آفاق سلام دائم وإنتقال ديمقراطي ناجح من الحرب دروس سابقة وتحديات السياق السوداني (١)

 


 

محمد خالد
10 July, 2024

 

للتحدث عن فرص إتفاق سلام مستدام يعالج أسباب الحرب ويحقق الإنتقال الديمقراطي، فلابد من تعريف أسباب الحرب والقوة الدافعة لاستمرارها ومعرفة معوقات الإنتقال الديمقراطي، يصف هذا الجزء الأول من المقال الحرب الحالية كصراع على السلطة والموارد وتغذيه عوامل تاريخية، سياسية، إقتصادية، وتدخلات خارجية.

أسباب الحرب وعوامل تأجيجها تأتي في إطار فشل الدولة السودانية وتصنيفها كدولة هشة منذ السنوات المبكرة لنظام الإنقاذ أو ربما ما قبلها. عند تطبيقنا للعوامل أو المؤشرات المحددة لفشل الدولة على حالة السودان، فسنجد أن معظم هذه المؤشرات تنطبق على السودان. تشمل مؤشرات فشل الدولة: الحروب الأهلية، وجود مجموعات سكانية مظلومة، اللجؤ والنزوح، الضغط السكاني على الموارد المحدودة، الإنهيار الإقتصادي والفقر، التنمية الإقتصادية الضعيفة وغير المتوازنة، الفساد المالي والسياسي، هجرة العقول، عدم شرعية النظام الحاكم، ضعف الخدمات العامة، ضعف حكم وسيادة القانون وإنتهاكات حقوق الإنسان، وجود مليشيات أو الجسم العسكري الأمني أو جزء منه يشكل دولة داخل الدولة، النخب المنقسمة، والتدخل الخارجي. معظم هذه المؤشرات متوفرة في السودان منذ زمن طويل للسقوط في الرمال المتحركة لهذه الحرب الشاملة لمعظم مناطق البلاد، وبعض هذه المؤشرات بدأ مع استقلال السودان وبعده، وزاد هذه المؤشرات عدداً وعمقاً ثلاثينية حكم الإنقاذ الاستبدادية في بلد متعدد ومتنوع ومترامي الأطراف وضعيف. بالطبع لا أحد يستطيع أن يجزم بحتمية حرب شاملة في السودان، ولكن كثيرين توقعوها ومنذ ما قبل ثورة ديسمبر، بل ربما منذ ما قبل إنفصال جنوب السودان.

سؤال (من أطلق الرصاصة الأولى؟) بالطبع هو سؤال مهم، ولكن منذ إنقلاب ٢٥ أكتوبر وربما قبله، فقد كان واضحاً تربص برهان وحميدتي والمؤتمر الوطني ببعضهم البعض وبثورة ديسمبر، رغم أنهم تحالفوا مرحلياً وتكتيكياً في بعض المراحل للقضاء على ثورة ديسمبر وإفشال الإنتقال الديمقراطي. فأحياناً كان ثلاثتهم يتحالفون معاً مثل ما حدث عند فض الإعتصام وإنقلاب ٢٥ أكتوبر، وأحياناً كان التحالف يضم طرفين فقط عندما وقع الرجلان على مشروع الإتفاق السياسي الإطاري مع قوى الحرية والتغيير في ٥ ديسمبر ٢٠٢٢، وتحالف برهان الحالي مع الفصيل الأكبر للمؤتمر الوطني الحالي، بحكم أن الدعم السريع أيضاً به عدد لا يستهان به من أعضاء المؤتمر الوطني.
الطموحات السياسية للبرهان وحميدتي مترابطة بشكل وثيق مع سيطرتهما على القوات العسكرية، الموارد الإقتصادية، والنفوذ السياسي. إن أفعال وأقوال ومناورات الرجلين داخل المشهد تسلط الضؤ وبوضوح على رغبتهما في الاستحواذ وترسيخ السلطة، وتأمين موقعهما في حكم البلاد.
أما المؤتمر الوطني فقد سعى بوضوح لمقاومة التغيير والعودة للسلطة، متحالفاً أحياناً مع الرجلين أو أحدهما تكتيكياً ومرحلياً، فأعضاء تنظيم المؤتمر الوطني موجودون مع الطرفين، بل من الممكن أن يكون تنظيمهم قد انقسم عرقياً أو طمعاً في مراتب أعلى، بطريقة تشبه ماحدث عند المفاصلة بين الترابي والبشير في ١٩٩٩م. استخدم المؤتمر الوطني مجموعة من الوسائل للعودة إلى السلطة، بما فيها التعبئة السياسية كالمواكب بعد ثورة ديسمبر ومواكب ما بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر، كما استخدم تأثير أعضائه على مؤسسات الدولة، واستخدم المناورات القانونية وكثافة وجود أعضائه في المؤسسات العدلية والتحالف مع العسكريين لإعاقة محاكمة البشير وأعضاء التنظيم على إنقلاب الإنقاذ في ٨٩ وغيرها من القضايا، كما استخدم السيطرة على الشبكات الإقتصادية لخنق الحكومة الإنتقالية، واستفادوا من شبكاتهم الدينية والإجتماعية ووسائل الإعلام والوسائط الإجتماعية للتحشيد وبث الإشاعات والمناورات السياسية، وأخيراً بواسطة وجودهم المكثف في مراكز إتخاذ القرار في القوات العسكرية والأمنية. هذا التنافس والتربص، في ظل إمتلاك هذا الثلاثي للسلاح هو السبب المباشر لإندلاع حرب ١٥ أبريل.

