مساهمة في نقد وتقييم وتوثيق تجربة الحرية والتغيير في الحكم .. كتب: البرَّاق النذير الورَّاق
البراق النذير الوراق
19 July, 2022
19 July, 2022
16 يوليو 2022
كتب: البرَّاق النذير الورَّاق
وإن متنا وما ماتت ضمائرنا فتلك حياة الكائن العابر
ولو فرغ الفؤاد من الطَوَى فذاك الفضل في طي المآثر
ما يجب أن تقوله وتقر به الحرية والتغيير:
(علينا التواثق ومجمل الحركة السياسية، على الاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها والعمل على محاربة أهواء النفوس والرغبات الذاتية في العمل العام في أي زمان ومكان)
(1)
هذه محاولة نقد لتجربة الحرية والتغيير في الانتقال تشمل الفترة من 11 أبريل 2019 وحتى تاريخ انقلاب البرهان وزُمرته (25 أكتوبر 2021). وقد اعتمد هذا العمل الوقوف على محطات ربما عدَّها البعض عمومية في شكلها، وربما عدَّها آخرون ذات دلالات وإشارات مخصوصة في محتواها، بحيث تخدم الخط المطلوب في هذا الظرف الحرج الذي تعيشه بلادنا، فهي بذلك ليست نهائية، بل يجب أن تُتبع بالتفصيل والاسهاب؛ وهي كذلك ليست دعوة لجلد الذات أو معولاً إضافياً لتكسير التيارات الديمقراطية لمصلحة التيارات الظلامية، بل هي محاولة لاستبصار بعض الأسباب والمناسبات التي جعلت الانتقال متعثراً، وبعض الأفعال التي ساهمت في إهالة التراب على مشروع الديمقراطية الناشئ، وهي من ناحية أخرى للتأكيد على أن التيارات الظلامية يهزمها الوضوح مهما حاولت ثلم منافذ النور وأوغلت في تدبير الحيل لإفشاء الظلام.
يُشار في هذه النقاط لإعلان الحرية والتغيير وهو الإعلان السياسي الذي وقَّعت عليه وتبنته وأعلنته في 1/1/2019 عشرات المكونات المهنية والسياسية والمدنية والمطلبية وقوى ثورية أخرى من أجل إسقاط نظام البشير والمؤتمر الوطني والقوى السياسية المتحالفة معه. ويُشار إلى (قوى الحرية والتغيير) وهي عبارة قد تعني المجلس المركزي، أو قد تعنى كتلة من الكتل المكونة للحرية والتغيير، أو قد تعنى مجموعة من الأحزاب أو المكونات داخل هذه الكتل خرجت أو لاتزال موجودة داخل التحالف، ابتعدت أو أُبعدت أو اقتربت بسبب اتفاق/ اختلاف رؤى ومواقف، أو تفاوت التأهيل التنظيمي، أو هشاشة/متانة التكوين، أو خفة الوزن/ثقله في خضم العملية السياسية، وذلك وفق موضع هذه الجملة وفهمها في سياق المراجعة المطلوبة.
وُضعت هذه النقاط في شكل معلومات متبوعة بشيء من التحليل والآراء الخاصة بالكاتب استناداً على: وقائع محددة حدثت، واتهامات صدرت من أطراف تجاه أطراف أخرى، أو من إعلاميين وصحف وناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام أخرى، ولم يتم نفيها أو مناقشتها أو تفنيدها بوضوح. كما تستند النقاط بشكل أساسي على فرضية وجود أخطاء تستوجب الاعتراف والاعتذار والوعد بالمراجعة الجادة في المستقبل، لتحسين شروط التحالفات وترفيع العمل من جميع الفاعلين لإنجاز مهمات الانتقال وصولاً للديمقراطية التامة، خاصة مع بروز الحاجة المُلحِّة لاستعادة زخم الثورة على المستوى السياسي والتنظيمي والجماهيري والإعلامي.
الحقيقة إن ما حدث ولايزال يحدث بين القوى السياسية والذي لابد من الوقوف عنده في مثل هذه السانحة، لا يمكن اعتباره انحداراً مفاجئاً في تاريخ بلادنا السياسي أو غيره؛ للأسف، يبدو أن الصراعات والنزاعات أمراً متوارثاً في مجالات شتى، فخلاف أن التاريخ السياسي يحدثنا عن نزاعات حادة وانقسامات رأسية وأفقية في نطاق العمل السياسي، إلا أن مجالنا الاجتماعي والثقافي وحتى الفني حين النظر لهذا التاريخ والحاضر كذلك، لم يسلم من هذه الآفات والانقسامات، علاوة على أن الخلاف بين الأفراد من الرموز المُبدعة الذين أثَّروا في الناس، وأثْروا هذه المجالات بفضل تعاونهم الصميم وتكاملهم البديع، انحدر لحدود سحيقة في بعض الحالات، كانت أقل آثاره، حرمان المُحبين والمُتحمسين من صُنع الحُسن الأخَّاذ وصياغة الذكرى الوسيمة! على أن مما يجدر قوله إن الخلافات السياسية خاصة في أوضاع هشة كهذه، آثارها أسوأ عاقبة وتبعاتها أكثر كارثية، فهي تتحول لانفراط اجتماعي ونزاعات وحروب، وهذا مشهود ومنظور في الوضع الماثل ولا يحتاج لكثير تفصيل.
إن المطلوب من الجميع مؤسسات ومجموعات وأفراد، ليس التأثر بالضغط ووصول مرحلة اللا مناص من أجل الاعتراف بهذه الاخطاء، بل يحب أن يكون الاعتراف والاعتذار بعده، نتيجة لإيمان عميق بضرورة الانزجار، والالتزام بالمراقبة والتصحيح في المستقبل، بداية من الأفراد وصولاً إلى أي مؤسسة، وبهذا فكل ذي صلة بهذه الوقائع وغيرها، لديه مسؤولية أخلاقية وتاريخية، ليقدم إفادته من أجل نفسه أولاً ومن أجل الشهداء والجرحى وكل من آمن بالتغيير وعمل له بصدق وتجرُّد، ومن أجل الثورة ومستقبل الوطن.
يفترض كاتب هذه النقاط أنها ليست شاملة وليست محيطة بكل مجريات الأحداث في الفترة المُشار إليها، ولكنه يرجو أن يُستفاد منها من أي جهة حادبة على البلاد ومستقبلها، في إطار التقييم والنقد الشامل ووضع أسس للعمل السياسي والتنظيمي والتنفيذي، تهتدى بقيم الديمقراطية والشفافية والعدالة والحقوق، كما يتوقع استكمالها وتصويبها من المجموعات والأفراد المعنيين والمهتمين، خاصة الذين تحصلوا على معلومات تجعل ذلك ممكناً.
هذه النقاط تقع في مقام المسؤولية الشخصية من منطلق أن كاتبها كان جزءاً منها بشخصه وأفعاله ولا يمثل حالياً جهة أو تكويناً أو مجموعة، فهو ليس مراقباً صِرفاً بالمعنى البريء، ولكن مبعثها كذلك الشعور بضرورة تعظيم المسؤولية الجماعية، وبهذا يمكن قراءتها وفق (نظرية موت المؤلف)، بحيث تُؤخذ بغض النظر عمن كتبها وموقعه السابق أو الحالي من هذه الوقائع.
وعلى الرغم من أن الكاتب كان بعيداً عن بعض الأحداث بجسده، وبعيداً عن بعضها بحكم موقعه خارج دائرة الفعل والتأثير، أو وجوده داخل دوائر أخرى تمنعه أخلاقياً أو رسمياً أو مهنياً من التدخل والتصحيح، وعلى الرغم من علمه ببعض الأحداث والوقائع بعد وقوعها أو في لحظة تعذَّر معها الاستدراك، يتقدم الكاتب بالنقد الذاتي والاعتذار العلني لمشاركته، صمته، أو حتى تقصيره، أو إمساكه، عن بذل الجهد لتعديل وتصويب ما علم أو رأى أو سمع أو اعتقد أن به ميلاً أو مفارقة لطريق الثورة ووعد التغيير.
لا ينتظر الكاتب جزاءً ولا شكوراً من هذا العمل، كما لا يدفعه الخوف من اللوم أو الطمع في الرضا من إيراد كل كلمة في هذه الورقة، بل دافعه الأصيل هو استرداد المسار الديمقراطي وهو أكثر عافية، والعمل على تحقيق تطلعات الشهداء والجرحى والثوار وقطاعات الشعب السوداني كافة، ولوجه هذا البلد وتطلُّع أهله للحرية والسلام والعدالة والاستقرار والنماء، كما يترصد المكتوب أن يتحسس العسكريون موضعهم فيما ذُكر، فيستدركون شجاعة تجعلهم يفتدون البلاد بمشروع حقيقي للاستقرار وتماسك البلاد، أو بالمقابل يتَّخذون خيار الاستمرار في المواجهة التي لابد أنها ستكون في صالح الشعب في نهاية المطاف وإن طال المسير والسُّرى.
(2)
عندما قامت اللجنة الأمنية لنظام البشير باستلام السلطة وسمَّت نفسها المجلس العسكري الانتقالي، كانت جموع من السودانيين في ميدان الاعتصام وفي غيره من المواقع داخلياً وخارجياً تنظر إلى الحرية والتغيير كقيادة تثق فيها نسبياً، واعتمدت عليها في تيسير نقل السلطة بشكل سلس يضمن مدنية الدولة كما وعدت بذلك في إعلان الحرية والتغيير الموقَّع والمُعلن في الأول من يناير 2019، وهو الإعلان الذي وحَّد الشعب السوداني خلف مطلب إسقاط نظام المؤتمر الوطني الذي جثم على صدر الوطن لثلاثين سنة. وحقيقة الأمر أن مجاميعاً من الشعب السوداني لم تكن تضع الثقة الكاملة في قوى الحرية والتغيير، بل كانت حالتها أقرب للرجاء بأن تستكمل هذه القوى مهمة تسلم السلطة من اللجنة الأمنية بالشكل الذي تواثقت عليه مع بعضها ومعهم، ولكن قوى الحرية والتغيير عملت على تزيين قدرتها وسط جموع الشعب السوداني بوصفها المُخلِّص والمُنجد، والعامل الناقل الوحيد المؤهل لنزع واستعادة البلاد من سلطة الإنقاذ، وحملها نحو سلطة مرحلية ترفعها إلى مصاف الدول التي تحترم مواطنها وتطلعاته ورغباته في الديمقراطية والحرية والعدالة والسلام المستدام؛ كما طرحت مشاريعاً وأفكاراً وخططاً وتعهدت بوعودٍ، هي في الواقع فوق طاقتها وإمكانياتها. الحقيقة أن الشعب كان يبحث عن الصورة الزاهية التي يحلم بها، لمجتمع محترم ودولة ناهضة عبر قيادة رشيدة، وكانت قوى الحرية والتغيير هي الأقرب لقلبه وأذنه لتحدثه بأن حلمه يتحقق باستماعه لها وإتباعها.
وبدلاً عن مطالبة المجلس العسكري بتسليم السلطة للقيادة الشعبية الثورية، قبلت قوى الحرية والتغيير الجلوس على طاولة التفاوض مع اللجنة الأمنية لنظام البشير وفق مُسماها الجديد (المجلس العسكري الانتقالي) أو المكون العسكري لاحقاً؛ ومهما رُصدت التبريرات لذلك، يظل هذا خطأ ابتدائياً جرَّ ما تلى ذلك من أخطاء ساهمت في وصول البلاد لما هي فيه اليوم، فقد صار العسكريون من يومها شركاء في المنشط وغرماء في المكره وعلى طول الخط.
(3)
كانت جلسات التفاوض وما أعقب ذلك من تطورات وأقوال وأفعال على جميع الأصعدة، مسرحاً مفتوحاً عُرضت عليه مقدرات الشعب السوداني ولم يتم المطلوب من تقدير لدماء الشهداء الذين ارتقوا في درب الثورة، ولم تُعط الأهداف التي تم الاتفاق على إنجازها حق قدرها وذلك للآتي:
1- لم تكن قوى الحرية والتغيير منظمة كفاية ومتماسكة وفق رؤية واضحة وهذا ما جعل المكون العسكري يلعب على اختلافاتها وخلافاتها التي كانت في حقيقتها لأسباب ذاتية، ولحزازات تاريخية وسياسية بينها كتنظيمات سياسية أو مدنية أو مهنية. ما أهملته الحرية والتغيير هو التشديد على أن يصبح التنوع عاملاً مساعداً يسنده الفهم العميق للتحالف الذي يتقيَّد بشروط تشمل: تسبيق ما اتفقت عليه الجماعة المتحالفة على ما التزمه طرف منها، وإعلاء الالتزام بوجهة الجماعة على الوجهة الخاصة بالكيانات المنضوية تحتها (إرجاء لزوم ما لا يلزم وتقديم لزوم ما يلزم في علاقاتها)، وقبول المتحالف الآخر بحسناته وعيوبه، وتقديم الميل للتحالف على الميل منه لأجل تحقيق الهدف من التحالف وليس ضعضعته بالتمترس خلف الأهداف الخاصة، وصولاً إلى آخر المشتركات مقابل المنفردات
2- لم تلتزم بعض هذه القوى بإعلان الحرية والتغيير بالشكل الكامل ولم تضعه كمرجعية أساسية للتفاوض، بل وضعت طموحات وتطلعات وقراءات شخصية محضة لما احتواه من التزامات، بتضخم عالٍ للذوات، وبإحساس عظيم أن لها وصاية على هذا الشعب العظيم وهي بالتالي تعلم ما لا يعلم.
