مقصورة الغياب .. (في ذكرى عوض الصنديد)

 


 

 

بعد عقدين ونصف من اختفائه بلا أثر في شبه جزيرة البلقان سمَّرني سماع صوته من جديد واضحاً جلي النبرة منبعثاً من سكون ذلك المكان الغريب. جاءني الصوت الذي لايغباني أثناء مشيّ منقبض النفس في صحبة ثلة من المهاجرين القادمين من شتى البلدان، يخيَّم علينا جميعاً أسى المغيب، ونحن نجتاز في وجل وادياً عميق الغور تحفّ جوانبه صنوبريات شمّاء. منصاعين للأوامر الصارمة التي يصدرها بعصبية مُهرِّب البشر المتجهم، كنا قد هبطنا إلي الوادي متخفيين عن الأنظار تجنّباً لفخاخ دوريات حرّاس الحدود. رفعت رأسي بحذر ثم أدرته في الأرجاء مستطلعاً مصدر الصوت فإذا بالرفيق الغائب، عوض الصنديد، يلوِّح لي بكلتا يديه رافعاً عقيرته باسمي من وراء قضبان نافذة في أعالي قلعة تقوم على حافة ذلك الوادي. فعجبت كيف لم ألحظ وجود قلعة بهذا الحجم الهائل، قبل نزولي إلى بطن الوادي؟!.

