تَجَلِّياتُ الذُّرَة الرَّفِيعَة في الثقافةِ السُودانِية
د. يوسف محمد أحمد إدريس
13 November, 2024
13 November, 2024
د. يوسف محمد أحمد إدريس
يرجع تاريخ استخدام الذرة وزراعته في السودان لآلاف السنين قبل الميلاد، كأول مجتمع بشري يستأنس الذُّرَة الرفيعة، فقد أثبتت الأدلة الأثرية أن جنوب أتاباي ودلتا القاش هما مَهْد استئناس الذُّرَة من أصوله البرية في الألفية الرابعة قبل ميلاد المسيح. وَفَّرَ الموقع الأثَرِي خشم القِربَة 23 أول دليل على استئناس الذُّرَة في الفترة 3700-2900 قبل الميلاد ثم تلى ذلك جبل مويَا ( 2500 قبل الميلاد) ومحل تقلنوس(بالقرب من مدينة كسلا) في دلتا القاش. وقد وفَّرَت آثار كهف شقدود بالبطانة أدلة على استئناس الدخن بتلك المنطقة أيضا،ً بالرغم من أن عِدَّة دراسات قد أفادت أن مالِي في غرب إفريقيا هى أول مكان لاستئناس الدخن. حفلت الآثار المروية برسومات لنباتات وقناديل(سنابل) الذُّرَة في فخاريات في مدافن مروية في بربر وفي منحوتات بجبل قيلي بالبطانة للملك شوركارور، دلالة على أهمية الذُّرَة في الثقافة المروية. وقد وُجِدَ الذُّرَة في آثار كوشية في منطقة الكوة ودنقلا ومواقع أخري بشمال ووسط السودان. كان استهلاك الذُّرَة البري سائداً في السودان قبل الألفية الرابعة كما دلت على ذلك الآثار في منطقة الكدرو والرحى الحجرية المستخدمة في طحْنِه التي وجدت في ذات الموقع.
توفرت لعملية استئناس الذُّرَة الظروف البيئية والاجتماعية والأراضي الخصبة في شرق السودان ووسطه، مما مكَّن من نجاح وازدهار زراعته ، ومن ثم أصبح شرق السودان البوابة والمعبر التجاري التاريخي للذُّرَة والدخن لشرق البحر الأحمر والمحيط الهندي. إن عملية استئناس الذُّرَة وبالطبع تقنيات زراعته دليل على قدرات مجتمعات السودان على الابتكار وريادة اقتصاديات زراعة الغلال في إفريقيا. مازالت أصناف الذُّرَة البرِّية منتشرة في مختلف المناطق في شرق ووسط وجنوب وغرب السودان، وبصفة خاصة في مناطق السافنا، مما يعد دليلاً حياً على أن هذه البلاد هى موطن الذُّرَة الرفيعة بلا أدنى شك.
يسمى الذُّرَة في السودان "العيش" باعتبار أن معيشة الناس في غذائهم تتأسس عليه، وتطلق أمم أخري كلمة العيش على غذائها الرئيس، فيُسمِّى الخليجيون الأرز "العيش" باعتباره أساس معاشهم الغذائي. ومن الأقوال التى تمجد الذُّرَة ، قول أهل السودان العيش البِزيل الكُرْميش، والكرميش هو سوء التغذية النَّاجِم عن نقص المغذيات الرئيسية من الكاربوهيدرات والبروتينات، جراء الجوع الحاد المُزْمِن، وينسب البعض هذه المقولة للشيخ فرح ودتكتوك.
رصدت للذُّرَة ميزات تغْذوِيَّة عدة، فهو من أغنى الغلال بالحديد، وهو غني بالألياف الغذائية المهمة لصحة الجهاز الهضمي، ويحتوى على مضادات أكسدة ذات فوائد صحية كثيرة، وعلى فيتامينات B وفيتامينE، والفسفور والماغنيسيوم والزنك. كما أنه غني بالطاقة لاحتوائه على نسبة عالية من المواد الكابوهيدريتية وعلى رأسها النِشَا، وتتراوح نسبة البروتين فيه بين9-13% والتي يُهْضم منها حوالي 90%. بالرغم من أن نسبة الدهون في الذُّرَة حوالي 3% إلا أنها عالية الجودة لاحتوائها على الأحماض الدهنية أومِيقَا3، ذات الفوائد الصحية الكبيرة. ويعتبر خلو الذُّرَة من القُلُوتِين ميزة مهمة للذين يعانون من حساسية القُلُوتِين الموجود في القمح ومرض السلِياك "Celiac disease" المرتبط بها.
تتعدد أصناف الذُّرَة في السودان وتتعدد اسماؤها، فمنها الفيتَرِيتة وودعَكَر وود يابَس وقَدَمْ الحَمَام وضيفْ الله والمُقُد والصفراء والدَبَر والزِريزِيرة والحِميسِي والماريق والقصّابي وطابت والتيترون وأرفع قدمك والعجب سيدو والكوركولو وود أحمد وأخريات كثر. وتتفاوت أصنافه في ألوانها وتغطى طيفاً واسعاً من الألوان فمنها الأحمر ووالبرتقالي والأصفر والأبيض، وتعد سلالات الذُّرَة السودانية المحفوظة في بنوك الجينات المحلية والعالمية بالآلاف.
