غياب الرؤية وأثره على الخطاب السياسي
زين العابدين صالح عبد الرحمن
18 November, 2023
18 November, 2023
أن إشكالية الخطاب السياسي للقوى السياسية السودانية مرده حالة التوهان التي يسببها غياب المشروع السياسي، فهي كأحزاب منفردة أو تحالفات لمجموعات مختلفة من حيث مرجعياتها الفكرية، عجزت أن تطرح مشروعا سياسيا مفصلا يقدم للجمهور، أو أن تطرحه للحوار بينها و القوى السياسية الأخرى. و غياب المشروع نفسه؛ يعود لآن النخب السياسية عاجزة أن تفصح عن أهدافها الرئيسية التي تسعى إليها، و يرجع ذلك لغياب الرؤية. و التي جعلتهم جميعا يميلون لإصدار البيانات التي تعلق على الأحداث دون محاولة لتفنيدها و معرفة مسبباتها. و ليس غريبا أن البيانات تتناقض في حمولاتها من فترة إلي أخرى. حتى أن البيانات لا تحمل أي فكرة يمكن التركيز عليها لكي يجتمع عليها الناس. فكل حدث يخرج له بيان يشرح الحدث و لا يوضح سبب وقوعه و كيف تكون معالجت أثاره.
في لقاء كانت قد أجرته جريدة الخرطوم في 18 ديسمبر 1994م مع استاذ الفكر السياسي المرحوم محمد بشير حامد حول "حالة التوهان بين الحكم المدني و العسكري" يقول مركزا حديثه على القيادات السياسية، (هي التي يمكن أن تلعب دورا مهما انطلاقا من أحزابها، في أن تصبح مؤسسات ديمقراطية، حتى لا يتناقض خطابها بين الدعوة للديمقراطية كنظام للدولة، و بين ممارستها السياسية داخل أحزابها، أن اتساق الخطاب له مدلولات ثقافية، و في نفس الوقت يعد توعوية للجماهير، فالخطاب يقع في تناقض عندما يكون الشعار يطالب بشيء و تكون الممارسة بعيدة عن ذلك.) أن التناقض بين الدعوة و الممارسة لا يؤثر فقط في الخطاب السياسي، أيضا في صدقية القيادات نفسها، الأمر الذي يجعلها تركز فقط على التعليق على الأحداث دون السير في سبر غور المشكل لمعرفة أسباب الفشل، أو العوائق التي تحول دون الوصول للهدف. و هو أيضا السبب الذي يجعلها تعتمد على الخطاب العدائي باستمرار لكي تغطي على أزمتها كقيادة.
أن الإشكالية التي واجهت بناء الدولة السودانية في مراحل النظم السياسية المختلفة بعد الاستقلال، لا تجد هناك رابطا بين التاريخ و الحاضر و المستقبل، كل مرحلة تحاول أن تشكل واقعها بعيدا عن سياقات المراحل الأخرى، و لا تحرص لكي تتعرف على أسباب فشلها، و تقع في ذات الأخطاء السابقة أي تكرار تجربة الخطأ، و يرجع ذلك لآن النخب في كل مرحلة لا تخضع تجربتها للنقد، بل تبحث عن شماعات تعلق عليها أخطائها، حتى لا تتحمل مسؤولية العجز و الفشل. و حتى في المرحلة الواحدة تكثر الأخطاء دون إخضاعها للبحث و الدرسة النقدية. و هذا يعود إما لغياب الرؤية، و الوعي بقضية التحول الديمقراطي و حاجاته و الاستعداد المعرفي و الثقافي له، أو لقصور مفاهيمي عند النخبة نفسها. و معلوم أن إدراك النخب لدورها و سعيها لتوعية الجماهير يجعلها قادرة على إدارة الأزمة من خلال التحكم في خيوطها، و كيفية التعامل مع التحديات التي تواجهها.
