برعي محمد دفع الله (2-3): هل أنت معي..؟!

 


 

 

برعي مع ما ذكرنا من تشبّعه بالبيئة اللحنية المحلية والأنغام والإيقاعات السودانية كان (حداثياً وطليعياً)..! فقد ذهب إلى معهد ايطالي في القاهرة، وذهب إلى المعهد العالي للموسيقي العربية، وذهب إلى "كلية ترنتي" في لندن، ووقف على التجارب في المدارس الموسيقية الشرقية والغربية..!
كما أن مقطوعاته الموسيقية تشير إلى ثقافته الاجتماعية وحسّه الوطني والإنساني والرومانسي وإيمانه بالتعددية في السودان أنغاماً وايقاعاً وفولكور وبيئات وطبيعة وجغرافيا..!
وفي أسماء مقطوعاته الموسيقية ما ينبئ عن ذلك؛ مثل "ملتقى النيلين" و"عروس الرمال" و"نيل الحياة" و"قطار الشمال" و"فرحة شعب" و"أحب مكان وطني السودان" و"خرير الجدول" و"أجراس المعبد" و"رمال توتي" و"الصباح" و"الينابيع" و"المروج الخضراء"..وهلمجرا..!
ولبرعي معرفة (حدسية) عجيبة ناشئة من فراسة (جينية ومُكتسبة) ومعرفة وثيقة بـ(الكار وأهله) وإلمام بمقدرات المُطربين والعازفين؛ ومن هنا كان التوفيق العجيب في رفد المغنين بما يلائم إمكاناتهم وطبيعة أصواتهم وما تنطوي علي من مد وخفض وصواعد ونوازل وتموّجات و(زهزهة) توافق المطرب المؤدي (الكمدة بالرمدة)..!
فما يخص به "أبو داؤود" ليس هو ما يهبه لمحمد وردي أو سيد خليفة أو عبيد الطيب أو حسن عطية أو عثمان الشفيع أو محمد حسنين ..وهلمجرا..!
ولك أن تستمع في الوطنيات إلى لحن (وطني) عند عبد العزيز داوود ثم لحن أعز مكان وطني السودان لإبراهيم عوض..ثم لحن (وطني أو وطن المحبة أو "الثورة البيضاء") لثلاثي العاصمة وقتئذٍ:
وطني وهبتك كل ما توحي المحبة..من معاني
وطني عشقتك خاشعاً وغرام ارضي..قد حواني..إلخ
لحن غاية في المجال ذهب مع "ثورة عبود" التي لم تكن بحق بيضاء..! كان قد كتب كلمات هذا النشيد الشاعر الغنائي الشهير عوض احمد خليفة.
**
صديقنا الباحث النحرير في هذا المجال "صلاح شعيب" له جولات فاحصة في واحة المُنجز الغنائي والموسيقي السوداني، وفي حديثه عن برعي أشار إلى ضرورة التوقف عند مساهماته الموسيقية التي قال أنها لا تقل في مجال (الهوية والإبداع) عن مساهمات المدارس الأدبية والتشكيلية مثل "مدرسة الغابة والصحراء" و"مدرسة الخرطوم"..! فهو يرى أن مدرسة برعي الموسيقية واللحنية لها تأثير أوسع مدى مما لهاتين المدرستين؛ لنجاحها في التعبير عن الهوية السودانية المتصلة بالذائقة الموسيقية بإنتاج مباشر (محسوس وملموس) ومنتشر بين جمهرة الناس..!
ويتساءل شعيب عن موقع (المدرسة الموسيقية) في نظر النقد الأدبي والفني والاجتماعي؛ ويقول ما معناه: إن فرص انتشار غناء وموسيقى برعي أفضل من فرص انتشار لوحات الصلحي وشبرين، أو قصائد محمد المكي إبراهيم ومحمد عبد الحي.
**
للأستاذ الموسيقار برعي دور محوري في تشييد الجسر الواصل أو (القنطرة) (وهو جسر ومفاعل نووي في ذات الوقت) بين مدرسة الحقيبة والمدرسة الوترية إذا جازت هذه التسميات..(رغم أن الحقيبة ما هي إلا مرحلة من سيرورة لم تتوقف نحو الأغنية الحديثة.. وهذه (قصة طويلة)..!