يتتبع المزارعون مراحل نمو الذُّرَة بدقة ويصفون كل مرحلة وصفاً يدل عليها، مطلقين عليها اسماً مميزاً متى ما ذُكِرَ عَرِفَ السامع ما وصل إليه من مراحل النمو. فهو شوكة حين ينبت أولاً ويظهر على سطح الأرض دون أن تظهر أوراقه كما هو حال النباتات ذات الفلقة الواحدة، و يسمى أضان فار(فأر) حين تظهر أول أوراقه الصغيرة تشبيهاً لها بأذني الفأر في الحجم والشكل، ثم سَوَاسِيو وصقور، حين يفرد أوراقه ويرتفع من الارض كقامة الصقر، ولَتيبَة(قصبة خضراء نَدِيَّة) وحِمْلَة وشرَايَة(مرحلة الإزهار) ولَبْنَة وعين دودة وفريك وعيش نَاجِم أي ناضج.
وجاءفي تشبيهات الحاردلو ذكر بعض مراحل نمو الذُّرَة:
لَتيباً حارسو حرَّاتُو ومِسايِس وفَارِقْ
عَقب الحَرَّة صقّار من السموم مدَّارِقْ
أتْنايَنْ عِروقو ورَاح فِصيصو يزارِقْ
لامِن جَاهو نَسَّام الغَفَر مِسَّارِقْ
يعضد حجة من قال أن السودان موطن الذُّرَة الرفيعة تنوع منتجاته وتعدد استخداماته في الغذاء والدواء والتجميل بما لا يضاهيها من منتجات واستخدامات في بلدان أخري. تصنع من الذُّرَة أنواع من المأكولات والمشروبات متعددة الخصائص، منها اللُقْمَة(العصيدة) والكسرة والكُوجَة والحِسُوَّة والجِنْزايَة والآبري والحلومر والنّشا والبقنية والعسلِيّة والمَرِيسة، ويؤكل بَلِيلَة وفَرِيك ومَلِيل، وتجفف الكسرة الزائدة عن حاجة الاستهلاك اليومي وتسمى أم كُشُك ثم تؤكل لاحقاً باضافة ماء ساخن ليبللها وزيت وملح وبصل وربما بعض الطماطم المجففة وتصنع من الذُّرَة عصيدة غير مخمرة( تسمى الفَطِيرَة) تؤكل باللبن أو السمن والعسل. وقد أثبتت البحوث العلمية أن عمليات تخمير الذُّرَة السائدة في الأغذية السودانية تحسن من القيمة التغذوية وتجعل مغذيات مهمة مثل الأحماض الأمينية الأساسية والنِّشا والفيتامينات متاحة بنسبة أكبر لاستفادة الجسم منه، وتحسن عملية التخمير جودة البروتينات والخصائص الحِسيَّة للأغذية.
يدخل الذُّرَة في صناعة مواد التجميل فتنتج الدِلْكَة واللّخوخَة ويستخدم مكوناً للدواء في القَلِيَّة التى تُشرب لعلاج اضطرابات الهضم(الكوفارَة) ويطلق عليه سَابِعْ الدِوْيَات(الأدْوِيَة) باعتباره مكوناً أساسياً من مكونات الأدوية الشعبية.
يُعَدُ الحلومر(حلو وحامض) والآبري أروع ابتكارات المرأة السودانية في مجال المنتجات الغذائية، وذلك لخصائصهما الفريدة ولِما اشتمل عليه تصنيعهما من فن وعمليات عديدة متسلسلة بتراتيبية محددة ومعقدة وما يصْحَبها من تفاعلات كيميائية وبيوكيميائية ونشاط ميكروبي وإنزيمي ومعاملات حرارية، أفضت لابتكار هذين المنتجين الرائعين كأفضل ما أُنْتِجَ من الذُّرَة الرفيعة في العالم. فما ابتكرته المرأة السودانية من حبوب الذُّرَة الرفيعة تُحْشَد له اليوم الفرق البحثية وخبراء تطوير المنتجات الغذائية في كُبرَيَات شركات تصنيع الأغذية العالمية.
لما كان الآبري يحتاج لزمن قصير ليجهز للشرب بإضافة الماء حتى يبتل فقد اُجْتُرِحَ من ذلك المثل" فلان ما عندو صبراً إِبِل الآبري" كناية عن ما يعرف عند السودانيين بالشَفَقَة وقِلّة الصَّبْر.
تعد الكسرة الغذاء الرئيس في السودان ومنها البيضاء والحمراء حسب صنف الذُّرَة الذى صنعت منه، ولشاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب أبيات شعر عن الكِسْرَة البيضاء بها فكاهة لطيفة يقول فيها:
فى بيت الفحل أبى السُّرة
جَـــــــــرْوُ رباه على الكِسرة
اللهَ اللهَ علــى الكِســـــــــــــرة
بيضاء تهيج لها الحضرة
ارتبط الذُّرَة بالحياة اليومية والممارسات الثقافية في السودان من احتفالات وعمل جماعي وأفراح وجنائزيات واحتفالات موسمية ودينية منذ آلاف السنين حتى يومنا هذا. واشتهرت مجتمعات جبال النوبة والنيل الأزرق باحتفالات الحصاد في مهرجانات وأعياد تشارك فيها كل فئات المجتمع بالغناء والموسيقي والرقص فرحاً واحتفاءً بموسم الحصاد وخيراته. يؤدى الناس في جبال النوبة أشهر رقصاتهم"رقصة الكمبلا" في عيد الحصاد المعروف بسبر "أدرت" احتفاءً بموسم الحصاد، وهذا الموسم هو الدَّرَتْ في مناطق أخرى من السودان. يعرف عيد الحصاد في النيل الأزرق بجدع النار وموطاغا وأبمبم والأووكي، حيث تصدح فيه أنغام أشهر آلاتهم الموسيقية "الوازا" ويغنِّى فيه الناس ويرقصون وتنظم فيه ولائم الأكل والشرب وهو فرصة مؤاتية للخطوبة وبدايات الدخول لعالم الزوجية.
