من مذكرات محامي تحت التمرين .. الدكتور أبو حريرة والمقاضاة في نظام سياسي وقانوني حر
رئيس التحرير: طارق الجزولي
15 August, 2022
15 August, 2022
بعيد مدة ليست طويلة من اجتيازي امتحان تنظيم مهنة القانون (المعادلة)، كانت الفرصة متاحة لي أن أدلف إلى مهنة المحاماة، ومحاولة اكتساب المعرفة العملية في إعداد الدعاوى ومتابعة إجراءات المحاكم والترافع أمامها والاغتراف من فنون المهنة. وكان حظي أن التحقت محامياً تحت التمرين بمكتب الدكتور محمد يوسف أبوحريرة الذي أسسه بالاشتراك مع الأستاذ صلاح عثمان أبوزيد. وقد كان المكتب حديثاً بعض الشيئ، فقد تم إنشاؤه فعلياً بعض أن خرج د. أبوحريرة من وزارة الصادق المهدي الأولى التي تشكلت عقب انتفاضة 1985.
انضم د. أبو حريرة إلى حكومة السيد الصادق وزيراً للتجارة ممثلاً لكتلة الاتحادي الديمقراطي، وكان يمثل أحد الوجوه الشابة في الحكومة بعد تجربة مناسبة في التدريس في كلية القانون بجامعة الخرطوم، حيث اشتهر بالصرامة في أداء مهنته وعمله الأكاديمي، ورغم أني لم أتشرف شخصياً بأن أكون طالباً عنده في القاعة إلا أني عاصرته في الكلية وهو يتولى تدريس الفرق التي سبقتنا، وكانت سمعته الطيبة طاغية في الجامعة. كما أنه كان يشارك مدافعا في عدد من قضايا حقوق الانسان ومن بينها محاكمة البعثيين التي تولى رئاستها القاضي المكاشفي طه الكباشي وتحولت إلى محاكمة فكرية لفكر البعثيين. وكنا وعدد من طلاب الكلية نحرص على حضورها في مجمع محاكم أم درمان، ومتابعة وقائعها.
لم تتوافق السياسة التي سار عليها د. أبوحريرة الوزير، مع مجمل النهج الذي اتبعته حكومته، كما تضاربت مع مصالح كثير من الفئات المتنفذة، وعلى وجه الخصوص طائفة التجار التي عرفت بدعم الحزب الاتحادي الديمقراطي. فقد سعى د. أبو حريرة إلى اتباع منهج يؤدي إلى كسر الاحتكارات المضرة، وتفتيت الطوق الذي أراد إغلاقه أصحاب النفود. ومن أمثلة ذلك أنه فتح الباب لاستيراد الخراف من استراليا بعد أن ارتفعت أسعارها في السودان، ارتفاعاً رأي أنه غير مناسب لا يعكس إلا رغبة التجار في جني الأرباح الطائلة دون وجه حق. كما سعى إلى توحيد الأسعار قدر المستطاع وجعل السلع متاحة للجمهور دون تضخيم أرباح غير مبرر. وقد فجر ذلك غضب الكثيرين من الذين تضررت مصالحهم، فنشبت حملة إعلامية ضخمة عليه في بعض الصحف قادها بعض كتاب الأعمدة الراتبة. ونتج عن ذلك أن حل السيد الصادق المهدي الحكومة ثم شكل حكومة جديدة تخلص فيها من عبء وجود د. أبو حريرة .
بعد خروجه من الوزارة رفع د. أبو حريرة دعاوي عديدة ضد الصحف والكتاب الذين كتبوا عنه، ومن هذه الصحف صحيفة السياسة التي تولى رئاستها السيد خالد فرح، وأخذت النصيب الأكبر من الدعاوى، حيث أن عدداً من كتابها خاضوا في سياسة د. أبو حريرة ويرى أنهم أشانوا سمعته بغير وجه حق. وحينما انضممت إلى المكتب أوكل الأستاذ صلاح عثمان مهمة متابعة هذه القضايا تحت إشرافه المباشر إلي والى زميلي في المكتب محمد خير (البيز)، وكانت مهمة شاقة وممتعة في ذات الوقت، فقد كان يمثل جريدة السياسة المحامي عبد الوهاب (بوب) وهو من قدامى المحامين وصاحب حنكة في أروقة المحاكم، وكان حريصاً على متابعة هذه القضايا نيابة عن صحيفة السياسة بنفسه. وقد عملت في هذه القضايا حيناً من الزمن أساهم في إعداد مذكراتها الأولية ومتابعة مستنداتها وإعدادها إلى مرحلة السماع.
