مع نصر الدين والي في أروقته السنارية
د. خالد محمد فرح
29 May, 2024
29 May, 2024
khaldoon90@hotmail.com
بقلم: خالد محمد فرح
صدر لزميلنا وصديقنا السفير نصر الدين والي، المتقاعد طوعاً واختياراً، والمقيم حالياً بالولايات المتحدة الامريكية في بداية هذا العام الحالي 2024م، كتاب بعنوان: سيرة في أروقة سنارية. صدر هذا الكتاب في نحو 230 صفحة من القطع المتوسط، عن دار كل العرب بباريس، وقدم له الدكتور مصطفى أحمد علي، المدير الاسبق لادارة العلاقات الدولية بالمنظمة الاسلامية للتربية والعلم والثقافة " الايسيسكو ".
واود في البداية ان ازجي التهنئة الخالصة للاخ والزميل الفاضل السفير نصر الدين والي على صدور هذا السفر الرائع، وان اتقدم له بجزيل الشكر والتقدير على اهدائي نسخة منه، حرص على ان تصلني حارة من الفرن، فور خروج الكتاب من المطبعة بباريس، فله مني صادق الامتنان والعرفان.
جاء هذا الكتاب جامعاً في مضمونه ما بين السيرة الذاتية للمؤلف، والسيرة الغيرية لمسقط رأسه مدينة " سنار "، التي هي احدى اشهر مدن السودان، على اعتبار انها كانت عاصمة لاول سلطنة اسلامية فيه، هي تلك التي عرفت تحت ثلاثة أسماء هي: سلطنة سنار، وسلطنة الفونج، والسلطنة الزرقاء، التي تأسست في عام 1504م ، وانتهت باجتياح قوات اسماعيل كامل باشا نجل محمد علي باشا خديوي مصر لها في عام 1822م.
وهكذا أراد صديقنا السفير نصر الدين أن يصدر عملا سردياً تتواشج فيه ملامح ومحطات سيرته الذاتية منذ الميلاد والطفولة والشباب وما بعدهما، مع معالم تاريخ مدينة سنار وتطورها منذ ان ظهرت كمدينة جديدة عرفت أولاً باسم " مكوار " على رجل من قبيلة الدينكا يحمل ذلك الاسم كان اول من اقام في موضعها في حوالي عام 1917م، ثم صارت تعرف بسنار ، وارثةً بذلك اسم وصيت مدينة سنار التاريخية القديمة والقريبة منها لحسن الحظ، والتي اندثرت وصارت مجرد خرائب واطلال.
إن هذا الضرب من التاليف، وهذا الجنس من الكتابة السردية، عليه شواهد ونماذج كثيرة في اداب مختلف الشعوب. ولم يكن التراث الادبي والعلمي العربي ببدع في ذلك ايضا. فهنالك على سبيل المثال، مصنفات مثل: تاريخ بغداد الخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للحافظ جلال الدين السيوطي. أما في تراثنا الوطني السوداني فهنالك مثلاً كتاب: مدينة من تراب للراحل بروفيسور علي المك، وهو ذلك الكتاب الذي الفه في البوح بعشق مدينته الاثيرة " ام درمان ". وهنالك من مؤلفات الافرنج على سبيل المثال كتاب " أهل دبلن " للكاتب الايرلندي " جيمس جويس "، وهلم جرا.