وجد الذُّرَة مكاناً في الشعر الشعبي في التعبير عن الحب والشوق و المدح، فجاء في مدح النعيم ود حمد:
وكت العيش بِقَى بالقُبَضْ ديوان النَّعيم ولا بِنسد، كناية عن كرمه الفائق حتى في أوقات شح المخزون من مواد الغذاء الرئيسية. وجاء في وصف بياض أسنان المحبوبة وتشبيهها ببياض لون أحد أصناف الذرة، قول أمْحُمَّد زين اللحوي في أم عيسى:
فرع القَرَضْ الكابي
تِحْتُو بِكُرْ الَّدابي
أنا جنيت يا أصحابي
من أم سِناً قَصَّابي
والقصابي من أصناف الذُّرَة البيضاء القديمة في السودان، فقد ورد في كتاب تاريخ ملوك السودان عن المقريزي " كان العَنَج قد تغلبوا على النوبة وجعلوا سوبا مركز سلطتهم، وكانت فى هذه المدينة أبنية حسنة وبساتين، وبها رباط معمور بالمسلمين وموقعها شرق النيل قريباً من اجتماعه بالنيل الأبيض وأكثر مأكول أهلها الذُّرَة البيضاء المعروفة بالقصابي". فقد أشار إليه المقريزي قائلاً " متملك علوة أكثر مالاً من متملك المقرة وأعظم جيشاً وعنده من الخيل ما ليس عند المقري ومأكولهم الذُّرَة البيضاء والتى مثل الأرز منها خبزهم ومرزهم "، ويعنى بمرزهم مشروبهم الكحولي.
وقالت إحدى فتيات الريف السوداني تتغنى مفصحة عن شوقها للحبيب:
قنْدول الفيترِيت
مشتاقة ليك ما لِقِيت
وقال ودكنون يصف جمله:
ماكِلْ فيتريت عضمكْ مَلان مو فاضِي
فوقَكْ حظ مجالاتي ومعِيشة أولادي
على الطَلَع الفيافِي وقمَّح الصيّادي
سُرْعك طلقة الجُنِدي وسِلُوك الرّادي
يعتد ودكنون بجمله قوي البنية الجسدية لأن غذاءه الفيتريتة ومن ثم توفرت له أسباب النشاط والحيوية والسرعة الفائقة وكأن سرعتة كسرعة الصوت وهو يسرع الخطى لديار الحبيبة.
وقال آخر:
الماريق عَلُوقُو وأكْلُو
والدَربْ البِهابنّو الجُمَال شركْلو
يذر الدِكَّة ما بتلملمو ويضحكلو
على المَتْبورة ما بيرتالو يَنْعَل شكْلو
وقالت شَغَبَة:
وَكْتن تَجِينا الّلحرَابْ
بِنِكيل الحِميسي ونَنَفُضْ البُتَّابْ
بي زَرق الحَسَادَة بِنْكَمِّل الشِيَّابْ
ونرْقُد في ضَرَى دَرَق الجَنَا التَيَّابْ
وكان الذُّرَة حاضراً في أدبيات رواد الأنادي، تسمع تفاخر بعضهم بقوله، أرْقُد آ عيش أنا جُرَابَكْ، كناية عن قدراته المشهودة في شرب كميات كبيرة من زاد الأنادي. وعندما أفرط أحدهم في الشرب واضطربت خطواته وهو عائد من محل الشرب ظن أن هناك من يدفعه دفعاً للسير للأمام وهو يخطو خطوة للأمام وأخري للوراء، تغنى قائلاً:
العيش ما تَدَفِّرني بَرَاي بَمِشْ
يا الباِلنّك من أمِس بَرَاي بَمِشْ
يا الشارّنك في البِرِش بَرَاي بَمِشْ
يا الخاتنّك في الشَمِشْ براي بَمِشْ
العيش ما تَدَفِّرني براي بَمِشْ
حُظِيَتْ نباتات الذُّرَة النِّديَّة بمكانة عالية حين اتخذها شعراء البُطانة مرجعاً جمالياً وشبَّهوا بها قوام الحِسَان اللّدِن، وما كان ذلك ليحدث لولا مكانة الذُّرَة وجمالياته في الوجدان الشعبي السوداني. قال الحاردلو:
البارح أنا وقصبة مدالق السيل
في ونسة وبسط نامن قسمنا الليل
وكت النعام أشقلبنبو الخيل
لا جادت ولا بخلت علّى بِلْحَيل
وقال ود شوراني:
يا فوسَيبة الوادي الرَّوايَا مرونِك
حَبْ المنقة والأنناس حَلاتِك ودونِك
مُحَال ما بِتِّمتعى الحي بي هَواكِ وشؤونِك
مهووس بيك وقلبي عليك وبِقِيت مَجْنونِك
الفوسيبة هي قصبة الذُّرَة التي تنبت وتنمو منفردة، وتتسم بالنضارة والحيوية.