أن الحرب الدائرة الآن في البلاد لم تكشف فقط حالة الفرقة في المجتمع و الأحزاب السياسية، بل بينت بشكل واضح؛ أن الديمقراطية لا تحتاج فقط لخطاب سياسي و محاولة تحميل محتواه للجماهير، بل أن المجتمع الذي تريد أن تقيم في عملية التحول الديمقراطي يجب ان تدرسه و تعرف ثقافته. أن معرفة الثقافات تحتاج إلي شغل فكري و توعوي، خاصة إذا كانت هناك ثقافات تتعارض مع الديمقراطية و سيادة القانون، و هذه ظهرت في الحرب الدائرة الآن من خلال عمليات النهب و السرقة و الانتهاكات للأعراض و التطهير العرقي و الإبادة و خطاب العنصرية المتبادل، هذه الثقافة تضرب بقوة على النسيج الاجتماعي و تمزقه، و تحتاج من النخب السياسية أن تركز على العمل الثقافي و الاجتماعي، ليس باعتبارها أدوات للوعظ و الإرشاد و التسلية و الترفيه، لكن من خلال استخدام كل أدوات الفنون و الإبداع من " مسرح – سينما – موسيقى – فنون تشكيلية – غناء و غيرها" باعتبارها الأدوات الأكثر تأثيرا على الجماهير. أن الدولة السودانية منذ تأسيسها لم تنظر لهذا القطاع بصورة جادة و يتم توظيفه من أجل أن يلعب دورا تثقيفيا و توعويا في المجتمع. أن النظم السياسية المتعاقبة جميعها تعتقد أن الثقافة و الفنون ينحصر دورها فقط في عملية الترفيه و التسلية، رغم أنها أكثر الأدوات تأثيرا في خلق الترابط الوجداني في المجتمع.
أن غياب الفكر قد حد من الدور الإيجابي للعملية السياسية في خلق بيئة حوارية بين المجموعات المختلفة، و الحوار يقرب المسافات بين المختلفين، و في نفس الوقت كما ذكرت تكررا يقلل فرص بروز العنف في المجتمع، كما أن الحوار يعطي فرص أوسع للعناصر التي تمتلك قدرات معرفية و تثقيفية أن تقدم ما عندها من أفكار، و هي قادرة على أن توظفها من أجل عملية معالجة السلبيات في المجتمع، و في ذات الوقت أن توسع قاعدة المشاركة. لآن الحوار و توسيع قاعدة المشاركة في الفكرة تجعل الكل مرتبط بأجندة الوطن و ليس الأجندة الخاصة، و الحزبية الضيقة. و في ذالك الوقيت سوف يتسق الخطاب السياسي مع الفكرة، و لا يقع في المتناقضات. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
في لقاء كانت قد أجرته جريدة الخرطوم في 18 ديسمبر 1994م مع استاذ الفكر السياسي المرحوم محمد بشير حامد حول "حالة التوهان بين الحكم المدني و العسكري" يقول مركزا حديثه على القيادات السياسية، (هي التي يمكن أن تلعب دورا مهما انطلاقا من أحزابها، في أن تصبح مؤسسات ديمقراطية، حتى لا يتناقض خطابها بين الدعوة للديمقراطية كنظام للدولة، و بين ممارستها السياسية داخل أحزابها، أن اتساق الخطاب له مدلولات ثقافية، و في نفس الوقت يعد توعوية للجماهير، فالخطاب يقع في تناقض عندما يكون الشعار يطالب بشيء و تكون الممارسة بعيدة عن ذلك.) أن التناقض بين الدعوة و الممارسة لا يؤثر فقط في الخطاب السياسي، أيضا في صدقية القيادات نفسها، الأمر الذي يجعلها تركز فقط على التعليق على الأحداث دون السير في سبر غور المشكل لمعرفة أسباب الفشل، أو العوائق التي تحول دون الوصول للهدف. و هو أيضا السبب الذي يجعلها تعتمد على الخطاب العدائي باستمرار لكي تغطي على أزمتها كقيادة.
