لماذا انهارت الدولة المركزية؟

 


 

 

سمها ما شئت، مركزية، نخبوية، صفوية، (ست وخمسينية)، في الأول والأخير لابد من سبر أغوار الانهيار الكامل والشامل للدولة المركزية ذات الملامح المحددة، تلك الوليدة بعد ميلاد استقلال البلاد، فالسودان ليس معزولاً عن نواميس الإنسانية وليس استثناءً مما يدور في كواليس السياسة والحراك المجتمعي الكوني، وبينما نحن نبحر في حيثيات نشوء و(تطور) هذه الدولة الصفوية، علينا الأخذ بعين الاعتبار لفسيفساء الديموغرافيا والتنوع الثقافي والاختلاف المناخي في السودان، هنالك طيف واسع من المهتمين بالشأن السوداني ينطلقون في توصيفهم ونظرتهم لهذا القطر الغني بالتنوع في كل أشياءه، من المنظور التقليدي والأحادي الذي تتخذه النخبة الوارثة لإدارة البلاد بعد أن ترك لها الرجل الأبيض الجمل بما حمل، وهذه الرؤية القاصرة تتمثل في تبني القاعدة المفاهيمية الفقيرة والفطيرة التي تقول: (من ليس معنا فهو ضدنا)، تطابقاً مع قول الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في حربه ضد الإرهاب (إما أن تكون معنا أو مع الإرهاب)، وبناء على هذه الفكرة الأحادية مورست سياسة الاستتباع الثقافي والقمع الفكري الذي راح ضحيته علماء ومفكرون جلاوزة، وهذه الدولة المركزية في تمرحلها وصلت ذروة انسداد الأفق بعد ولوج الاخوان المسلمين لديوان السلطة، بالانقلاب العسكري الذي قاده العسكريون الموالون للحزب الاخواني داخل مؤسسات الجيش.
المساهم الأكبر في استمرار سطوة الدولة المركزية لأكثر من ستين عاماً، هو وجود الداعم القوي لها والمتمثل في حكوماتها المسنودة بمؤسسة الجيش المخترق أولاً، ثم الأحزاب الطائفية ثانياً والتنظيمات الأيدلوجية أخيراً، وطيلة سنين عمرها تتغذى هذه الدولة من هذه الروافد الضامنة لها حيوية الاستمرار، على الرغم من حدوث بعض الشروخ غير العميقة على جدرانها وهي تخطوا خطواتها الأولى في ستينيات القرن السالف، جاءت هذه الصدمات الضعيفة غير المؤثرة من شرائح المجتمعات المستضعفة والمقهورة منذ البدء، فتمرد توريت قبيل رفع العلم وحركتي سوني واللهيب الأحمر وحركة الأنانيا، لم تؤثر هذه التحركات المتمردة على مركزية الدولة القابضة، مثل الأثر الذي أحدثته الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق ديمابيور، وذلك يعزى لسبب رئيسي هو حدوث نقلة نوعية في أعداد المثقفين وخريجي الجامعات غير المقتنعين بأطروحات الأحزاب الطائفية ولا المتقبلين لأفكار التيارات الأيدلوجية الوافدة لسوح الفعل السياسي آنذاك، ففي ثمانينيات القرن العشرين حين تأسست الحركة الشعبية كان الوعي الجمعي للمجتمعات المقهورة وبالأخص سكان جنوب السودان، قد بلغ مبلغاً معتبراً أدى لتمدد شعبي واسع النطاق واستقطاب انتلجنسي، لم تجده الحركات المناهضة لحكومات الدولة المركزية في الخمسينيات والستينيات من نفس القرن، لقد أحدثت حركة قرنق اختراق كبير لم تحدثه الحركات الأخريات، لا سيما بعد أن تسلم مقاليد الحكم الاخوان المسلمين – الجبهة الإسلامية، فغيرة الأحزاب الطائفية تجاه الحزب الديني الوليد والمنافس لها في تسويق ذات البضاعة التي ظلت تسوّقها للبسطاء (المتاجرة بالدين) لم تتوقف إلى أن ولد تحالف التجمع الوطني الديمقراطي.
الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق حظيت بتدافع معارضي نظام حكم الاخوان المسلمين المتعطشين لممارسة السلطة وإقصاء الآخرين، فجاء صيد قرنق الثمين بعد مخرجات مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا، ما جعله يضع يده على المعارضة السودانية – التجمع الوطني الديمقراطي، وكان على قمة ذلك التحالف العريض مولانا محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي وزعيم الطائفة الختمية، ذلك التحالف الذي انضم إليه لاحقاً الراحل الصادق المهدي زعيم الأنصار ورئيس حزب الأمة، ولا ننسى حظوة حركة قرنق بالحراك العسكري الذي أجهزت عليه الجبهة الإسلامية في دارفور، والذي قاده داوود يحي بولاد المهندس الاخواني المتمرد على جماعته، ففي عهد حكم الاخوان وجدت الحركة الشعبية موطيء قدم لها في كل أقاليم السودان، الشيء الذي لم تجده أي حركة متمردة غيرها، وللأمانة وللتاريخ فإن الحركة