قال ود الفرَّاش مخاطباً جمله حاثاً له على السير لديار المحبوبة واصفاً إياها بقصيبة المَدْلَق:
سامِعْ بَكْ قَبُل لا أشْتَرِيكَا
بتتخاززْ تروقِل فى جَرِيكَا
أرَحْ لى سِتَّك الفِى الرُّوح شَرِيكا
قِصيبَة المَدْلقْ الخدَّر فَرِيكا
استخدم المزارعون السودانيون عدة طرق لتخزين الذُّرَة حيث تخزن تقاوي صغار المزارعين في أواني فخارية(بُرَام) تغلق إغلاقاً محكماً لحمياتها من الحشرات والطيور والظروف البيئية المحيطة بها، وتخزن كميات الذُّرَة للاستهلاك اليومي في السِويبة الملحقة بالمنزل، بينما تخزن الكميات الكبيرة لفترات طويلة في مطامير تحفر في الارض ويفرش عليها البُتّاب ثم يوضع الذُّرَة ويغطى بالبُتّاب ثم تليه عدة طبقات من التراب. والبُتّاب هو قشرة ونفايات قناديل الذُّرَة بعد فصل الحبوب وقد جاء ذكره في اشعار شغبة المرغمابية حين فاخرت بأهلها وذمت غيرهم قائلة:
أهلي يا وِليد نزلوا مَزَارقْ الطّابْ
عز الناس أهلنا والآخرِين بُتّابْ
كان الناس يدْرُسون الذُّرَة بآلة يديوية تسمى المُدْقَاق ويطلق عليه أيضاً أب راسين وصفاً له، وجاء في أهازيج المزارعين وعمال حصاد الذرة:
الخُدّير أنا ماني حي
الأكلو الطير أنا ماني حي
دُق العيش بالقمراء
يَا ابْ راسين نارك حمراء
شَمّا جات أنا ماني حي
لابسة العاجات أنا ماني حي.
تتم عملية الدرس اليدوي في التَّقاة التي كانت تجهز بتسوية الأرض ثم توضع عليها نباتات جافة(قش) أفضلها الأنِيس والنّال في مناطق السافنا الغنية، ثم يخلط التراب بالماء ويطرح الطين اللّيِن على القش ويسوى ويترك ليجف ليصبح تقاة، وقد صارت التقاة بعئذ قطعة كبيرة من القماش أو البلاستيك.
وقد ورد ذكر التَّقاة في شعر إسماعيل حسن:
بلادي جنَّة للشافوها أو للبرَّة بيها سِمِعْ
بلاد ناسن تَكِرمْ الضّيف حتى الطير يجيها جِعان ومن أطراف تِقِيها شِبِع.
وقيل في المثل "القمريَّة ما بتعذر التَّقاة" إشارة إلي أن صاحب الحاجة لا يفقد الأمل في من هو محل الجُود والكرم.
وبعد، هذا المقال مزيج من الاطلاع والذكريات، ويعود الفضل في شغفى بثقافة الذُّرَة الرفيعة للبيئة التي نشأت فيها ولأستاذي الجليل الراحل بروفيسور حامد درار بمحاضراته وبحوثه وكتابه الفريد عن الأغذية السودانية المُخمَّرة، التي يُعَدُ الذُّرَة عِمادها.
المصادر:
تاريخ ملوك السودان- تحقيق مكي شبيكة-- تأليف كاتب الشونة وآخرون-الدار السودانية للكتب-
.2009
د. خالد محمد فرح. تجلّيات الذُّرة الصفراء(عيش الرّيف) في عدد من اللغات الافريقية: سياحة فيلولوجية تاريخية. سودانايل. 5 سبتمبر 2018.
Hamid Dirar. The Indigenous Fermented Foods of the Sudan, Dal Cultural Forum. 2015.
Giusy Capasso, Dulce Neves, Alessandra Sperduti, Emanuela Cristiani &
Andrea Manzo. 2024. Direct evidence of plant consumption in Neolithic Eastern Sudan from dental calculus analysis. Scientific Reports; 14:4278 https://doi.org/10.1038/s41598-024-53300-z
Frank Winchell, Michael Brass, Andrea Manzo, Alemseged Beldados, Valentina Perna, Charlene Murphy, Chris Stevens & Dorian Q. Fuller. 2018. On the Origins and Dissemination of Domesticated Sorghum and Pearl Millet across Africa and into India: a View from the Butana Group of the Far Eastern Sahel. 2018. Afr. Archaeol. Rev. 35:483–505.
Mahmoud Suliman Bashir. 2019.The Role of Sorghum Beer and Porridge in Meroitic Society: New Evidence from the Meroitic Cemetery at Berber, Northern Sudan. South African Archaeological Bulletin 74 (210): 76–81.
B.O. Eggum,L.Monowar, K.E.Bach Kundsen, L. Munck, and J. Axtell. 1983. Nutritional quality of sorghum and sorghum foods from Sudan. Journal of Cereal Science;1(2), 127-137.