3- مضت قوى الحرية والتغيير في التفاوض بدون تحضير كافٍ له، وشاركت في عملية التفاوض شخصيات كانت هذه أول تجربة لها في عملية مماثلة، ومع تباين قدرات المتفاوضين، كان من السهل على الطرف الآخر أن يستشعر أن بإمكانه الخروج بمكاسب أكبر، علاوة على اعتماد المشاركة في فريق التفاوض بشكل تمثيلي عوضاً عن أن يكون عبر مشاركة وفق (مهام)، وبهذا لم يتم تكوينه بخبرات متنوعة متخصصة وفق الحاجة، فظهر ضعف الجوانب الفنية للفريق التفاوضي، خرج بموجبه اتفاقاً فيه جملة من النواقص، وهذا ساهم في حصول العسكريين على مكاسب وفيرة تمدد بها المكون العسكري في الفعل السياسي، وتوسع في إدارة الدولة لاحقاً بدون أي مسوغ عدا اعتماده على هذه النواقص، ورغبته هو في التمدد وعمله المتواصل لتحقيق مآربه.
4- كانت قوى الحرية والتغيير تتحدث من أعلى المنابر- في الإعلام وعلى منصة الاعتصام وغيرها- عن وعود وعهود، ولكنها كانت تتراجع عنها على طاولات التفاوض وكان التنازل هو الموقف المسيطر في كثير من القضايا ومنها:
أ- عقدت بعض قيادات قوى الحرية والتغيير اجتماعات ثنائية خلال تلك الفترة مع عسكريين وكان يتم الاتفاق معهم على قضايا جوهرية حتى ولو كانت ضد رغبات حلفاء آخرين، أو ضد رغبات الشعب السوداني الثائر والمعتصم في محيط القيادة العامة للجيش في الخرطوم ومواقعه في المدن والولايات الأخرى (اجتماع منزل حجار الذي لا علم لي إن كان بموافقة الحرية والتغيير مجتمعة أم أنه قراراً منفرداً لبعض القيادات، ولكن المؤكد أن الحضور كان يمثل طيفاً من الكتل ولم يكن لكتلة واحدة) وقد وصل الحد أن طالب العسكريون بالتراجع عن مواكب 30 يونيو 2019 الأمر الذي رفضته أطراف من الحرية والتغيير لأسباب أولها أن هذا الأمر ليس بيدهم
ب- كانت الأخطار تواجه الاعتصامات في العاصمة والأقاليم على رأس كل دقيقة، ولم تكن هناك خطة واضحة للحماية أو، لتفريق المعتصمين عند مواجهة الخطر الداهم إلا بتصور مفاده أن الحماية تكون بمزيد من الحشد، وكانت رؤية بعض الأطراف تسيطر عليها البراغماتية بحيث غدا سيل الدماء وثبات المعتصمين يبدو وكأنه دعماً للموقف التفاوضي، وهذا ما جعل كل معاناة للناس ومقاومتهم خلال فترة التفاوض، وكأنها تصب في خانة تدعيم موقف قوى الحرية والتغيير في حال صعوده وهبوطه وتبايناته، ولم تكن بوصلة القرار السياسي الالتزام بما طمح إليه المعتصمون والذي دفعهم للثبات ولبذل أرواحهم وترك مشاغلهم ليجودوا بوقتهم وعرقهم ومالهم من أجل تحقيقه
ت- رغم حدوث المجزرة (3 يونيو 2019) حدثت كثير من التدخلات والمبادرات، وكان المحتوى المطروح معقوداً بمنطق المجتمع الإقليمي والدولي الذي تم فرضه على قوى الحرية والتغيير، عوضاً عما هو خليق بالمجازر والجراحات التي حدثت في فض الاعتصام ومطلوبات الانتقال المعقودة عليها آمال وتطلعات الشعب السوداني، ورغماً عن ذلك كانت قوى الحرية والتغيير ترى في المكون العسكري شريكاً محتملاً بذات شخوصه التي وعدت بحماية الشعب وفشلت... لم تواجه الحرية والتغيير الشعب السوداني بوضوح بما يجري خلف الأبواب، وكانت بعض الأطراف تتحدث بلسانين من أجل الوصول لصيغة اتفاق، وذلك مردَّه وقوعها تحت الضغط ما بين محاولات الإيفاء بمطلوبات الشارع من جانب، وضغط المجتمع الإقليمي والدولي من جانب آخر، وشح النفوس من جانب ثالث
ث- ساهمت قوى الحرية والتغيير في تفكيك بنية الاعتصام وتماسكه استجابة لرغبات العسكريين، ونشرت خريطة (15 مايو 2019) تضع حدوداً للاعتصام وفق اتفاق مع العسكريين، كما نشرت بيانات وتقدمت بأفعال وأقوال ساعدت العسكريين على التبرير لفض الاعتصام بوصف أن بعض أطرافه خارج " الحدود المعلنة"، وقد أشار بعض الثوار في وقتها إلى أن الخريطة غير واضحة، ما يبين أن مسألة وضع حدود للاعتصام لم يكن توجيهاً مقنعاً لثوار دخلوا محيط القيادة في السادس من أبريل وحسبوا أن هذه الأرض كلها لهم وبلا حدود، وأنهم تحت حماية مشتركة بينهم والجيش والقيادة السياسية
ج- ورغم ذلك كانت قيادات الحرية والتغيير تخرج في المنابر الإعلامية وتجرِّم العسكريين، ولم تعترف بخطأ الانسياق لمآربهم، ونتيجة ذلك كانت العودة مجدداً للتفاوض بشروط ظُن أنها ترجح موازين القوى لصالح الحرية والتغيير
ح- جاءت مواكب الثلاثين من يونيو 2019 مؤيدة للحكم المدني الكامل ورافضة لسيطرة العسكريين على السلطة ومطالبة بالعدالة لشهداء فض الاعتصام وحدث خلاف في لجنة الميدان حول الوجهة المطلوبة هل هي القصر أم وجهات أخرى من بينها البقاء في شارع أفريقيا(المطار) وانتقل ذلك الخلاف لإعلام التجمع الذي كان يمثل المنصة الإعلامية الرئيسية للحرية والتغيير (ساهم انقطاع الانترنت وصعوبة الاتصال في الإرباك ويبدو أن التنسيق بين قيادات الميدان على الأرض والقيادة السياسية لم يكن بالشكل المطلوب)
خ- رغم النقطة السابقة(ح) ذهبت قوى الحرية والتغيير مجدداً للتفاوض وأعادت نفس الممارسات التي تمت ما قبل الثالث من يونيو وسارت على ذات النهج في التنازلات الضارة.
5- دخلت قوى الحرية والتغيير التفاوض - بعد مواكب 30 يونيو 2019- وبدأت في تقديم التنازلات للمكون العسكري، وشهدت المفاوضات هذه المرة على تصاعد خلافاتها، وحتى توقيع الاتفاق السياسي- الذي شهد لاحقاً نكوصاً مريعاً عن بعض بنوده المتفق عليها ذاتها- (17 يوليو 2019) حوصر باتهامات متبادلة حول تفويض ممثل الحرية والتغيير للتوقيع، وهو اتهام لم يتم تفنيده/توضيحه/إثباته من أي جهة. هذه الخلافات هي ما استثمره العسكريون في كل لحظة وسانحة لتفتيت وحدة الحرية والتغيير ولدفعها للتراجع عن المطالب الرئيسية للشارع وهي:
أ- تمثيل عسكري محدود ليس بالنسب ولكن بالأرقام الواضحة المحددة في مجلس سيادي شرفي
ب- نادت أصوات وقيادات في الحرية والتغيير بألا تكون القيادات العسكرية التي تفاوض من ضمن مجلس السيادة، وعلى أن يكون شرفياً ليس اسماً ولكن في مهامه الموضحة والمحددة بدقة، ولم يتم الاستماع لها أو إقناعها
ت- سلطة مدنية كاملة في الجهاز التنفيذي على أن تكون من كفاءات مستقلة ولرئيس الوزراء كامل الحرية في اختيار الشخصيات المؤهلة لذلك، الأمر الذي تم الالتفاف عليه بتوازنات سياسية وضحت في دخول حزبيين لمجلس الوزراء وفي مشاركة العسكر في الاختيار
ث- لجنة تحقيق دولية في مجزرة فض الاعتصام والتي استعيض عنها بلجنة وطنية واجهت العجز المادي والفني
6- دخلت قوى الحرية والتغيير في جدال واسع حول ماهية التمثيل العسكري المحدود كما سادت حالة من الهرج حول نسبة العسكريين في المجلس السيادي وانشغل الشارع لفترة ليست قليلة بهذه المعركة، ولكن وفي نهاية الأمر قبلت الحرية والتغيير بتمثيل متساوٍ للعسكريين والمدنيين مع إضافة شخصية مدنية "ضعيفة" كاختيار مشترك بينهم والعسكريين، ثم وبعد ذلك دخلنا في صراعات محمومة لاختيار العضوية المدنية، وفي نهاية الأمر خضعت الحرية والتغيير لبعضها بمحاصصات واضحة للعيان، وتم تبرير ذلك بأنه اختياراً وفق تقسيم الأقاليم، ولكنه في الحقيقة كان اختياراً وفق هوى الكتل السياسية والضغط من بعضهم على بعض من أجل منع/تثبيت أشخاص بعينهم، وكمثال: كان أن شهد جزءاً من هذا الصراع كل الشعب السوداني والعالم(موثق بالصورة والصوت)، بأن أعلن مكون أنه ينوي الدخول للمجلس السيادي بصفة حزبية مُدعياً أنه لم يلتزم لأحد قبلاً بعدم المشاركة كما اتهم أحزاباً أخرى بالتحايل بترشيح أعضاء في مجلس السيادة مناصرة لهم عبر مكونات أخرى، وقد تهاونت الحرية والتغيير مع ذلك الادعاء ولم تقف عنده، بل جاءت عضوية السيادي لتمثل طيفاً محدداً من الأحزاب
7- تدخلت قوى الحرية والتغيير في اختيارات رئيس الوزراء لمجلسه وذلك بالاتفاق فيما بينهم تواطئاً أو فعلاً، للضغط عليه ليقبل بالقوائم التي وضعتها اللجان المختصة بعد الجرح والتعديل، وتم الدفع بكوادر حزبية معروفة بوصفها كفاءات مستقلة وبعضها لم يكن كذلك وبعضها لا تتناسب قدراته والوزارة المرشح لها، وهنا يجب الاعتراف أنه وبالرغم من ذلك، كانت الحرب الباردة مستعرة فيما بين قوى الحرية والتغيير وبضرب تحت الأحزمة وباستخدام الإعلام والأخبار المصممة لذلك، وكان ضحايا هذه الحرب الوزراء الذين تم تعيينهم في الحكومة الأولى بجميع انتماءاتهم أو حتى المستقلين منهم، وقد شاركت أطراف من قوى الحرية والتغيير في هذه الحملات بصورة منفردة مرات، وثنائية أو ثلاثية في مرات أخرى حسب الأهواء والمصالح، ما أسهم في التشويش على عمل الوزراء وساعد في وضع العراقيل على طريق عملهم، وكان يستخدم في ذلك الإعلام وتدبيج الاتهامات والمحاصرة بالإشاعات، ما عزَّز تشويه صورتهم وأثَّر في أدائهم؛ وقد عجزت الحرية والتغيير بصفتها الحاضنة السياسية عن تقديم أي دعم لهم، حدث ذلك رغم أن هذا العمل كانت تساعد فيه وتوري ناره جهات أخرى منها النظام البائد والعسكريين أنفسهم
8- تنازلت قوى الحرية والتغيير عن لجنة التحقيق الدولية في مجزرة فض الاعتصام وتنازلت كذلك عن لجنة إقليمية أو مختلطة، وتم الاتفاق مع العسكريين على لجنة تحقيق وطنية دون أن يسبق ذلك أو يلحقه التفكير الجاد والعملي في توفير الأرضية الفنية والتأمينية والمساعدات اللوجستية والمادية اللازمة لها، ليبدو وكأن هذا الأمر لم يكن سوى تعهد طارئ يمكن أن يتم نسيانه مع الوقت
9- لم تلتزم قوى الحرية والتغيير بقيام المجلس التشريعي المحدد في الوثيقة الدستورية (90 يوماً بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية) ورغم الضغط الشديد من الشعب الثائر ولجان المقاومة وحتى قواعد حزبية تنتمي للحرية والتغيير ذاتها، لم يتم إنجاز هذا التكليف مطلقاً حتى انقلاب البرهان. ولم توضح القوى المسؤولة أسباب تأخير قيام المجلس التشريعي بشفافية وبشرح وافٍ، ولكن بعض القيادات عزت ذلك التأخير لمجريات اتفاق جوبا للسلام ومطالبة المفاوضين بإرجاء تشكيل المجلس حتى تضمن حصتها فيه؛ أما الاتهام الرئيسي الذي راج كسبب منطقي هو الرغبة في استمرار الحال على ما هو عليه، وعزز ذلك الاتهام أن نفراً من قيادات الحرية والتغيير كانوا يقومون بهذه المهمة( دور المجلس التشريعي) ويتواصلون ويجتمعون مع السلطة التنفيذية والمجلس السيادي ويشاركون في صنع القرارات، وبالتالي ربما ما عاد من مصلحة بعض الأطراف قيام ذلك المجلس، كما أن هناك اتهامات أخرى من ضمنها الهرولة نحو نيل نصيب الأسد في المجلس التشريعي وعرقلة آخرين عن نيل هذا النصيب أو النصيب العادل، فكانت الصراعات سبباً آخراً في تعطيل قيام المجلس، مع التخوُّف المستمر من أن يكون هذا المجلس رقيباً حقيقياً يصعب تفادي رقابته، خاصة مع المطالبة المستمرة بدخول أطراف أخرى فيه كحق مستحق( مثال لذلك ممثلون للجان المقاومة وأحزاب ومكونات ثورية خارج الحرية والتغيير وأفراد غير منتمين حزبياً)