جاء أسلوب المولف في هذه السيرة المزدوجة، في شكل تداع حر، في يسر وإسماع واريحية، وبلغة بسيطة وسلسة وغير متكلفة، مازج فيها بين الفصحى والعامية. واستخدم الكاتب صوراً واقعية، ولكنه رسمها بريشة فنية مبدعة، فجاءت تلك الصور أخاذة ومشوقة ونابضة بالحياة، وذلك على نحو ما نقرأ في هذا الفقرة التالية على سبيل المثال:
" صور الفريق، أناسه، رقصاتهم، وأهازيجهم، وأغانيهم، جدهم وهزلهم، الصبية الصغار، أصدقاء الطفولة، ورفقاء اليفاعة، والدراسة، المدرسة الاولية، صورها الناصعة، الجلاليب البيضاء، والعمامات الصغيرة على رؤوس التلاميذ، والنظام في المدرسة وطابور الصباح، وتفتيش المعلم للأظافر والملابس الداخلية، ألفة الفصل وكراس العيادة، وما يكتبه الباشتمرجي في الشفخانة بمركز مستوصف ساتي: ( متصنع ).. "الخ . تلك لعمري صور وذكريات عالقة بذهن كل تلميذ سوداني، درس خصوصا بمدارس المدن والقرى الكبيرة في السودان، منذ بداية التعليم النظامي فيه، الى بضعة عقود مضت بعد ذلك.
وكذلك قوله في فقرة اخرى:
" الديوك تتصايح صباحاً، وحميرٌ تنهق، ونسوة يحملن سلالهن فوق رؤوسهن، وأخريات يحملن بُخس ملأى بروب طازج، وقدوقدو، يمشين في خط، الواحدة تلو الاخرى إلى السوق، الذي بدأ وكأنه يتمطّى ويستعد ليومٍ جديد قد أشرقت شمسه للتو. والسواري يركبون أحصنتهم المتعبة بعد ليلة قد انقضت، عسعسوا فيها المدينة، يحفظون الأمن من زوار الليل. وعمال الدريسة، وصافرة الفطور للعمال والموظفين تنطلق، وقطار يدخل المحطة، وبضعة مسافرين ينزلون، وآخرون يهرولون يلحقون بالقطار المتمهل. الموظفون القليلون يمشون الى مكاتبهم، والتلاميذ يسرعون الى مدارسهم. النسوة يتطايبن بسلام ناس البيت، وكيف أصبحتو. هنالك تتراءى لك النخوة، والتكافل يطل من فوق الجباه السمراء من أناس وأهل السودان، بسحناتهم المختلفة المؤتلفة، شماله وجنوبه، شرقه وغربه. فرادى أهل المدينة الناشئة يسألون عن صحة فلان، ونفير منزل علان، وعزاء علان. قيمهم ومبادئهم، أخوتهم، نفرتهم لنصرة بعضهم بعضا، وإيثارهم قيم العدل والحق والذود عنه. "
يستخدم المؤلف بانتظام كلمة " الصبي "، في اشارة منه الى نفسه وهو يسترجع ذكريات الطفولة والصبا، وهذا نهج قد مر بنا من قبل عند عميد الادب العربي الدكتور طه حسين، في سيرته الذاتية الشهيرة " الايام "، والتي من المؤكد ان نصر الدين والي قد اطلع عليها، لانها كانت مقررة على جميع ابناء جيلنا في المدارس، الذي هو جيل السفير نصر الدين نفسه.
يستهل المولف باعطاء فذلك ضافية عن ملابسات مجئ رهطهم الذي ينتمي الى قبلية التعايشة الى المنطقة التي سوف تصبح مدينة سنار المدينة لاحقا، واتخاذها موطنا لهم باعتبارهم من اوائل المجموعات التي استوطنتها، بدليل تملكهم للعديد من الجروف والمزارع القائمة على ضفة النيل الازرق منذ نشاة المدينة. وفي هذا الصدد يذكر المولف ان اهلهم الذين كانوا هم رهط الخليفة عبد الله التعايشي خليفة المهدي، والانصار المخلصين له وللدعوة المهدية عموما، قد غادروا ام درمان عاصمة المهدية بعد معركتي كرري وام دبيكرات التي شهدت استشهاد الخليفة عبد الله ورفاقه، ولم يرجعوا الى مرابعهم الاصلية في دار التعايشة بجنوب دارفور وانما اثروا الاقامة بمنطقة مكوار ، والارجح انهم قد رضخوا لمخطط من الادارة الاستعمارية البريطانية قضى بتشتيت التعايشة وتفريقهم بين مناطق مختلفة ومتباعدة، خوفا من تفكيرهم في قيادة مقاومة السلطة الجديدة.
بقلم: خالد محمد فرح
صدر لزميلنا وصديقنا السفير نصر الدين والي، المتقاعد طوعاً واختياراً، والمقيم حالياً بالولايات المتحدة الامريكية في بداية هذا العام الحالي 2024م، كتاب بعنوان: سيرة في أروقة سنارية. صدر هذا الكتاب في نحو 230 صفحة من القطع المتوسط، عن دار كل العرب بباريس، وقدم له الدكتور مصطفى أحمد علي، المدير الاسبق لادارة العلاقات الدولية بالمنظمة الاسلامية للتربية والعلم والثقافة " الايسيسكو ".
واود في البداية ان ازجي التهنئة الخالصة للاخ والزميل الفاضل السفير نصر الدين والي على صدور هذا السفر الرائع، وان اتقدم له بجزيل الشكر والتقدير على اهدائي نسخة منه، حرص على ان تصلني حارة من الفرن، فور خروج الكتاب من المطبعة بباريس، فله مني صادق الامتنان والعرفان.
جاء هذا الكتاب جامعاً في مضمونه ما بين السيرة الذاتية للمؤلف، والسيرة الغيرية لمسقط رأسه مدينة " سنار "، التي هي احدى اشهر مدن السودان، على اعتبار انها كانت عاصمة لاول سلطنة اسلامية فيه، هي تلك التي عرفت تحت ثلاثة أسماء هي: سلطنة سنار، وسلطنة الفونج، والسلطنة الزرقاء، التي تأسست في عام 1504م ، وانتهت باجتياح قوات اسماعيل كامل باشا نجل محمد علي باشا خديوي مصر لها في عام 1822م.
وهكذا أراد صديقنا السفير نصر الدين أن يصدر عملا سردياً تتواشج فيه ملامح ومحطات سيرته الذاتية منذ الميلاد والطفولة والشباب وما بعدهما، مع معالم تاريخ مدينة سنار وتطورها منذ ان ظهرت كمدينة جديدة عرفت أولاً باسم " مكوار " على رجل من قبيلة الدينكا يحمل ذلك الاسم كان اول من اقام في موضعها في حوالي عام 1917م، ثم صارت تعرف بسنار ، وارثةً بذلك اسم وصيت مدينة سنار التاريخية القديمة والقريبة منها لحسن الحظ، والتي اندثرت وصارت مجرد خرائب واطلال.
إن هذا الضرب من التاليف، وهذا الجنس من الكتابة السردية، عليه شواهد ونماذج كثيرة في اداب مختلف الشعوب. ولم يكن التراث الادبي والعلمي العربي ببدع في ذلك ايضا. فهنالك على سبيل المثال، مصنفات مثل: تاريخ بغداد الخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للحافظ جلال الدين السيوطي. أما في تراثنا الوطني السوداني فهنالك مثلاً كتاب: مدينة من تراب للراحل بروفيسور علي المك، وهو ذلك الكتاب الذي الفه في البوح بعشق مدينته الاثيرة " ام درمان ". وهنالك من مؤلفات الافرنج على سبيل المثال كتاب " أهل دبلن " للكاتب الايرلندي " جيمس جويس "، وهلم جرا.
جاء أسلوب المولف في هذه السيرة المزدوجة، في شكل تداع حر، في يسر وإسماع واريحية، وبلغة بسيطة وسلسة وغير متكلفة، مازج فيها بين الفصحى والعامية. واستخدم الكاتب صوراً واقعية، ولكنه رسمها بريشة فنية مبدعة، فجاءت تلك الصور أخاذة ومشوقة ونابضة بالحياة، وذلك على نحو ما نقرأ في هذا الفقرة التالية على سبيل المثال:
" صور الفريق، أناسه، رقصاتهم، وأهازيجهم، وأغانيهم، جدهم وهزلهم، الصبية الصغار، أصدقاء الطفولة، ورفقاء اليفاعة، والدراسة، المدرسة الاولية، صورها الناصعة، الجلاليب البيضاء، والعمامات الصغيرة على رؤوس التلاميذ، والنظام في المدرسة وطابور الصباح، وتفتيش المعلم للأظافر والملابس الداخلية، ألفة الفصل وكراس العيادة، وما يكتبه الباشتمرجي في الشفخانة بمركز مستوصف ساتي: ( متصنع ).. "الخ . تلك لعمري صور وذكريات عالقة بذهن كل تلميذ سوداني، درس خصوصا بمدارس المدن والقرى الكبيرة في السودان، منذ بداية التعليم النظامي فيه، الى بضعة عقود مضت بعد ذلك.
وكذلك قوله في فقرة اخرى:
" الديوك تتصايح صباحاً، وحميرٌ تنهق، ونسوة يحملن سلالهن فوق رؤوسهن، وأخريات يحملن بُخس ملأى بروب طازج، وقدوقدو، يمشين في خط، الواحدة تلو الاخرى إلى السوق، الذي بدأ وكأنه يتمطّى ويستعد ليومٍ جديد قد أشرقت شمسه للتو. والسواري يركبون أحصنتهم المتعبة بعد ليلة قد انقضت، عسعسوا فيها المدينة، يحفظون الأمن من زوار الليل. وعمال الدريسة، وصافرة الفطور للعمال والموظفين تنطلق، وقطار يدخل المحطة، وبضعة مسافرين ينزلون، وآخرون يهرولون يلحقون بالقطار المتمهل. الموظفون القليلون يمشون الى مكاتبهم، والتلاميذ يسرعون الى مدارسهم. النسوة يتطايبن بسلام ناس البيت، وكيف أصبحتو. هنالك تتراءى لك النخوة، والتكافل يطل من فوق الجباه السمراء من أناس وأهل السودان، بسحناتهم المختلفة المؤتلفة، شماله وجنوبه، شرقه وغربه. فرادى أهل المدينة الناشئة يسألون عن صحة فلان، ونفير منزل علان، وعزاء علان. قيمهم ومبادئهم، أخوتهم، نفرتهم لنصرة بعضهم بعضا، وإيثارهم قيم العدل والحق والذود عنه. "
يستخدم المؤلف بانتظام كلمة " الصبي "، في اشارة منه الى نفسه وهو يسترجع ذكريات الطفولة والصبا، وهذا نهج قد مر بنا من قبل عند عميد الادب العربي الدكتور طه حسين، في سيرته الذاتية الشهيرة " الايام "، والتي من المؤكد ان نصر الدين والي قد اطلع عليها، لانها كانت مقررة على جميع ابناء جيلنا في المدارس، الذي هو جيل السفير نصر الدين نفسه.
يستهل المولف باعطاء فذلك ضافية عن ملابسات مجئ رهطهم الذي ينتمي الى قبلية التعايشة الى المنطقة التي سوف تصبح مدينة سنار المدينة لاحقا، واتخاذها موطنا لهم باعتبارهم من اوائل المجموعات التي استوطنتها، بدليل تملكهم للعديد من الجروف والمزارع القائمة على ضفة النيل الازرق منذ نشاة المدينة. وفي هذا الصدد يذكر المولف ان اهلهم الذين كانوا هم رهط الخليفة عبد الله التعايشي خليفة المهدي، والانصار المخلصين له وللدعوة المهدية عموما، قد غادروا ام درمان عاصمة المهدية بعد معركتي كرري وام دبيكرات التي شهدت استشهاد الخليفة عبد الله ورفاقه، ولم يرجعوا الى مرابعهم الاصلية في دار التعايشة بجنوب دارفور وانما اثروا الاقامة بمنطقة مكوار ، والارجح انهم قد رضخوا لمخطط من الادارة الاستعمارية البريطانية قضى بتشتيت التعايشة وتفريقهم بين مناطق مختلفة ومتباعدة، خوفا من تفكيرهم في قيادة مقاومة السلطة الجديدة.