطة باي حال من الاحوال، لان السلطة هي القيمة الوحيدة التي يملكونها لافتقادهم لاي قيمة اخري. وعليه، مسألة اخراجهم من السلطة دونها خرط القتاد. وهو ما يستدعي مخطط اشمل يعمل علي جبهتين، احداها استهداف مصادرة قوة الانقلابيين ومن ضمنها او علي راسها كسب جانب المؤسسة العسكرية السابق ذكره. وجانب آخر، يعتني بتعزيز مصادر قوة المعارضين، ويقف علي راسها وحدة القوي الثورية والمعارضة. ولكن من المعلوم وكما ظل يُردد ويتم التنبيه له دون طائل، ان هنالك عقبات تقف حائل دون وحدة الصف المعارض بسبب تجربة قوي الحرية والتغيير المخجلة مع العسكر والسلطة من ناحية. ومن ناحية استعصام لجان المقاومة بسقف مطالبهم الجذرية، كاستجابة لدغدغة الشعارات المثالية! من دون وضع اعتبار لا لمعقوليتها في ظل بقاء الانقلاب، بكل ما يشكله من مصالح لقادته وداعميه في الداخل والخارج، ولا قدرة البلاد بتركيبتها الاجتماعية وتجربتها السياسية ومرحلتها التاريخية علي تحمل تبعات وضغوطات التغيير الجذري، وكانه مجرد تغيير ملابس وليس عادات وتقاليد وممارسات راسخة لعشرات السنين ان لم نقل قرون، ناهيك عن تضارب المصالح الذي لا يخلو منه مجتمع او مرحلة تاريخية! وما يجعل الامر شائكا بصورة اكبر ان انتصار مليونية 30/يونينو، من جهة زاد من حدة جذرية الثورة ومطالبها واستقلال لجان المقاومة. ومن جهة، ان ما رافقها من استشهاد اعداد كبيرة، وبصورة وحشية تصدر عن حقد وجهل ومركبات نقص، تسم من يتصدي للمواكب من العساكر، بعد شحنهم ضد الثوار من قبل كبار الجنرالات وعلي راسهم البرهان! فكل ذلك يجعل ممكنات العمل السياسي للقوي السياسية اكثر صعوبة، بل مجرد التعامل مع هؤلاء العسكر الدمويين، حتي ولو علي شروط تركهم السلطة فهو امر عسير. لان ما يناسبهم هو المحاسبة والقصاص علي ما اقترفوه وما زالوا يقترفوه من جرائم تمثل كل رصيدهم في الفضاء العام.
وعموما، السودان بتركيبة حكومته الانقلابية الراهنة، يشكل حالة نموذجية لكيفية حكم القتلة الغادرين والجهلة الطامحين والحاقدين المنافقين؟ وما يترتب علي ذلك من وضعية مزرية علي كافة الصعد تحاكي الجحيم. وان تتجاسر ثورة علي هكذا واقع رهيب واليم، لهو دلالة كافية علي ان اقوي ما يملكه الانسان، وما لا تستيطع ان تنازعه عليه قوي في الارض، هو ايمانه بحقه في العيش بكرامة واستعداده لدفع الثمن. وغالبا هذا مصدر عظمة الثورة السودانية السلمية، التي لم تنطفئ جذوتها لما يقارب الاربع سنوات، رغم ما تواجهه من تآمر من كافة الجهات. ويكفيها دا ويكفيها صاح، كما عبر المبدع حميد.
واخيرا
كم فجعني خبر رحيل الكاتب القدير حيدر احمد خير الله، وما زاد القلب حسرة، انه ورد لخاطري اكثر من مرة، ان اسال عن سبب غيبة استاذ حيدر وغيره من الكتاب في الفترة الاخيرة، وهم من هم، صنع في دواخلنا مكانة خاصة لمحبتهم واحترامهم. وهو من هو، يخفف من وطاة احزاننا في وطن كأن قسمته بين الاوطان تعاقب المحن والخذلان. وهو من هو، يبصرنا بمواطن الخلل والضعف، ويكفينا شر المخاطر بتصديه الجاسر لمكامن الفساد سواء في المؤسسات او ضد الافراد، مع استعداده لدفع الثمن. في ظل سلطة ليست فاسدة ولكنها متسلطة بجهاز الدولة، وتملك من القذارة ما يسمح لها بتلفيق التهم والاعتقال دون مبررات، بل والتعذيب حد الموت داخل بيوت الاشباح. وهو من هو، لا يجامل في الوطن او يخشي لومة لائم في الحق، ولو من رفقاء الدرب، وهي خصلة تكاد تكون معدومة في مجتمع يعتاش علي المجاملات وخشية اغضاب الاحباب، وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان حيدر حقق وعاش معني الحرية بعد ان آمن به وتمثله في نفسه (تمظهر في شكل شجاعة)، او كما فهمه من استاذه محمود محمد طه. وهو بهذا عاش العيش طوال حياته، وهو ما سيمنحه العيش بعد مماته. نسأل الله الرحمة والمغفرة لحبيبنا حيدر وخالص التعازي لاسرته وكامل معارفه واصدقاءه، ولانستثني خاصتنا من العزاء ونحن من احببناه في الوطن. وهو ما يذكرنا بزميله الذي نعاه استاذ حيدر سابقا وهو يشاركه ذات الخصال ونشاركه ذات المحبة، الاستاذ حسن وراق رحمه الله. وكون كل هؤلاء يتشاركون نفس الصحيفة ومع كوكبة اخري شبيهة، فهذه شهادة وفاء وتقدير ومحبة صادقة لصحيفة الجريدة وللعاملين بها ولرئيس تحريرها بصفة خاصة (وما عارفين نقول في حقكم شنو، وبدل الطيور علي اشكالها تقع، نفضل القول الناس السمحين علي قلب صحيفتهم الراقية يجتمعون). ودمتم في رعاية الله.