ومن أعلام هذا (الجسر الذهبي) شعراء وملحنون ومطربون ومطربات منهم علي سبيل المثال عبد الحميد يوسف، إسماعيل عبد المعين، احمد إبراهيم الطاش، محمد عبد الله الأمي، التجاني السيوفي، محمود أبوبكر، أحمد فلاح (الكبير)، احمد حسين العمرابي، احمد عبد الرحيم العُمري، الهادي العمرابي، حميد أبو عشر، مبارك المغربي، عبيد الطيب، حسن خليفة العطبراوي، احمد محمد الشيخ الجاغريو، حسن سليمان، الأمين علي سليمان، التاج مصطفى، الخير عثمان وآخرون..!
ومعهم شعراء واصلوا بعد "فترة الحقيبة" مثل عمر البنا، سيد عبد العزيز، عبيد عبدالرحمن، عبدالرحمن الريح، علي محمود التنقاري، ومحمد بشير عتيق..ثم كان الدور الذي لا يُضاهى لأحمد المصطفى وحسن عطية وعائشة الفلاتية وعثمان حسين وعبد الدافع عثمان وعثمان الشفيع...وهلمجرا..!
**
لقد صدق الذين قالوا إن برعي من أبكار البارعين في (تلحين المعاني): خذ مثالاً لأغنية شهيرة وأخرى لم تتداولها الأسماع كثيراً:
الأولى هي "الوصية" لمحمد وردي
تتراجع الموسيقي في شكل دوائر عند مقطع:
حلفتك يا قلبي..وحمّلتك أمانه...
الفاتت عهود..ما تبكي عشانا
حلفتك تقول لي.. إيه آخرة بُكانا..؟
الدنيا الجميله..والحسن الحدانا
الطير في غصونو.. الساجعة وحنانا
كل الناس تغني ليه؟ نحن الهم طوانا..؟
ثم توحي الموسيقى بالاحتجاج و(التحريض) في مقطع:
حلفتك يا قلبي..الخانك تخونو
والفايت غرامك..أوعك يوم تصونو..
زي ما بكّى عينييّ..سهّر لي عيونو
وأوعى تقولي تاني ..ما بنعيش بدونو..
إيه في الحب لقينا .. غير همّو وشجونو..؟!
ثم:
أوعى يا قلبي تنسى..أوعى يا قلبي تنسى
أوعى يا قلبي...!!!!
وكذلك في أغنية سيد خليفة (ليلٌ وخمرٌ وشفاه) من كلمات "حسين عثمان منصور":
أغنيات في شفاه الحب غنّاها الجمال
والمنى يا روح قلبى ليس يخفيه الدلال...
ثم عندما يسود الإحساس بالضياع وانقطاع الأنفاس في:
(أغرقتني..اغرقتني..اغرقتني ..أغرقتني بين أمواج المنى
والمنى شطٌ على بحر الغرام..
ثم مقطع لحني آخر يناسب حالة التمني الملتاع:
شعرها ليلٌ تموّج
صدرها الوثاب هودج
شفةٌ عطشى وأخرى
هي كأسٌ خمرها نارٌ وجمره
ليتني... ليتني لو ذُقتها في العمر مرّه..!
...وهلمجرا
ثم استمع إلى البداية الموسيقية الإيقاعية في أول أغنية ابو داؤؤد (أحلام الحب) أو زرعوك في قلبي: (تمتم..تارارا تارارا راا / تم تم تمتم تاريرا را) وهي من ألحان برعي الأولى والخالدة..وقد كتب محمد عبدالله الأمي هذه الأغنية وكأنها من (شعر التفعيلة)..!
يا الباسم الهادي..ونورك سطع هادي
ماذا أقول...؟
في ثناااااااااك ..وبيك الدلال عادي
وماذا أقول
عاجباني فيك بسمة
سمحة ومليحة لون
شايقاني فيك قامة..وساحراني فيك عيون..!
أنا أنا حبيبي أنا ..أنا في انتظار....أنا
أنا في انتظار عطفك..مرّت عليّا سنين
أسعدني بي نظرة..وخليك علينا حنين..!
كذلك الحال في (هل أنت معي) التي غناها ابو داوود من كلمات الشاعر المصري "محمد علي أحمد" التي تكاد تسمع فيها خفق أجنحة الغيب من فوق مرقدك:
همسات من ضمير الغيب تشجي مسمعي
وخيالات الأماني رفرفت في مضجعي.
وأنا بين ظنوني وخيالي لا أعي
ثم الركض اللاهث:
