جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (4 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
22 November, 2023
22 November, 2023
shurkiano@yahoo.co.uk
كان الحجَّاج السُّودانيُّون قبيل الاستقلال يُطلقون عليهم اسم التكارنة في مكَّة المكرَّمة، والتكارنة هم شعوب غرب إفريقيا الذين كانوا يسافرون لأداء مناسك الحج عن طريق السُّودان، ثمَّ يُحسبون عليه، بل ضاع اسم السُّودان، وطغى اسمهم، وكان الاستعمار البريطاني في السُّودان يمنحهم جوازات حج سُّودانيَّة. يذكر خضر حمد (1908-1970م)، الذي اختير أميراً للحج العام 1954م، أنَّه بذل جهداً ليوضِّح الفرق بين السُّودانيين والتكارنة، ويشرح عروبة السُّودانيين. ولا نحسب أنَّ هناك ثمة فرقاً كبيراً أو قليلاً بين السُّودانيين من جهة، والتكارنة من جهة أخرى؛ وإذا كان هناك من ثمة فرق في شيء لما وجد السعوديُّون المشقة الشاقة في العثور عليه، والوقوف عنده. أما العروبة المزعومة التي حاول السيِّد خضر حمد الخوض فيها مع الخائضين أيَّامئذٍ ففي هذا الأمر يقبع أس البلاء في السُّودان. كان خضر حمد برغم من شلوخه الشايقيَّة السُّودانيَّة المميَّزة قد سعي سعياً حثيثاً لربط أواصر السُّودانيين بأواصر العرب، وحاول أن يقول "لكل عربي نحن هنا عربٌ مثلكم، تراثنا تراثكم، وتاريخنا تاريخكم، وليس العبرة بالوضع الجغرافي، ولكنها بالتاريخ والتراث والدم."
وقد ذهب خضر حمد في تبريراته المخيَّلة في ذهنه قائلاً: "إنَّ السُّودانيين عرب أقحاح لا يتكلمون غير العربيَّة، ولا يدينون بغير الإسلام، وإنَّ هذا الخلط بين السُّودانيين والتكارنة لأمر نتأذَّى منه كثيراً." بهذا النكران للذوات السُّودانيَّة الأخرى، لغة وديناً وثقافة، كان خضر حمد يكابد نفسه في إلباس أهل السُّودان كافة ثوب العروبة، وأن يستعرض ما نفخ فيهم من روح الإسلام. كذلك كان يظن و"إنَّ بعض الظن إثمٌ" (الحجرات: 49/12). التكارنة هم النيجيريُّون الذين استوطنوا في السُّودان. إزاء ذلك الاستيطان ليسوا أفارقة فحسب، بل مسلمين، حيث أخذوا يشاركون السُّودانيين في المساكن والمعابد، ومع ذلك باتوا ينظرون إليهم باحتقار. بما أنَّ الإسلام لا يفرِّق بين معتنقيه على أساس الأصول الإثنيَّة، كان من المفترض أن يكون قد جمع وأوعى بين هؤلاء التكارنة والسُّودانيين المستعربين إخوة في الله. علاوة على أنَّ التكارنة ارتبطوا بالثقافة الإسلاميَّة التي يتبنَّاها أهل الشمال، كان ينبغي ألا تشكِّل ثقافتهم الفرعيَّة إعاقة في سبيل الاندماج في المجتمع السُّوداني، أو الاعتراف بهم من قبل النخبة السُّودانيَّة كسواسية.
لا نظن الظن الذي يرقي إلى اليقين بأنَّ تاريخ السُّودان هو ذاته تاريخ شبه الجزيرة العربيَّة سواء قبل الإسلام أو في فجر الإسلام أو في ضحى الإسلام؛ ولا تراث أهل السُّودان هو نفسه تراث وتقاليد وعادات أهل نجد وتهامة وعسير، أو عرب بلاد الرافدين، أو حتى أهل الشام في الهلال الخصيب، الذين اختلطوا بشيء من الفينيقيين والأتراك وغيرهم. وإذا كانت هناك ثمة دماءً عربيَّة قليلة ظلَّت تسيل في بعض أعراق أهل السُّودان، فلا يمكن تعميمها على كل أرجاء البلاد كثقافة قاهرة، وسلطة سياسيَّة طاغية، وديانة شاملة. إنَّ اعتناق الإسلام والتحدُّث باللغة العربيَّة لا يجعلان من السُّوداني عربيَّاً، بل سيظل سودانيَّاً؛ كما أنَّ اعتناق المسيحيَّة والتحدُّث باللغة الإنجليزيَّة لا يجعلان من المواطن الأمريكي إنجليزيَّاً، بل سوف يظل أمريكيَّاً؛ وكذلك البرازيلي الذي يتكلَّم اللغة البرتغاليَّة لا يمكن أن يدَّعي بأنَّه برتغالي، بل هو برازيلي؛ وهكذا يجري الأمر على جميع سكان القارة الأمريكيَّة اللاتينيَّة الذين يتحدَّثون بالأسبانيَّة، فهم ليسوا بأسبان في شيء، ولكنهم ينتمون إلى تراب بلدانهم التي هم فيها نشأوا وترعرعوا، برغم من أنَّ أجدادهم قد هاجروا إلى هذا المستعمرات الجديدة، واستوطنوا فيها منذ حقبٍ سحيقة.