C. Anglani. 1998. Sorghum for human food-A review. Plant Foods for Human Nutrition; 52,85-95.
yousifidris@yahoo.com
يرجع تاريخ استخدام الذرة وزراعته في السودان لآلاف السنين قبل الميلاد، كأول مجتمع بشري يستأنس الذُّرَة الرفيعة، فقد أثبتت الأدلة الأثرية أن جنوب أتاباي ودلتا القاش هما مَهْد استئناس الذُّرَة من أصوله البرية في الألفية الرابعة قبل ميلاد المسيح. وَفَّرَ الموقع الأثَرِي خشم القِربَة 23 أول دليل على استئناس الذُّرَة في الفترة 3700-2900 قبل الميلاد ثم تلى ذلك جبل مويَا ( 2500 قبل الميلاد) ومحل تقلنوس(بالقرب من مدينة كسلا) في دلتا القاش. وقد وفَّرَت آثار كهف شقدود بالبطانة أدلة على استئناس الدخن بتلك المنطقة أيضا،ً بالرغم من أن عِدَّة دراسات قد أفادت أن مالِي في غرب إفريقيا هى أول مكان لاستئناس الدخن. حفلت الآثار المروية برسومات لنباتات وقناديل(سنابل) الذُّرَة في فخاريات في مدافن مروية في بربر وفي منحوتات بجبل قيلي بالبطانة للملك شوركارور، دلالة على أهمية الذُّرَة في الثقافة المروية. وقد وُجِدَ الذُّرَة في آثار كوشية في منطقة الكوة ودنقلا ومواقع أخري بشمال ووسط السودان. كان استهلاك الذُّرَة البري سائداً في السودان قبل الألفية الرابعة كما دلت على ذلك الآثار في منطقة الكدرو والرحى الحجرية المستخدمة في طحْنِه التي وجدت في ذات الموقع.
توفرت لعملية استئناس الذُّرَة الظروف البيئية والاجتماعية والأراضي الخصبة في شرق السودان ووسطه، مما مكَّن من نجاح وازدهار زراعته ، ومن ثم أصبح شرق السودان البوابة والمعبر التجاري التاريخي للذُّرَة والدخن لشرق البحر الأحمر والمحيط الهندي. إن عملية استئناس الذُّرَة وبالطبع تقنيات زراعته دليل على قدرات مجتمعات السودان على الابتكار وريادة اقتصاديات زراعة الغلال في إفريقيا. مازالت أصناف الذُّرَة البرِّية منتشرة في مختلف المناطق في شرق ووسط وجنوب وغرب السودان، وبصفة خاصة في مناطق السافنا، مما يعد دليلاً حياً على أن هذه البلاد هى موطن الذُّرَة الرفيعة بلا أدنى شك.
يسمى الذُّرَة في السودان "العيش" باعتبار أن معيشة الناس في غذائهم تتأسس عليه، وتطلق أمم أخري كلمة العيش على غذائها الرئيس، فيُسمِّى الخليجيون الأرز "العيش" باعتباره أساس معاشهم الغذائي. ومن الأقوال التى تمجد الذُّرَة ، قول أهل السودان العيش البِزيل الكُرْميش، والكرميش هو سوء التغذية النَّاجِم عن نقص المغذيات الرئيسية من الكاربوهيدرات والبروتينات، جراء الجوع الحاد المُزْمِن، وينسب البعض هذه المقولة للشيخ فرح ودتكتوك.
رصدت للذُّرَة ميزات تغْذوِيَّة عدة، فهو من أغنى الغلال بالحديد، وهو غني بالألياف الغذائية المهمة لصحة الجهاز الهضمي، ويحتوى على مضادات أكسدة ذات فوائد صحية كثيرة، وعلى فيتامينات B وفيتامينE، والفسفور والماغنيسيوم والزنك. كما أنه غني بالطاقة لاحتوائه على نسبة عالية من المواد الكابوهيدريتية وعلى رأسها النِشَا، وتتراوح نسبة البروتين فيه بين9-13% والتي يُهْضم منها حوالي 90%. بالرغم من أن نسبة الدهون في الذُّرَة حوالي 3% إلا أنها عالية الجودة لاحتوائها على الأحماض الدهنية أومِيقَا3، ذات الفوائد الصحية الكبيرة. ويعتبر خلو الذُّرَة من القُلُوتِين ميزة مهمة للذين يعانون من حساسية القُلُوتِين الموجود في القمح ومرض السلِياك "Celiac disease" المرتبط بها.
تتعدد أصناف الذُّرَة في السودان وتتعدد اسماؤها، فمنها الفيتَرِيتة وودعَكَر وود يابَس وقَدَمْ الحَمَام وضيفْ الله والمُقُد والصفراء والدَبَر والزِريزِيرة والحِميسِي والماريق والقصّابي وطابت والتيترون وأرفع قدمك والعجب سيدو والكوركولو وود أحمد وأخريات كثر. وتتفاوت أصنافه في ألوانها وتغطى طيفاً واسعاً من الألوان فمنها الأحمر ووالبرتقالي والأصفر والأبيض، وتعد سلالات الذُّرَة السودانية المحفوظة في بنوك الجينات المحلية والعالمية بالآلاف.