عربدت بي هاجسات الشوق إذ طال النوى
وتوالت ذكريات عاطرات بالنوى
كان لي.. كان لي ..
كان لي ..كان لي
كان لي في عالم الماضي غرام...وانطوى
هذا غير انعطافة اللحن في مقطع:
عادني الوجد إلى ليلي وكاسي مترعِ.. عادني
وسعير الحب يشقيني ويشقي مضجعي..يشقني
ولهيب الشوق يدعوني فهل أنت..هل أنت.. هل أنت معي؟!!!
**
الأغنية غير الشهيرة هي (لحظات متبددة) للشاعر مهدي محمد سعيد.. ويغنيها أيضاً عبد العزيز أبو داوود..وهي تدخل أيضاً في باب (تلحين المعاني) بالرغم من أنها تبدو عسيرة التلحين؛ حيث أنها من الشعر العمودي الفصيح، وقافيتها تنتهي بحرف الألف، كما أنها قصيرة المقاطع...لكن استمع كيف تعامل معها برعي بلحن رائق وفكر موسيقي وانتقالات في قمة الجمال والإدهاش يتغيّر فيها اللحن وفق الحالة الشعورية التي تصاحب المعاني:
إذا حييته بسما... وديع بالجمال سما
رشيقٌ شيّقٌ عبقٌ..كحيلٌ مال وانقسما
تددلل وانثني ورنا..وصوّب سهمه ورمى..!
**
تورد خده حتى... كأن بوجنتيه دما
كأن بثغره الوضاءِ..برقاً ذاب وارتسما
كأن الليل كحّله... وباح به وما كتما
**
غريرٌ بين تربيه..يعيد القول مُحتشما
أميل إليه عن كَلفٍ..وأخطو نحوه قُدُماً
وحين أراه ارهبه.. فلا ابدي له كَلِما
وتذهبُ فكرتي بدداً..ويبدو القول منبهما
أداري لوعتي حتى..يراني الناسُ مُبتسما
ثم القفلة:
فيا ويلاه من حبي.. ويا ويلاي إن عَلِما..!!
**
وكذلك الأغنيات الجبّارة: "فينوس" و"أجراس المعبد" و"أحلام الحب" "وعودة قلب - من زمن مستني عودة قلب راحل" و"لحن العذارى- أو "يا نديما عبّ من كأس الصبا" و"صبابة أو -عجباً يقول الناس انك هاجري" و"بالله يا أهل الهوى" و"أوتذكرين صغيرتي" و"لوموهو اللاهي" و"أتغريني لتشقيني" و"يا حبيباً قد تناسى" و"في حب ياخوانا اكتر من كده"..و"مصرع زهرة"..!
ومصرع زهرة هي فكرة تجريدية نادرة صوّر فيها شاعرها (لماذا تُنسب لأكثر من شاعر؛ فهل هو عوض حسن أحمد أم حسين عثمان منصور أم مكي السيد.؟) يصوّر فيها الشاعر "أياً كان" فكرة واقعية لزهرة أو فكرة أو "فتاة" (أينعت ثم اعتراها من أحداث الزمان ما اعتراها..!
ويرى بعض المتابعين العارفين أن لحن برعي لهذه الأغنية كان من الفتوحات..حيث أن اللحن يتتبّع مراحل عُمر هذه الزهرة بما يعبّر عن كل مرحلة بما يشبهها.. وهي قد مرت بهذه الأطوار التنازلية:
- أينعت
- اكتست سحرا ونضرة
- زهت (وبدت تزهو جمالاً فاح منه الطيب نشرا)
- فهي للنفس أمانٌ وهي للإلهام سحرا
- ثم ذبلت (في ناظريا)
- ثم صوّحت (ساقها الموت فتيّا)
وأخيراً: هوت إلى الأرض (فهوت في الروض زهرة)
**
هذا غير "أنساني" لعثمان الشفيع و"جمال دنيانا" إبراهيم عوض و"سلام بردو إليك" لعبيد الطيب و"يا ناس انتو" لمحمد حسنين و"رملة بيضا" لحسن عطية..و"هبت نسائم الليل" لعبد الدافع عثمان..وهلمجرا..!
واللحن الرومانسي العجيب لأغنية "من أريج نسمات الشمال" من كلمات مبارك المغربي:
زان شبابو الحيا والعفاف
طبعو نافر..ودايماً بخاف
خدّو كالأزهار اللِطاف..
حلّ قلبي.. ومَلَك الشِغاف..!!

مرتضى الغالي

murtadamore@yahoo.com

 

آراء