*عوامل أخرى مهدت وساعدت وأججت حرب ١٥ أبريل*

هنالك عوامل أخرى ساهمت في إندلاع وتأجيج حرب ١٥ أبريل وتحويلها لحرب شاملة.

*الانقسامات العرقية*

تاريخيا، الانقسامات العرقية وعدم توحد السودانيين حول مشروع وطني، والعجز المستمر عن إدارة التنوع في البلاد، جميعها عززت إندلاع الحروب السودانية منذ ١٩٥٥م. تستخدم جميع أطراف الصراع الحالي، الذي لم يعد ينحصر بين الدعم السريع والقوات المسلحة، القبيلة والعرق لتحشيد المقاتلين باستخدام دعاوي حقيقية وأخرى باطلة للتحشيد، كما يستخدم الدعم السريع النهب والسلب كمكافأة لمقاتليه للاستمرار في الحرب، كذلك وردت تقارير عن قيام بعض جنود الجيش والمليشيا المتحالفة معه ببعض حالات السلب والنهب، ولكن في حالة الدعم السريع مع استمرار الحرب تحول الأمر إلى نمط وسلوك متكرر منظم وهو ما أدى إلى نزوح شبه كامل للمواطنين من مناطق سيطرته، مع استثناء بعض مناطق حواضنه القبلية، مما يدل قطعاً على استخدام السلب والنهب كحافز لجلب المقاتلين واستمرار الحرب.

*التدخلات الخارجية*

تعرض السودان منذ استقلاله لتدخلات خارجية في شوؤنه ولكنها كانت محدودة التأثير. منذ إنقلاب الإنقاذ تدخل السودان في شوؤن جيرانه وغيرهم بدعم وصول حلفاء له للسلطه وأقرب مثال هو المحاولة الفاشلة لإغتيال حسني مبارك في أديس أبابا، كانت هذه التدخلات بغرض نشر فكر تنظيم الأخوان المسلمين، عندما تبنوا ما اسموه "الدولة الرسالية"، واستعدوا بشكل مباشر غير مبرر وغير مدروس العواقب أمريكا وأوروبا والعديد من الدول الإقليمية، بل في أوقات ربما تسببوا في عداء كل العالم للسودان ما عدا بعض الاستثناءات البسيطة كإيران، هذه السياسة أدت لعزل السودان عن العالم، وأثر ذلك على البلاد سياسياً واقتصادياً وتخلفت تكنولوجياً، ولم تراع تدخلاتهم في شوؤن الدول الأخرى الأمن القومي السوداني. ومع استمرار وجود الإسلاميين الطويل في السلطة وضعف نظامهم الحاكم بسبب الاستبداد والحروب، وحدوث تغييرات داخلية وإقليمية ودولية كثيرة، تحول السودان إلى هدف للسيطرة ونهب الموارد لعدد من الدول.
عند وصول الثوار إلى أبواب القيادة العامة للجيش وبدء الإعتصام ومن ثم بعده، زادت تجاذبات المحاور الإقليمية والدولية حول السودان، وتكثفت التدخلات الخارجية حوله لتحقق كل دولة مصالحها، وبالطبع ساعد في ذلك الوضع الداخلي الغامض، وصراعات السلطة، بحيث سعت كل الأطراف العسكرية والمدنية لتؤسس وتعمق تحالفاتها الخارجية، مما فتح المجال واسعاً للتدخلات والتجاذبات الإقليمية والدولية على السودان. سعى البرهان وحميدتي لتوثيق علاقتهم مع كثير من الدول لتعزيز وجودهم في السلطة، واختارت قوى الحرية والتغيير التعاون مع الغرب الديمقراطي. أما المؤتمر الوطني فأعاد علاقاته الخارجية مع إيران بعد إندلاع حرب ١٥ أبريل، بعد أن كان قطعها في ٢٠١٦ ودخوله في حلف عاصفة الحزم مع السعودية والإمارات، وإيفاد مقاتلين من الجيش السوداني والدعم السريع، وللمفارقة فإن إيفاد الدعم السريع للقتال في اليمن بشكل مستقل عن الجيش، كان من أسباب فتح الباب للدعم السريع لإنشاء علاقات خارجية مستقلة عن الدولة. كذلك سعى المؤتمر الوطني للتحالف مع روسيا وتعزيز العلاقة التي نشأت في سنوات البشير الأخيرة وما قبلها. ساعد الوضع المختل بوجود جيشين في البلاد (القوات المسلحة والدعم السريع) في زيادة وتكثيف التدخلات الخارجية، بحيث استخدمت قيادات الجيشان التدخلات الخارجية لتعزيز مطامعهم السلطوية، واختطفت أطراف الصراع الثلاثة قرار مؤسسات الدولة المعنية بالعلاقات الخارجية. وفي عالم متغير وديناميات سريعة متقلبة وحالة حرب في السودان، من الراجح أن تتخلى بعض الدول الخارجية عن حلفائها الداخليين، حال تعارض وجودهم أو أدوراهم مع مصالح هذه الدول، أو أن تتلاعب هذه الدول أو بعضها بجميع الفاعلين السودانيين في المشهد للوصول لأهدافها. تتوارد تقارير ووقائع عن تلقي قوات الدعم السريع دعماً كثيفاً من الإمارات عبر تشاد ويوغندا، بينما تقارير أخرى تحدثت عن تلقي الجيش دعماً من إيران وروسيا، وربما الجزائر، ويختلف هذا الدعم بين الطرفين كماً ونوعاً، هذا الدعم العسكري يساعد في تطاول أمد الحرب، ويعيق الوصول للسلام.

*عدم الاستقرار الاقتصادي*

ظل السودان ولفترات طويلة يعاني من تحديات إقتصادية كبيرة تشمل الفقر والتضخم وإرتفاع نسب البطالة، تفاقمت هذه الأزمة بفقدان عائدات النفط عند استقلال جنوب السودان في ٢٠١١م. تسببت هذه الصعوبات الإقتصادية في زيادة التوترات الإجتماعية والإستياء العام وزادت الفروقات بين الطبقات الإجتماعية وتناقصت أعداد الطبقة الوسطى، وزادت معدلات الأمية بشكل حاد. وفي ظل الضغوطات الإقتصادية حدث تنافس على الموارد، وأهمها الذهب، الذي كان وما زال نقطة خلاف، حيث تنافس الدعم السريع والشركات العسكرية والأمنية وغيرهم في السيطرة عليه وتصديره وتهريبه، مما أدى إلى نزاعات السيطرة على الموارد.