الحال كذلك فإنَّ الإسكتلنديين الذين يتحدَّثون بالإنجليزيَّة، وثقافتهم لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن ثقافة الإنكليز، وهم جزء لا يتجزأ من بريطانيا العظمي، لا يرضون أن يُقال لهم إنكليز، بل يغتاظون من ذلك أشد الغيظ، لأنَّهم إسكوتلنديُّون؛ وأهل ويلز كذلك الذين يتكلَّمون الإنكليزيَّة ويعتزون بلغتهم الويلزيَّة، وهي اللغة الثانية في مملكة ويلز، لا يرضون أن يُشار إليهم بالإنكليز، بل هم ويلزيُّون. كذلك الدول الفرانكوفونيَّة، التي تتحدَّث باللغة الفرنسيَّة في إفريقيا، فإنَّ مواطنيها ليسوا بفرنسيين في شيء، بل هم أفارقة ينتمون إلى دولهم في القارة الإفريقيَّة، ثم كذلك الأنجلوفونيُّون، أي أهل الدول الناطقة بالإنجليزيَّة، فهم ليسوا بإنكليز في شيء، بل أفارقة أقحاح. وهل أنبئكم بالبوير، أي المزارعون الهولنديُّون، الذين استوطنوا في جنوب إفريقيا منذ القرن السابع عشر من الميلاد، فلم يقولوا إنَّهم هولنديُّون، بل تبنوا هُويَّة جديدة نابعة من الأرض التي احتوتهم، وأطلقوا على أنفسهم الأفريقان أو الأفريكان، وكذلك على لغتهم الأفريكانيَّة التي يتحدَّثون بها، والاسم المحلي للغة هو "أفريكانس"، والتي تعني بالهولنديَّة "إفريقي".
للمقال بقايا باقيات،،،
كان الحجَّاج السُّودانيُّون قبيل الاستقلال يُطلقون عليهم اسم التكارنة في مكَّة المكرَّمة، والتكارنة هم شعوب غرب إفريقيا الذين كانوا يسافرون لأداء مناسك الحج عن طريق السُّودان، ثمَّ يُحسبون عليه، بل ضاع اسم السُّودان، وطغى اسمهم، وكان الاستعمار البريطاني في السُّودان يمنحهم جوازات حج سُّودانيَّة. يذكر خضر حمد (1908-1970م)، الذي اختير أميراً للحج العام 1954م، أنَّه بذل جهداً ليوضِّح الفرق بين السُّودانيين والتكارنة، ويشرح عروبة السُّودانيين. ولا نحسب أنَّ هناك ثمة فرقاً كبيراً أو قليلاً بين السُّودانيين من جهة، والتكارنة من جهة أخرى؛ وإذا كان هناك من ثمة فرق في شيء لما وجد السعوديُّون المشقة الشاقة في العثور عليه، والوقوف عنده. أما العروبة المزعومة التي حاول السيِّد خضر حمد الخوض فيها مع الخائضين أيَّامئذٍ ففي هذا الأمر يقبع أس البلاء في السُّودان. كان خضر حمد برغم من شلوخه الشايقيَّة السُّودانيَّة المميَّزة قد سعي سعياً حثيثاً لربط أواصر السُّودانيين بأواصر العرب، وحاول أن يقول "لكل عربي نحن هنا عربٌ مثلكم، تراثنا تراثكم، وتاريخنا تاريخكم، وليس العبرة بالوضع الجغرافي، ولكنها بالتاريخ والتراث والدم."
