ثورة ديسمبر السودانية و شعارها و ليبرالية علي الوردي

 


 

طاهر عمر
15 September, 2023

 

كل يوم يمر يؤكد بأن الشعب السوداني قد كان خبير و أن شعار ثورة ديسمبر الليبرالي حرية سلام و عدالة كان نتاج وعي شعب متقدم على نخبه و لذلك كان شعار الثورة حرية سلام و عدالة يمثل روح الشعب السوداني الذي ينشد الديمقراطية الليبرالية. و غيرها لا يحل أي خطاب سواء كان خطاب أحزاب الطائفية الغائصة في وحل الفكر الديني أو فكر اليسار السوداني الرث الذي ما زال يتوهم في مسألة إضطراد العقل و التاريخ متناسيا الظاهرة الاجتماعية و إفتراض أن الفرد بالضرورة عقلاني و أخلاقي. و بالتالي أن الفلسفة السياسية و الفكر السياسي يتقدم على حتمية الماركسية كما رأينا في تطور المجتمعات الديمقراطية الليبرالية.
هناك مفارقة عجيبة شعب سوداني متقدم على نخبه الفاشلة ينادي بالتحول الديمقراطي و نخب فاشلة تفشل في خلق نموذج لممارسة سياسية عبرها تحقق نظريات النمو الاقتصادي وفقا للنشاط الاقتصادي في النظم الليبرالية التي تؤدي الى توسيع الطبقة الوسطى التي تخدم الطبقات الفقيرة و بالتالي تفضح اليساري السوداني الرث المنتظر لنهاية الصراع الطبقي.
و هنا نريد أن نتحدث عن نظريات النمو الاقتصادي في الفكر الليبرالي التي تؤدي لإتساع الطبقة الوسطى و حينها يقل الفقر في المجتمع الذي يراهن عليه الشيوعي السوداني بأنه قداحة لشعلة ثورة البروليتاريا و إنتصارها الذي لم يحصل منذ أن قدم توكفيل فكره الليبرالي المناهض لماركسية ماركس و قد جاء به ريموند أرون بعد قرن من الزمن ليوضح به فشل ماركسية ماركس التي لا تجذب غير المثقف المنخدع.
و نحن نتحدث عن وهم الماركسي السوداني نحاول كسر الطوق و الشب عنه و أقصد الحلقة المفرغة و محكمة الإغلاق التي تحبس الشيوعي السوداني و أصدقاء الحزب الشيوعي السوداني و أغلبية النخب السودانية غير القادرة على قفزها عن حائط اليسار السوداني الرث الآيل للسقوط في أوهامه عن نهاية الصراع الطبقي و نظرية فائض القيمة متناسيا نظريات النمو الاقتصادي التي تفتح في المجتمعات الحديثة على إتساع الطبقة الوسطة و بالتالي يقل الفقر و تفتح على التقارب الطبقي و التصالح و التضامن و كله بفضل الفعل السياسي الذي يتعامى عنه الشيوعي السوداني بسبب الحتمية.
و عندما نقول أن الفكر الليبرالي أعطى الأفضلية للفكر السياسي هنا ينام سر كساد النخب السودانية التي تجهل تطور الفكر الليبرالي و كيف أن علم إجتماع ماكس فيبر قد أعطى الفكر السياسي الأفضلية على علم الاجتماع و بالتالي يصبح ماركس و أوجست كونت و دوركهايم خارج النموذج. و هنا يتضح لنا لماذا يجهل أغلب النخب السياسية أهمية نظريات النمو الاقتصادي و دورها في خلق طبقة وسطى واسعة تخدم الطبقات الفقيرة في مجتمع ليبرالي سقفه الحرية السياسية و المساواة أمام القانون؟
في فكرة الاقتصاد و المجتمع و عقلانية الرأسمالية في فكر ماكس فيبر تكمن روح الاقتصاد الحر و هذا هو البعد الذي يتعامى عنه الشيوعي السوداني بسبب جهله بمسالة أن الديمقراطية الليبرالية تخلق مجتمع حديث قاعدته المساواة في الحقوق و المساواة أمام القانون و لكن قد نجح الشيوعي السوداني في جعل أغلب النخب السودانية تتجاهل فكرة المساواة أمام القانون و الحق في الحقوق و يمكن تحقيقها في ظل اقتصاد السوق حيث تسود المنافسة الكاملة مع فكرة التدخل الحكومي الذي يضمن مستوى الحد الادنى للدخل بعيدا عن بشاعة النظم الشمولية التي ينادي بها الشيوعي السوداني.