10- تكرر الصراع مرة أخرى في قضية تعيين الولاة، وشهدت بعض الولايات تنازعاً بين مكونات الحرية والتغيير حول مدى الالتزام بالشروط المعلنة لتعيين الولاة، كما شهدت بعض الولايات اتهامات بالتراجع عن الاعتماد على ترشيحات التنسيقيات ولجان قوى الحرية والتغيير الولائية وتم التعيين في بعض الولايات بما يشبه أو هو في الحقيقة محاصصات حزبية بتدخل من المجلس المركزي، وهنا أعلت الحرية والتغيير قرارات المجلس المركزي على قرارات اللجان الولائية حتى يتسنى توزيع الولاة كحصص حزبية
11- شهدت لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال العامة مجموعة من التحديات والمشكلات ومنها:
أ- عدم توفر التمويل الكافي ما ألقى بظلاله على مجمل العمل وكان هناك أعضاء لديهم مقدرة مالية يبذلونها للجنة، فربط البعض بين تصرفاتهم في بعض أعمال اللجنة كمثل تصرفهم في شركة خاصة أو إقطاعية، وبين بذلهم المالي
ب- تأثرت بعض المشاريع المستردة بالشح في تكاليف التشغيل والإدارة
ت- كان بعض الفاعلين في عمل اللجنة يعانون حتى من أجل إيجاد ثمن تذكرة المواصلات أو ثمن الوجبة اليومية
ث- شكلت وزارة المالية عقبة حقيقية في وجه اللجنة، ورغم أنها الوزارة الرئيسية التي يرتبط بها عمل اللجنة، فقد كانت العلاقة سيئة في أغلب الأحيان بين رأس الوزارة واللجنة وذلك لأسباب تعددت بين الارتياب في جدية عمل اللجنة وقدرتها على إنجاز مهامها، والموقف السياسي من عمل اللجنة
ج- تضارب مناهج الإدارة في لجنة الأموال المستردة التي كانت تمثل شراكة بين الوزارة واللجنة
ح- تم توريد أموال وموارد واُعيدت مستردات مربحة لمصلحة وزارة المالية وأنكرتها الوزارة ما زاد من أزمة الثقة بين الوزارة واللجنة
خ- لم يتم تكوين لجنة الاستئنافات التي كان من الواجب تكوينها قبل بدء عمل اللجنة أو بالتزامن مع تكوينها
د- تأثرت اللجنة بالخلافات السياسية والرغبات والطموحات الذاتية، وقد انسحبت باكراً كوادر كان لها أدواراً مهمة في عملية التفكيك لتُعلي بانسحابها الالتزام الحزبي على الالتزام الثوري والوطني
ذ- رغم تحذيرات وتنبيهات لأعضاء من القانونيين بضرورة الالتزام بالانضباط بالشكل والمحتوى القانوني في إخراج القرارات، إلا أن هناك أخطاء شابت عمل اللجنة وصدرت قرارات خاطئة ومتعجلة وغير مدروسة قانونياً بالشكل الكافي
ر- كانت بعض الأخطاء في قرارات الفصل والإحالة للعاملين سببها الوزارات والمؤسسات التي تتبع لها فقد تأثرت بدوافع شخصية وربما انتماءات مريبة لعضوية اللجان الوزارية
ز- نشبت خلافات من وقت لآخر بين اللجنة والنيابة العامة وبودلت الاتهامات من الطرفين وطالت الاتهامات حتى مكتب النيابة التابع للجنة، وراج أن السبب الرئيسي وراء ذلك أن النيابة العامة تضج بمنتمين للمؤتمر الوطني وانتماءات أخرى وهم يحاولون معاكسة عمل اللجنة باستخدام سلطاتهم وباستعمال ثغرات قانونية
س- تكونت بعض اللجان الفرعية والولائية وفق حسابات سياسية، وتم تعيين أفراد ومجموعات لإدارة مشاريع مستردة وهم لم يكن لديهم التأهيل والإمكانيات الكافية لذلك وساهم في ذلك تقصير وزارة المالية عن القيام بدورها في الاستلام والإدارة، وقد حدث هذا لعوامل تتباين بين توفر الثقة أو القربى التنظيمية أو الحزبية أو العلاقات الشخصية مع قيادات اللجنة. كما صحبت عمل اللجنة مجموعة من الأخطاء في العمل التنظيمي والإعلامي والإداري
ش- اكتفى طيف كبير من الثوار بالقيام بالنقد الكسول وإبداء الملاحظات من على البعد وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ولم يحاولوا المساهمة في تطوير عمل اللجنة بشكل فعال وعملي
12- كانت مجموعات وأحزاب تتصارع على لجان المقاومة وتقوم بمحاولة السيطرة عليها برغبة في إدخالها في حظائرها الحزبية كل على حدة وتقريب عضويتها من مؤسسات عامة وفق الهوى الحزبي، وذلك لكي يسهل تنفيذ رغباتها في الشارع بالضغط وقت الحاجة والتراخي وقت اللا حاجة أو على وجه الدقة، لا حاجتهم هم، وهذه المعضلة لم تبرز مؤخراً بل برزت منذ ما قبل السقوط وبدأت تلوح منذ أن كانت لجنة الميدان هي عصب التنظيم للمواكب والعمل الميداني
13- كذلك ساهمت بعض القوى في تأجيج الصراع داخل تجمع المهنيين، الكتلة الأساسية التي ساهمت في قيادة الثورة، وكان هناك موقفاً موحداً بشكل غير مرتب له وليس معلناً حول ضرورة شق وحدة تجمع المهنيين ولكن بوسائل متباينة كل من موقعه وحسب رغبته، وكل ذلك كان من أجل السيطرة عليه وعلى قراره، أو نسفه تماماً إن استعصى تطويعه، وهذه أيضاً معضلة بدأت منذ ما قبل السقوط بالدفع بعناصر حزبية في قيادة التجمع، أو تعطيل صعود آخرين لمواقع قيادية بسبب الخوف من تعارض مواقفهم مع مواقف آخرين، حدث ذلك دون الالتفات للتبعات التي سيجلبها التنازع من أجل تجيير مواقف التجمع لجهة دون الأخرى
14- بعد مساهمة القوى الحزبية في حدوث انقسام المهنيين ودفعها لزيادة الشقة بين أجسامه، لم تسع هذه القوى أو غيرها بجدية لرأب الصدع داخله، بل ذهبت لاستغلال الانقسام، ورغم إعلان المجلس المركزي للحرية والتغيير لاحقاً أنه لن يعيد التجمع للمجلس المركزي إن لم يتوحد، قبل المجلس المركزي طرفاً وأزاح الطرف الآخر تماماً. لقد بدأت مساهمة قوى سياسية في تفكيك تجمع المهنيين منذ ما قبل السقوط، تحت ذريعة التفكير حول كيف هو دور التجمع بعيداً عن السلطة بعد إسقاط النظام البائد، فعوضاً عن تركه ليقرر ويصيغ رؤية لدوره باستقلالية، فتح هذا النوع من التفكير الباب أمام تدخلات مؤذية تلميحاً وتصريحاً وساعد في ذلك وجود انتماء تنظيمي حزبي صارخ لقيادات من تجمع المهنيين
15- لم تسع قوى الحرية والتغيير بجدية للمناقشة والاستماع للمكونات التي ابتعدت بعد الاتفاق السياسي (شباب مقاومة وأحزاب ومهنيين) والتي كانت شريكاً أصيلاً في الثورة بل وبعضهم متقدم عليها في شوارع ديسمبر، وكانوا معاً في المعتقلات والميدان وفي الكر والفر وفي تنسيق وتنظيم الحراك. كان تقدير بعض قوى الحرية والتغيير أن في خروج هؤلاء وابتعادهم مصدر راحة لهم ولحلفائهم من العسكريين وربما حسبوا أن ذلك يعين على استمرار الفترة الانتقالية لنهاياتها دون "منغصات"
16- ساهمت قوى الحرية والتغيير بشدة في تجاوز المجلس السيادي لصلاحياته وكانت تغض الطرف عن ذلك إما: لأن لدى بعض المكونات أعضاء أو أصدقاء أو حلفاء داخله بينهم مدنيين و/أو عسكريين، أو: للتقرب من العسكريين وزيادة درجة التحالف معهم بفرضية أن ذلك سيساعد في دحر الآخرين وإبعادهم وبالتالي نيل أنصبة أكبر في كيكة السلطة
17- كانت مفاوضات السلام أيضاً فرصة سانحة لإصلاحات جدية ولكنها أُهدرت إما لتمرير أجندة خاصة لبعض القوى، أو بأثر الوقوع تحت الابتزاز من بعض الحركات المسلحة، أو لبلوغ نجاحات تصلح للاستعراض السياسي، وقد ساد في فترة نهج الجودية والاتفاقات الثنائية والتي أشارت لها بعض القيادات من الأطراف المختلفة قبل وأثناء وبعد التفاوض، ورغم الوعد بأن ينجز سلاماً خالصاً لأصحاب المصلحة، وبخطة وجداول زمنية دقيقة، تراجعت واستسلمت جميع الأطراف لتوقيع وتنفيذ اتفاق سلام يشبه في طريقته وشكله اتفاقيات المؤتمر الوطني بكل مساوئها
18- وعلى الرغم من أن عدداً من الحركات المسلحة كانت تمثل في الحرية والتغيير وفي تنسيقيتها القيادية عبر كتلة نداء السودان حتى ما قبل السقوط، وعلى الرغم من أن قيادات الحركات كانت مساهمة حتى في مجريات التفاوض مع العسكريين، أصرت هذه الحركات على صياغة اتفاق منفرد بدعوى أن قضية السلام تحتاج للدخول في تفاصيل لا يمكن إجمالها في الاتفاق السياسي بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري، وقد وافقت قيادات من الحرية والتغيير على فصل قضية السلام عن مسار التفاوض مع العسكريين، وعلى أن يعلو الاتفاق مع هذه الحركات- أياً كان شكله ومحتواه- على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية حتى قبل توقيعهما
19- تمت الموافقة قبلاً على الوثيقة الدستورية على الرغم ما بها من نواقص وأخطاء والتي غضت بعض قوى الحرية والتغيير الطرف عنها وحاول البعض التبرير لها، ورغم ذلك ذهبت إلى الموافقة على تعديلها مع الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا (3 أكتوبر 2020) وذلك لأنه يحقق بعض الطموحات والمصالح لأطراف مختلفة مؤثرة، دون النظر للمصلحة النهائية من عملية السلام أو مشروع الثورة والتغيير، ونقضاً للمواثيق التي لم تعد ملك القوى السياسية والعسكريين والحركات وحدهم، ولكنها أصبحت العهد بينهم وبين سائر أفراد الشعب السوداني، كما أصبحت مصدر القوانين التي تتأثر بها حياة المواطن وتحدد علاقته بدولته وبالآخرين
20- كانت أهم التعديلات على الوثيقة الدستورية هي مزيد من التنازل عن الالتزام المسبق في إعلان الحرية والتغيير، ورغم عوار الوثيقة الدستورية الذي أقرت به ولاحظته قيادات سياسية وحزبية وقانونية، لم تتخذ مباحثات السلام كفرصة لتعديل المشكلات داخل الوثيقة ومن ضمنها كيفية اختيار مجلس القضاء والنيابة العامة، بل ذهبت قوى الحرية والتغيير إلى الموافقة على تعديل بعض البنود ومن ضمنها البند الذي يتحدث عن كفاءات مستقلة في السلطة التنفيذية، فتم التعديل لكفاءات وطنية ما سمح بمشاركة قيادات حزبية تنضوي تحت الحرية والتغيير، وما ساهم في مزيد من التنصل عن العهد بعدم المشاركة في السلطة التنفيذية والسيادية في الفترة الانتقالية، وباعد بين الحرية والتغيير وقطاعات واسعة من الشعب السوداني، وسمح كذلك لأعداء التغيير باتهامها بالتنصل عن وعودها. وأيضاً تم الموافقة على أن يُسمح نصاً لبعض ممن سيتسنمون مناصباً في الفترة الانتقالية بالمشاركة في الانتخابات مرة أخرى بعد انقضائها. كل ذلك ساعد على مزيد من التأخير في تكوين المجلس التشريعي والمفوضيات المستقلة المقترحة، بل فتح الباب واسعاً أمام إطالة أمد الفترة الانتقالية لمرة وربما مرات دون مسوغ، وربما يجوز القول إن حكومة بهذا الشكل أصبحت حكومة ائتلاف حزبية غير منتخبة، تتشارك في الجهاز التنفيذي والتشريعي والسيادي.
21- عند الشروع في تشكيل الحكومة الثانية باعتبارها استحقاقات لاتفاقية سلام جوبا، دفعت قوى الحرية والتغيير بقائمة للوزارة تضم القيادات الحزبية وقادة الحركات وقبلها رئيس الوزراء، كذلك تم الضغط من عسكريين وسياسيين وقادة حركات للقبول بهذه القائمة، بل وكي يُقبل بأسماء محددة منها ويستبعد اسماء أخرى، وقد بررت قيادات لذلك بأن وجود قيادات الحركات مع غياب قيادات حزبية من الحرية والتغيير سيشكل عدم توازن، وغفل ذلك الصوت عن أن التمثيل بهذا المعنى عزَّز سيطرة مكونات حزبية بعينها وعزل مكونات أخرى وهذا هو انعدام التوازن الحقيقي والصارخ، كما أن بعض من حصلوا على المناصب الوزارية وفي السيادي أيضاً أغلبهم قيادات الصف الأول في الأحزاب والحركات ما أوغر الصدور حتى داخل الأحزاب والحركات ذاتها بوصف أن هناك عضوية/كفاءات حزبية أكثر قدرة وتأهيلاً ولم تتقدم. تضمنت الترشيحات التي رفعت لرئيس الوزراء أعضاء من القيادات الوسيطة ذات الكفاءة في الأحزاب والحركات ولكن كان المرشح الأول دائماً من الصف الأول في القيادة بغض النظر عن تأهيله المهني والإداري مقارنة بالمرشحين الآخرين
22- دخل أغلب الوزراء (خاصة في وزارة ما بعد اتفاقية جوبا) في تسابق محموم لتوظيف كوادر تتبع لحزب الوزير أو حركته أو المجموعة المقربة منه في مناصب رفيعة في الخدمة المدنية، وكان نتيجة ذلك ظهور حالات ترقى لوصفها بالفساد مع ضعف في الأداء والمتابعة وبطء في إنجاز مهام الوزارات والهيئات والمؤسسات التي تتبع لها
23- أذعنت قوى الحرية والتغيير لتدخل العسكريين في اختيارات الوزراء بالقبول والرفض بذرائع عديدة منها ما هو مفصح عنه وما هو غير ذلك، وقد ظهر هذا التدخل بوضوح مثلاً بادعاء أن تغيير بعض الوزراء هو استجابة لرغبات شعبية، أو عبر فرية الفحص الأمني لعدد من الوزراء الذين تبعاً "لفشلهم" في هذا الفحص، مُنعوا تماماً من الترشح (من هؤلاء وزير شغل المنصب لأكثر من عام دون أن تبرز ورقة الفحص الأمني!). وافقت قوى الحرية والتغيير على مثل هذه الادعاءات على بعض الوزراء وساندت قوى داخلها زعم العسكريين عن عمد، وشايعته قوى أخرى عن غفلة لتنحية هؤلاء الوزراء، وساهمت قوى في منع استمرارهم بالجهر بقبول الادعاءات أو بالصمت التام
24- ابتكرت قوى الحرية والتغيير مجالساً ولجاناً تشارك في صناعة القرار وتتدخل في عمل الجهاز التنفيذي وأشاحت وجهها عن أنها بذلك فتحت المجال للعسكريين للتدخل في الجهاز التنفيذي، وذلك لأن هذه المجالس (مجلس شركاء الانتقال مثالاً والمجلس الأعلى للسلام...الخ) أتاحت الفرصة لمشاركة بعض الأحزاب والأفراد وفقاً لموازين القوى والعلاقات الشخصية في اتخاذ القرارات الكبيرة لتسيير الدولة
25- لم تكن قوى الحرية والتغيير متوافقة كفاية حول قضايا مهمة مثل الاقتصاد والسياسات العامة وتعديل القوانين والمفوضيات، وتنازعت لخلق تأثير في هذه الملفات وتجييرها لمواقف حزبية أو أيدولوجيات محددة وفق تصور بصحتها وصلاحها، وذلك ما جعل التخبط هو سيد الموقف في هذه القضايا وغيرها على طول فترة وجود قوى الحرية والتغيير في الأجهزة الانتقالية، بل وساهم عدم التوافق هذا في جموح وانفلات عقال رغبة التخلص من بعض القوى من جانب قوى أخرى في كل فرصة تتاح لذلك.
26- اسناد رئاسة اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية لشخصية من السيادي جاء كاقتراح من أطراف في الحرية والتغيير بذريعة أن هذا سيسهل عملية ادماج المؤسسات الاقتصادية التي تدار خارج نطاق وزارة المالية، وبفرضية أن هذه الشخصية ستضطر بحكم رئاستها للجنة، للمساهمة في حل المشكلات الاقتصادية من موارد خارج الميزانية العامة الأمر الذي عاد كمثل صفقة خاسرة، فاللجنة كانت فرصة أخرى للتمدد من السيادي على حساب الجهاز التنفيذي كما أنها لم تنجح في تحقيق أبسط المهمات المنتظرة منها
27- تصارعت بعض الأحزاب المنضوية تحت قوى الحرية والتغيير على لجان تسيير النقابات وحاولت السيطرة عليها فنجحت مرات ونجح آخرون كذلك في تحقيق ذات الهدف، وكان ذلك يتم بالتوازي مع التباطؤ في سن قانون النقابات ما أفسح المجال لاضطرابات ونزاعات بين بعض المكونات المهنية، حسبتها بعض القوى تصب في مصلحتها وخططها في تلك الفترة
28- في موضوع العدالة لم تسع قوى الحرية والتغيير بجدية لتحقيقها وساد اتهام مفاده أن في تحقيقها مساءلة للحلفاء العسكريين، وأن داعي ذلك الخوف من مآلات اتهام العسكريين أو الطمع في التمدد في هياكل السلطة بالتقرب منهم، ورغم وجود طرح العدالة الانتقالية وسعي البعض لإحيائها، إلا أن عدم اتفاق قوى الحرية والتغيير على الإسراع بتوفير مطلوباتها وتمرير قانونها لم يرجح كفتها على طاولة الاجتماعات التي تمت طوال الفترة التي سبقت انقلاب البرهان، وكان تعطيلها دافعاً لتطاول أمد لجان التحقيق بمساهمة مقدرة من العسكريين ووسائلهم وأساليبهم، وساعد في ذلك تأخر مجلس الوزراء وضعف متابعته لهذه اللجان بما فيها لجنة فض اعتصام القيادة العامة وغيرها من لجان التحقيق في الأحداث التي شهدتها بعض الولايات وحتى لجنة التحقيق في محاولة اغتيال رئيس الوزراء، وكانت وجهة نظر البعض أن الإصرار على ملاحقة هذه القضايا سيؤثر على استقرار الانتقال.
29- جاءت مبادرة رئيس الوزراء كمحطة أخيرة شهدت تنازعاً كبيراً، فبعض القوى تعاملت معها كمبادرة احتواء لا مبادرة توفيق، والبعض تعامل معها كمبادرة هيمنة لا إنهاء سيطرة، ورفض أفراد الدخول فيها لأن بها شخصيات لا يرغبون هم في وجودهم، وعاد من وافق عليها باتصال رسمي ليرفضها فيما بعد عبر الإعلام ولأسباب واهية، وأحجمت أطراف بل وعارضتها وحاولت تعطيلها لأن المبادرة بدأت في مخاطبة أزمات لهم مصلحة في السكوت عنها، وتشجعت أطراف أخرى عليها وأصرت على استمرار شخصيات متهمة بالانتماء للمؤتمر الوطني في آليتها التنفيذية، بالرغم من أن وجودهم كان السبب الرئيس في رفضها من قطاعات واسعة خاصة لجان المقاومة. واعترضت أطراف في الآلية على بعض العبارات التي وردت في المسودة الأولى لخطاب الآلية وطالبت بحذفها، لأنها حملت إشارات واضحة لبعض المشكلات خاصة المرتبطة بالمكون العسكري، ولكن ورغم ذلك تواجدت بالآلية شخصيات حاولت إزالة عيوبها وتذليل العقبات لإنجاحها واجتهد كثيرون ببذل أفكارهم ووقتهم لتصل لهدفها
30- في خضم أعمال مبادرة رئيس الوزراء نشطت الحرية والتغيير لإعادة هيكلتها وعقدت عدة اجتماعات قبل أن تجتمع مع رئيس الوزراء لتدعوه لحضور إعلان الهيكلة ولتخطره باكتمال تصورها لهذه الهيكلة إيذاناً بإعلان ذلك، وكان حضوراً في هذا الاجتماع مع رئيس الوزراء ممثلاً لمكون امتنع لاحقاً عن حضور الإعلان وأعلن رفضه للهيكلة ذاتها، ومن الغريب أن هذا الممثل أكد في حضور رئيس الوزراء مشاركتهم وموافقتهم، الأمر الذي نكص عنه هو ومكونه دون أن يواجه هذا التصرف بالنقد المعلن والمساءلة
31- لم تخرج قوى الحرية والتغيير للناس ببيان واضح وفي توقيت باكر حول تعطيل العسكريين لاجتماعات المجلس السيادي والاجتماعات المشتركة خلال الفترة التي سبقت الانقلاب الأمر الذي استمر لفترة (غير معروف مداها حتى الآن) ولم يعلن عن ذلك إلا عند تصاعد الأزمة بين أطراف السلطة الانتقالية
32- لم تفسح الحرية والتغيير في الوظائف والنشاطات المتعلقة بأجهزة الانتقال وقيادة الخدمة المدنية لقطاعات الشعب السوداني، بحيث لم تصبح ملكية مشروع التغيير حقاً للسودانيين كافة، بل كانت أغلب المواقع خاصة العليا والوسيطة يتم الترشيح لها وتسنمها عبر التعيين المباشر بذريعة الثقة وبذريعة أن الأكثر ثورية هو الأقدر على الإنجاز والعمل.
هذا بيان موجز ومقتضب عما حدث خلال الفترة المشار إليها في بداية هذا التقرير، وهو عمل قابل للإضافة والتصحيح والتفصيل والتحقيق، كما نتوقع أن يكون صدر الفاعلين والقيادات في الحرية والتغيير رحباً لتقبله وتقبل الأسئلة والاستجواب من جميع أفراد الشعب السوداني حول هذه القضايا والقضايا التي لم تتم الإشارة إليها، وأن تعتبر ما ذكر وتعترف بما وقع وتعتذر عنه بشكل معلن متبعة ذلك بنقد ذاتي جاد وتوبة نصوح عما وقع بقصد أو بغيره ليفيد حاضر ومستقبل بلادنا، فقوى الحرية والتغيير كانت في قلب ركب الثورة التي أطاحت بأسوأ وأعتى نظام شمولي مر على بلادنا، وهي في نهاية الأمر تشكيل من قوى مدنية سلمية لديها تاريخها في مجابهة الدكتاتوريات ولدينا ما نرجوه منها في ترسيخ الديمقراطية، فضلاً عن أن أدوات صراعها حتى في حالة الخلاف فيما بينها والآخرين، ليس من بينها البندقية، بل الجدل والحجة والعمل السياسي بشتى وسائله المعلومة اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الوسائل، أما الانقلاب والانقلابيون فهم من حولوا حالة التدافع الصحية التي تتصحح فيها الأوضاع بالفعل الديمقراطي وبتجويد الممارسة، إلى حالة تسلط غير صحي وعبر القوة العسكرية وإنشاء وتعزيز الفتن والانقلاب الكامل على التجربة ما أدى للانتكاسة التي نعيشها اليوم.
إن الهدف الأسمى مما ورد ليس تجريم أشخاص أو أفراد أو مكونات بعينها فالبشر يخطئون ويصيبون بطبعهم، ولذلك فضَّل الكاتب اعتماد نهج أكثر موضوعية ما أمكن ذلك، بعيداً عن الشخصنة ورمى اللوم على طرف وشخص واسم وجهة دون الأخرى، فهذا النهج يمنع بقدر الإمكان تقييد العمل وحصره فيمن فعل وفيمن لم يفعل، كما وأنه يفتح الباب أمام تقييم جاد وكما يسمح بأن توضع المسؤولية على عاتق الجميع. وقد حاولت جعله كمرآة في غرفة واسعة، كل من وقف أمامها، بمن فيهم شخصي، سيرى نفسه أولاً، ومن ثم سيرى الأشخاص والمتعلقات التي خلفه، فمن أراد رؤية عيوبه والاعتراف بها من أجل إصلاحها فله ذلك ومن أشاح عنها فهذا خياره.
والوطن ومستقبله من وراء القصد
انتهى مؤقتاً
#تجربة_الحرية_والتغيير
baragnz@yahoo.com
كتب: البرَّاق النذير الورَّاق
وإن متنا وما ماتت ضمائرنا فتلك حياة الكائن العابر
ولو فرغ الفؤاد من الطَوَى فذاك الفضل في طي المآثر
ما يجب أن تقوله وتقر به الحرية والتغيير:
(علينا التواثق ومجمل الحركة السياسية، على الاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها والعمل على محاربة أهواء النفوس والرغبات الذاتية في العمل العام في أي زمان ومكان)
(1)
هذه محاولة نقد لتجربة الحرية والتغيير في الانتقال تشمل الفترة من 11 أبريل 2019 وحتى تاريخ انقلاب البرهان وزُمرته (25 أكتوبر 2021). وقد اعتمد هذا العمل الوقوف على محطات ربما عدَّها البعض عمومية في شكلها، وربما عدَّها آخرون ذات دلالات وإشارات مخصوصة في محتواها، بحيث تخدم الخط المطلوب في هذا الظرف الحرج الذي تعيشه بلادنا، فهي بذلك ليست نهائية، بل يجب أن تُتبع بالتفصيل والاسهاب؛ وهي كذلك ليست دعوة لجلد الذات أو معولاً إضافياً لتكسير التيارات الديمقراطية لمصلحة التيارات الظلامية، بل هي محاولة لاستبصار بعض الأسباب والمناسبات التي جعلت الانتقال متعثراً، وبعض الأفعال التي ساهمت في إهالة التراب على مشروع الديمقراطية الناشئ، وهي من ناحية أخرى للتأكيد على أن التيارات الظلامية يهزمها الوضوح مهما حاولت ثلم منافذ النور وأوغلت في تدبير الحيل لإفشاء الظلام.
يُشار في هذه النقاط لإعلان الحرية والتغيير وهو الإعلان السياسي الذي وقَّعت عليه وتبنته وأعلنته في 1/1/2019 عشرات المكونات المهنية والسياسية والمدنية والمطلبية وقوى ثورية أخرى من أجل إسقاط نظام البشير والمؤتمر الوطني والقوى السياسية المتحالفة معه. ويُشار إلى (قوى الحرية والتغيير) وهي عبارة قد تعني المجلس المركزي، أو قد تعنى كتلة من الكتل المكونة للحرية والتغيير، أو قد تعنى مجموعة من الأحزاب أو المكونات داخل هذه الكتل خرجت أو لاتزال موجودة داخل التحالف، ابتعدت أو أُبعدت أو اقتربت بسبب اتفاق/ اختلاف رؤى ومواقف، أو تفاوت التأهيل التنظيمي، أو هشاشة/متانة التكوين، أو خفة الوزن/ثقله في خضم العملية السياسية، وذلك وفق موضع هذه الجملة وفهمها في سياق المراجعة المطلوبة.
وُضعت هذه النقاط في شكل معلومات متبوعة بشيء من التحليل والآراء الخاصة بالكاتب استناداً على: وقائع محددة حدثت، واتهامات صدرت من أطراف تجاه أطراف أخرى، أو من إعلاميين وصحف وناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام أخرى، ولم يتم نفيها أو مناقشتها أو تفنيدها بوضوح. كما تستند النقاط بشكل أساسي على فرضية وجود أخطاء تستوجب الاعتراف والاعتذار والوعد بالمراجعة الجادة في المستقبل، لتحسين شروط التحالفات وترفيع العمل من جميع الفاعلين لإنجاز مهمات الانتقال وصولاً للديمقراطية التامة، خاصة مع بروز الحاجة المُلحِّة لاستعادة زخم الثورة على المستوى السياسي والتنظيمي والجماهيري والإعلامي.
الحقيقة إن ما حدث ولايزال يحدث بين القوى السياسية والذي لابد من الوقوف عنده في مثل هذه السانحة، لا يمكن اعتباره انحداراً مفاجئاً في تاريخ بلادنا السياسي أو غيره؛ للأسف، يبدو أن الصراعات والنزاعات أمراً متوارثاً في مجالات شتى، فخلاف أن التاريخ السياسي يحدثنا عن نزاعات حادة وانقسامات رأسية وأفقية في نطاق العمل السياسي، إلا أن مجالنا الاجتماعي والثقافي وحتى الفني حين النظر لهذا التاريخ والحاضر كذلك، لم يسلم من هذه الآفات والانقسامات، علاوة على أن الخلاف بين الأفراد من الرموز المُبدعة الذين أثَّروا في الناس، وأثْروا هذه المجالات بفضل تعاونهم الصميم وتكاملهم البديع، انحدر لحدود سحيقة في بعض الحالات، كانت أقل آثاره، حرمان المُحبين والمُتحمسين من صُنع الحُسن الأخَّاذ وصياغة الذكرى الوسيمة! على أن مما يجدر قوله إن الخلافات السياسية خاصة في أوضاع هشة كهذه، آثارها أسوأ عاقبة وتبعاتها أكثر كارثية، فهي تتحول لانفراط اجتماعي ونزاعات وحروب، وهذا مشهود ومنظور في الوضع الماثل ولا يحتاج لكثير تفصيل.
إن المطلوب من الجميع مؤسسات ومجموعات وأفراد، ليس التأثر بالضغط ووصول مرحلة اللا مناص من أجل الاعتراف بهذه الاخطاء، بل يحب أن يكون الاعتراف والاعتذار بعده، نتيجة لإيمان عميق بضرورة الانزجار، والالتزام بالمراقبة والتصحيح في المستقبل، بداية من الأفراد وصولاً إلى أي مؤسسة، وبهذا فكل ذي صلة بهذه الوقائع وغيرها، لديه مسؤولية أخلاقية وتاريخية، ليقدم إفادته من أجل نفسه أولاً ومن أجل الشهداء والجرحى وكل من آمن بالتغيير وعمل له بصدق وتجرُّد، ومن أجل الثورة ومستقبل الوطن.
يفترض كاتب هذه النقاط أنها ليست شاملة وليست محيطة بكل مجريات الأحداث في الفترة المُشار إليها، ولكنه يرجو أن يُستفاد منها من أي جهة حادبة على البلاد ومستقبلها، في إطار التقييم والنقد الشامل ووضع أسس للعمل السياسي والتنظيمي والتنفيذي، تهتدى بقيم الديمقراطية والشفافية والعدالة والحقوق، كما يتوقع استكمالها وتصويبها من المجموعات والأفراد المعنيين والمهتمين، خاصة الذين تحصلوا على معلومات تجعل ذلك ممكناً.
هذه النقاط تقع في مقام المسؤولية الشخصية من منطلق أن كاتبها كان جزءاً منها بشخصه وأفعاله ولا يمثل حالياً جهة أو تكويناً أو مجموعة، فهو ليس مراقباً صِرفاً بالمعنى البريء، ولكن مبعثها كذلك الشعور بضرورة تعظيم المسؤولية الجماعية، وبهذا يمكن قراءتها وفق (نظرية موت المؤلف)، بحيث تُؤخذ بغض النظر عمن كتبها وموقعه السابق أو الحالي من هذه الوقائع.
وعلى الرغم من أن الكاتب كان بعيداً عن بعض الأحداث بجسده، وبعيداً عن بعضها بحكم موقعه خارج دائرة الفعل والتأثير، أو وجوده داخل دوائر أخرى تمنعه أخلاقياً أو رسمياً أو مهنياً من التدخل والتصحيح، وعلى الرغم من علمه ببعض الأحداث والوقائع بعد وقوعها أو في لحظة تعذَّر معها الاستدراك، يتقدم الكاتب بالنقد الذاتي والاعتذار العلني لمشاركته، صمته، أو حتى تقصيره، أو إمساكه، عن بذل الجهد لتعديل وتصويب ما علم أو رأى أو سمع أو اعتقد أن به ميلاً أو مفارقة لطريق الثورة ووعد التغيير.
لا ينتظر الكاتب جزاءً ولا شكوراً من هذا العمل، كما لا يدفعه الخوف من اللوم أو الطمع في الرضا من إيراد كل كلمة في هذه الورقة، بل دافعه الأصيل هو استرداد المسار الديمقراطي وهو أكثر عافية، والعمل على تحقيق تطلعات الشهداء والجرحى والثوار وقطاعات الشعب السوداني كافة، ولوجه هذا البلد وتطلُّع أهله للحرية والسلام والعدالة والاستقرار والنماء، كما يترصد المكتوب أن يتحسس العسكريون موضعهم فيما ذُكر، فيستدركون شجاعة تجعلهم يفتدون البلاد بمشروع حقيقي للاستقرار وتماسك البلاد، أو بالمقابل يتَّخذون خيار الاستمرار في المواجهة التي لابد أنها ستكون في صالح الشعب في نهاية المطاف وإن طال المسير والسُّرى.
(2)
عندما قامت اللجنة الأمنية لنظام البشير باستلام السلطة وسمَّت نفسها المجلس العسكري الانتقالي، كانت جموع من السودانيين في ميدان الاعتصام وفي غيره من المواقع داخلياً وخارجياً تنظر إلى الحرية والتغيير كقيادة تثق فيها نسبياً، واعتمدت عليها في تيسير نقل السلطة بشكل سلس يضمن مدنية الدولة كما وعدت بذلك في إعلان الحرية والتغيير الموقَّع والمُعلن في الأول من يناير 2019، وهو الإعلان الذي وحَّد الشعب السوداني خلف مطلب إسقاط نظام المؤتمر الوطني الذي جثم على صدر الوطن لثلاثين سنة. وحقيقة الأمر أن مجاميعاً من الشعب السوداني لم تكن تضع الثقة الكاملة في قوى الحرية والتغيير، بل كانت حالتها أقرب للرجاء بأن تستكمل هذه القوى مهمة تسلم السلطة من اللجنة الأمنية بالشكل الذي تواثقت عليه مع بعضها ومعهم، ولكن قوى الحرية والتغيير عملت على تزيين قدرتها وسط جموع الشعب السوداني بوصفها المُخلِّص والمُنجد، والعامل الناقل الوحيد المؤهل لنزع واستعادة البلاد من سلطة الإنقاذ، وحملها نحو سلطة مرحلية ترفعها إلى مصاف الدول التي تحترم مواطنها وتطلعاته ورغباته في الديمقراطية والحرية والعدالة والسلام المستدام؛ كما طرحت مشاريعاً وأفكاراً وخططاً وتعهدت بوعودٍ، هي في الواقع فوق طاقتها وإمكانياتها. الحقيقة أن الشعب كان يبحث عن الصورة الزاهية التي يحلم بها، لمجتمع محترم ودولة ناهضة عبر قيادة رشيدة، وكانت قوى الحرية والتغيير هي الأقرب لقلبه وأذنه لتحدثه بأن حلمه يتحقق باستماعه لها وإتباعها.
وبدلاً عن مطالبة المجلس العسكري بتسليم السلطة للقيادة الشعبية الثورية، قبلت قوى الحرية والتغيير الجلوس على طاولة التفاوض مع اللجنة الأمنية لنظام البشير وفق مُسماها الجديد (المجلس العسكري الانتقالي) أو المكون العسكري لاحقاً؛ ومهما رُصدت التبريرات لذلك، يظل هذا خطأ ابتدائياً جرَّ ما تلى ذلك من أخطاء ساهمت في وصول البلاد لما هي فيه اليوم، فقد صار العسكريون من يومها شركاء في المنشط وغرماء في المكره وعلى طول الخط.
(3)
كانت جلسات التفاوض وما أعقب ذلك من تطورات وأقوال وأفعال على جميع الأصعدة، مسرحاً مفتوحاً عُرضت عليه مقدرات الشعب السوداني ولم يتم المطلوب من تقدير لدماء الشهداء الذين ارتقوا في درب الثورة، ولم تُعط الأهداف التي تم الاتفاق على إنجازها حق قدرها وذلك للآتي:
1- لم تكن قوى الحرية والتغيير منظمة كفاية ومتماسكة وفق رؤية واضحة وهذا ما جعل المكون العسكري يلعب على اختلافاتها وخلافاتها التي كانت في حقيقتها لأسباب ذاتية، ولحزازات تاريخية وسياسية بينها كتنظيمات سياسية أو مدنية أو مهنية. ما أهملته الحرية والتغيير هو التشديد على أن يصبح التنوع عاملاً مساعداً يسنده الفهم العميق للتحالف الذي يتقيَّد بشروط تشمل: تسبيق ما اتفقت عليه الجماعة المتحالفة على ما التزمه طرف منها، وإعلاء الالتزام بوجهة الجماعة على الوجهة الخاصة بالكيانات المنضوية تحتها (إرجاء لزوم ما لا يلزم وتقديم لزوم ما يلزم في علاقاتها)، وقبول المتحالف الآخر بحسناته وعيوبه، وتقديم الميل للتحالف على الميل منه لأجل تحقيق الهدف من التحالف وليس ضعضعته بالتمترس خلف الأهداف الخاصة، وصولاً إلى آخر المشتركات مقابل المنفردات
2- لم تلتزم بعض هذه القوى بإعلان الحرية والتغيير بالشكل الكامل ولم تضعه كمرجعية أساسية للتفاوض، بل وضعت طموحات وتطلعات وقراءات شخصية محضة لما احتواه من التزامات، بتضخم عالٍ للذوات، وبإحساس عظيم أن لها وصاية على هذا الشعب العظيم وهي بالتالي تعلم ما لا يعلم.
3- مضت قوى الحرية والتغيير في التفاوض بدون تحضير كافٍ له، وشاركت في عملية التفاوض شخصيات كانت هذه أول تجربة لها في عملية مماثلة، ومع تباين قدرات المتفاوضين، كان من السهل على الطرف الآخر أن يستشعر أن بإمكانه الخروج بمكاسب أكبر، علاوة على اعتماد المشاركة في فريق التفاوض بشكل تمثيلي عوضاً عن أن يكون عبر مشاركة وفق (مهام)، وبهذا لم يتم تكوينه بخبرات متنوعة متخصصة وفق الحاجة، فظهر ضعف الجوانب الفنية للفريق التفاوضي، خرج بموجبه اتفاقاً فيه جملة من النواقص، وهذا ساهم في حصول العسكريين على مكاسب وفيرة تمدد بها المكون العسكري في الفعل السياسي، وتوسع في إدارة الدولة لاحقاً بدون أي مسوغ عدا اعتماده على هذه النواقص، ورغبته هو في التمدد وعمله المتواصل لتحقيق مآربه.
4- كانت قوى الحرية والتغيير تتحدث من أعلى المنابر- في الإعلام وعلى منصة الاعتصام وغيرها- عن وعود وعهود، ولكنها كانت تتراجع عنها على طاولات التفاوض وكان التنازل هو الموقف المسيطر في كثير من القضايا ومنها:
أ- عقدت بعض قيادات قوى الحرية والتغيير اجتماعات ثنائية خلال تلك الفترة مع عسكريين وكان يتم الاتفاق معهم على قضايا جوهرية حتى ولو كانت ضد رغبات حلفاء آخرين، أو ضد رغبات الشعب السوداني الثائر والمعتصم في محيط القيادة العامة للجيش في الخرطوم ومواقعه في المدن والولايات الأخرى (اجتماع منزل حجار الذي لا علم لي إن كان بموافقة الحرية والتغيير مجتمعة أم أنه قراراً منفرداً لبعض القيادات، ولكن المؤكد أن الحضور كان يمثل طيفاً من الكتل ولم يكن لكتلة واحدة) وقد وصل الحد أن طالب العسكريون بالتراجع عن مواكب 30 يونيو 2019 الأمر الذي رفضته أطراف من الحرية والتغيير لأسباب أولها أن هذا الأمر ليس بيدهم
ب- كانت الأخطار تواجه الاعتصامات في العاصمة والأقاليم على رأس كل دقيقة، ولم تكن هناك خطة واضحة للحماية أو، لتفريق المعتصمين عند مواجهة الخطر الداهم إلا بتصور مفاده أن الحماية تكون بمزيد من الحشد، وكانت رؤية بعض الأطراف تسيطر عليها البراغماتية بحيث غدا سيل الدماء وثبات المعتصمين يبدو وكأنه دعماً للموقف التفاوضي، وهذا ما جعل كل معاناة للناس ومقاومتهم خلال فترة التفاوض، وكأنها تصب في خانة تدعيم موقف قوى الحرية والتغيير في حال صعوده وهبوطه وتبايناته، ولم تكن بوصلة القرار السياسي الالتزام بما طمح إليه المعتصمون والذي دفعهم للثبات ولبذل أرواحهم وترك مشاغلهم ليجودوا بوقتهم وعرقهم ومالهم من أجل تحقيقه
ت- رغم حدوث المجزرة (3 يونيو 2019) حدثت كثير من التدخلات والمبادرات، وكان المحتوى المطروح معقوداً بمنطق المجتمع الإقليمي والدولي الذي تم فرضه على قوى الحرية والتغيير، عوضاً عما هو خليق بالمجازر والجراحات التي حدثت في فض الاعتصام ومطلوبات الانتقال المعقودة عليها آمال وتطلعات الشعب السوداني، ورغماً عن ذلك كانت قوى الحرية والتغيير ترى في المكون العسكري شريكاً محتملاً بذات شخوصه التي وعدت بحماية الشعب وفشلت... لم تواجه الحرية والتغيير الشعب السوداني بوضوح بما يجري خلف الأبواب، وكانت بعض الأطراف تتحدث بلسانين من أجل الوصول لصيغة اتفاق، وذلك مردَّه وقوعها تحت الضغط ما بين محاولات الإيفاء بمطلوبات الشارع من جانب، وضغط المجتمع الإقليمي والدولي من جانب آخر، وشح النفوس من جانب ثالث
ث- ساهمت قوى الحرية والتغيير في تفكيك بنية الاعتصام وتماسكه استجابة لرغبات العسكريين، ونشرت خريطة (15 مايو 2019) تضع حدوداً للاعتصام وفق اتفاق مع العسكريين، كما نشرت بيانات وتقدمت بأفعال وأقوال ساعدت العسكريين على التبرير لفض الاعتصام بوصف أن بعض أطرافه خارج " الحدود المعلنة"، وقد أشار بعض الثوار في وقتها إلى أن الخريطة غير واضحة، ما يبين أن مسألة وضع حدود للاعتصام لم يكن توجيهاً مقنعاً لثوار دخلوا محيط القيادة في السادس من أبريل وحسبوا أن هذه الأرض كلها لهم وبلا حدود، وأنهم تحت حماية مشتركة بينهم والجيش والقيادة السياسية
ج- ورغم ذلك كانت قيادات الحرية والتغيير تخرج في المنابر الإعلامية وتجرِّم العسكريين، ولم تعترف بخطأ الانسياق لمآربهم، ونتيجة ذلك كانت العودة مجدداً للتفاوض بشروط ظُن أنها ترجح موازين القوى لصالح الحرية والتغيير
ح- جاءت مواكب الثلاثين من يونيو 2019 مؤيدة للحكم المدني الكامل ورافضة لسيطرة العسكريين على السلطة ومطالبة بالعدالة لشهداء فض الاعتصام وحدث خلاف في لجنة الميدان حول الوجهة المطلوبة هل هي القصر أم وجهات أخرى من بينها البقاء في شارع أفريقيا(المطار) وانتقل ذلك الخلاف لإعلام التجمع الذي كان يمثل المنصة الإعلامية الرئيسية للحرية والتغيير (ساهم انقطاع الانترنت وصعوبة الاتصال في الإرباك ويبدو أن التنسيق بين قيادات الميدان على الأرض والقيادة السياسية لم يكن بالشكل المطلوب)
خ- رغم النقطة السابقة(ح) ذهبت قوى الحرية والتغيير مجدداً للتفاوض وأعادت نفس الممارسات التي تمت ما قبل الثالث من يونيو وسارت على ذات النهج في التنازلات الضارة.
5- دخلت قوى الحرية والتغيير التفاوض - بعد مواكب 30 يونيو 2019- وبدأت في تقديم التنازلات للمكون العسكري، وشهدت المفاوضات هذه المرة على تصاعد خلافاتها، وحتى توقيع الاتفاق السياسي- الذي شهد لاحقاً نكوصاً مريعاً عن بعض بنوده المتفق عليها ذاتها- (17 يوليو 2019) حوصر باتهامات متبادلة حول تفويض ممثل الحرية والتغيير للتوقيع، وهو اتهام لم يتم تفنيده/توضيحه/إثباته من أي جهة. هذه الخلافات هي ما استثمره العسكريون في كل لحظة وسانحة لتفتيت وحدة الحرية والتغيير ولدفعها للتراجع عن المطالب الرئيسية للشارع وهي:
أ- تمثيل عسكري محدود ليس بالنسب ولكن بالأرقام الواضحة المحددة في مجلس سيادي شرفي
ب- نادت أصوات وقيادات في الحرية والتغيير بألا تكون القيادات العسكرية التي تفاوض من ضمن مجلس السيادة، وعلى أن يكون شرفياً ليس اسماً ولكن في مهامه الموضحة والمحددة بدقة، ولم يتم الاستماع لها أو إقناعها
ت- سلطة مدنية كاملة في الجهاز التنفيذي على أن تكون من كفاءات مستقلة ولرئيس الوزراء كامل الحرية في اختيار الشخصيات المؤهلة لذلك، الأمر الذي تم الالتفاف عليه بتوازنات سياسية وضحت في دخول حزبيين لمجلس الوزراء وفي مشاركة العسكر في الاختيار
ث- لجنة تحقيق دولية في مجزرة فض الاعتصام والتي استعيض عنها بلجنة وطنية واجهت العجز المادي والفني
6- دخلت قوى الحرية والتغيير في جدال واسع حول ماهية التمثيل العسكري المحدود كما سادت حالة من الهرج حول نسبة العسكريين في المجلس السيادي وانشغل الشارع لفترة ليست قليلة بهذه المعركة، ولكن وفي نهاية الأمر قبلت الحرية والتغيير بتمثيل متساوٍ للعسكريين والمدنيين مع إضافة شخصية مدنية "ضعيفة" كاختيار مشترك بينهم والعسكريين، ثم وبعد ذلك دخلنا في صراعات محمومة لاختيار العضوية المدنية، وفي نهاية الأمر خضعت الحرية والتغيير لبعضها بمحاصصات واضحة للعيان، وتم تبرير ذلك بأنه اختياراً وفق تقسيم الأقاليم، ولكنه في الحقيقة كان اختياراً وفق هوى الكتل السياسية والضغط من بعضهم على بعض من أجل منع/تثبيت أشخاص بعينهم، وكمثال: كان أن شهد جزءاً من هذا الصراع كل الشعب السوداني والعالم(موثق بالصورة والصوت)، بأن أعلن مكون أنه ينوي الدخول للمجلس السيادي بصفة حزبية مُدعياً أنه لم يلتزم لأحد قبلاً بعدم المشاركة كما اتهم أحزاباً أخرى بالتحايل بترشيح أعضاء في مجلس السيادة مناصرة لهم عبر مكونات أخرى، وقد تهاونت الحرية والتغيير مع ذلك الادعاء ولم تقف عنده، بل جاءت عضوية السيادي لتمثل طيفاً محدداً من الأحزاب
7- تدخلت قوى الحرية والتغيير في اختيارات رئيس الوزراء لمجلسه وذلك بالاتفاق فيما بينهم تواطئاً أو فعلاً، للضغط عليه ليقبل بالقوائم التي وضعتها اللجان المختصة بعد الجرح والتعديل، وتم الدفع بكوادر حزبية معروفة بوصفها كفاءات مستقلة وبعضها لم يكن كذلك وبعضها لا تتناسب قدراته والوزارة المرشح لها، وهنا يجب الاعتراف أنه وبالرغم من ذلك، كانت الحرب الباردة مستعرة فيما بين قوى الحرية والتغيير وبضرب تحت الأحزمة وباستخدام الإعلام والأخبار المصممة لذلك، وكان ضحايا هذه الحرب الوزراء الذين تم تعيينهم في الحكومة الأولى بجميع انتماءاتهم أو حتى المستقلين منهم، وقد شاركت أطراف من قوى الحرية والتغيير في هذه الحملات بصورة منفردة مرات، وثنائية أو ثلاثية في مرات أخرى حسب الأهواء والمصالح، ما أسهم في التشويش على عمل الوزراء وساعد في وضع العراقيل على طريق عملهم، وكان يستخدم في ذلك الإعلام وتدبيج الاتهامات والمحاصرة بالإشاعات، ما عزَّز تشويه صورتهم وأثَّر في أدائهم؛ وقد عجزت الحرية والتغيير بصفتها الحاضنة السياسية عن تقديم أي دعم لهم، حدث ذلك رغم أن هذا العمل كانت تساعد فيه وتوري ناره جهات أخرى منها النظام البائد والعسكريين أنفسهم
8- تنازلت قوى الحرية والتغيير عن لجنة التحقيق الدولية في مجزرة فض الاعتصام وتنازلت كذلك عن لجنة إقليمية أو مختلطة، وتم الاتفاق مع العسكريين على لجنة تحقيق وطنية دون أن يسبق ذلك أو يلحقه التفكير الجاد والعملي في توفير الأرضية الفنية والتأمينية والمساعدات اللوجستية والمادية اللازمة لها، ليبدو وكأن هذا الأمر لم يكن سوى تعهد طارئ يمكن أن يتم نسيانه مع الوقت
9- لم تلتزم قوى الحرية والتغيير بقيام المجلس التشريعي المحدد في الوثيقة الدستورية (90 يوماً بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية) ورغم الضغط الشديد من الشعب الثائر ولجان المقاومة وحتى قواعد حزبية تنتمي للحرية والتغيير ذاتها، لم يتم إنجاز هذا التكليف مطلقاً حتى انقلاب البرهان. ولم توضح القوى المسؤولة أسباب تأخير قيام المجلس التشريعي بشفافية وبشرح وافٍ، ولكن بعض القيادات عزت ذلك التأخير لمجريات اتفاق جوبا للسلام ومطالبة المفاوضين بإرجاء تشكيل المجلس حتى تضمن حصتها فيه؛ أما الاتهام الرئيسي الذي راج كسبب منطقي هو الرغبة في استمرار الحال على ما هو عليه، وعزز ذلك الاتهام أن نفراً من قيادات الحرية والتغيير كانوا يقومون بهذه المهمة( دور المجلس التشريعي) ويتواصلون ويجتمعون مع السلطة التنفيذية والمجلس السيادي ويشاركون في صنع القرارات، وبالتالي ربما ما عاد من مصلحة بعض الأطراف قيام ذلك المجلس، كما أن هناك اتهامات أخرى من ضمنها الهرولة نحو نيل نصيب الأسد في المجلس التشريعي وعرقلة آخرين عن نيل هذا النصيب أو النصيب العادل، فكانت الصراعات سبباً آخراً في تعطيل قيام المجلس، مع التخوُّف المستمر من أن يكون هذا المجلس رقيباً حقيقياً يصعب تفادي رقابته، خاصة مع المطالبة المستمرة بدخول أطراف أخرى فيه كحق مستحق( مثال لذلك ممثلون للجان المقاومة وأحزاب ومكونات ثورية خارج الحرية والتغيير وأفراد غير منتمين حزبياً)