كان المكتب يقع في عمارة ساكتا على بعد قريب من مباني محكمة الخرطوم شمال القديمة، فكان وجودنا لمتابعة هذه القضايا في المحكمة شبه يومي، وبالطبع فقد أكسبتنا هذه الفترة مقدرة مناسبة على التعرف على إجراءات التقاضي المدني والجنائي. وقبل أن تصل هذه الدعاوى إلى مرحلة السماع، كنت قد تركت مكتب الدكتور أبوحريرة وصلاح عثمان محاولاً الاستقلال في مهنة المحاماة، لكن صلتي بالمكتب لم تنقطع. وقد علمت لاحقاً أن الدكتور أبو حريرة تنازل عن هذه الدعاوى بعد انقلاب الانقاذ عام 1989، لتفويت الفرصة على الانقلاب من الاستفادة من هذه القضايا، وهو ما ذكره السيد الصادق المهدي في نعيه للدكتور أبو حريرة بقوله: (ففي عهد الديمقراطية كان الفقيد أبو حريرة قد رفع قضية ضد إحدى الصحف، وعندما عقدت المحكمة للنظر في القضية كان انقلاب 30 يونيو قد أسقط النظام الديمقراطي وأقام نظاما بديلا، وكان رئيس تحرير الصحيفة قد طلبني شاهد دفاع دون أن يخبرني وكنت في السجن، وكانت سلطات النظام الانقلابي الجديد تريد أن تتخذ من المحاكمة وسيلة لمراشقة رجال النظام الديمقراطي فوافقوا على ذهابي للمحكمة للشهادة وأعد المسرح في محكمة الخرطوم بحري لمواجهة كلامية بيني وبين الفقيد الذي فوّت عليهم الفرصة بقوله: لقد تغيرت الظروف التي قدمت فيها بلاغي، ولذا فأنا أسحب الدعوي من أساسها)
رحم الله د. أبو حريرة فلم يكن مجرد متقاضي عادي يسعى لإثبات حق، لكن صاحب مبدأ وخلق يرى أن تدعيم النظام الديمقراطي وتفويت الفرصة على المغامرين السياسيين والعسكريين للنيل منه، أولى من الحصول على حقه الخاص
ابوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com
انضم د. أبو حريرة إلى حكومة السيد الصادق وزيراً للتجارة ممثلاً لكتلة الاتحادي الديمقراطي، وكان يمثل أحد الوجوه الشابة في الحكومة بعد تجربة مناسبة في التدريس في كلية القانون بجامعة الخرطوم، حيث اشتهر بالصرامة في أداء مهنته وعمله الأكاديمي، ورغم أني لم أتشرف شخصياً بأن أكون طالباً عنده في القاعة إلا أني عاصرته في الكلية وهو يتولى تدريس الفرق التي سبقتنا، وكانت سمعته الطيبة طاغية في الجامعة. كما أنه كان يشارك مدافعا في عدد من قضايا حقوق الانسان ومن بينها محاكمة البعثيين التي تولى رئاستها القاضي المكاشفي طه الكباشي وتحولت إلى محاكمة فكرية لفكر البعثيين. وكنا وعدد من طلاب الكلية نحرص على حضورها في مجمع محاكم أم درمان، ومتابعة وقائعها.