يتتبع المزارعون مراحل نمو الذُّرَة بدقة ويصفون كل مرحلة وصفاً يدل عليها، مطلقين عليها اسماً مميزاً متى ما ذُكِرَ عَرِفَ السامع ما وصل إليه من مراحل النمو. فهو شوكة حين ينبت أولاً ويظهر على سطح الأرض دون أن تظهر أوراقه كما هو حال النباتات ذات الفلقة الواحدة، و يسمى أضان فار(فأر) حين تظهر أول أوراقه الصغيرة تشبيهاً لها بأذني الفأر في الحجم والشكل، ثم سَوَاسِيو وصقور، حين يفرد أوراقه ويرتفع من الارض كقامة الصقر، ولَتيبَة(قصبة خضراء نَدِيَّة) وحِمْلَة وشرَايَة(مرحلة الإزهار) ولَبْنَة وعين دودة وفريك وعيش نَاجِم أي ناضج.
وجاءفي تشبيهات الحاردلو ذكر بعض مراحل نمو الذُّرَة:
لَتيباً حارسو حرَّاتُو ومِسايِس وفَارِقْ
عَقب الحَرَّة صقّار من السموم مدَّارِقْ
أتْنايَنْ عِروقو ورَاح فِصيصو يزارِقْ
لامِن جَاهو نَسَّام الغَفَر مِسَّارِقْ
يعضد حجة من قال أن السودان موطن الذُّرَة الرفيعة تنوع منتجاته وتعدد استخداماته في الغذاء والدواء والتجميل بما لا يضاهيها من منتجات واستخدامات في بلدان أخري. تصنع من الذُّرَة أنواع من المأكولات والمشروبات متعددة الخصائص، منها اللُقْمَة(العصيدة) والكسرة والكُوجَة والحِسُوَّة والجِنْزايَة والآبري والحلومر والنّشا والبقنية والعسلِيّة والمَرِيسة، ويؤكل بَلِيلَة وفَرِيك ومَلِيل، وتجفف الكسرة الزائدة عن حاجة الاستهلاك اليومي وتسمى أم كُشُك ثم تؤكل لاحقاً باضافة ماء ساخن ليبللها وزيت وملح وبصل وربما بعض الطماطم المجففة وتصنع من الذُّرَة عصيدة غير مخمرة( تسمى الفَطِيرَة) تؤكل باللبن أو السمن والعسل. وقد أثبتت البحوث العلمية أن عمليات تخمير الذُّرَة السائدة في الأغذية السودانية تحسن من القيمة التغذوية وتجعل مغذيات مهمة مثل الأحماض الأمينية الأساسية والنِّشا والفيتامينات متاحة بنسبة أكبر لاستفادة الجسم منه، وتحسن عملية التخمير جودة البروتينات والخصائص الحِسيَّة للأغذية.
يدخل الذُّرَة في صناعة مواد التجميل فتنتج الدِلْكَة واللّخوخَة ويستخدم مكوناً للدواء في القَلِيَّة التى تُشرب لعلاج اضطرابات الهضم(الكوفارَة) ويطلق عليه سَابِعْ الدِوْيَات(الأدْوِيَة) باعتباره مكوناً أساسياً من مكونات الأدوية الشعبية.
يُعَدُ الحلومر(حلو وحامض) والآبري أروع ابتكارات المرأة السودانية في مجال المنتجات الغذائية، وذلك لخصائصهما الفريدة ولِما اشتمل عليه تصنيعهما من فن وعمليات عديدة متسلسلة بتراتيبية محددة ومعقدة وما يصْحَبها من تفاعلات كيميائية وبيوكيميائية ونشاط ميكروبي وإنزيمي ومعاملات حرارية، أفضت لابتكار هذين المنتجين الرائعين كأفضل ما أُنْتِجَ من الذُّرَة الرفيعة في العالم. فما ابتكرته المرأة السودانية من حبوب الذُّرَة الرفيعة تُحْشَد له اليوم الفرق البحثية وخبراء تطوير المنتجات الغذائية في كُبرَيَات شركات تصنيع الأغذية العالمية.
لما كان الآبري يحتاج لزمن قصير ليجهز للشرب بإضافة الماء حتى يبتل فقد اُجْتُرِحَ من ذلك المثل" فلان ما عندو صبراً إِبِل الآبري" كناية عن ما يعرف عند السودانيين بالشَفَقَة وقِلّة الصَّبْر.
تعد الكسرة الغذاء الرئيس في السودان ومنها البيضاء والحمراء حسب صنف الذُّرَة الذى صنعت منه، ولشاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب أبيات شعر عن الكِسْرَة البيضاء بها فكاهة لطيفة يقول فيها:
فى بيت الفحل أبى السُّرة
جَـــــــــرْوُ رباه على الكِسرة
اللهَ اللهَ علــى الكِســـــــــــــرة
بيضاء تهيج لها الحضرة
ارتبط الذُّرَة بالحياة اليومية والممارسات الثقافية في السودان من احتفالات وعمل جماعي وأفراح وجنائزيات واحتفالات موسمية ودينية منذ آلاف السنين حتى يومنا هذا. واشتهرت مجتمعات جبال النوبة والنيل الأزرق باحتفالات الحصاد في مهرجانات وأعياد تشارك فيها كل فئات المجتمع بالغناء والموسيقي والرقص فرحاً واحتفاءً بموسم الحصاد وخيراته. يؤدى الناس في جبال النوبة أشهر رقصاتهم"رقصة الكمبلا" في عيد الحصاد المعروف بسبر "أدرت" احتفاءً بموسم الحصاد، وهذا الموسم هو الدَّرَتْ في مناطق أخرى من السودان. يعرف عيد الحصاد في النيل الأزرق بجدع النار وموطاغا وأبمبم والأووكي، حيث تصدح فيه أنغام أشهر آلاتهم الموسيقية "الوازا" ويغنِّى فيه الناس ويرقصون وتنظم فيه ولائم الأكل والشرب وهو فرصة مؤاتية للخطوبة وبدايات الدخول لعالم الزوجية.