ومن عجب أنني كنت الوحيد في جماعتي من المهاجرين الذي سمع النداء فتسللت اتبعه مبتعداً عن رفقتي دون أن يلحظوني إذ لم ينبههم تعالي الصوت الملحاح في مناداتي، ولم يعتري هيئاتهم تغير، بل ظلوا سائرين خلف نداء المجهول، هائمين في متاهات دواخلهم المتوترة،
مشدودين مابين قطبي القنوط والرجاء، مطرقين، ساهمين، غاطسين في الهواجس والمخاوف كمن يساق إلى حتف أكيد، مغمضي الأعين ومنكسي الهامات في السكون الذي ران على الوادي، بينما كنت اتسلّق حافة الوادي شديدة الانحدار والّتي يفوق ارتفاعها الكيلومترين سائراً وراء النداء المتعالي حتى بلغت سور القلعة الحجري شاهق العلو، فانتصب أمامي عند بوابتها الحديدية ماردان يسدّان
الأفق الغارق في حمرة الشفق برداء عسكري يحاكي مايرتديه الجنود الموكلين بحراسة مدخل ضريح القائد الشيوعي البلغاري
غيوري ديمتروف المحنط في قلب مدينة صوفيا منذ عام 1949 حتى عام 1990 حيث نقل رفاته إلى مقابر صوفيا المركزية، وبعدها اختفى من المشهد تماماً، مثلما اختفى عوض الصنديد، مرأى أولئك الجنود الذين كانوا يتناوبون في ضجر واضح حراسة صنم الشمولية في بلغاريا. تكاثفت على البوابة نباتات متسلّقة تجعلك توقن بأن البوابة ظلت موصدة منذ زمن بعيد. فازداد عجبي مما يصنعه عوض الصنديد في مثل هذا المكان الموحش النائي مولياً ظهره لصخب الحياة وعنفوانها في بلغاريا الفَتيِّة، حيث لم يترك أصدقاؤه ورفاق دربه في مدينة الطلاب في صوفيا حجراً في الأرض إلّا وقلبوه بحثاً عنه. وزفرت زفرة اليأس من عدم قدرتي على تخطي هذين الماردين، لكنهما ادهشاني بتنحيهما عن سكتي بأدب دون أن ينبسا ببنت شفة، ثم فتحا لي البوابة كما لو أن أحداً أوصاهما بذلك. ودون أن تحدث أي صرير على الرغم من بينونة القدم عليها والصدأ الذي علاها انفتحت البوابة في يسر والمساء آخذ في الحلول على حديقة غَنَّاء في أحد طرفيها بحيرة بديعة يحرسها بط وأوز، ويعوم فيها سرب من أسماك الزينة الملوَّنة، وتطفو عليها زنابق متعددة الألوان تمخضت عنها فقاعات الماء، ويحفل طرفها الآخر بشتى أنواع الشجر المثمر.
تتوسّط الحديقة نافورة تكاد تلامس عنان السماء قذائف مائها البهلواني القدرات وهو يتلوى صعوداً وهبوطاً متداخلاً بعضه في بعض مشكلاً جدائل نورانية يتطاير منها رشاش البريق في العتمة المحيطة بالمكان.
يشق الحديقة ممشى طويل مستقيم حسن الإضاءة مرصوف بحجارة مصقولة قطعته على عجل صوب بناية لوِّح لي عوض الصنديد هاتفاً
من إحدى نوافذها العلوية. وجدت باب البناية موارباً فدفعته، لأجد أمامي دَرَجاً رخامياً يلمع من أثر النظافة والعناية الفائقتين. لكنني لم أبصر أحداً في المكان، ولم أسمع صوتاً أثناء ارتقائي للدَرَج حتى بلغت نهايته عندها انبسطت أمامي مقصورة جرداء من الأثاث فيما عدا مائدة طعام وسرير أثري يتوسّطها كان يجلس عليه عوض الصنديد قبل أن يهبّ ناهضاً لاستقبالي وعلى بدنه النحيل مايشبه الأفرول الذي يرتديه عمال سكك حديد السودان. تقدّم عوض الصنديد نحوي بترحاب. تبادلنا التحايا ثم سألته: بربّ السماء، ماذا تفعل في هذا المكان العجيب ياصنديد؟
فأجابني: كماترى هو مكان كأيّ مكان آخر. سَمّه مشفى، أومنتجعاً للنقاهة، أو مركزاً لإيواء اللاجئين أوالمشرّدين، أونزلاً للمسافرين وعابري السبيل، لافرق.
تعجّبت من قوله، لكنني جاريته فيه قائلاً: هبْ أنّ طبيعة هذا المكان هي مما عددت، ولكنّ لم لايوجد فيه بشر سواك؟ ما حقيقة الأمر ؟
أجاب: أنا مثلك لم أر في القلعة أحداً باستثناء ذينك الماردين أمام البوابة مذ ساقتني الصدفة إلى هنا، وكنت قبلها قد ضربت في التيه زمناً
ليس بالقصير بعد أن تفرّقتم يا أصدقائي وتشتتم في القِبَل الأربعِ فوجدت هذه القلعة تنهض أمامي فجأة كأنما تقوم من العدم، مكعبة التصميم، عتيقة، مهيبة تناطح السماء، ملفوفة في غلالة من الغيوم. لم يدهشني وجود القلعة، وكأنّها كانت الملاذ
الآمن الذي لطالما بحثت عنه طوال إقامتي في شبه جزيرة البلقان. رأيتها، فانشرح لها صدرى، وغادرني تعب السنين في الحال، وتدفقت الحيوية في عروقي، وانتعشت روحي، وماجت في حناياي الأشواق، ووجدتني مقبلاً على الدنيا بقوة وتصميم بعد طول عزوف وادبار. درت حولها كالمشدوه اتحس بنيانها الحجري المتين المنحوت في براعة. وبلغ بي الإعجاب بها مداه
فأغمضت عيني مردداًً في سري: ياكعبتي الفريدة الضائعة!. طفت بها طواف عابد موله حتى رأف الماردان بحالي فأشرعا لي البوابة فدخلت آمناً مطمئناً دون أن ألتفت إلى الوراء. ومنذ ذلك الحين لم اخرج من القلعة مهما دعا الداعي متوارياً فيها عن الأنظار خدمة للحزب. تجهدني وتستأثر بجل وقتي مهام وتكاليف حزبية
لاتنقضي اذكر منها على سبيل المثال تنظيم أرشيف الحزب وتحويله لمادّة رقمية صوناًً له من التشتت والضياع. وفي الأمسيات أنكبّ على مراجعة الوثائق التنظيمية مقلباً الاصدارات القديمة لصحيفة "الميدان" ومجلتي " الشيوعي" و"المنظم" ومتفرقات من وثائق مكتب التعليم الحزبي ودورات اللجنة المركزية للحزب حتى يصرعني التعب والنعاس في الهزيع الأخير من الليل، فأسقط في حبائل كوابيس رهيبة لا
أنجو من خناقها إلابشقّ الأنفس عندما تشرق الشمس، لأجد هذا المكان، كماتراه الآن نظيفاً مرتباً لامعاً، وعلى المائدة هذه يتربع طبق عظيم مضفور من سعف النخيل ملوَّن وعامر بشتى صنوف الفاكهة حديثة القطف تغنيني عمّا سواها من الأطعمة. مصدر الفاكهة أشجار الحديقة التي مررتَ بها عند دخولك، وهي دائمة الخضرة والإيراق والإثمار طيلة أيام السنة، حتى عند هطول الثلج.
عندها عيل صبري فهاجمته قائلاً: يبدو أنّ سحر المكان الهاديء هذا قد فتنك عن دنيانا، وأنساك رفاقك وأصحابك في الخارج الذين يتخبّطون في متاهة غيابك الطويل غير المبرر.
ليس الأمر كذلك، ياصديقي، رد علي عوض الصنديد بصوته المنبعث من متاهة الغياب، ثم أردف قائلاً: صدقني أنا لم أنس أحداً من رفاقي وأصدقائي. كل ماهنالك أنني لا أستطيع مبارحة هذا المكان والعودة إلى حياتي القديمة، فمهام العمل السري الموكلة لي تحول دون ظهوري للعلن.