وقد ذهب خضر حمد في تبريراته المخيَّلة في ذهنه قائلاً: "إنَّ السُّودانيين عرب أقحاح لا يتكلمون غير العربيَّة، ولا يدينون بغير الإسلام، وإنَّ هذا الخلط بين السُّودانيين والتكارنة لأمر نتأذَّى منه كثيراً." بهذا النكران للذوات السُّودانيَّة الأخرى، لغة وديناً وثقافة، كان خضر حمد يكابد نفسه في إلباس أهل السُّودان كافة ثوب العروبة، وأن يستعرض ما نفخ فيهم من روح الإسلام. كذلك كان يظن و"إنَّ بعض الظن إثمٌ" (الحجرات: 49/12). التكارنة هم النيجيريُّون الذين استوطنوا في السُّودان. إزاء ذلك الاستيطان ليسوا أفارقة فحسب، بل مسلمين، حيث أخذوا يشاركون السُّودانيين في المساكن والمعابد، ومع ذلك باتوا ينظرون إليهم باحتقار. بما أنَّ الإسلام لا يفرِّق بين معتنقيه على أساس الأصول الإثنيَّة، كان من المفترض أن يكون قد جمع وأوعى بين هؤلاء التكارنة والسُّودانيين المستعربين إخوة في الله. علاوة على أنَّ التكارنة ارتبطوا بالثقافة الإسلاميَّة التي يتبنَّاها أهل الشمال، كان ينبغي ألا تشكِّل ثقافتهم الفرعيَّة إعاقة في سبيل الاندماج في المجتمع السُّوداني، أو الاعتراف بهم من قبل النخبة السُّودانيَّة كسواسية.
لا نظن الظن الذي يرقي إلى اليقين بأنَّ تاريخ السُّودان هو ذاته تاريخ شبه الجزيرة العربيَّة سواء قبل الإسلام أو في فجر الإسلام أو في ضحى الإسلام؛ ولا تراث أهل السُّودان هو نفسه تراث وتقاليد وعادات أهل نجد وتهامة وعسير، أو عرب بلاد الرافدين، أو حتى أهل الشام في الهلال الخصيب، الذين اختلطوا بشيء من الفينيقيين والأتراك وغيرهم. وإذا كانت هناك ثمة دماءً عربيَّة قليلة ظلَّت تسيل في بعض أعراق أهل السُّودان، فلا يمكن تعميمها على كل أرجاء البلاد كثقافة قاهرة، وسلطة سياسيَّة طاغية، وديانة شاملة. إنَّ اعتناق الإسلام والتحدُّث باللغة العربيَّة لا يجعلان من السُّوداني عربيَّاً، بل سيظل سودانيَّاً؛ كما أنَّ اعتناق المسيحيَّة والتحدُّث باللغة الإنجليزيَّة لا يجعلان من المواطن الأمريكي إنجليزيَّاً، بل سوف يظل أمريكيَّاً؛ وكذلك البرازيلي الذي يتكلَّم اللغة البرتغاليَّة لا يمكن أن يدَّعي بأنَّه برتغالي، بل هو برازيلي؛ وهكذا يجري الأمر على جميع سكان القارة الأمريكيَّة اللاتينيَّة الذين يتحدَّثون بالأسبانيَّة، فهم ليسوا بأسبان في شيء، ولكنهم ينتمون إلى تراب بلدانهم التي هم فيها نشأوا وترعرعوا، برغم من أنَّ أجدادهم قد هاجروا إلى هذا المستعمرات الجديدة، واستوطنوا فيها منذ حقبٍ سحيقة.
الحال كذلك فإنَّ الإسكتلنديين الذين يتحدَّثون بالإنجليزيَّة، وثقافتهم لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن ثقافة الإنكليز، وهم جزء لا يتجزأ من بريطانيا العظمي، لا يرضون أن يُقال لهم إنكليز، بل يغتاظون من ذلك أشد الغيظ، لأنَّهم إسكوتلنديُّون؛ وأهل ويلز كذلك الذين يتكلَّمون الإنكليزيَّة ويعتزون بلغتهم الويلزيَّة، وهي اللغة الثانية في مملكة ويلز، لا يرضون أن يُشار إليهم بالإنكليز، بل هم ويلزيُّون. كذلك الدول الفرانكوفونيَّة، التي تتحدَّث باللغة الفرنسيَّة في إفريقيا، فإنَّ مواطنيها ليسوا بفرنسيين في شيء، بل هم أفارقة ينتمون إلى دولهم في القارة الإفريقيَّة، ثم كذلك الأنجلوفونيُّون، أي أهل الدول الناطقة بالإنجليزيَّة، فهم ليسوا بإنكليز في شيء، بل أفارقة أقحاح. وهل أنبئكم بالبوير، أي المزارعون الهولنديُّون، الذين استوطنوا في جنوب إفريقيا منذ القرن السابع عشر من الميلاد، فلم يقولوا إنَّهم هولنديُّون، بل تبنوا هُويَّة جديدة نابعة من الأرض التي احتوتهم، وأطلقوا على أنفسهم الأفريقان أو الأفريكان، وكذلك على لغتهم الأفريكانيَّة التي يتحدَّثون بها، والاسم المحلي للغة هو "أفريكانس"، والتي تعني بالهولنديَّة "إفريقي".
للمقال بقايا باقيات،،،