الشعبية أسهمت إسهام منقطع النظير في نشر الوعي بالاختلالات الهيكلية التي تعاني منها الدولة المركزية، وفي الجانب العسكري توغلت الحركة الشعبية شمالاً داخل أقاليم لم يتاح لحركة جوزيف لاقو – الأنانيا وصولها، ثم أخيراً حققت الحركة الشعبية الهزيمة السياسية (لآخر) حكومة مركزية يقودها الاخوان المسلمين - حزب المؤتمر الوطني المحلول، بمكاسب كبيرة حققتها لها اتفاقية السلام الشامل بضاحية نيفاشا الكينية، فشاركت في حكم السودان النصف بالنصف، ثم استفردت بحكم أقاليم جنوب السودان في فترة انتقالية استمرت ست سنوات، انفصل بعدها الجنوب وذهبت الحركة الشعبية جنوباً لتدير دولتها الوليدة الخارجة للتو من فك الدولة المركزية.
أول بوادر وارهاصات أفول نجم الدولة المركزية بان للعيان بعد أن أخذت الدولة الجنوبية الوليدة أكثر من سبعين بالمئة من مورد البترول، وبعد أن أرهقت خزينة الدولة المركزية مجدداً حروب لا تختلف طابعاً عن حرب الجنوب، فاشتعلت دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وتماهت الدولة المركزية وصفوتها الأحادية التوجه مع المفاهيم القديمة التي أجبرت الجنوبيين للذهاب لحال سبيلهم، فتعنت العقل الصفوي المركزي ولم يرعوي فمشى على ذات الطريق القديمة، وبعد حين تفجّرت ثورة ديسمبر المجيدة التي صفّرت العداد، وأدخلت النخبة الصفوية في تحد آخر فشلت في أن ترتقي معه لمقام التائب من الخطأ القديم، فأخفقت النخبتان المدنية (ممثلة في ذات الأحزاب القديمة) والعسكرية (فلول النظام الجبهوي والاخواني) الذي هزمته الثورة الشعبية السلمية الديسمبرية المجيدة، لقد التف عسكر النظام الاخواني الذين حنوا ظهورهم للعاصفة المدارية الديسمبرية العاتية، فحفروا حفرة واسعة أوقعوا فيها النخبة المدنية في نسختها الجديدة، فكان انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، فعم الإحباط جموع الشعوب السودانية الغفيرة والحزينة، التي كانت تشرئب لعناق المستقبل المشرق للبلد الافريقي الفاحش الثراء، لكنها العقلية الصفوية المتدثرة بكل الجلابيب المزركشة والبيضاء، والمتحولة ظاهرياً ومتجذرة عميقاً في جهاز الدولة منذ العام الأول لاستقلال البلاد، وقفت هذه الصفوة القليلة العدد والعظيمة العدة أمام المشروع الأممي والإقليمي لإخراج البلاد من وهدتها ومن الخسارات الاقتصادية والبشرية التي تكبدتها جراء الانقلاب العسكري الذي وأد كل الإنجازات التي حققتها حكومة الدكتور عبدالله حمدوك.
إنّ الخيل الأصيلة تكتسح خصومها ومنافسيها مع التفاف وانحناء المضمار في الجولة الأخيرة، لم تحسب الصفوة المركزية أي حساب لفرس الرهان الذي أوجس منه الكل خيفة – قوات الدعم السريع – الصنو النديد للجيش، وكما هي العقلية المركزية المؤمنة والواثقة من إذعان وتبعية الأجهزة الأمنية والعسكرية لها، لم يخطر على بالها أن هذه القوات النصيرة سوف تقول لا، وسوف لن تمضي معها قدماً في حماية الانقلاب الفاشل، ولم يدر بخلد الجماعة الاخوانية العسكرية أن يوسف سوف يقف يوماً ما ضد ظلم وطغيان فرعون، فغلّب الجناح الشقيق مصلحة الوطن في كسر الدائرة الخبيثة للحكومات الفاشلة للدولة المركزية، والمعتمدة في بقاءها على فوهة البندقية، فما كان فرعون ليتقبل (عقوق) الابن، فدارت المعارك ودارت الدائرة على فرعون كما هو حال المعركة الأزلية بين الخير والشر، بعد أن دكت الأرض دكاً دكا وجاءت جيوش الشقيق المغاضب و(الشاق) لعصا الطاعة المركزية، من كل حدب وصوب صفاً صفا، وما بين شهر وآخر زالت هيبة الدولة المركزية المبنية على القمع والاخضاع والاكراه، وبدأت ملامح النصر تبدو على وجوه المقهورين والمقهورات اللائي انتهك شرفهن الغول المركزي على مدى ستين عاماً، والآن تجهز هذه القوات الشقيقة على هذا الغول بعد أن أوسع المقهورين ضرباً وسحلاً وسجناً واغتصاباً وقتلاً ورمياً في غياهب جب البحار والأنهار. إنّ ما قدمته هذه القوات الصديقة للشعب المنتهكة كرامته لم تتمكن المشاريع الثائرة في أطراف البلاد من فعله، وحري بنا أن نستذكر بيت الشعر الحكيم للمتنبي: (لا تحقرن صغيراً في مخاصمة...إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد).

إسماعيل عبدالله
5يوليو2023
ismeel1@hotmail.com

 

آراء