و لهذا نجد أغلب أتباع أحزاب الطائفية و خطابهم الديني بثقافة نتاج خطاب ديني لا يؤمن بالمساواة لأنه ما زال لا يؤمن بالمساواة بين الرجل و المرأة في الميراث و مثل هذه الأفكار تكون كأنساق ثقافية مضمرة تجعله لا يؤمن بالمساواة امام القانون و لا المساواة في الحقوق بين من يظن أنه أغلبية مسلمة و المساكنيين كما يصفهم الصادق المهدي للأقليات و هنا توضح لك أن حديث المثقف السوداني عن عبء الرجل الأبيض و أن الثقافة الغربية ثقافة لا تؤمن بأن الثقافت الأخرى متساوية معها حديث بلا معنى لأن المثقف السوداني الذي يتحدث عن عبء الرجل الأبيض نجده عاجز عن تقديم تفكير نقدي ينتقد عبء الرجل المسلم الذي يمثله الصادق المهدي و يصف الآخريين بأنهم مساكنيين و سيتكرم عليهم بأعطاءهم حقوقهم.
لذلك نجد الصادق المهدي امام الأنصار يقول أن السودان ذو ثقافة إسلامية للأغلبية و بالتالي تتساكن معنا أقليات و لكننا نفكر في إعطاءها حقوقها و غيره كثر بين أتباع الختم و أتباع المرشد فكيف تجلب مثل هذا الأحزاب تحول ديمقراطي لذلك نجدهم يتحدثون عن دولة مدنية و علمانية محابية للأديان و هنا يتورط الشيوعي السوداني في مساندته لمحمد ابراهيم نقد في جبنه و غياب شجاعته لنقد الخطاب الديني.
و ما محاباة محمد ابراهيم نقد للعلمانية المحابية للأديان إلا لأنه يجهل كما يجهل الصادق المهدي أن الحضارات متساوية و ليست هناك شعوب بدائية و بالتالي لا يحق لأتباع الدعوة الإسلامية ممارسة الدعوة في جبال النوبة و تكسير ثقافاتهم و لغاتهم و معتقداتهم لأنه لا أفضلية للكاروري الكوز على الكجور لأن الثقافات متساوية و لا فرق بين الإسلام و الكجور.
و هذا لا يكون بدون الوصول لمستوى فهم يتجاوز الخطاب الديني حيث تصبح الديمقراطية الليبرالية بديلا للفكر للدين و يوم يصل السياسي السوداني لفكرة أن الثقافات متساوية و لا فرق بين الكجور و الاسلام حينها يمكننا أن نحقق تحول ديمقراطي يفتح على ديمقراطية ليبرالية تكون فيها الريادات الوطنية مدركة لأهمية تغيير الثقافت التقليدية و الايمان التقليدي كما هو سائد وسط النخب السودانية و بعدها يطمحل طموح رجل الدين أي الكوز في أن يكون له دور يمكن أن يلعبه في ساحة سياسية إتصفت بعقلانية الفكر الذي يفتح على علمنة المجتمع بلا خوف و لا وجل.
