رواندا جديدة في السودان !
د. زهير السراج
19 May, 2024
19 May, 2024
مناظير
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* هل ننتظر وينتظر المجتمع الدولي ومجلس الامن (رواندا) جديدة في السودان كى يتحرك وينقذ السودانيين من ابادة جماعية قد تكون أبشع بكثير مما حدث في رواندا خلال عام 1994 والأعوام التي سبقته، خاصة ان الفوراق الإثنية والاجتماعية بين السودانيين لا تقارن مع الفوارق بين إثنيتي (الهوتو والتوتسي) في رواندا اللتين تتطابقان في اللغة والملامح الخارجية والتقاليد الاجتماعية وكل شئ تقريبا، والفرق الوحيد هو (الانتماء) أو (إسم القبيلة) فقط، ورغم ذلك لم يجنبهما ذلك التطابق المجزرة البشعة التي وقعت وكانت الوسيلة الوحيدة فيها للتعرف على هوية الشخص هى (بطاقة الهوية) التي ظلت مستخدمة منذ احتلال المستعمرين البلجيكيين لرواندا في عام 1916، واصدارهم بطاقات لتصنيف الناس حسب العرق!
* أما في السودان، فلا يحتاج الامر الى بطاقة للتعرف على الهوية، ويكفي أن تنظر الى ملامح الشخص الخارجية او تستمع الى لهجته لتحديد مصيره، كما يحدث الآن مع بعض الاشخاص في المناطق التي يسيطر عليها احد طرفى الحرب فيما يعرف بـ(القتل على الهوية) الذي لا يزال في بداياته، ولكنه يتطور بوتيرة متسارعة ولن ينقضي وقت طويل حتى يتحول الى ابادة جماعية تشبه او تتجاوز ما حدث في رواندا التي وصل فيها عدد القتلى في ثلاثة اشهر فقط (بين شهرى ابريل ويوليو 1994)، الى اكثر من 800 الف شخص من التوتسي والمتعاطفين معهم من الهوتو، وللخلافات بينهما تاريخ طويل ولكنها ازدادت بعد احتلال البلجيكيين للبلاد وتفضيلهم لاقلية التوتسي على الاغلبية الهوتية، مما اجج العداء بينهما والذي ظل يتطور بعد خروج الاستعمار البلجيكي في عام 1962 الى ان وصل الى اوجه بإسقاط طائرة الرئيس الرواندي جوفيال هابياري مانا (من الهوتو)، وكان معه الرئيس البورندي وعدد من كبار المسؤولين، بصاروخ فوق مطار العاصمة الرواندية كيجالي في السادس من ابريل عام 1994، مما ادى لمقتل جميع من كان بالطائرة، واُتهمت باطلاقه الجبهة الوطنية المتمردة التي تضم غالبية من التوتسي وبعض الهوتو المعتدلين.
* كان ذلك الحدث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وما هى إلا بضع ساعات حتى انطلقت حملة العنف في كل انحاء البلاد، واستمرت لمدة ثلاثة اشهر قبل ان تهدأ في يوليو 1994 بعد استيلاء الجبهة الوطنية الرواندية المتمردة بدعم عسكري يوغندي على العاصمة كيجالي، مما ادى لانهيار الحكومة واعلان الجبهة وقف اطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة باستور بيزيمونغو (من الهوتو) وبول كاجامي (من التوتسي) نائبا له، هرب على اثرها مليونا هوتي الى الكنغو، وما لبث الزعيمان ان اختلفا، وعزل النائب رئيسه وسجنه بتهمة الانحياز العرقي، واصبح رئيسا للبلاد، واعيد انتخابه عدة مرات فيما بعد ولا يزال في منصبه حتى اليوم!
* سبق الابادة الجماعية في رواندا التي توصف بأنها اكبر إبادة جماعية في افريقيا في التاريخ الحديث، سلسلة من اعمال العنف قتل في احداها (20 الف) من التوتسي في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ولا تزال جماعة من التوتسي (في الكونغو) تحمل السلاح حتى اليوم خوفا من تكرار الابادة، بينما يعاني مئات الآلاف من آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية !
* لقد ظل المجتمع الدولي يتجاهل اعمال العنف في رواندا سنوات طويلة حتى في الفترة التي وقعت فيها الابادة الجماعية (ابريل – يوليو 1994)، ولم يحرك ساكنا الا عبر المحاولات الفاشلة للامم المتحدة لحمل الحكومة الرواندية والجبهة الوطنية الرواندية على التفاوض عندما جددت الاخيرة هجومها على القوات الحكومية في اليوم التالي لمقتل الرئيس (7 ابريل 1994 ) وانطلاق حملة العنف، وكان الطرفان قد توصلا لاتفاق سلام هش في اغسطس 1993 لم يصمد طويلا، ولم تُبد أى من الحكومات رغبة في التدخل لايقاف المذابح، بل سحبت الحكومة البلجيكية قواتها بعد مقتل 10 من جنودها بواسطة القوات الحكومية الرواندية في العاشر من ابريل 1994، كما سحبت الامم المتحدة معظم قوات حفظ السلام التابعة لها، وكانت قدرتها على الحد من المعاناة البشرية في رواندا مقيدة تقييداً شديداً لعدم استعداد الدول الأعضاء للاستجابة لتغير الظروف في رواندا بتعزيز ولاية البعثة والإسهام بقوات إضافية، وفي 22 يونيو سمح مجلس الأمن لبعثة عسكرية محدودة تحت قيادة فرنسية بالقيام بمهمة انسانية واجلاء الرعايا الاوربيين، واستمرت جرائم القتل الى ان سيطرت قوات الجبهة الوطنية الرواندية عسكريا على رواندا باكملها.
* تعمدتُ ذكر كل هذه المعلومات عن (رواندا) لاعطاء صورة تقريبية لما يمكن ان يحدث في السودان إذا لم تتوقف الحرب وظلت تتسع وتتحول من يوم لآخر الى حرب أهليه مع التحشيد الشعبي المستمر من الجانبين ومشاركة المرتزقة والكثير من المليشيات مدفوعة الاجر لصالح هذا الطرف أو ذاك، ولا بد هنا ان اشير الى الدور الكبير الذي لعبته مليشيا إنتراهامواى (اى اولئك الذين يهاجمون معا) في المذبحة بتشجيع من الحرس والاجهزة الاعلامية وتحفيزهم بالمال والسماح لهم بالاستيلاء على املاك التوتسي الذين يقتلونهم باعتبارها غنائم حرب، وهو شبيه بما يحدث الآن في السودان من طرفى الحرب.
* يجب ان يفهم الجميع، وعلى رأسهم السودانيون والجهات التي ترعى المفاوضات والدول صاحبة القرار في مجلس الامن أن الحرب في السودان، لم تُعد بين الجيش والدعم السريع، وأن اختزالها على الطرفين خطأ فادح، فلقد انتقلت من مرحلة الجيش والدعم السريع الى مرحلة اوسع بكثير جدا، وصارت اقرب ما تكون الى حرب قبلية عشائرية، بعد التحشيد والتحشيد المضاد واستقطاب المتحاربين على اسس قبلية واثنية، بالإضافة الى مشاركة المرتزقة والمليشيات مدفوعة الأجر، فضلا عن استيعاب المجموعات الدينية المتطرفة والارهابيين بما يعطي الحرب ابعادا اخرى غير البعد الاول الذي بدأت به، بين جيش وقوة تمردت عليه!
* عندما بدا الصراع المسلح على السلطة في رواندا بين الجيش والجبهة الرواندية الوطنية المتمردة في عام 1990 لم يكن في مخيلة أحد أنه يمكن أن يتحول الى صراع اثني وحرب إبادة جماعية تقضي على 800 الف شخص في غضون ثلاثة اشهر فقط، ويعاني مئات الالاف من اثارها الوحشية حتى اليوم، فهل ننتظر وينتظر العالم أن يتحول السودان الى رواندا جديدة، علما بأن تعداد رواندا كان حوالى 7 مليون نسمة في عام 1994، بينما يبلغ تعداد السودان اليوم اكثر من 40 مليون !