أن الإشكالية التي واجهت بناء الدولة السودانية في مراحل النظم السياسية المختلفة بعد الاستقلال، لا تجد هناك رابطا بين التاريخ و الحاضر و المستقبل، كل مرحلة تحاول أن تشكل واقعها بعيدا عن سياقات المراحل الأخرى، و لا تحرص لكي تتعرف على أسباب فشلها، و تقع في ذات الأخطاء السابقة أي تكرار تجربة الخطأ، و يرجع ذلك لآن النخب في كل مرحلة لا تخضع تجربتها للنقد، بل تبحث عن شماعات تعلق عليها أخطائها، حتى لا تتحمل مسؤولية العجز و الفشل. و حتى في المرحلة الواحدة تكثر الأخطاء دون إخضاعها للبحث و الدرسة النقدية. و هذا يعود إما لغياب الرؤية، و الوعي بقضية التحول الديمقراطي و حاجاته و الاستعداد المعرفي و الثقافي له، أو لقصور مفاهيمي عند النخبة نفسها. و معلوم أن إدراك النخب لدورها و سعيها لتوعية الجماهير يجعلها قادرة على إدارة الأزمة من خلال التحكم في خيوطها، و كيفية التعامل مع التحديات التي تواجهها.
أن الحرب الدائرة الآن في البلاد لم تكشف فقط حالة الفرقة في المجتمع و الأحزاب السياسية، بل بينت بشكل واضح؛ أن الديمقراطية لا تحتاج فقط لخطاب سياسي و محاولة تحميل محتواه للجماهير، بل أن المجتمع الذي تريد أن تقيم في عملية التحول الديمقراطي يجب ان تدرسه و تعرف ثقافته. أن معرفة الثقافات تحتاج إلي شغل فكري و توعوي، خاصة إذا كانت هناك ثقافات تتعارض مع الديمقراطية و سيادة القانون، و هذه ظهرت في الحرب الدائرة الآن من خلال عمليات النهب و السرقة و الانتهاكات للأعراض و التطهير العرقي و الإبادة و خطاب العنصرية المتبادل، هذه الثقافة تضرب بقوة على النسيج الاجتماعي و تمزقه، و تحتاج من النخب السياسية أن تركز على العمل الثقافي و الاجتماعي، ليس باعتبارها أدوات للوعظ و الإرشاد و التسلية و الترفيه، لكن من خلال استخدام كل أدوات الفنون و الإبداع من " مسرح – سينما – موسيقى – فنون تشكيلية – غناء و غيرها" باعتبارها الأدوات الأكثر تأثيرا على الجماهير. أن الدولة السودانية منذ تأسيسها لم تنظر لهذا القطاع بصورة جادة و يتم توظيفه من أجل أن يلعب دورا تثقيفيا و توعويا في المجتمع. أن النظم السياسية المتعاقبة جميعها تعتقد أن الثقافة و الفنون ينحصر دورها فقط في عملية الترفيه و التسلية، رغم أنها أكثر الأدوات تأثيرا في خلق الترابط الوجداني في المجتمع.
أن غياب الفكر قد حد من الدور الإيجابي للعملية السياسية في خلق بيئة حوارية بين المجموعات المختلفة، و الحوار يقرب المسافات بين المختلفين، و في نفس الوقت كما ذكرت تكررا يقلل فرص بروز العنف في المجتمع، كما أن الحوار يعطي فرص أوسع للعناصر التي تمتلك قدرات معرفية و تثقيفية أن تقدم ما عندها من أفكار، و هي قادرة على أن توظفها من أجل عملية معالجة السلبيات في المجتمع، و في ذات الوقت أن توسع قاعدة المشاركة. لآن الحوار و توسيع قاعدة المشاركة في الفكرة تجعل الكل مرتبط بأجندة الوطن و ليس الأجندة الخاصة، و الحزبية الضيقة. و في ذالك الوقيت سوف يتسق الخطاب السياسي مع الفكرة، و لا يقع في المتناقضات. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com