وجد الذُّرَة مكاناً في الشعر الشعبي في التعبير عن الحب والشوق و المدح، فجاء في مدح النعيم ود حمد:
وكت العيش بِقَى بالقُبَضْ ديوان النَّعيم ولا بِنسد، كناية عن كرمه الفائق حتى في أوقات شح المخزون من مواد الغذاء الرئيسية. وجاء في وصف بياض أسنان المحبوبة وتشبيهها ببياض لون أحد أصناف الذرة، قول أمْحُمَّد زين اللحوي في أم عيسى:
فرع القَرَضْ الكابي
تِحْتُو بِكُرْ الَّدابي
أنا جنيت يا أصحابي
من أم سِناً قَصَّابي
والقصابي من أصناف الذُّرَة البيضاء القديمة في السودان، فقد ورد في كتاب تاريخ ملوك السودان عن المقريزي " كان العَنَج قد تغلبوا على النوبة وجعلوا سوبا مركز سلطتهم، وكانت فى هذه المدينة أبنية حسنة وبساتين، وبها رباط معمور بالمسلمين وموقعها شرق النيل قريباً من اجتماعه بالنيل الأبيض وأكثر مأكول أهلها الذُّرَة البيضاء المعروفة بالقصابي". فقد أشار إليه المقريزي قائلاً " متملك علوة أكثر مالاً من متملك المقرة وأعظم جيشاً وعنده من الخيل ما ليس عند المقري ومأكولهم الذُّرَة البيضاء والتى مثل الأرز منها خبزهم ومرزهم "، ويعنى بمرزهم مشروبهم الكحولي.
وقالت إحدى فتيات الريف السوداني تتغنى مفصحة عن شوقها للحبيب:
قنْدول الفيترِيت
مشتاقة ليك ما لِقِيت
وقال ودكنون يصف جمله:
ماكِلْ فيتريت عضمكْ مَلان مو فاضِي
فوقَكْ حظ مجالاتي ومعِيشة أولادي
على الطَلَع الفيافِي وقمَّح الصيّادي
سُرْعك طلقة الجُنِدي وسِلُوك الرّادي
يعتد ودكنون بجمله قوي البنية الجسدية لأن غذاءه الفيتريتة ومن ثم توفرت له أسباب النشاط والحيوية والسرعة الفائقة وكأن سرعتة كسرعة الصوت وهو يسرع الخطى لديار الحبيبة.
وقال آخر:
الماريق عَلُوقُو وأكْلُو
والدَربْ البِهابنّو الجُمَال شركْلو
يذر الدِكَّة ما بتلملمو ويضحكلو
على المَتْبورة ما بيرتالو يَنْعَل شكْلو
وقالت شَغَبَة:
وَكْتن تَجِينا الّلحرَابْ
بِنِكيل الحِميسي ونَنَفُضْ البُتَّابْ
بي زَرق الحَسَادَة بِنْكَمِّل الشِيَّابْ
ونرْقُد في ضَرَى دَرَق الجَنَا التَيَّابْ
وكان الذُّرَة حاضراً في أدبيات رواد الأنادي، تسمع تفاخر بعضهم بقوله، أرْقُد آ عيش أنا جُرَابَكْ، كناية عن قدراته المشهودة في شرب كميات كبيرة من زاد الأنادي. وعندما أفرط أحدهم في الشرب واضطربت خطواته وهو عائد من محل الشرب ظن أن هناك من يدفعه دفعاً للسير للأمام وهو يخطو خطوة للأمام وأخري للوراء، تغنى قائلاً:
العيش ما تَدَفِّرني بَرَاي بَمِشْ
يا الباِلنّك من أمِس بَرَاي بَمِشْ
يا الشارّنك في البِرِش بَرَاي بَمِشْ
يا الخاتنّك في الشَمِشْ براي بَمِشْ
العيش ما تَدَفِّرني براي بَمِشْ
حُظِيَتْ نباتات الذُّرَة النِّديَّة بمكانة عالية حين اتخذها شعراء البُطانة مرجعاً جمالياً وشبَّهوا بها قوام الحِسَان اللّدِن، وما كان ذلك ليحدث لولا مكانة الذُّرَة وجمالياته في الوجدان الشعبي السوداني. قال الحاردلو:
البارح أنا وقصبة مدالق السيل
في ونسة وبسط نامن قسمنا الليل
وكت النعام أشقلبنبو الخيل
لا جادت ولا بخلت علّى بِلْحَيل
وقال ود شوراني:
يا فوسَيبة الوادي الرَّوايَا مرونِك
حَبْ المنقة والأنناس حَلاتِك ودونِك
مُحَال ما بِتِّمتعى الحي بي هَواكِ وشؤونِك
مهووس بيك وقلبي عليك وبِقِيت مَجْنونِك
الفوسيبة هي قصبة الذُّرَة التي تنبت وتنمو منفردة، وتتسم بالنضارة والحيوية.