*فشل الإتفاقيات وعمليات السلام*

عبر تاريخ الصراعات في السودان، كان هناك الكثير من الاتفاقيات وعمليات السلام الفاشلة، بل بإمكاننا أن نقول أنها فشلت جميعاً في تحقيق أهدافها. إن عدم القدرة على تحقيق سلام دائم أدى إلى حلقات من العنف والإضطراب. بعد سقوط البشير تم توقيع وثيقة سياسية لإدارة الفترة الإنتقالية، تميزت هذه الوثيقة بالإضطراب والغموض في عدد من موادها، مما أدى لعدم حسم الخلافات السياسية وتجددها، وهو ما يحدث عند إجراء اتفاقيات تركز على التهدئة السريعة وتقاسم السلطة ولا تخاطب جذور الأزمات. وكذلك هذا ما حدث أيضا في إتفاق سلام جوبا، حيث أدى لتعميق الخلافات بخلق مسارات متعددة ولم يتم تمثيل مسار لشرق السودان بصورة معقولة. كل هذا حول هذه الاتفاقيات والوثائق إلى حقول ألغام، ومصدر للخلاف.

*العسكرة والمجموعات المسلحة*

نشأت الدعم السريع من مليشيا الجنجويد التي حولت لاحقاً إلى قوات حرس الحدود، إضافة إلى وجود حركات مسلحة كثيرة لم تنجح إتفاقيات السلام كإتفاق سلام جوبا في معالجة أسباب وجودها ودمجها في الجيش، بل تم إنشاء مجموعات جديدة بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر كدرع الوطن ودرع السودان وغيرها. ساهم إنتشار هذه المجموعات في تقويض السلطة المركزية، واستمرار العنف، إن وجود عدد من الجماعات المسلحة يعقد الجهود الرامية إلى تحقيق هيكل حكم موحد ومستقر. إن المشهد السياسي في السودان تم عسكرته بشكل كبير، بحيث يلعب قادة عسكريون كُثر دوراً رئيسياً في الحكم وإتخاذ القرارات غالباً على حساب القوى السياسية المدنية، والإعتماد على القوة العسكرية والقمع لحل النزاعات السياسية أدى إلى تكرار العنف والصراعات.

*الإرث التاريخي والمظالم غير المعالجة*

للسودان تاريخ طويل من الحروب والنزاعات الداخلية، بما في ذلك حروب دارفور وحروب جنوب السودان الطويلة وغيرها. ترك هذا الإرث التاريخي ندوباً عميقة وتظلمات غير محلولة، وأدى الفشل في معالجة أسباب هذه النزاعات إلى استمرار دورات العنف وعدم المساواة.
التظلمات وعدم المساواة الطويلة الأمد وضعف التنمية في الأطراف أدى للهجرة إلى أطراف المدن وإزدياد نسب الأمية والبطالة مما إلى خلق أجيال حالية ترى في الحرب فرصة للإثراء وتحقيق الذات وربما الإنتقام من أوضاعهم ومن يعتقدون أنهم تسببوا فيها، مما جعل هؤلاء الشباب فرصة للتجييش بواسطة أطراف النزاع.

*الحكم وضعف المؤسسات*

تم إضعاف جميع مؤسسات الدولة بسبب عقود من حكم الإسلاميين والبشير، لدرجة أن بعضها أصبح عاجز عن أداء وظيفته كما يحدث الآن بالنسبة للجيش في حماية المواطنين. كما أن سؤ الإدارة والفساد المتفشي يجعلان الإنتقال إلى حكومة مستقرة وديمقراطية أمراً صعباً.

*خاتمة*

هذه الحرب هي صراع على السلطة والموارد الإقتصادية يتم تغذيته بالتوترات العرقية والجهوية وتغذيه أطراف خارجية. كما مهد له الإرث التاريخي من الحروب، وعسكرة المجتمعات والصعوبات الإقتصادية وغياب المشروع الوطني. إن أي إتفاق أو محاولة للتهدئة دون استصحاب الأسباب المباشرة لإندلاع الحرب، والأسباب المعززة لاستمرارها، سيكون محكوماً بالفشل ولو بعد حين

محمد خالد

mkaawadalla@yahoo.com

 

آراء