و لهذا نقول لا يمكن أن يكون هناك تحول ديمقراطي إلا يوم تدرك النخب السودانية أن الديمقراطية هي بديلا للفكر الديني أي أن الدين شأن فردي في المجتمعات الحديثة علاقة بين الفرد و ربه أما علاقة الفرد في المجتمع فهي علاقة مباشرة بين الفرد و الدولة لا إعتبار فيها للدين أو العرق او الجهة و هذا الكلام يردده أغلب النخب السودانية و لكنهم في التطبيق يعجزون عن عقلنة الفكر و علمنة المجتمع.
و لا يمكن تجاوز عجز النخب السودانية إلا بحدوث نقلات هائلة تحدث تحول في الفهم يؤدي لإدخال ثقافة مغايرة لثقافة المجتمع السوداني التقليدي و تنعكس في تحوله نحو ثقافة ترفع من مستوى أنتاجيته على كل الصعد و هذا لا يحدث بغير إرتفاع وعي النخب السياسية و إدخالها لفكر نظريات النمو الاقتصادي التي تحدث تحول هائل في المجتمع كما حدث في المجتمعات الغربية في الفترة ما بين 1850 الى عام 1950 كما يقول روستو في نظريته عن النمو الاقتصادي و هو يؤكد بأن حدوث تغيير في المجتمعات التقليدية لا محالة آتي و المسألة مسالة زمن سيأتي مثلما حدث التغير الهائل في المجتمعات الغربية بعد خمسين سنة من الثورة الصناعية.
كانت النتيجة مسألة التحول في المفاهيم و كانت قمتها رسوخ فكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد بسبب الثورة الصناعية و تتجسد في عالمنا اليوم في فكرة الضمان الاجتماعي الذي يفترض فكرة الحد الأدنى للدخل في حفظه لكرامة الانسان و الغريب لا نجد في طرح الأحزاب السودانية من أقصى يسارها الرث الى أقصى يمينها الغارق في وحل الفكر الديني أي طرح يؤسس لفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد مع إحترامها لمعادلة الحرية و العدالة التي تبعد الخطاب الديني و تفتح على ثقافة سياسية تؤدي الى ترسيخ الإستقرار السياسي و الاقتصادي و بالتالي يضمن إستمرارية النظام الليبرالي الديمقراطي و لهذا قلنا يجب أن تكون مسألة نظريات النمو الاقتصادي كحقنة منشطة لوعي النخب السودانية يمكنها أن تفعل ما فعلته الثورة الصناعية في التحولات الهائلة في المفاهيم في المجتمعات الغربية.
بسبب غياب مفهوم الدين التاريخي من أفق النخب السوداني و هذا هو إيمانهم التقليدي الذي يجعلهم يفشلون في التحول الديمقراطي لأن التحول الديمقراطي هو يعني أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للفكر الديني و أعرف أن مفهوم الدولة كمفهوم حديث غائب عن أفق النخب السودانية الفاشلة مثل غياب نظريات النمو الاقتصادي التي تستطيع نقل المجتمع من حيز المجتمعات التقليدية بسبب نقل التجارب الصناعية التي تؤدي لتوسيع الطبقة الوسطى التي تخدم بقية الطبقات الفقيرة و بالتالي تكون إستمرارية الفكر الليبراليى الذي ينطلق من المساواة امام القانون و الحق في الحقوق.
و بالمناسبة هذا الكلام قالوا توكفيل قبل قرنيين أي عام 1830 في نقده للكاثوليك و حينها كانوا يتوهمون كما يتوهم نخب الطائفية و الكيزان بأن الخطاب الديني يمكنه جلب ديمقراطية في السودان و هيهات و نقول اليوم و نعرف أن مسألة فهمه من قبل النخب السياسية الفاشلة في السودان تقارب المستحيل و لكننا نعرف أن ما نقوله سوف يحدث بعد ثلاثة عقود و هي مدى زمني فيها يتبدى التحول في المفاهيم في ظل أجيال لا تتحير في أن الفكر الليبرالي هو الطريق الى تحقيق المساواة أمام القانون و الحق في الحقوق.