10- تكرر الصراع مرة أخرى في قضية تعيين الولاة، وشهدت بعض الولايات تنازعاً بين مكونات الحرية والتغيير حول مدى الالتزام بالشروط المعلنة لتعيين الولاة، كما شهدت بعض الولايات اتهامات بالتراجع عن الاعتماد على ترشيحات التنسيقيات ولجان قوى الحرية والتغيير الولائية وتم التعيين في بعض الولايات بما يشبه أو هو في الحقيقة محاصصات حزبية بتدخل من المجلس المركزي، وهنا أعلت الحرية والتغيير قرارات المجلس المركزي على قرارات اللجان الولائية حتى يتسنى توزيع الولاة كحصص حزبية
11- شهدت لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال العامة مجموعة من التحديات والمشكلات ومنها:
أ- عدم توفر التمويل الكافي ما ألقى بظلاله على مجمل العمل وكان هناك أعضاء لديهم مقدرة مالية يبذلونها للجنة، فربط البعض بين تصرفاتهم في بعض أعمال اللجنة كمثل تصرفهم في شركة خاصة أو إقطاعية، وبين بذلهم المالي
ب- تأثرت بعض المشاريع المستردة بالشح في تكاليف التشغيل والإدارة
ت- كان بعض الفاعلين في عمل اللجنة يعانون حتى من أجل إيجاد ثمن تذكرة المواصلات أو ثمن الوجبة اليومية
ث- شكلت وزارة المالية عقبة حقيقية في وجه اللجنة، ورغم أنها الوزارة الرئيسية التي يرتبط بها عمل اللجنة، فقد كانت العلاقة سيئة في أغلب الأحيان بين رأس الوزارة واللجنة وذلك لأسباب تعددت بين الارتياب في جدية عمل اللجنة وقدرتها على إنجاز مهامها، والموقف السياسي من عمل اللجنة
ج- تضارب مناهج الإدارة في لجنة الأموال المستردة التي كانت تمثل شراكة بين الوزارة واللجنة
ح- تم توريد أموال وموارد واُعيدت مستردات مربحة لمصلحة وزارة المالية وأنكرتها الوزارة ما زاد من أزمة الثقة بين الوزارة واللجنة
خ- لم يتم تكوين لجنة الاستئنافات التي كان من الواجب تكوينها قبل بدء عمل اللجنة أو بالتزامن مع تكوينها
د- تأثرت اللجنة بالخلافات السياسية والرغبات والطموحات الذاتية، وقد انسحبت باكراً كوادر كان لها أدواراً مهمة في عملية التفكيك لتُعلي بانسحابها الالتزام الحزبي على الالتزام الثوري والوطني
ذ- رغم تحذيرات وتنبيهات لأعضاء من القانونيين بضرورة الالتزام بالانضباط بالشكل والمحتوى القانوني في إخراج القرارات، إلا أن هناك أخطاء شابت عمل اللجنة وصدرت قرارات خاطئة ومتعجلة وغير مدروسة قانونياً بالشكل الكافي
ر- كانت بعض الأخطاء في قرارات الفصل والإحالة للعاملين سببها الوزارات والمؤسسات التي تتبع لها فقد تأثرت بدوافع شخصية وربما انتماءات مريبة لعضوية اللجان الوزارية
ز- نشبت خلافات من وقت لآخر بين اللجنة والنيابة العامة وبودلت الاتهامات من الطرفين وطالت الاتهامات حتى مكتب النيابة التابع للجنة، وراج أن السبب الرئيسي وراء ذلك أن النيابة العامة تضج بمنتمين للمؤتمر الوطني وانتماءات أخرى وهم يحاولون معاكسة عمل اللجنة باستخدام سلطاتهم وباستعمال ثغرات قانونية
س- تكونت بعض اللجان الفرعية والولائية وفق حسابات سياسية، وتم تعيين أفراد ومجموعات لإدارة مشاريع مستردة وهم لم يكن لديهم التأهيل والإمكانيات الكافية لذلك وساهم في ذلك تقصير وزارة المالية عن القيام بدورها في الاستلام والإدارة، وقد حدث هذا لعوامل تتباين بين توفر الثقة أو القربى التنظيمية أو الحزبية أو العلاقات الشخصية مع قيادات اللجنة. كما صحبت عمل اللجنة مجموعة من الأخطاء في العمل التنظيمي والإعلامي والإداري
ش- اكتفى طيف كبير من الثوار بالقيام بالنقد الكسول وإبداء الملاحظات من على البعد وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ولم يحاولوا المساهمة في تطوير عمل اللجنة بشكل فعال وعملي
12- كانت مجموعات وأحزاب تتصارع على لجان المقاومة وتقوم بمحاولة السيطرة عليها برغبة في إدخالها في حظائرها الحزبية كل على حدة وتقريب عضويتها من مؤسسات عامة وفق الهوى الحزبي، وذلك لكي يسهل تنفيذ رغباتها في الشارع بالضغط وقت الحاجة والتراخي وقت اللا حاجة أو على وجه الدقة، لا حاجتهم هم، وهذه المعضلة لم تبرز مؤخراً بل برزت منذ ما قبل السقوط وبدأت تلوح منذ أن كانت لجنة الميدان هي عصب التنظيم للمواكب والعمل الميداني
13- كذلك ساهمت بعض القوى في تأجيج الصراع داخل تجمع المهنيين، الكتلة الأساسية التي ساهمت في قيادة الثورة، وكان هناك موقفاً موحداً بشكل غير مرتب له وليس معلناً حول ضرورة شق وحدة تجمع المهنيين ولكن بوسائل متباينة كل من موقعه وحسب رغبته، وكل ذلك كان من أجل السيطرة عليه وعلى قراره، أو نسفه تماماً إن استعصى تطويعه، وهذه أيضاً معضلة بدأت منذ ما قبل السقوط بالدفع بعناصر حزبية في قيادة التجمع، أو تعطيل صعود آخرين لمواقع قيادية بسبب الخوف من تعارض مواقفهم مع مواقف آخرين، حدث ذلك دون الالتفات للتبعات التي سيجلبها التنازع من أجل تجيير مواقف التجمع لجهة دون الأخرى
14- بعد مساهمة القوى الحزبية في حدوث انقسام المهنيين ودفعها لزيادة الشقة بين أجسامه، لم تسع هذه القوى أو غيرها بجدية لرأب الصدع داخله، بل ذهبت لاستغلال الانقسام، ورغم إعلان المجلس المركزي للحرية والتغيير لاحقاً أنه لن يعيد التجمع للمجلس المركزي إن لم يتوحد، قبل المجلس المركزي طرفاً وأزاح الطرف الآخر تماماً. لقد بدأت مساهمة قوى سياسية في تفكيك تجمع المهنيين منذ ما قبل السقوط، تحت ذريعة التفكير حول كيف هو دور التجمع بعيداً عن السلطة بعد إسقاط النظام البائد، فعوضاً عن تركه ليقرر ويصيغ رؤية لدوره باستقلالية، فتح هذا النوع من التفكير الباب أمام تدخلات مؤذية تلميحاً وتصريحاً وساعد في ذلك وجود انتماء تنظيمي حزبي صارخ لقيادات من تجمع المهنيين
15- لم تسع قوى الحرية والتغيير بجدية للمناقشة والاستماع للمكونات التي ابتعدت بعد الاتفاق السياسي (شباب مقاومة وأحزاب ومهنيين) والتي كانت شريكاً أصيلاً في الثورة بل وبعضهم متقدم عليها في شوارع ديسمبر، وكانوا معاً في المعتقلات والميدان وفي الكر والفر وفي تنسيق وتنظيم الحراك. كان تقدير بعض قوى الحرية والتغيير أن في خروج هؤلاء وابتعادهم مصدر راحة لهم ولحلفائهم من العسكريين وربما حسبوا أن ذلك يعين على استمرار الفترة الانتقالية لنهاياتها دون "منغصات"
16- ساهمت قوى الحرية والتغيير بشدة في تجاوز المجلس السيادي لصلاحياته وكانت تغض الطرف عن ذلك إما: لأن لدى بعض المكونات أعضاء أو أصدقاء أو حلفاء داخله بينهم مدنيين و/أو عسكريين، أو: للتقرب من العسكريين وزيادة درجة التحالف معهم بفرضية أن ذلك سيساعد في دحر الآخرين وإبعادهم وبالتالي نيل أنصبة أكبر في كيكة السلطة
17- كانت مفاوضات السلام أيضاً فرصة سانحة لإصلاحات جدية ولكنها أُهدرت إما لتمرير أجندة خاصة لبعض القوى، أو بأثر الوقوع تحت الابتزاز من بعض الحركات المسلحة، أو لبلوغ نجاحات تصلح للاستعراض السياسي، وقد ساد في فترة نهج الجودية والاتفاقات الثنائية والتي أشارت لها بعض القيادات من الأطراف المختلفة قبل وأثناء وبعد التفاوض، ورغم الوعد بأن ينجز سلاماً خالصاً لأصحاب المصلحة، وبخطة وجداول زمنية دقيقة، تراجعت واستسلمت جميع الأطراف لتوقيع وتنفيذ اتفاق سلام يشبه في طريقته وشكله اتفاقيات المؤتمر الوطني بكل مساوئها
18- وعلى الرغم من أن عدداً من الحركات المسلحة كانت تمثل في الحرية والتغيير وفي تنسيقيتها القيادية عبر كتلة نداء السودان حتى ما قبل السقوط، وعلى الرغم من أن قيادات الحركات كانت مساهمة حتى في مجريات التفاوض مع العسكريين، أصرت هذه الحركات على صياغة اتفاق منفرد بدعوى أن قضية السلام تحتاج للدخول في تفاصيل لا يمكن إجمالها في الاتفاق السياسي بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري، وقد وافقت قيادات من الحرية والتغيير على فصل قضية السلام عن مسار التفاوض مع العسكريين، وعلى أن يعلو الاتفاق مع هذه الحركات- أياً كان شكله ومحتواه- على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية حتى قبل توقيعهما
19- تمت الموافقة قبلاً على الوثيقة الدستورية على الرغم ما بها من نواقص وأخطاء والتي غضت بعض قوى الحرية والتغيير الطرف عنها وحاول البعض التبرير لها، ورغم ذلك ذهبت إلى الموافقة على تعديلها مع الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا (3 أكتوبر 2020) وذلك لأنه يحقق بعض الطموحات والمصالح لأطراف مختلفة مؤثرة، دون النظر للمصلحة النهائية من عملية السلام أو مشروع الثورة والتغيير، ونقضاً للمواثيق التي لم تعد ملك القوى السياسية والعسكريين والحركات وحدهم، ولكنها أصبحت العهد بينهم وبين سائر أفراد الشعب السوداني، كما أصبحت مصدر القوانين التي تتأثر بها حياة المواطن وتحدد علاقته بدولته وبالآخرين
20- كانت أهم التعديلات على الوثيقة الدستورية هي مزيد من التنازل عن الالتزام المسبق في إعلان الحرية والتغيير، ورغم عوار الوثيقة الدستورية الذي أقرت به ولاحظته قيادات سياسية وحزبية وقانونية، لم تتخذ مباحثات السلام كفرصة لتعديل المشكلات داخل الوثيقة ومن ضمنها كيفية اختيار مجلس القضاء والنيابة العامة، بل ذهبت قوى الحرية والتغيير إلى الموافقة على تعديل بعض البنود ومن ضمنها البند الذي يتحدث عن كفاءات مستقلة في السلطة التنفيذية، فتم التعديل لكفاءات وطنية ما سمح بمشاركة قيادات حزبية تنضوي تحت الحرية والتغيير، وما ساهم في مزيد من التنصل عن العهد بعدم المشاركة في السلطة التنفيذية والسيادية في الفترة الانتقالية، وباعد بين الحرية والتغيير وقطاعات واسعة من الشعب السوداني، وسمح كذلك لأعداء التغيير باتهامها بالتنصل عن وعودها. وأيضاً تم الموافقة على أن يُسمح نصاً لبعض ممن سيتسنمون مناصباً في الفترة الانتقالية بالمشاركة في الانتخابات مرة أخرى بعد انقضائها. كل ذلك ساعد على مزيد من التأخير في تكوين المجلس التشريعي والمفوضيات المستقلة المقترحة، بل فتح الباب واسعاً أمام إطالة أمد الفترة الانتقالية لمرة وربما مرات دون مسوغ، وربما يجوز القول إن حكومة بهذا الشكل أصبحت حكومة ائتلاف حزبية غير منتخبة، تتشارك في الجهاز التنفيذي والتشريعي والسيادي.