لم تتوافق السياسة التي سار عليها د. أبوحريرة الوزير، مع مجمل النهج الذي اتبعته حكومته، كما تضاربت مع مصالح كثير من الفئات المتنفذة، وعلى وجه الخصوص طائفة التجار التي عرفت بدعم الحزب الاتحادي الديمقراطي. فقد سعى د. أبو حريرة إلى اتباع منهج يؤدي إلى كسر الاحتكارات المضرة، وتفتيت الطوق الذي أراد إغلاقه أصحاب النفود. ومن أمثلة ذلك أنه فتح الباب لاستيراد الخراف من استراليا بعد أن ارتفعت أسعارها في السودان، ارتفاعاً رأي أنه غير مناسب لا يعكس إلا رغبة التجار في جني الأرباح الطائلة دون وجه حق. كما سعى إلى توحيد الأسعار قدر المستطاع وجعل السلع متاحة للجمهور دون تضخيم أرباح غير مبرر. وقد فجر ذلك غضب الكثيرين من الذين تضررت مصالحهم، فنشبت حملة إعلامية ضخمة عليه في بعض الصحف قادها بعض كتاب الأعمدة الراتبة. ونتج عن ذلك أن حل السيد الصادق المهدي الحكومة ثم شكل حكومة جديدة تخلص فيها من عبء وجود د. أبو حريرة .
بعد خروجه من الوزارة رفع د. أبو حريرة دعاوي عديدة ضد الصحف والكتاب الذين كتبوا عنه، ومن هذه الصحف صحيفة السياسة التي تولى رئاستها السيد خالد فرح، وأخذت النصيب الأكبر من الدعاوى، حيث أن عدداً من كتابها خاضوا في سياسة د. أبو حريرة ويرى أنهم أشانوا سمعته بغير وجه حق. وحينما انضممت إلى المكتب أوكل الأستاذ صلاح عثمان مهمة متابعة هذه القضايا تحت إشرافه المباشر إلي والى زميلي في المكتب محمد خير (البيز)، وكانت مهمة شاقة وممتعة في ذات الوقت، فقد كان يمثل جريدة السياسة المحامي عبد الوهاب (بوب) وهو من قدامى المحامين وصاحب حنكة في أروقة المحاكم، وكان حريصاً على متابعة هذه القضايا نيابة عن صحيفة السياسة بنفسه. وقد عملت في هذه القضايا حيناً من الزمن أساهم في إعداد مذكراتها الأولية ومتابعة مستنداتها وإعدادها إلى مرحلة السماع.
كان المكتب يقع في عمارة ساكتا على بعد قريب من مباني محكمة الخرطوم شمال القديمة، فكان وجودنا لمتابعة هذه القضايا في المحكمة شبه يومي، وبالطبع فقد أكسبتنا هذه الفترة مقدرة مناسبة على التعرف على إجراءات التقاضي المدني والجنائي. وقبل أن تصل هذه الدعاوى إلى مرحلة السماع، كنت قد تركت مكتب الدكتور أبوحريرة وصلاح عثمان محاولاً الاستقلال في مهنة المحاماة، لكن صلتي بالمكتب لم تنقطع. وقد علمت لاحقاً أن الدكتور أبو حريرة تنازل عن هذه الدعاوى بعد انقلاب الانقاذ عام 1989، لتفويت الفرصة على الانقلاب من الاستفادة من هذه القضايا، وهو ما ذكره السيد الصادق المهدي في نعيه للدكتور أبو حريرة بقوله: (ففي عهد الديمقراطية كان الفقيد أبو حريرة قد رفع قضية ضد إحدى الصحف، وعندما عقدت المحكمة للنظر في القضية كان انقلاب 30 يونيو قد أسقط النظام الديمقراطي وأقام نظاما بديلا، وكان رئيس تحرير الصحيفة قد طلبني شاهد دفاع دون أن يخبرني وكنت في السجن، وكانت سلطات النظام الانقلابي الجديد تريد أن تتخذ من المحاكمة وسيلة لمراشقة رجال النظام الديمقراطي فوافقوا على ذهابي للمحكمة للشهادة وأعد المسرح في محكمة الخرطوم بحري لمواجهة كلامية بيني وبين الفقيد الذي فوّت عليهم الفرصة بقوله: لقد تغيرت الظروف التي قدمت فيها بلاغي، ولذا فأنا أسحب الدعوي من أساسها)
رحم الله د. أبو حريرة فلم يكن مجرد متقاضي عادي يسعى لإثبات حق، لكن صاحب مبدأ وخلق يرى أن تدعيم النظام الديمقراطي وتفويت الفرصة على المغامرين السياسيين والعسكريين للنيل منه، أولى من الحصول على حقه الخاص
ابوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com