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* هل ننتظر وينتظر المجتمع الدولي ومجلس الامن (رواندا) جديدة في السودان كى يتحرك وينقذ السودانيين من ابادة جماعية قد تكون أبشع بكثير مما حدث في رواندا خلال عام 1994 والأعوام التي سبقته، خاصة ان الفوراق الإثنية والاجتماعية بين السودانيين لا تقارن مع الفوارق بين إثنيتي (الهوتو والتوتسي) في رواندا اللتين تتطابقان في اللغة والملامح الخارجية والتقاليد الاجتماعية وكل شئ تقريبا، والفرق الوحيد هو (الانتماء) أو (إسم القبيلة) فقط، ورغم ذلك لم يجنبهما ذلك التطابق المجزرة البشعة التي وقعت وكانت الوسيلة الوحيدة فيها للتعرف على هوية الشخص هى (بطاقة الهوية) التي ظلت مستخدمة منذ احتلال المستعمرين البلجيكيين لرواندا في عام 1916، واصدارهم بطاقات لتصنيف الناس حسب العرق!
* أما في السودان، فلا يحتاج الامر الى بطاقة للتعرف على الهوية، ويكفي أن تنظر الى ملامح الشخص الخارجية او تستمع الى لهجته لتحديد مصيره، كما يحدث الآن مع بعض الاشخاص في المناطق التي يسيطر عليها احد طرفى الحرب فيما يعرف بـ(القتل على الهوية) الذي لا يزال في بداياته، ولكنه يتطور بوتيرة متسارعة ولن ينقضي وقت طويل حتى يتحول الى ابادة جماعية تشبه او تتجاوز ما حدث في رواندا التي وصل فيها عدد القتلى في ثلاثة اشهر فقط (بين شهرى ابريل ويوليو 1994)، الى اكثر من 800 الف شخص من التوتسي والمتعاطفين معهم من الهوتو، وللخلافات بينهما تاريخ طويل ولكنها ازدادت بعد احتلال البلجيكيين للبلاد وتفضيلهم لاقلية التوتسي على الاغلبية الهوتية، مما اجج العداء بينهما والذي ظل يتطور بعد خروج الاستعمار البلجيكي في عام 1962 الى ان وصل الى اوجه بإسقاط طائرة الرئيس الرواندي جوفيال هابياري مانا (من الهوتو)، وكان معه الرئيس البورندي وعدد من كبار المسؤولين، بصاروخ فوق مطار العاصمة الرواندية كيجالي في السادس من ابريل عام 1994، مما ادى لمقتل جميع من كان بالطائرة، واُتهمت باطلاقه الجبهة الوطنية المتمردة التي تضم غالبية من التوتسي وبعض الهوتو المعتدلين.
* كان ذلك الحدث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وما هى إلا بضع ساعات حتى انطلقت حملة العنف في كل انحاء البلاد، واستمرت لمدة ثلاثة اشهر قبل ان تهدأ في يوليو 1994 بعد استيلاء الجبهة الوطنية الرواندية المتمردة بدعم عسكري يوغندي على العاصمة كيجالي، مما ادى لانهيار الحكومة واعلان الجبهة وقف اطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة باستور بيزيمونغو (من الهوتو) وبول كاجامي (من التوتسي) نائبا له، هرب على اثرها مليونا هوتي الى الكنغو، وما لبث الزعيمان ان اختلفا، وعزل النائب رئيسه وسجنه بتهمة الانحياز العرقي، واصبح رئيسا للبلاد، واعيد انتخابه عدة مرات فيما بعد ولا يزال في منصبه حتى اليوم!
* سبق الابادة الجماعية في رواندا التي توصف بأنها اكبر إبادة جماعية في افريقيا في التاريخ الحديث، سلسلة من اعمال العنف قتل في احداها (20 الف) من التوتسي في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ولا تزال جماعة من التوتسي (في الكونغو) تحمل السلاح حتى اليوم خوفا من تكرار الابادة، بينما يعاني مئات الآلاف من آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية !
* لقد ظل المجتمع الدولي يتجاهل اعمال العنف في رواندا سنوات طويلة حتى في الفترة التي وقعت فيها الابادة الجماعية (ابريل – يوليو 1994)، ولم يحرك ساكنا الا عبر المحاولات الفاشلة للامم المتحدة لحمل الحكومة الرواندية والجبهة الوطنية الرواندية على التفاوض عندما جددت الاخيرة هجومها على القوات الحكومية في اليوم التالي لمقتل الرئيس (7 ابريل 1994 ) وانطلاق حملة العنف، وكان الطرفان قد توصلا لاتفاق سلام هش في اغسطس 1993 لم يصمد طويلا، ولم تُبد أى من الحكومات رغبة في التدخل لايقاف المذابح، بل سحبت الحكومة البلجيكية قواتها بعد مقتل 10 من جنودها بواسطة القوات الحكومية الرواندية في العاشر من ابريل 1994، كما سحبت الامم المتحدة معظم قوات حفظ السلام التابعة لها، وكانت قدرتها على الحد من المعاناة البشرية في رواندا مقيدة تقييداً شديداً لعدم استعداد الدول الأعضاء للاستجابة لتغير الظروف في رواندا بتعزيز ولاية البعثة والإسهام بقوات إضافية، وفي 22 يونيو سمح مجلس الأمن لبعثة عسكرية محدودة تحت قيادة فرنسية بالقيام بمهمة انسانية واجلاء الرعايا الاوربيين، واستمرت جرائم القتل الى ان سيطرت قوات الجبهة الوطنية الرواندية عسكريا على رواندا باكملها.
* تعمدتُ ذكر كل هذه المعلومات عن (رواندا) لاعطاء صورة تقريبية لما يمكن ان يحدث في السودان إذا لم تتوقف الحرب وظلت تتسع وتتحول من يوم لآخر الى حرب أهليه مع التحشيد الشعبي المستمر من الجانبين ومشاركة المرتزقة والكثير من المليشيات مدفوعة الاجر لصالح هذا الطرف أو ذاك، ولا بد هنا ان اشير الى الدور الكبير الذي لعبته مليشيا إنتراهامواى (اى اولئك الذين يهاجمون معا) في المذبحة بتشجيع من الحرس والاجهزة الاعلامية وتحفيزهم بالمال والسماح لهم بالاستيلاء على املاك التوتسي الذين يقتلونهم باعتبارها غنائم حرب، وهو شبيه بما يحدث الآن في السودان من طرفى الحرب.
* يجب ان يفهم الجميع، وعلى رأسهم السودانيون والجهات التي ترعى المفاوضات والدول صاحبة القرار في مجلس الامن أن الحرب في السودان، لم تُعد بين الجيش والدعم السريع، وأن اختزالها على الطرفين خطأ فادح، فلقد انتقلت من مرحلة الجيش والدعم السريع الى مرحلة اوسع بكثير جدا، وصارت اقرب ما تكون الى حرب قبلية عشائرية، بعد التحشيد والتحشيد المضاد واستقطاب المتحاربين على اسس قبلية واثنية، بالإضافة الى مشاركة المرتزقة والمليشيات مدفوعة الأجر، فضلا عن استيعاب المجموعات الدينية المتطرفة والارهابيين بما يعطي الحرب ابعادا اخرى غير البعد الاول الذي بدأت به، بين جيش وقوة تمردت عليه!
* عندما بدا الصراع المسلح على السلطة في رواندا بين الجيش والجبهة الرواندية الوطنية المتمردة في عام 1990 لم يكن في مخيلة أحد أنه يمكن أن يتحول الى صراع اثني وحرب إبادة جماعية تقضي على 800 الف شخص في غضون ثلاثة اشهر فقط، ويعاني مئات الالاف من اثارها الوحشية حتى اليوم، فهل ننتظر وينتظر العالم أن يتحول السودان الى رواندا جديدة، علما بأن تعداد رواندا كان حوالى 7 مليون نسمة في عام 1994، بينما يبلغ تعداد السودان اليوم اكثر من 40 مليون !