21- عند الشروع في تشكيل الحكومة الثانية باعتبارها استحقاقات لاتفاقية سلام جوبا، دفعت قوى الحرية والتغيير بقائمة للوزارة تضم القيادات الحزبية وقادة الحركات وقبلها رئيس الوزراء، كذلك تم الضغط من عسكريين وسياسيين وقادة حركات للقبول بهذه القائمة، بل وكي يُقبل بأسماء محددة منها ويستبعد اسماء أخرى، وقد بررت قيادات لذلك بأن وجود قيادات الحركات مع غياب قيادات حزبية من الحرية والتغيير سيشكل عدم توازن، وغفل ذلك الصوت عن أن التمثيل بهذا المعنى عزَّز سيطرة مكونات حزبية بعينها وعزل مكونات أخرى وهذا هو انعدام التوازن الحقيقي والصارخ، كما أن بعض من حصلوا على المناصب الوزارية وفي السيادي أيضاً أغلبهم قيادات الصف الأول في الأحزاب والحركات ما أوغر الصدور حتى داخل الأحزاب والحركات ذاتها بوصف أن هناك عضوية/كفاءات حزبية أكثر قدرة وتأهيلاً ولم تتقدم. تضمنت الترشيحات التي رفعت لرئيس الوزراء أعضاء من القيادات الوسيطة ذات الكفاءة في الأحزاب والحركات ولكن كان المرشح الأول دائماً من الصف الأول في القيادة بغض النظر عن تأهيله المهني والإداري مقارنة بالمرشحين الآخرين
22- دخل أغلب الوزراء (خاصة في وزارة ما بعد اتفاقية جوبا) في تسابق محموم لتوظيف كوادر تتبع لحزب الوزير أو حركته أو المجموعة المقربة منه في مناصب رفيعة في الخدمة المدنية، وكان نتيجة ذلك ظهور حالات ترقى لوصفها بالفساد مع ضعف في الأداء والمتابعة وبطء في إنجاز مهام الوزارات والهيئات والمؤسسات التي تتبع لها
23- أذعنت قوى الحرية والتغيير لتدخل العسكريين في اختيارات الوزراء بالقبول والرفض بذرائع عديدة منها ما هو مفصح عنه وما هو غير ذلك، وقد ظهر هذا التدخل بوضوح مثلاً بادعاء أن تغيير بعض الوزراء هو استجابة لرغبات شعبية، أو عبر فرية الفحص الأمني لعدد من الوزراء الذين تبعاً "لفشلهم" في هذا الفحص، مُنعوا تماماً من الترشح (من هؤلاء وزير شغل المنصب لأكثر من عام دون أن تبرز ورقة الفحص الأمني!). وافقت قوى الحرية والتغيير على مثل هذه الادعاءات على بعض الوزراء وساندت قوى داخلها زعم العسكريين عن عمد، وشايعته قوى أخرى عن غفلة لتنحية هؤلاء الوزراء، وساهمت قوى في منع استمرارهم بالجهر بقبول الادعاءات أو بالصمت التام
24- ابتكرت قوى الحرية والتغيير مجالساً ولجاناً تشارك في صناعة القرار وتتدخل في عمل الجهاز التنفيذي وأشاحت وجهها عن أنها بذلك فتحت المجال للعسكريين للتدخل في الجهاز التنفيذي، وذلك لأن هذه المجالس (مجلس شركاء الانتقال مثالاً والمجلس الأعلى للسلام...الخ) أتاحت الفرصة لمشاركة بعض الأحزاب والأفراد وفقاً لموازين القوى والعلاقات الشخصية في اتخاذ القرارات الكبيرة لتسيير الدولة
25- لم تكن قوى الحرية والتغيير متوافقة كفاية حول قضايا مهمة مثل الاقتصاد والسياسات العامة وتعديل القوانين والمفوضيات، وتنازعت لخلق تأثير في هذه الملفات وتجييرها لمواقف حزبية أو أيدولوجيات محددة وفق تصور بصحتها وصلاحها، وذلك ما جعل التخبط هو سيد الموقف في هذه القضايا وغيرها على طول فترة وجود قوى الحرية والتغيير في الأجهزة الانتقالية، بل وساهم عدم التوافق هذا في جموح وانفلات عقال رغبة التخلص من بعض القوى من جانب قوى أخرى في كل فرصة تتاح لذلك.
26- اسناد رئاسة اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية لشخصية من السيادي جاء كاقتراح من أطراف في الحرية والتغيير بذريعة أن هذا سيسهل عملية ادماج المؤسسات الاقتصادية التي تدار خارج نطاق وزارة المالية، وبفرضية أن هذه الشخصية ستضطر بحكم رئاستها للجنة، للمساهمة في حل المشكلات الاقتصادية من موارد خارج الميزانية العامة الأمر الذي عاد كمثل صفقة خاسرة، فاللجنة كانت فرصة أخرى للتمدد من السيادي على حساب الجهاز التنفيذي كما أنها لم تنجح في تحقيق أبسط المهمات المنتظرة منها
27- تصارعت بعض الأحزاب المنضوية تحت قوى الحرية والتغيير على لجان تسيير النقابات وحاولت السيطرة عليها فنجحت مرات ونجح آخرون كذلك في تحقيق ذات الهدف، وكان ذلك يتم بالتوازي مع التباطؤ في سن قانون النقابات ما أفسح المجال لاضطرابات ونزاعات بين بعض المكونات المهنية، حسبتها بعض القوى تصب في مصلحتها وخططها في تلك الفترة
28- في موضوع العدالة لم تسع قوى الحرية والتغيير بجدية لتحقيقها وساد اتهام مفاده أن في تحقيقها مساءلة للحلفاء العسكريين، وأن داعي ذلك الخوف من مآلات اتهام العسكريين أو الطمع في التمدد في هياكل السلطة بالتقرب منهم، ورغم وجود طرح العدالة الانتقالية وسعي البعض لإحيائها، إلا أن عدم اتفاق قوى الحرية والتغيير على الإسراع بتوفير مطلوباتها وتمرير قانونها لم يرجح كفتها على طاولة الاجتماعات التي تمت طوال الفترة التي سبقت انقلاب البرهان، وكان تعطيلها دافعاً لتطاول أمد لجان التحقيق بمساهمة مقدرة من العسكريين ووسائلهم وأساليبهم، وساعد في ذلك تأخر مجلس الوزراء وضعف متابعته لهذه اللجان بما فيها لجنة فض اعتصام القيادة العامة وغيرها من لجان التحقيق في الأحداث التي شهدتها بعض الولايات وحتى لجنة التحقيق في محاولة اغتيال رئيس الوزراء، وكانت وجهة نظر البعض أن الإصرار على ملاحقة هذه القضايا سيؤثر على استقرار الانتقال.
29- جاءت مبادرة رئيس الوزراء كمحطة أخيرة شهدت تنازعاً كبيراً، فبعض القوى تعاملت معها كمبادرة احتواء لا مبادرة توفيق، والبعض تعامل معها كمبادرة هيمنة لا إنهاء سيطرة، ورفض أفراد الدخول فيها لأن بها شخصيات لا يرغبون هم في وجودهم، وعاد من وافق عليها باتصال رسمي ليرفضها فيما بعد عبر الإعلام ولأسباب واهية، وأحجمت أطراف بل وعارضتها وحاولت تعطيلها لأن المبادرة بدأت في مخاطبة أزمات لهم مصلحة في السكوت عنها، وتشجعت أطراف أخرى عليها وأصرت على استمرار شخصيات متهمة بالانتماء للمؤتمر الوطني في آليتها التنفيذية، بالرغم من أن وجودهم كان السبب الرئيس في رفضها من قطاعات واسعة خاصة لجان المقاومة. واعترضت أطراف في الآلية على بعض العبارات التي وردت في المسودة الأولى لخطاب الآلية وطالبت بحذفها، لأنها حملت إشارات واضحة لبعض المشكلات خاصة المرتبطة بالمكون العسكري، ولكن ورغم ذلك تواجدت بالآلية شخصيات حاولت إزالة عيوبها وتذليل العقبات لإنجاحها واجتهد كثيرون ببذل أفكارهم ووقتهم لتصل لهدفها
30- في خضم أعمال مبادرة رئيس الوزراء نشطت الحرية والتغيير لإعادة هيكلتها وعقدت عدة اجتماعات قبل أن تجتمع مع رئيس الوزراء لتدعوه لحضور إعلان الهيكلة ولتخطره باكتمال تصورها لهذه الهيكلة إيذاناً بإعلان ذلك، وكان حضوراً في هذا الاجتماع مع رئيس الوزراء ممثلاً لمكون امتنع لاحقاً عن حضور الإعلان وأعلن رفضه للهيكلة ذاتها، ومن الغريب أن هذا الممثل أكد في حضور رئيس الوزراء مشاركتهم وموافقتهم، الأمر الذي نكص عنه هو ومكونه دون أن يواجه هذا التصرف بالنقد المعلن والمساءلة
31- لم تخرج قوى الحرية والتغيير للناس ببيان واضح وفي توقيت باكر حول تعطيل العسكريين لاجتماعات المجلس السيادي والاجتماعات المشتركة خلال الفترة التي سبقت الانقلاب الأمر الذي استمر لفترة (غير معروف مداها حتى الآن) ولم يعلن عن ذلك إلا عند تصاعد الأزمة بين أطراف السلطة الانتقالية
32- لم تفسح الحرية والتغيير في الوظائف والنشاطات المتعلقة بأجهزة الانتقال وقيادة الخدمة المدنية لقطاعات الشعب السوداني، بحيث لم تصبح ملكية مشروع التغيير حقاً للسودانيين كافة، بل كانت أغلب المواقع خاصة العليا والوسيطة يتم الترشيح لها وتسنمها عبر التعيين المباشر بذريعة الثقة وبذريعة أن الأكثر ثورية هو الأقدر على الإنجاز والعمل.
هذا بيان موجز ومقتضب عما حدث خلال الفترة المشار إليها في بداية هذا التقرير، وهو عمل قابل للإضافة والتصحيح والتفصيل والتحقيق، كما نتوقع أن يكون صدر الفاعلين والقيادات في الحرية والتغيير رحباً لتقبله وتقبل الأسئلة والاستجواب من جميع أفراد الشعب السوداني حول هذه القضايا والقضايا التي لم تتم الإشارة إليها، وأن تعتبر ما ذكر وتعترف بما وقع وتعتذر عنه بشكل معلن متبعة ذلك بنقد ذاتي جاد وتوبة نصوح عما وقع بقصد أو بغيره ليفيد حاضر ومستقبل بلادنا، فقوى الحرية والتغيير كانت في قلب ركب الثورة التي أطاحت بأسوأ وأعتى نظام شمولي مر على بلادنا، وهي في نهاية الأمر تشكيل من قوى مدنية سلمية لديها تاريخها في مجابهة الدكتاتوريات ولدينا ما نرجوه منها في ترسيخ الديمقراطية، فضلاً عن أن أدوات صراعها حتى في حالة الخلاف فيما بينها والآخرين، ليس من بينها البندقية، بل الجدل والحجة والعمل السياسي بشتى وسائله المعلومة اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الوسائل، أما الانقلاب والانقلابيون فهم من حولوا حالة التدافع الصحية التي تتصحح فيها الأوضاع بالفعل الديمقراطي وبتجويد الممارسة، إلى حالة تسلط غير صحي وعبر القوة العسكرية وإنشاء وتعزيز الفتن والانقلاب الكامل على التجربة ما أدى للانتكاسة التي نعيشها اليوم.
إن الهدف الأسمى مما ورد ليس تجريم أشخاص أو أفراد أو مكونات بعينها فالبشر يخطئون ويصيبون بطبعهم، ولذلك فضَّل الكاتب اعتماد نهج أكثر موضوعية ما أمكن ذلك، بعيداً عن الشخصنة ورمى اللوم على طرف وشخص واسم وجهة دون الأخرى، فهذا النهج يمنع بقدر الإمكان تقييد العمل وحصره فيمن فعل وفيمن لم يفعل، كما وأنه يفتح الباب أمام تقييم جاد وكما يسمح بأن توضع المسؤولية على عاتق الجميع. وقد حاولت جعله كمرآة في غرفة واسعة، كل من وقف أمامها، بمن فيهم شخصي، سيرى نفسه أولاً، ومن ثم سيرى الأشخاص والمتعلقات التي خلفه، فمن أراد رؤية عيوبه والاعتراف بها من أجل إصلاحها فله ذلك ومن أشاح عنها فهذا خياره.
والوطن ومستقبله من وراء القصد
انتهى مؤقتاً
#تجربة_الحرية_والتغيير
baragnz@yahoo.com