و بقى أن نقارن المفارقة العجيبة و هي أن علي الوردي و عكسية علاقته مع النخب السودانية و طردية علاقته مع الشعب السوداني أي أن علي الوردي كان يؤمن بأن الليبرالية هي الحل الوحيد لشعوب تعاني من هشاشة الهياكل و التركيبات الاجتماعية كحال شعوب العالم العربي و الاسلامي و قال للنخب أن تفويت الفرصة لممارسة الديمقراطية الليبرالية سوف يكلفنا إنتظار طويل حتى تحين فرصة أخرى و قد كان قوله في محله.
علي الوردي عندما يتحدث عن الليبرالية يتحدث عن التحول الديمقراطي الذي يهابه المثقف السوداني الذي ما زال تابع للمرشد و الامام و الختم و الاستاذ الشيوعي و هنا تكمن طردية علاقة علي الوردي مع شعار الشعب السوداني أي حرية سلام و عدالة الليبرالي الذي يتطابق مع الليبرالية التي قد دعى لتطبيقها علي الوردي و عكسية العلاقة بين علي الوردي و النخب السودانية التي تدعو للمؤالفة بين العلمانية و الدين أو الذين يدعون لمساومة تاريخية بين يسار سوداني رث و يمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني.
و قد قالها علي الوردي في حديثه عن البداوة و تجذرها في نخب العالم العربي و الاسلامي التقليدي أنها تنتج مثقف يعاني من النشاز الاجتماعي و إزدواج الشخصية و إلا لما ساد عندنا في ساحتنا السودانية سيطرة أحزاب أتباع المرشد و الختم و الامام و الاستاذ الشيوعي و المثقف التقليدي الذي يحاول المؤالفة بين العلمانية و الدين.
بقى أن نعيد أن فكرة كتابة هذا المقال الهدف منها إدخال فكرة و هي دور نظريات النمو الاقتصادي و دورها في توسيع الطبقة الوسطى الخادمة للطبقات الفقيرة في ظل نظام ليبرالي يحترم المنافسة كما هي في السوق الحر مع إمكانية التدخل الحكومي لكي تضمن تحقيق الضمان الاجتماعي و هي فكرة نحاول عبرها مقاومة فكرة الصراع الطبقي التي ينتظر نهايتها الشيوعي السوداني في زمن قد صدر فيه الحكم النهائي في إنتصار الديمقراطية اليبرالية على الشيوعية كما يقول ريموند أرون عن إنتصار الليبرالية على الشيوعية أنه حكم نهائي لا يمكن إستئنافه من قبل الشيوعية.
الشئ الوحيد الذي ننبه له القارئ أن الذي نكتبه الآن يحتاج لزمن طويل ربما يحتاج لثلاثة عقود حتى تظهر نتائجه مع ظهور نخب سودانية تؤمن بمسألة المساواة أمام القانون و الحق في الحقوق و بعدها يمكن أن تتحقق قيم الجمهورية و حينها يكون السياسي السوداني لا يمكنه الوقوع في خطاء الشراكة مع العسكر أو مهادنة رجال الدين من كل شاكلة و لون و يبقى الأهم أن ثقافة الشعب السوداني التقليدية سوف تختفي و تظهر ثقافة تنتصر للعقل و الفرد و الحرية مع إهتمامه بتحقيق إنتاجية عالية تغيير من واقعه المتدني على أفق مستوى المعيشة و ترفع مستوى وعيه بفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد التي لا تحقق إلا عبر ترسيخ فكرة مفهوم الدولة الحديثة و ممارسة السلطة في المجتمعات الحديثة و لا يكون ذلك باليسير بغير إدخال فكرة نظريات النمو الاقتصادي لكي تكون رافعة تخرج الشعب السوداني من هيمنة فكرة الصراع الطبقي التي يروج لها الشيوعي السوداني.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء