السودان التركي – المصري: جِدَال تأريخي حَدِيث (2 /2)
بدر الدين حامد الهاشمي
22 June, 2024
22 June, 2024
The Turco- Egyptian Sudan: A Recent Historiographical Controversy
Gabriel R. Warburg جبرائيل آر. واربورج
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لما جاء في الجزء الثاني والأخير من مقال للمؤرخ جبرائيل آر. واربورج نُشِرَ عام 1991م بالعدد الثاني من المجلد 31 من مجلة "عالم الإسلام Die Welt des Islam" في صفحات 193 – 215. وُلِدَ الكاتب في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 - 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها على سبيل المثال كتاب بعنوان "الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية" و"الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان"، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن ترجمنا شذرات من بعض كتب ومقالات هذا المؤرخ.
المترجم.
************* **************
لقد كان الرئيس محمد نجيب ورفاقه في مجلس قيادة الثورة يؤمنون بأن السودانيين سيختارون الاتحاد مع مصر. وكان هؤلاء من نفس جيل المصريين الذين نشؤوا على الإيمان بأن "وحدة وادي النيل" هي السبيل الأوحد لحل "مسألة السودان". لذا ليس من المستغرب أن يواصل المؤرخون المصرين في الفترة التي تلت ثورة 1952م في تكرار ما جاء به من سبقوهم من مؤرخي بلادهم عن تاريخ السودان، وأن أهله كانوا – وما زالوا - يتوقون للوحدة مع مصر منذ زمن بعيد، ويعدون ذلك هو الوضع "الطبيعي"، الذي لم يفسده سوى الغزو الإمبريالي لوادي النيل. فكرر الدكتور السيد يوسف نصر بالصفحة رقم 13 في مؤلفه المعنون: "الوجود المصري في أفريقيا بين عامي 1820 إلى 1899م" العبارة الشهيرة: "السودان هو الامتداد الطبيعي لمصر"، بينما وصف الدكتور عبد العظيم رمضان السودان بأنه "العمق الاستراتيجي لمصر"، وذهب إلى أن مصر تمثل كذلك العمق الاستراتيجي للسودان، وأنه لم تكن هناك تاريخياً أي حدود بين القطرين. وذكر رمضان أيضاً أن حكام منطقة في مصر كانوا يحكمون منطقة في السودان، والعكس صحيح أيضاً. ولما لم يكن مفهوم "الوطنية / القومية nationalism" معروفاً يومها في مصر ولا في السودان، كان من الطبيعي – في نظر رمضان - أن يطلب علماء الأزهر من والي مصر محمد علي (وهو أجنبي) أن يتولى حكم البلدين، وليس هناك من ضير في أن يطلب قادة المسلمين في السودان من الوالي المصري فتح تلك البلاد، إذ أن دافعهم الأوحد كان هو الدين الإسلامي، وكانوا لا يقيمون وزناً لأصل الحاكم أو عرقه. وبهذا فإن عبد العظيم رمضان يرفض تماماً ما ذهب إليه بعض المؤرخين المصريين والسودانيين من أن الحكم التركي – المصري للسودان كانت له دوافع إمبريالية – كولونيالية؛ بل كان رمضان يرى أن الحكم المصري في السودان، على وجه العموم، كان عملاً اِتِّصَفَ بالخير والإحسان والنفع للناس، فقد أدخل بالسودان – لأول مرة – حكومة نظامية موحدة، وخفض من الضرائب (عندما أشتكى الناس من ارتفاعها) وعين شيوخ وأعيان البلاد في وظائف إدارية مهمة. وبهذا يمكن أن يُعَدُّ السودان في العهد التركي "امتداداً شرعيا" لحدود مصر، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية حين وسعت من حدودها بجنوب وغرب القارة الأمريكية في القرن التاسع عشر (وهذا يطابق من قاله من قبل المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي).
أما رأي المؤرخ عبد العظيم رمضان فيما يتعلق بتجارة الرقيق في السودان، فيتلخص في أن مصر لم تخترع تلك التجارة، فقد كانت تجارة رائجة في السودان في غضون سنوات سلطنة الفونج، وكانت تجارة يمارسها من قبل التجار الأوربيون وغيرهم. وهو محق في قوله هذا. وتوسع المؤرخ السيد يوسف نصر في هذه النقطة بعرضه لرسالة محمد علي لولده إسماعيل التي أمره فيها بإرسال 6,000 من الرقيق السوداني لمصر، وأكد له أن هذا هو السبب الرئيس في بعثه لذلك البلد. ولا شك أن كثير من الذين استرقهم إسماعيل كانوا من المسلمين، وَلاَ يَجُوزُ شرعاً اسْتِرْقَاقِ الْمُسْلِمِ، غير أن والي مصر لم يكن يأبه لتلك المسألة. وإضافة لذلك، كان الهجوم الوحشي الذي شنته وحدات الجيش التركي – المصري على القبائل المسلمة بالسودان بغرض استرقاقها قد أحدثت الكثير من الأضرار والمشاكل المجتمعية والاقتصادية لسكان البلاد. ولهذا وجد والي مصر نفسه مضطرا لتعديل أوامره السابقة، وأمر بأن يُفْرَضُ على السودانيين أن يبيعوا ما لديهم من رقيق، أو أن يستعملونهم كـ "عملة" عند دفع الضرائب. وقدم المؤرخ السيد يوسف نصر في كتابه المذكور آنفا قائمة تمثل "الحساب الختامي" لمنجزات الفتح التركي – المصري، أتت تحت العناوين التالية:
1/ توحيد مختلف المديريات تحت كيان سياسي واحد.
2/ فرض العمل بالقانون والنظام.
3/ توسيع التجارة الداخلية والخارجية.
4/ إنهاء تجارة الرقيق.
5/ التوسع في خطوط السكة حديد والاتصالات.
6/ اكتشاف منابع النيل.
7/ بناء مدن حديثة وقلاع في أماكن استراتيجية.
8/ تمدين البلاد عن طريق التعليم والتنمية الاجتماعية.
وأختتم السيد يوسف نصر ما جاء به عن "مهمة مصر لنشر المدنية بالسودان" بعبارة "ولم يكن بإمكان لأوروبي واحد أن تطأ قدمه وسط تلك القارة". وأيده في ذلك عبد العظيم رمضان على وجه العموم، ولكنه أضاف أنه لم تقع أي حالات استغلال للسودان، بل كانت مصر تغطي العجز السنوي في ميزانية السودان التي بلغت – بحسب ما أتى به رمضان - نحو 3 ملايين جنيه مصري، وأن هذا قد حدث لأن مصر والسودان كانتا تعدان قطراً واحداً لم يكن فيه مستغلين ولا مُستَغَلّين. وأدخلت مصر التمدن والعمران في السودان ببنائها للمساجد والمدارس، وتدريب المدرسين. ويكفي دليلاً على ذلك إرسال مصر أحد أكفأ مدرسيها، رفاعة رافع الطهطاوي، للسودان (ذكر كاتب المقال هنا أن عبد العظيم رمضان نفسه كان قد ذكر في صفحتي 67 و68 من كتابه آنف الذكر أن الخديوي عباس باشا كان قد نفى رفاعة رافع الطهطاوي للسودان ... اُنْظُرْ أيضا قصة نفي الطهطاوي للسودان في هذا الرابط https://shorturl.at/tAv6I المترجم).
وصدر في عام 1985م كتاب للدكتور حمدنا الله مصطفى حسن تحت عنوان "التطورات الاقتصادية والاجتماعية في السودان بين عامي 1841 و1881م" زاد فيه مؤلفه قليلاً على ما ذكره من قبل الدكتور السيد ناصر، وأضاف بعض مقولات والي مصر محمد علي من أن السودان بلد متخلف، سكانه كسالى ويفتقرون للتعليم. لذا فإن "مهمة التمدين" التي حمل عبئها محمد علي وضباطه كانت في غاية الأهمية. وكتب أن "محاولات محمد على لإنجاز برنامجه الزراعي في السودان لم تكن إصلاحاً لشيء كان موجود أصلا، كما كان عليه الحال في مصر، ولكنها كانت محاولات لخلق شيء جديد لم يكن موجوداً من قبل".
وأصدر الدكتور إبراهيم شحاتة حسن في عام 1971م كتاباً بعنوان "مصر والسودان" (عنوان الكتاب كاملاً هو "مصر والسودان ووجه الثورة في نصيحة احمد العوام: دراسة مقارنة في الأصول التاريخية للثورتين العرابية والمهدية واتجاهات الفكر الثوري في عهدهما". المترجم) أكد فيه المؤلف على أن السودانيين كانوا على الدوام ينظرون إلى النظام الذي حكم بلادهم خلال القرن التاسع عشر على أنه نظام "تركي" وليس "مصري"، إذ أن الغلبة الغالبة من كبار الضباط والموظفين كانوا أتراكاً. وذكر أيضاً أنه كان هناك تباعد كبير بين الحكام والمحكومين في ذلك العهد، مما أفضى لعداوة بائنة بينهما. وكغيره من المؤرخين، أورد إبراهيم شحاتة حسن منع تجارة الرقيق بحسبانه أهم عامل أفضى للسخط العام من النظام الحاكم في ذلك العهد.
وفي عام 1977م نشر الدكتور علي محمد بركات كتاباً بعنوان "السياسة البريطانية واسترداد السودان، 1889 – 1899م" تناول فيه الأسباب التي أدت لقيام الثورة المهدية، فذكر أن أهم تلك الأسباب هي أن الإدارة في مصر والسودان أصابهما التدهور والفساد في سبعينيات القرن التاسع عشر نتيجةً للاختراق الأجنبي (الأوروبي)، وأن تلك الثورة الإسلامية في السودان كانت ردة فعل على ذلك الاختراق، و(لكنها) عبدت الطريق في نهاية المطاف للإمبريالية. وبذا برَّأَ بركات الإدارة التركية – المصرية من تهم الفساد وسوء الإدارة، إذ أن الجناة الحقيقيين – في نظره - هم من استقدمهم الخديوي إسماعيل من أوروبا للعمل في السودان.
******** ******** ******
يناقض ما أوردناه من كتابات المؤرخين المصريين عن السودان المعلومات التي نجدها في غالب المصادر الأخرى. أولاً، يتفق كثير من المؤرخين، عموماً، على أن السودانيين كانوا يعانون، وهم تحت الحكم التركي، من عبء الضرائب الباهظة، على الأقل عند مقارنتها مع الضرائب في عهد سلطنة الفونج. وثانياً، لقد كان مبرر وجود raison d'être احتلال السودان هو "تنشيط" موارده لمصلحة الخزانة المصرية. فسواءً أن أفلح محمد علي ومن خلفه من الحكام في مصر في تحقيق ذلك الهدف، أو أنهم أضطروا لتغطية العجز في ميزانية السودان، فهذا ليس بالأمر الجوهري. وثالثاً، كان الإداريون العثمانيون الجدد يصنفون غالب السودانيين على أنهم من" المتصوفة الذين يؤمنون بالخرافات، أو الوثنيين، أو فقط "رقيق سود"؛ وليس من بينهم سوى طبقة رقيقة من "المسلمين الحقيقيين الذين تم تعزيز وجودهم من مصر، وهؤلاء هم من ينبغي أن يُعَامَلُوا بحسبانهم بشراً متحضرين تماماً" (لم يذكر الكتاب مصدر هذا المقتطف الذي أتي به. المترجم). وأخيرا، وليس آخراً، يصح القول بأن دخول الأوربيين في سلك إدارة حكم التركية بالسودان (منذ سبعينيات القرن التاسع عشر) لا بد أن يُؤْخَذ في الاعتبار عند تحليل الأسباب الي أدت لقيام الثورة المهدية. غير أننا يجب أن نتذكر أن أي قراءة موضعية لرسائل ومنشورات المهدي وخليفته تبين بجلاء أن الجهاد كان يُذْكَرُ دوماً في معرض الحديث عن "الترك"، وأن سوء الإدارة وفسادها كان شائعاً بالسودان من قبل تعيين الخديوي إسماعيل لبعض الأوربيين في مناصب عليا بالبلاد.
لم لا يقبل المؤرخون السودانيون، على وجه العموم، بتفسيرات الكثير من المؤرخين المصريين لتاريخ السودان؟ لا بد لنا في البدء أن نتذكر أن بحوث الأكاديميين السودانيين في مجال تاريخ بلادهم كانت قبل خمسينيات القرن العشرين قليلة إلى حد ما. وكان الكتاب الأوربيون، كما ذكرنا آنفاً، متأثرين بالمقولات التي غدت من فرط تكرارها وكأنها "معلومات عامة" عن بربرية وفساد الإدارة التركية بالسودان وافتقارها للفعالية. ومن جهة أخرى، يعد المؤرخون المصريون تاريخ السودان هو تاريخهم، لذا يعمدون للدفاع عن سجل أسلافهم من الأتراك – المصريين بالسودان؛ ويرون أن تلك الفترة شهدت صراعاً بين الإمبراطورية البريطانية (التي تحتل جزئين من وادي النيل) وبين شعبي السودان ومصر وهما يجاهدان من أجل نيل الاستقلال والاتحاد مع بعضهما. وثانياً، كان المؤرخون السودانيون الذين تلقوا تدريبهم في الشرق الأوسط أو أوروبا، على وجه العموم، أقل تأثراً بفكرة شعار "وحدة وادي النيل"؛ فقد كانت المسالة قد حُسِمَتْ بالنسبة لهم في عام 1955م عندما قرر السودان أن يستقل بنفسه (عن بريطانيا وعن مصر)، وغدت بعد ذلك فترة الحكم التركي – المصري لبلادهم بالنسبة لهم مجرد دراسة لعهد كولونيالي. وبهذا قد كان تاريخ السودان قبل نيله للاستقلال يُقْسَمُ لفترات ثلاث: الأولى هي "التركية"، أي الكلولونيالية التركية – المصرية من عام 1821 إلى 1881م، والثانية هي "المهدية"، وهي الفترة الباكرة للاستقلال الوطني التي استمرت حتى عام 1898م ، والثالثة هي فترة الحكم الإنجليزي المصري أو "التركية الثانية" كما كانت تعرف شعبياً من 1899م إلى 1955م. وقد يتفهم المرء سبب استياء المؤرخين المصريين في الفترة التي أعقبت انتهاء الكلولونيالية مقارنة حكم محمد علي للسودان بحكم كتشنر ووينجت. لهذا فهم يتهمون المؤرخين السودانيين بأن الدعاية الإمبريالية قد نجحت في التحكم بأفكارهم "غسل أدمغتهم brainwashed"، وكانوا يستنكفون أي رأي لمؤرخ سوداني يشير للدوافع الكلولونيالية عند الحكام المصريين في القرن التاسع عشر. ويستوي في تفسير ذلك التاريخ المؤرخون المصريون البرجوازيون في عهد ما قبل الثورة، مع المؤرخين المصريين التقدميين أو حتى الماركسيين. وكانوا جميعاً لا يرون إمكانية لوجود أي تفسير "موضوعي" لتاريخ وادي النيل لا يقبل بوحدته كأمر بدهي يقوم على أساس الجذور الطبيعية التاريخية والجغرافية والثقافية المشتركة.
وفي تلخيصه لتاريخ محمد علي في السودان أشاد بروفيسور مكي شبيكة، عميد المؤرخين السودانيين، في كتابه (بالإنجليزية) The Independent Sudan والصادر في نيويورك عام 1959م، وفي كتابه "السودان في قرن 1819 - 1919م" بالإدارة التركية لجهودها في تمدين السودان، ومحاولاتها تطوير طرق الزراعة فيه. غير أنه خلص إلى ما يفيد بأن: "لعنة/ مصيبة إدارة محمد على كانت تكمن في فرضها لضرائب باهظة على السكان، واستخدامها لوسائل وطرق شديدة القسوة في جبايتها... وعلى الرغم من أن محمد علي كان قد توقف في النهاية عن شن حملات جلب الرقيق...، إلا أن موظفيه في السودان لم ينقطعوا عن اكتناز الأموال لأنفسهم بأسرع ما يتيسر لهم، وبهذا وضعوا الأساس لإدارة فاسدة ...". وكان شبيكة أكثر تصريحاً في كتابه الأخير المعنون "مقاومة السودان الحديث للغزو والتسلط " الذي صدر في القاهرة عام 1972م، وتناول فيه ذلك الموضوع. وأدان شبيكة في ذلك الكتاب الغزو التركي – المصري في القرن التاسع عشر (مع غيره من الغزاة) باعتباره غزواً غير مبرر لدولة مسلمة، وخص بالإشادة "ثورة الجعليين" التي قادها المك نمر في عام 1822م، بحسبانها رمزاً للمقاومة السودانية، وأدان اغتيال الترك للآلاف من الجعليين، ووصف ذلك بأنه أكبر حمام دم في تاريخ السودان. وبهذا يكون شبيكة قد سوغ قيام الثورة المهدية باعتبارها جهاداً ضد الترك الذين أفسدوا الإسلام. وعلى الرغم من أن شبيكة كان قد أتى على ذكر الدور الذي أداه الأوربيون (خاصة الإنجليز) في المراحل الأخيرة من العهد التركي – المصري بالسودان، إلا أنه أكد أن "الحكم التركي – المصري هو وحده الذي تسبب في قيام انتفاضة المهدي، وليس من أتى بهم الخديوي إسماعيل من الأوربيين". وتناول شبيكة في كتابه ثلاث غزوات: الأولى هي الغزوة الحبشية عام 1744م، والثانية هي الغزو التركي المصري عامي 1820 – 1821م، وأخيراً الغزو الإنجليزي – المصري عامي 1896 – 1899م. وفي تاريخ السودان تدان كل تلك الغزوات باعتبارها أعمالاً عدائية، سواءً أكان قد أتت من حكام مسيحيين أو مسلمين.
وكتب مؤرخ سوداني آخر هو الأستاذ الدكتور حسن أحمد إبراهيم مقالاً بعنوان: "لا وصاية في التاريخ يا دكتور"، مفنداً فيه المسوغات التي طرحها رمضان (في كتابه "أكذوبة الاستعمار المصري للسودان"). وذكر إبراهيم أن للمؤرخين المصريين نزعة لاتخاذ مواقف أبوية (paternalistic attitudes) تجاه السودان، ودائما ما يصفون تاريخه وكأنه "ملحق أو ذيل أو تابع appendix" لتاريخ مصر، ويسوغون لكل ما فعلته مصر في السودان بحسبانه يصب في "خدمة ومصلحة ورفاهية" السودانيين. وأورد هذا المؤرخ السوداني عدداً من الرسائل التي بعث بها محمد علي إلى الدفتردار ولولده إسماعيل موضحاً لهما فيها ما يريده من السودان: الرقيق والذهب (والمعادن الأخرى). ولم يرد في أي واحدة من تلك الرسائل أي ذكر لرفاهية السودانيين أو تعليمهم وصحتهم. وأشار إبراهيم أيضاً إلى أن السودانيين يدينون بالإسلام، ولم تكن بهم من حاجة لتدخل مصري من أجل تعميق معتقدهم أو تنقيته. وأورد أيضاً خطاباً من حاكم كردفان إلى الدفتردار يرفض فيه - على أسس دينية - الغزو المصري. (أشار كاتب هذا المقال في الحاشية إلى أن عبد العظيم رمضان كان قد رد في كتابه المذكور آنفا في صفحتي 29 – 36 على مقالة حسن أحمد إبراهيم).
وعلى نفس المنوال، تناول دكتور إبراهيم الحاردلو في كتابه المعنون: "العلاقات الثقافية بين مصر والسودان" الصادر في الخرطوم عام 1977م، وانتهى إلى أن الدوافع الحقيقية للغزو المصري للسودان تتلخص في استغلال شعبه، ولا يهم إن أسمينا ذلك "كولونيالية" أو غير ذلك. فقد أقام الترك في مصر والسودان حكماً فاسداً استغل الشعبين المصري والسوداني، وهذا هو ما دعا المهدي للقيام بثورته. وأضاف الحاردلو أن المهدي كان يسعى لتحرير مصر وتركيا من حكامها المفسدين؛ إلا أن الدولتين اتحدتا في الهجوم عليه، وبذا انقطعت من بعد ذلك الروابط الثقافية بين شطري وادي النيل.
وكتب محمد عمر بشير (الذي تلقى تعليمه العالي في جامعة أكسفورد) عام 1978م مقالاً في المجلة المصرية "السياسة الدولية" عن الغزو التركي (وليس المصري) للسودان في عامي 1820 -1821م الذي قاد لحكم أجنبي بالسودان. وخلص أيضاً إلى أن تلك الغزوة التركية كانت بغرض استغلال واحتكار (موارد) السودان، وليست من أجل "تمدينه"، وأن الثورة المهدية في السودان تماثل ثورة عرابي في مصر في أنهما كانتا ضد تلك النخبة الأجنبية الحاكمة. وذكر بشير أنه لا عجب أن أيد الثورة المهدية عدد كبير من الوطنيين المصريين، على الرغم من أن تلك الثورة كانت موجهة ضد نخبهم الحاكمة.
لقد تواصل الخوف والشك من دوافع مصر الخفية في السودان إبان سنوات القرن العشرين، وغدا جزءًا من التراث التاريخي والسياسي لأنصار المهدية الجديدة. ولم يكن السيد عبد الرحمن المهدي وأتباعه في حاجة إلى تحفيز من البريطانيين ولا إلى التحكم بأفكارهم "غسل أدمغتهم" لجعلهم يعبرون عن عدائهم للحكم التركي في السودان في القرن التاسع عشر. وإضافةً إلى ذلك، فقد اعتبر الأنصار أن الشراكة المصرية في الحكم الثنائي في القرن العشرين هي استمرار مباشر للإمبريالية التركية في القرن السابق. وقد سرد عبد الرحمن علي طه في كتابه الموسوم "السودان للسودانيين" الصادر من شركة النشر بأم درمان عام 1955م، والصادق المهدي في كتابه "جهاد في سبيل الاستقلال" الصادر عن المطبعة الحكومية عام 1965م شيئاً عن تاريخ السودان من وجهة نظر السيد عبد الرحمن المهدي. وفي الخامس من أكتوبر 1950م نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خطاب بروفيسور هـ. ك. سليم عضو الوفد المصري للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي قال فيه إن "... وحدة مصر والسودان كانت قد أُسِّسَتْ منذ فجر التاريخ، ومن الخطل الشنيع الحديث عن إمبريالية مصرية في السودان...". وسرعان ما جاء رد حزب الأمة السوداني الصريح على ذلك الخطاب، إذ كتب مساعد سكرتير الحزب للشؤون الخارجية رسالة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 16 نوفمبر 1950م جاء فيها أن "السودان كان كياناً منفصلا بنفسه منذ فجر التاريخ.... وأن حملة محمد علي عليه ليست إلا غزواً إمبريالياً من أجل الحصول على الذهب والأيدي العاملة. ويمكن هنا إضافة ما قاله عبد الرحمن علي طه في خطبة له بالخرطوم (ورد ذكرها في جريدة "النيل" يوم 18 نوفمبر 1950م) شكر فيها المصريين لإفصاحهم عن نيتهم "لاستعمار السودان"، وقال إنه، لحسن الحظ، قد تحدى المصريون علناً ميثاق الأمم المتحدة، الذي ورد فيه نص يحرم استرقاق الآخرين. وورد في كتابه المعنون "السودان للسودانيين" أن المصريين يعدون السودان مجرد تابع أو ذيل لهم (وهو نفس ما أعاده حسن أحمد إبراهيم في مقاله سالف الذكر. المترجم)، وأن مصر تعاني من مشكلة الزيادة المفرطة في عدد سكانها، وترغب في أن تسيطر على السودان، وأن تستغل مياهه وأراضيه الواسعة من أجل توطين سكانها فيها من دون مقابل. وختم طه بالقول إن كل كلمات مصر الجميلة عن "الاستقلال عبر الوحدة" كان لها هدف وحيد هو ضمان مصالح مصر في السودان (ص 14 من كتاب "السودان للسودانيين").
وما زال الخلاف بين المؤرخين المصريين والسودانيين محتدماً حول أهداف ومرامي التركي – المصري وانجازاته واخفاقاته، وذلك بعد مرور أكثر من قرن على الثورة المهدية، وأكثر من 170 عاماً على دخول الجيش التركي – المصري للسودان (كُتِبَ هذا الكلام في 1991م. المترجم). وقد يُعْزَى السبب في ذلك جزئياً إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في وادي النيل، والتي أعاقت وجود أي نظرة موضوعية للمسألة؛ وجزئياً، بسبب هيمنة بريطانيا على وادي النيل لأكثر من نصف قرن من الزمان. لم تكن بريطانيا مسؤولة عما سُمِّيَ بـ "القضية السودانية"، ولا عن إخفاقات الحكم التركي – المصري بالسودان. غير أن سياستها في وادي النيل في سنوات "التدافع والهرولة نحو أفريقيا"، ودعاياتها المضادة لمصر من بعد ذلك، وجدت طريقها إلى ما سموه "التقارير التاريخية"، وهي تقارير كثيرا ما تفتقر للدقة والموضوعية. ولعل هذا ما جعل مهمة المؤرخين المصريين والسودانيين أشد عسراً، خاصة وأنه كان من الواضح جداً أن صُنَّاع السياسة البريطانية (الذين يهدفون لرؤية سودان مستقل) كانوا يعتمدون على تلك التقارير التي يسمونها "الدراسات الموضوعية". ولا ريب في أن السودانيين – خاصة عقب قيام ثورة المهدي – كانوا يحسون تجاه الترك بعداء عميق. ولم تكن تلك العداوة من اختراع البريطانيين، والبريطانيون ليسوا مسؤولين تماماً عما خلفته من آثار في سودان القرن العشرين. ومن بين كل المؤرخين السودانيين، ربما كان مكي شبيكة هو أول مؤرخ سوداني يتناول تلك القضية بطريقة أكثر موضوعية من غيره. وبعد ذلك نشر المؤرخ البريطاني ريتشارد هيل دراسة محايدة ومتزنة في كتاب عنوانه "مصر في السودان بين عامي 1820 و1881م"، ثم توالت من بعد ذلك مساهمات أخرى عن تلك الفترة.
***** ***** *****
وختاماً، يمكن القول بأن غزو محمد علي للسودان كان، دون أدنى ريب، مدفوعاً بسعيه للتوسع الإمبريالي، وحاجته إلى القوى العاملة الرخيصة التي يسهل الوصول إليها لبناء جيشه وصناعاته، ورغبته في تملك موارد السودان الطبيعية. ويصح القول أيضاً أن محمد علي ومن خلفوه في حكم مصر فشلوا في تحقيق غالب تلك الأهداف، وأن السودان ظل عبئاً على الخزانة المصرية خلال 60 سنة من الحكم التركي - المصري. وبالإضافة لذلك، يمكن بالتأكيد أن يُنْسَب لعهد "التركية" إدارة السودان تحت ظل حكومة مركزية واحدة، وفتحه السودان للأسوق العالمية لأول مرة في تاريخه. أما مسألة إن كان ينبغي أن يُنْسَب لمصر الفضل في جلب التمدن/ الحضارة إلى السودان فهذا أمر قابل للنقاش وقد يكون مشكوكاً فيه نوعاً ما، إذ أن جهود مصر في هذا المجال كانت في مجملها فاترة الهمة، وبالتالي غير فعالة إلى حد كبير.
ربما كانت هناك دوافع مماثلة وراء الفتوحات الاستعمارية التي تمت في أفريقيا أو في أي مكان آخر إبان سنوات القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فهناك فرق: أولاً، لأن الأمة الإسلامية لم تكن تعترف حقاً بوجود كيانات أو حدود وطنية. وأُدْخِلَ مفهوم الدولة القومية (nation - state) إلى العالم الإسلامي من أوروبا المسيحية، ولم يكن هذا حافزاً لسعي محمد علي لغزو السودان، ولا للمقاومة السودانية. ثانياً، سيكون من الخطأ تجاهل الاعتبارات الجغرافية أو التاريخية عند مناقشة التوسع المصري في القرن التاسع عشر في وادي النيل الجنوبي. فمن بين الفتوحات / الغزوات العسكرية الأربع التي قام بها محمد علي، كان غزوه للسودان أكثرها منطقية وله ما يسوغه بلا شك، إذ أن هناك من روابط الدين واللغة والثقافة ما يجمع شعبي وادي النيل، وتعتمد مصر والسودان على مياه نهر واحد (النيل) من أجل البقاء. غير أن الثورة المهدية أفلحت في إنهاء عهد التركية، الذي يُعْتَبَرُ في السودان هو عهد فساد (في أحسن الأحوال)، أو عهد ليس فيه من خير مطلقاُ (في أسوأ الأحوال (. ويمكن – بصورة جزئية - إلقاء اللوم في ذلك السجل الملتبس على تدخلات ودعايات الأوربيين (خاصة البريطانيين). فقد كان منع الرق الذي تولاه المسؤولون البريطانيون الذين عينهم الخديوي إسماعيل للعمل بالسودان هو السبب الأهم الذي قاد لإنجاح المهدي، إذ أن المجتمع السوداني كان آنذاك يعتمد اعتمادا كلياً على المسترقين في أعمال الزراعة (يخالف دكتور كيم سيري هذا الزعم في مقاله المعنون: "مواقف المهدي حيال الرق وتحريره" https://shorturl.at/pumOy).
لقد ظل العيب الرئيسي في الكتابات التاريخية المصرية عن السودان هو أنها تطورت كجزء من الإيمان الصادق بوحدة وادي النيل، وفشلت في فك ارتباطها بتلك الفكرة. ومع اقترابنا من نهاية القرن العشرين، نتوقع أن تصبح دراسة تاريخ السودان بالتدريج أقل عاطفيةً. ولم تعد الأجيال الجديدة من المؤرخين المصريين والسودانيين مثقلة بتراث ماضيهم كما كان أسلافهم. وبالإضافة لذلك، فإن الكم الهائل من الأبحاث التاريخية الأكاديمية الجديدة حول السودان في القرنين التاسع عشر والعشرين، المستندة إلى المصادر المصرية والتركية والأوروبية الأولية، سوف يقلل بالتدريج من تأثير ما سطره المؤرخون الأوائل. ولا ينبغي بالطبع الاستهانة بالمساهمات التي قدمها قدامى المؤرخين. ومع ذلك، فإنه من المفهوم أن الأبحاث التي أجراها مصريون أو سودانيون أو أوروبيون من قبل، كانت تفتقر إلى المنظور perspectiveاللازم، وكانت مشوشة ومُختَلِطة جزئياً ببعض الاعتبارات غير الأكاديمية.
alibadreldin@hotmail.com
Gabriel R. Warburg جبرائيل آر. واربورج
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لما جاء في الجزء الثاني والأخير من مقال للمؤرخ جبرائيل آر. واربورج نُشِرَ عام 1991م بالعدد الثاني من المجلد 31 من مجلة "عالم الإسلام Die Welt des Islam" في صفحات 193 – 215. وُلِدَ الكاتب في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 - 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها على سبيل المثال كتاب بعنوان "الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية" و"الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان"، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن ترجمنا شذرات من بعض كتب ومقالات هذا المؤرخ.
المترجم.
************* **************
لقد كان الرئيس محمد نجيب ورفاقه في مجلس قيادة الثورة يؤمنون بأن السودانيين سيختارون الاتحاد مع مصر. وكان هؤلاء من نفس جيل المصريين الذين نشؤوا على الإيمان بأن "وحدة وادي النيل" هي السبيل الأوحد لحل "مسألة السودان". لذا ليس من المستغرب أن يواصل المؤرخون المصرين في الفترة التي تلت ثورة 1952م في تكرار ما جاء به من سبقوهم من مؤرخي بلادهم عن تاريخ السودان، وأن أهله كانوا – وما زالوا - يتوقون للوحدة مع مصر منذ زمن بعيد، ويعدون ذلك هو الوضع "الطبيعي"، الذي لم يفسده سوى الغزو الإمبريالي لوادي النيل. فكرر الدكتور السيد يوسف نصر بالصفحة رقم 13 في مؤلفه المعنون: "الوجود المصري في أفريقيا بين عامي 1820 إلى 1899م" العبارة الشهيرة: "السودان هو الامتداد الطبيعي لمصر"، بينما وصف الدكتور عبد العظيم رمضان السودان بأنه "العمق الاستراتيجي لمصر"، وذهب إلى أن مصر تمثل كذلك العمق الاستراتيجي للسودان، وأنه لم تكن هناك تاريخياً أي حدود بين القطرين. وذكر رمضان أيضاً أن حكام منطقة في مصر كانوا يحكمون منطقة في السودان، والعكس صحيح أيضاً. ولما لم يكن مفهوم "الوطنية / القومية nationalism" معروفاً يومها في مصر ولا في السودان، كان من الطبيعي – في نظر رمضان - أن يطلب علماء الأزهر من والي مصر محمد علي (وهو أجنبي) أن يتولى حكم البلدين، وليس هناك من ضير في أن يطلب قادة المسلمين في السودان من الوالي المصري فتح تلك البلاد، إذ أن دافعهم الأوحد كان هو الدين الإسلامي، وكانوا لا يقيمون وزناً لأصل الحاكم أو عرقه. وبهذا فإن عبد العظيم رمضان يرفض تماماً ما ذهب إليه بعض المؤرخين المصريين والسودانيين من أن الحكم التركي – المصري للسودان كانت له دوافع إمبريالية – كولونيالية؛ بل كان رمضان يرى أن الحكم المصري في السودان، على وجه العموم، كان عملاً اِتِّصَفَ بالخير والإحسان والنفع للناس، فقد أدخل بالسودان – لأول مرة – حكومة نظامية موحدة، وخفض من الضرائب (عندما أشتكى الناس من ارتفاعها) وعين شيوخ وأعيان البلاد في وظائف إدارية مهمة. وبهذا يمكن أن يُعَدُّ السودان في العهد التركي "امتداداً شرعيا" لحدود مصر، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية حين وسعت من حدودها بجنوب وغرب القارة الأمريكية في القرن التاسع عشر (وهذا يطابق من قاله من قبل المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي).
أما رأي المؤرخ عبد العظيم رمضان فيما يتعلق بتجارة الرقيق في السودان، فيتلخص في أن مصر لم تخترع تلك التجارة، فقد كانت تجارة رائجة في السودان في غضون سنوات سلطنة الفونج، وكانت تجارة يمارسها من قبل التجار الأوربيون وغيرهم. وهو محق في قوله هذا. وتوسع المؤرخ السيد يوسف نصر في هذه النقطة بعرضه لرسالة محمد علي لولده إسماعيل التي أمره فيها بإرسال 6,000 من الرقيق السوداني لمصر، وأكد له أن هذا هو السبب الرئيس في بعثه لذلك البلد. ولا شك أن كثير من الذين استرقهم إسماعيل كانوا من المسلمين، وَلاَ يَجُوزُ شرعاً اسْتِرْقَاقِ الْمُسْلِمِ، غير أن والي مصر لم يكن يأبه لتلك المسألة. وإضافة لذلك، كان الهجوم الوحشي الذي شنته وحدات الجيش التركي – المصري على القبائل المسلمة بالسودان بغرض استرقاقها قد أحدثت الكثير من الأضرار والمشاكل المجتمعية والاقتصادية لسكان البلاد. ولهذا وجد والي مصر نفسه مضطرا لتعديل أوامره السابقة، وأمر بأن يُفْرَضُ على السودانيين أن يبيعوا ما لديهم من رقيق، أو أن يستعملونهم كـ "عملة" عند دفع الضرائب. وقدم المؤرخ السيد يوسف نصر في كتابه المذكور آنفا قائمة تمثل "الحساب الختامي" لمنجزات الفتح التركي – المصري، أتت تحت العناوين التالية:
1/ توحيد مختلف المديريات تحت كيان سياسي واحد.
2/ فرض العمل بالقانون والنظام.
3/ توسيع التجارة الداخلية والخارجية.
4/ إنهاء تجارة الرقيق.
5/ التوسع في خطوط السكة حديد والاتصالات.
6/ اكتشاف منابع النيل.
7/ بناء مدن حديثة وقلاع في أماكن استراتيجية.
8/ تمدين البلاد عن طريق التعليم والتنمية الاجتماعية.
وأختتم السيد يوسف نصر ما جاء به عن "مهمة مصر لنشر المدنية بالسودان" بعبارة "ولم يكن بإمكان لأوروبي واحد أن تطأ قدمه وسط تلك القارة". وأيده في ذلك عبد العظيم رمضان على وجه العموم، ولكنه أضاف أنه لم تقع أي حالات استغلال للسودان، بل كانت مصر تغطي العجز السنوي في ميزانية السودان التي بلغت – بحسب ما أتى به رمضان - نحو 3 ملايين جنيه مصري، وأن هذا قد حدث لأن مصر والسودان كانتا تعدان قطراً واحداً لم يكن فيه مستغلين ولا مُستَغَلّين. وأدخلت مصر التمدن والعمران في السودان ببنائها للمساجد والمدارس، وتدريب المدرسين. ويكفي دليلاً على ذلك إرسال مصر أحد أكفأ مدرسيها، رفاعة رافع الطهطاوي، للسودان (ذكر كاتب المقال هنا أن عبد العظيم رمضان نفسه كان قد ذكر في صفحتي 67 و68 من كتابه آنف الذكر أن الخديوي عباس باشا كان قد نفى رفاعة رافع الطهطاوي للسودان ... اُنْظُرْ أيضا قصة نفي الطهطاوي للسودان في هذا الرابط https://shorturl.at/tAv6I المترجم).
وصدر في عام 1985م كتاب للدكتور حمدنا الله مصطفى حسن تحت عنوان "التطورات الاقتصادية والاجتماعية في السودان بين عامي 1841 و1881م" زاد فيه مؤلفه قليلاً على ما ذكره من قبل الدكتور السيد ناصر، وأضاف بعض مقولات والي مصر محمد علي من أن السودان بلد متخلف، سكانه كسالى ويفتقرون للتعليم. لذا فإن "مهمة التمدين" التي حمل عبئها محمد علي وضباطه كانت في غاية الأهمية. وكتب أن "محاولات محمد على لإنجاز برنامجه الزراعي في السودان لم تكن إصلاحاً لشيء كان موجود أصلا، كما كان عليه الحال في مصر، ولكنها كانت محاولات لخلق شيء جديد لم يكن موجوداً من قبل".
وأصدر الدكتور إبراهيم شحاتة حسن في عام 1971م كتاباً بعنوان "مصر والسودان" (عنوان الكتاب كاملاً هو "مصر والسودان ووجه الثورة في نصيحة احمد العوام: دراسة مقارنة في الأصول التاريخية للثورتين العرابية والمهدية واتجاهات الفكر الثوري في عهدهما". المترجم) أكد فيه المؤلف على أن السودانيين كانوا على الدوام ينظرون إلى النظام الذي حكم بلادهم خلال القرن التاسع عشر على أنه نظام "تركي" وليس "مصري"، إذ أن الغلبة الغالبة من كبار الضباط والموظفين كانوا أتراكاً. وذكر أيضاً أنه كان هناك تباعد كبير بين الحكام والمحكومين في ذلك العهد، مما أفضى لعداوة بائنة بينهما. وكغيره من المؤرخين، أورد إبراهيم شحاتة حسن منع تجارة الرقيق بحسبانه أهم عامل أفضى للسخط العام من النظام الحاكم في ذلك العهد.
وفي عام 1977م نشر الدكتور علي محمد بركات كتاباً بعنوان "السياسة البريطانية واسترداد السودان، 1889 – 1899م" تناول فيه الأسباب التي أدت لقيام الثورة المهدية، فذكر أن أهم تلك الأسباب هي أن الإدارة في مصر والسودان أصابهما التدهور والفساد في سبعينيات القرن التاسع عشر نتيجةً للاختراق الأجنبي (الأوروبي)، وأن تلك الثورة الإسلامية في السودان كانت ردة فعل على ذلك الاختراق، و(لكنها) عبدت الطريق في نهاية المطاف للإمبريالية. وبذا برَّأَ بركات الإدارة التركية – المصرية من تهم الفساد وسوء الإدارة، إذ أن الجناة الحقيقيين – في نظره - هم من استقدمهم الخديوي إسماعيل من أوروبا للعمل في السودان.
******** ******** ******
يناقض ما أوردناه من كتابات المؤرخين المصريين عن السودان المعلومات التي نجدها في غالب المصادر الأخرى. أولاً، يتفق كثير من المؤرخين، عموماً، على أن السودانيين كانوا يعانون، وهم تحت الحكم التركي، من عبء الضرائب الباهظة، على الأقل عند مقارنتها مع الضرائب في عهد سلطنة الفونج. وثانياً، لقد كان مبرر وجود raison d'être احتلال السودان هو "تنشيط" موارده لمصلحة الخزانة المصرية. فسواءً أن أفلح محمد علي ومن خلفه من الحكام في مصر في تحقيق ذلك الهدف، أو أنهم أضطروا لتغطية العجز في ميزانية السودان، فهذا ليس بالأمر الجوهري. وثالثاً، كان الإداريون العثمانيون الجدد يصنفون غالب السودانيين على أنهم من" المتصوفة الذين يؤمنون بالخرافات، أو الوثنيين، أو فقط "رقيق سود"؛ وليس من بينهم سوى طبقة رقيقة من "المسلمين الحقيقيين الذين تم تعزيز وجودهم من مصر، وهؤلاء هم من ينبغي أن يُعَامَلُوا بحسبانهم بشراً متحضرين تماماً" (لم يذكر الكتاب مصدر هذا المقتطف الذي أتي به. المترجم). وأخيرا، وليس آخراً، يصح القول بأن دخول الأوربيين في سلك إدارة حكم التركية بالسودان (منذ سبعينيات القرن التاسع عشر) لا بد أن يُؤْخَذ في الاعتبار عند تحليل الأسباب الي أدت لقيام الثورة المهدية. غير أننا يجب أن نتذكر أن أي قراءة موضعية لرسائل ومنشورات المهدي وخليفته تبين بجلاء أن الجهاد كان يُذْكَرُ دوماً في معرض الحديث عن "الترك"، وأن سوء الإدارة وفسادها كان شائعاً بالسودان من قبل تعيين الخديوي إسماعيل لبعض الأوربيين في مناصب عليا بالبلاد.
لم لا يقبل المؤرخون السودانيون، على وجه العموم، بتفسيرات الكثير من المؤرخين المصريين لتاريخ السودان؟ لا بد لنا في البدء أن نتذكر أن بحوث الأكاديميين السودانيين في مجال تاريخ بلادهم كانت قبل خمسينيات القرن العشرين قليلة إلى حد ما. وكان الكتاب الأوربيون، كما ذكرنا آنفاً، متأثرين بالمقولات التي غدت من فرط تكرارها وكأنها "معلومات عامة" عن بربرية وفساد الإدارة التركية بالسودان وافتقارها للفعالية. ومن جهة أخرى، يعد المؤرخون المصريون تاريخ السودان هو تاريخهم، لذا يعمدون للدفاع عن سجل أسلافهم من الأتراك – المصريين بالسودان؛ ويرون أن تلك الفترة شهدت صراعاً بين الإمبراطورية البريطانية (التي تحتل جزئين من وادي النيل) وبين شعبي السودان ومصر وهما يجاهدان من أجل نيل الاستقلال والاتحاد مع بعضهما. وثانياً، كان المؤرخون السودانيون الذين تلقوا تدريبهم في الشرق الأوسط أو أوروبا، على وجه العموم، أقل تأثراً بفكرة شعار "وحدة وادي النيل"؛ فقد كانت المسالة قد حُسِمَتْ بالنسبة لهم في عام 1955م عندما قرر السودان أن يستقل بنفسه (عن بريطانيا وعن مصر)، وغدت بعد ذلك فترة الحكم التركي – المصري لبلادهم بالنسبة لهم مجرد دراسة لعهد كولونيالي. وبهذا قد كان تاريخ السودان قبل نيله للاستقلال يُقْسَمُ لفترات ثلاث: الأولى هي "التركية"، أي الكلولونيالية التركية – المصرية من عام 1821 إلى 1881م، والثانية هي "المهدية"، وهي الفترة الباكرة للاستقلال الوطني التي استمرت حتى عام 1898م ، والثالثة هي فترة الحكم الإنجليزي المصري أو "التركية الثانية" كما كانت تعرف شعبياً من 1899م إلى 1955م. وقد يتفهم المرء سبب استياء المؤرخين المصريين في الفترة التي أعقبت انتهاء الكلولونيالية مقارنة حكم محمد علي للسودان بحكم كتشنر ووينجت. لهذا فهم يتهمون المؤرخين السودانيين بأن الدعاية الإمبريالية قد نجحت في التحكم بأفكارهم "غسل أدمغتهم brainwashed"، وكانوا يستنكفون أي رأي لمؤرخ سوداني يشير للدوافع الكلولونيالية عند الحكام المصريين في القرن التاسع عشر. ويستوي في تفسير ذلك التاريخ المؤرخون المصريون البرجوازيون في عهد ما قبل الثورة، مع المؤرخين المصريين التقدميين أو حتى الماركسيين. وكانوا جميعاً لا يرون إمكانية لوجود أي تفسير "موضوعي" لتاريخ وادي النيل لا يقبل بوحدته كأمر بدهي يقوم على أساس الجذور الطبيعية التاريخية والجغرافية والثقافية المشتركة.
وفي تلخيصه لتاريخ محمد علي في السودان أشاد بروفيسور مكي شبيكة، عميد المؤرخين السودانيين، في كتابه (بالإنجليزية) The Independent Sudan والصادر في نيويورك عام 1959م، وفي كتابه "السودان في قرن 1819 - 1919م" بالإدارة التركية لجهودها في تمدين السودان، ومحاولاتها تطوير طرق الزراعة فيه. غير أنه خلص إلى ما يفيد بأن: "لعنة/ مصيبة إدارة محمد على كانت تكمن في فرضها لضرائب باهظة على السكان، واستخدامها لوسائل وطرق شديدة القسوة في جبايتها... وعلى الرغم من أن محمد علي كان قد توقف في النهاية عن شن حملات جلب الرقيق...، إلا أن موظفيه في السودان لم ينقطعوا عن اكتناز الأموال لأنفسهم بأسرع ما يتيسر لهم، وبهذا وضعوا الأساس لإدارة فاسدة ...". وكان شبيكة أكثر تصريحاً في كتابه الأخير المعنون "مقاومة السودان الحديث للغزو والتسلط " الذي صدر في القاهرة عام 1972م، وتناول فيه ذلك الموضوع. وأدان شبيكة في ذلك الكتاب الغزو التركي – المصري في القرن التاسع عشر (مع غيره من الغزاة) باعتباره غزواً غير مبرر لدولة مسلمة، وخص بالإشادة "ثورة الجعليين" التي قادها المك نمر في عام 1822م، بحسبانها رمزاً للمقاومة السودانية، وأدان اغتيال الترك للآلاف من الجعليين، ووصف ذلك بأنه أكبر حمام دم في تاريخ السودان. وبهذا يكون شبيكة قد سوغ قيام الثورة المهدية باعتبارها جهاداً ضد الترك الذين أفسدوا الإسلام. وعلى الرغم من أن شبيكة كان قد أتى على ذكر الدور الذي أداه الأوربيون (خاصة الإنجليز) في المراحل الأخيرة من العهد التركي – المصري بالسودان، إلا أنه أكد أن "الحكم التركي – المصري هو وحده الذي تسبب في قيام انتفاضة المهدي، وليس من أتى بهم الخديوي إسماعيل من الأوربيين". وتناول شبيكة في كتابه ثلاث غزوات: الأولى هي الغزوة الحبشية عام 1744م، والثانية هي الغزو التركي المصري عامي 1820 – 1821م، وأخيراً الغزو الإنجليزي – المصري عامي 1896 – 1899م. وفي تاريخ السودان تدان كل تلك الغزوات باعتبارها أعمالاً عدائية، سواءً أكان قد أتت من حكام مسيحيين أو مسلمين.
وكتب مؤرخ سوداني آخر هو الأستاذ الدكتور حسن أحمد إبراهيم مقالاً بعنوان: "لا وصاية في التاريخ يا دكتور"، مفنداً فيه المسوغات التي طرحها رمضان (في كتابه "أكذوبة الاستعمار المصري للسودان"). وذكر إبراهيم أن للمؤرخين المصريين نزعة لاتخاذ مواقف أبوية (paternalistic attitudes) تجاه السودان، ودائما ما يصفون تاريخه وكأنه "ملحق أو ذيل أو تابع appendix" لتاريخ مصر، ويسوغون لكل ما فعلته مصر في السودان بحسبانه يصب في "خدمة ومصلحة ورفاهية" السودانيين. وأورد هذا المؤرخ السوداني عدداً من الرسائل التي بعث بها محمد علي إلى الدفتردار ولولده إسماعيل موضحاً لهما فيها ما يريده من السودان: الرقيق والذهب (والمعادن الأخرى). ولم يرد في أي واحدة من تلك الرسائل أي ذكر لرفاهية السودانيين أو تعليمهم وصحتهم. وأشار إبراهيم أيضاً إلى أن السودانيين يدينون بالإسلام، ولم تكن بهم من حاجة لتدخل مصري من أجل تعميق معتقدهم أو تنقيته. وأورد أيضاً خطاباً من حاكم كردفان إلى الدفتردار يرفض فيه - على أسس دينية - الغزو المصري. (أشار كاتب هذا المقال في الحاشية إلى أن عبد العظيم رمضان كان قد رد في كتابه المذكور آنفا في صفحتي 29 – 36 على مقالة حسن أحمد إبراهيم).
وعلى نفس المنوال، تناول دكتور إبراهيم الحاردلو في كتابه المعنون: "العلاقات الثقافية بين مصر والسودان" الصادر في الخرطوم عام 1977م، وانتهى إلى أن الدوافع الحقيقية للغزو المصري للسودان تتلخص في استغلال شعبه، ولا يهم إن أسمينا ذلك "كولونيالية" أو غير ذلك. فقد أقام الترك في مصر والسودان حكماً فاسداً استغل الشعبين المصري والسوداني، وهذا هو ما دعا المهدي للقيام بثورته. وأضاف الحاردلو أن المهدي كان يسعى لتحرير مصر وتركيا من حكامها المفسدين؛ إلا أن الدولتين اتحدتا في الهجوم عليه، وبذا انقطعت من بعد ذلك الروابط الثقافية بين شطري وادي النيل.
وكتب محمد عمر بشير (الذي تلقى تعليمه العالي في جامعة أكسفورد) عام 1978م مقالاً في المجلة المصرية "السياسة الدولية" عن الغزو التركي (وليس المصري) للسودان في عامي 1820 -1821م الذي قاد لحكم أجنبي بالسودان. وخلص أيضاً إلى أن تلك الغزوة التركية كانت بغرض استغلال واحتكار (موارد) السودان، وليست من أجل "تمدينه"، وأن الثورة المهدية في السودان تماثل ثورة عرابي في مصر في أنهما كانتا ضد تلك النخبة الأجنبية الحاكمة. وذكر بشير أنه لا عجب أن أيد الثورة المهدية عدد كبير من الوطنيين المصريين، على الرغم من أن تلك الثورة كانت موجهة ضد نخبهم الحاكمة.
لقد تواصل الخوف والشك من دوافع مصر الخفية في السودان إبان سنوات القرن العشرين، وغدا جزءًا من التراث التاريخي والسياسي لأنصار المهدية الجديدة. ولم يكن السيد عبد الرحمن المهدي وأتباعه في حاجة إلى تحفيز من البريطانيين ولا إلى التحكم بأفكارهم "غسل أدمغتهم" لجعلهم يعبرون عن عدائهم للحكم التركي في السودان في القرن التاسع عشر. وإضافةً إلى ذلك، فقد اعتبر الأنصار أن الشراكة المصرية في الحكم الثنائي في القرن العشرين هي استمرار مباشر للإمبريالية التركية في القرن السابق. وقد سرد عبد الرحمن علي طه في كتابه الموسوم "السودان للسودانيين" الصادر من شركة النشر بأم درمان عام 1955م، والصادق المهدي في كتابه "جهاد في سبيل الاستقلال" الصادر عن المطبعة الحكومية عام 1965م شيئاً عن تاريخ السودان من وجهة نظر السيد عبد الرحمن المهدي. وفي الخامس من أكتوبر 1950م نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خطاب بروفيسور هـ. ك. سليم عضو الوفد المصري للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي قال فيه إن "... وحدة مصر والسودان كانت قد أُسِّسَتْ منذ فجر التاريخ، ومن الخطل الشنيع الحديث عن إمبريالية مصرية في السودان...". وسرعان ما جاء رد حزب الأمة السوداني الصريح على ذلك الخطاب، إذ كتب مساعد سكرتير الحزب للشؤون الخارجية رسالة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 16 نوفمبر 1950م جاء فيها أن "السودان كان كياناً منفصلا بنفسه منذ فجر التاريخ.... وأن حملة محمد علي عليه ليست إلا غزواً إمبريالياً من أجل الحصول على الذهب والأيدي العاملة. ويمكن هنا إضافة ما قاله عبد الرحمن علي طه في خطبة له بالخرطوم (ورد ذكرها في جريدة "النيل" يوم 18 نوفمبر 1950م) شكر فيها المصريين لإفصاحهم عن نيتهم "لاستعمار السودان"، وقال إنه، لحسن الحظ، قد تحدى المصريون علناً ميثاق الأمم المتحدة، الذي ورد فيه نص يحرم استرقاق الآخرين. وورد في كتابه المعنون "السودان للسودانيين" أن المصريين يعدون السودان مجرد تابع أو ذيل لهم (وهو نفس ما أعاده حسن أحمد إبراهيم في مقاله سالف الذكر. المترجم)، وأن مصر تعاني من مشكلة الزيادة المفرطة في عدد سكانها، وترغب في أن تسيطر على السودان، وأن تستغل مياهه وأراضيه الواسعة من أجل توطين سكانها فيها من دون مقابل. وختم طه بالقول إن كل كلمات مصر الجميلة عن "الاستقلال عبر الوحدة" كان لها هدف وحيد هو ضمان مصالح مصر في السودان (ص 14 من كتاب "السودان للسودانيين").
وما زال الخلاف بين المؤرخين المصريين والسودانيين محتدماً حول أهداف ومرامي التركي – المصري وانجازاته واخفاقاته، وذلك بعد مرور أكثر من قرن على الثورة المهدية، وأكثر من 170 عاماً على دخول الجيش التركي – المصري للسودان (كُتِبَ هذا الكلام في 1991م. المترجم). وقد يُعْزَى السبب في ذلك جزئياً إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في وادي النيل، والتي أعاقت وجود أي نظرة موضوعية للمسألة؛ وجزئياً، بسبب هيمنة بريطانيا على وادي النيل لأكثر من نصف قرن من الزمان. لم تكن بريطانيا مسؤولة عما سُمِّيَ بـ "القضية السودانية"، ولا عن إخفاقات الحكم التركي – المصري بالسودان. غير أن سياستها في وادي النيل في سنوات "التدافع والهرولة نحو أفريقيا"، ودعاياتها المضادة لمصر من بعد ذلك، وجدت طريقها إلى ما سموه "التقارير التاريخية"، وهي تقارير كثيرا ما تفتقر للدقة والموضوعية. ولعل هذا ما جعل مهمة المؤرخين المصريين والسودانيين أشد عسراً، خاصة وأنه كان من الواضح جداً أن صُنَّاع السياسة البريطانية (الذين يهدفون لرؤية سودان مستقل) كانوا يعتمدون على تلك التقارير التي يسمونها "الدراسات الموضوعية". ولا ريب في أن السودانيين – خاصة عقب قيام ثورة المهدي – كانوا يحسون تجاه الترك بعداء عميق. ولم تكن تلك العداوة من اختراع البريطانيين، والبريطانيون ليسوا مسؤولين تماماً عما خلفته من آثار في سودان القرن العشرين. ومن بين كل المؤرخين السودانيين، ربما كان مكي شبيكة هو أول مؤرخ سوداني يتناول تلك القضية بطريقة أكثر موضوعية من غيره. وبعد ذلك نشر المؤرخ البريطاني ريتشارد هيل دراسة محايدة ومتزنة في كتاب عنوانه "مصر في السودان بين عامي 1820 و1881م"، ثم توالت من بعد ذلك مساهمات أخرى عن تلك الفترة.
***** ***** *****
وختاماً، يمكن القول بأن غزو محمد علي للسودان كان، دون أدنى ريب، مدفوعاً بسعيه للتوسع الإمبريالي، وحاجته إلى القوى العاملة الرخيصة التي يسهل الوصول إليها لبناء جيشه وصناعاته، ورغبته في تملك موارد السودان الطبيعية. ويصح القول أيضاً أن محمد علي ومن خلفوه في حكم مصر فشلوا في تحقيق غالب تلك الأهداف، وأن السودان ظل عبئاً على الخزانة المصرية خلال 60 سنة من الحكم التركي - المصري. وبالإضافة لذلك، يمكن بالتأكيد أن يُنْسَب لعهد "التركية" إدارة السودان تحت ظل حكومة مركزية واحدة، وفتحه السودان للأسوق العالمية لأول مرة في تاريخه. أما مسألة إن كان ينبغي أن يُنْسَب لمصر الفضل في جلب التمدن/ الحضارة إلى السودان فهذا أمر قابل للنقاش وقد يكون مشكوكاً فيه نوعاً ما، إذ أن جهود مصر في هذا المجال كانت في مجملها فاترة الهمة، وبالتالي غير فعالة إلى حد كبير.
ربما كانت هناك دوافع مماثلة وراء الفتوحات الاستعمارية التي تمت في أفريقيا أو في أي مكان آخر إبان سنوات القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فهناك فرق: أولاً، لأن الأمة الإسلامية لم تكن تعترف حقاً بوجود كيانات أو حدود وطنية. وأُدْخِلَ مفهوم الدولة القومية (nation - state) إلى العالم الإسلامي من أوروبا المسيحية، ولم يكن هذا حافزاً لسعي محمد علي لغزو السودان، ولا للمقاومة السودانية. ثانياً، سيكون من الخطأ تجاهل الاعتبارات الجغرافية أو التاريخية عند مناقشة التوسع المصري في القرن التاسع عشر في وادي النيل الجنوبي. فمن بين الفتوحات / الغزوات العسكرية الأربع التي قام بها محمد علي، كان غزوه للسودان أكثرها منطقية وله ما يسوغه بلا شك، إذ أن هناك من روابط الدين واللغة والثقافة ما يجمع شعبي وادي النيل، وتعتمد مصر والسودان على مياه نهر واحد (النيل) من أجل البقاء. غير أن الثورة المهدية أفلحت في إنهاء عهد التركية، الذي يُعْتَبَرُ في السودان هو عهد فساد (في أحسن الأحوال)، أو عهد ليس فيه من خير مطلقاُ (في أسوأ الأحوال (. ويمكن – بصورة جزئية - إلقاء اللوم في ذلك السجل الملتبس على تدخلات ودعايات الأوربيين (خاصة البريطانيين). فقد كان منع الرق الذي تولاه المسؤولون البريطانيون الذين عينهم الخديوي إسماعيل للعمل بالسودان هو السبب الأهم الذي قاد لإنجاح المهدي، إذ أن المجتمع السوداني كان آنذاك يعتمد اعتمادا كلياً على المسترقين في أعمال الزراعة (يخالف دكتور كيم سيري هذا الزعم في مقاله المعنون: "مواقف المهدي حيال الرق وتحريره" https://shorturl.at/pumOy).
لقد ظل العيب الرئيسي في الكتابات التاريخية المصرية عن السودان هو أنها تطورت كجزء من الإيمان الصادق بوحدة وادي النيل، وفشلت في فك ارتباطها بتلك الفكرة. ومع اقترابنا من نهاية القرن العشرين، نتوقع أن تصبح دراسة تاريخ السودان بالتدريج أقل عاطفيةً. ولم تعد الأجيال الجديدة من المؤرخين المصريين والسودانيين مثقلة بتراث ماضيهم كما كان أسلافهم. وبالإضافة لذلك، فإن الكم الهائل من الأبحاث التاريخية الأكاديمية الجديدة حول السودان في القرنين التاسع عشر والعشرين، المستندة إلى المصادر المصرية والتركية والأوروبية الأولية، سوف يقلل بالتدريج من تأثير ما سطره المؤرخون الأوائل. ولا ينبغي بالطبع الاستهانة بالمساهمات التي قدمها قدامى المؤرخين. ومع ذلك، فإنه من المفهوم أن الأبحاث التي أجراها مصريون أو سودانيون أو أوروبيون من قبل، كانت تفتقر إلى المنظور perspectiveاللازم، وكانت مشوشة ومُختَلِطة جزئياً ببعض الاعتبارات غير الأكاديمية.
alibadreldin@hotmail.com