قال ود الفرَّاش مخاطباً جمله حاثاً له على السير لديار المحبوبة واصفاً إياها بقصيبة المَدْلَق:
سامِعْ بَكْ قَبُل لا أشْتَرِيكَا
بتتخاززْ تروقِل فى جَرِيكَا
أرَحْ لى سِتَّك الفِى الرُّوح شَرِيكا
قِصيبَة المَدْلقْ الخدَّر فَرِيكا
استخدم المزارعون السودانيون عدة طرق لتخزين الذُّرَة حيث تخزن تقاوي صغار المزارعين في أواني فخارية(بُرَام) تغلق إغلاقاً محكماً لحمياتها من الحشرات والطيور والظروف البيئية المحيطة بها، وتخزن كميات الذُّرَة للاستهلاك اليومي في السِويبة الملحقة بالمنزل، بينما تخزن الكميات الكبيرة لفترات طويلة في مطامير تحفر في الارض ويفرش عليها البُتّاب ثم يوضع الذُّرَة ويغطى بالبُتّاب ثم تليه عدة طبقات من التراب. والبُتّاب هو قشرة ونفايات قناديل الذُّرَة بعد فصل الحبوب وقد جاء ذكره في اشعار شغبة المرغمابية حين فاخرت بأهلها وذمت غيرهم قائلة:
أهلي يا وِليد نزلوا مَزَارقْ الطّابْ
عز الناس أهلنا والآخرِين بُتّابْ
كان الناس يدْرُسون الذُّرَة بآلة يديوية تسمى المُدْقَاق ويطلق عليه أيضاً أب راسين وصفاً له، وجاء في أهازيج المزارعين وعمال حصاد الذرة:
الخُدّير أنا ماني حي
الأكلو الطير أنا ماني حي
دُق العيش بالقمراء
يَا ابْ راسين نارك حمراء
شَمّا جات أنا ماني حي
لابسة العاجات أنا ماني حي.
تتم عملية الدرس اليدوي في التَّقاة التي كانت تجهز بتسوية الأرض ثم توضع عليها نباتات جافة(قش) أفضلها الأنِيس والنّال في مناطق السافنا الغنية، ثم يخلط التراب بالماء ويطرح الطين اللّيِن على القش ويسوى ويترك ليجف ليصبح تقاة، وقد صارت التقاة بعئذ قطعة كبيرة من القماش أو البلاستيك.
وقد ورد ذكر التَّقاة في شعر إسماعيل حسن:
بلادي جنَّة للشافوها أو للبرَّة بيها سِمِعْ
بلاد ناسن تَكِرمْ الضّيف حتى الطير يجيها جِعان ومن أطراف تِقِيها شِبِع.
وقيل في المثل "القمريَّة ما بتعذر التَّقاة" إشارة إلي أن صاحب الحاجة لا يفقد الأمل في من هو محل الجُود والكرم.
وبعد، هذا المقال مزيج من الاطلاع والذكريات، ويعود الفضل في شغفى بثقافة الذُّرَة الرفيعة للبيئة التي نشأت فيها ولأستاذي الجليل الراحل بروفيسور حامد درار بمحاضراته وبحوثه وكتابه الفريد عن الأغذية السودانية المُخمَّرة، التي يُعَدُ الذُّرَة عِمادها.
المصادر:
تاريخ ملوك السودان- تحقيق مكي شبيكة-- تأليف كاتب الشونة وآخرون-الدار السودانية للكتب-
.2009
د. خالد محمد فرح. تجلّيات الذُّرة الصفراء(عيش الرّيف) في عدد من اللغات الافريقية: سياحة فيلولوجية تاريخية. سودانايل. 5 سبتمبر 2018.
Hamid Dirar. The Indigenous Fermented Foods of the Sudan, Dal Cultural Forum. 2015.
Giusy Capasso, Dulce Neves, Alessandra Sperduti, Emanuela Cristiani &
Andrea Manzo. 2024. Direct evidence of plant consumption in Neolithic Eastern Sudan from dental calculus analysis. Scientific Reports; 14:4278 https://doi.org/10.1038/s41598-024-53300-z
Frank Winchell, Michael Brass, Andrea Manzo, Alemseged Beldados, Valentina Perna, Charlene Murphy, Chris Stevens & Dorian Q. Fuller. 2018. On the Origins and Dissemination of Domesticated Sorghum and Pearl Millet across Africa and into India: a View from the Butana Group of the Far Eastern Sahel. 2018. Afr. Archaeol. Rev. 35:483–505.
Mahmoud Suliman Bashir. 2019.The Role of Sorghum Beer and Porridge in Meroitic Society: New Evidence from the Meroitic Cemetery at Berber, Northern Sudan. South African Archaeological Bulletin 74 (210): 76–81.
B.O. Eggum,L.Monowar, K.E.Bach Kundsen, L. Munck, and J. Axtell. 1983. Nutritional quality of sorghum and sorghum foods from Sudan. Journal of Cereal Science;1(2), 127-137.
C. Anglani. 1998. Sorghum for human food-A review. Plant Foods for Human Nutrition; 52,85-95.
yousifidris@yahoo.com