وهكذا مضت ساعات الليل، ونحن نتحدث، منصتين بين الفينة والأخرى إلى مختارات من الأغاني القديمة متنقلين في ذلك مابين المقصورة والحديقة المسحورة. واقترح عوض الصنديد ألّا ندع الفجر يتنفّس قبل ارتشاف أنخاب الإخاء. وافقته فغاب في قبو البناية ثم آب حاملاً معه دورقاً عظيماً مترعاً بالنبيذ الأحمر من صنع البيوت.
وبين قرع الكؤوس وصخب الحديث وجدتني أتلو مقطعاً من الشعر البلغاري، يعود سماعي له إلى ليلة شعرية شهدها مسرح "إيفان فازوف" بصوفيا في نهاية الثمانينات من القرن الماضي:
فليتئم شملُ الأصدقاءِ،
ولتُترَعُ بالنبيذ القواريرُ،
ولتُهشَمُ الأكوابْ
ثم غنّينا سويّاً بذات الحماس الجامح كما كنا نفعل في الأيام الخوالي، مترعين بالأمل، نستنشق بواكير الأنسام في صوفيا، مستقبلين تباشير
الفجر عند القاعدة الجرانيتية لثمثال كارل ماركس النصفي، المستوحد في وقفته المضنية عند مدخل معهد الاقتصاد محتملاً في صبر تقلبات أحوال الطقس ومحن السياسة في ذلك الجزء من العالم.

لم يكن غناؤنا في تلك الروضة تشبباً بنجمة مغرورة ترّبعت فوق الناس وأثقلت عليهم من قمّة دار الحزب الشيوعي البلغاري في صوفيا، حتى اُنزلت من عليائها واودعت متحف الفن الإشتراكي، بل كان شدواً مشبوب العاطفة لنجمة أخرى قصية عصيّة المنال نجمة في علم الغيب غمّازة، تجيد لعبة الظهور والخفاء، لطيفة السناء. لها غنّينا ملء الصدور ماوسعنا الغناء.

شقشقت العصافير على أفنان الحديقة المسحورة، فشققت طريقي إلى خارج القلعة بحثآً عن أيّ أثر يرشدني في تلك
المتاهة إلى جماعتي من المهاجرين السائرين نياماً، تاركآً ورائي عوض الصنديد محتفظاً بهيئة أيام الشباب دون أن يغيب منها ملمح أو يعتريها تغير،
كما لو أنه كان مطموراً طوال سنوات الغياب تحت ركام من الثلوج : فارع الطول، فاحم شعر الرأس أجعده، أسمر الإهاب، نحيف البدن،
ممصوص الوجنتين، غزير الشارب، مستقيم الأنف، تميزه تفاحة آدم مرئية لشدة بروزها من بعيد.
كان عوض الصنديد هاديء الطبع، حيي البسمة، زاهداً في كل متاع الدنيا، متقشفاً في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه، وشفوقاً على
العالمين. هو مشروع لطبيب بشري ذكي ولماح وأدته مبكراً غيبته المفاجئة التي طالت وتفاقمت وطأتها على عارفي قدره وفضله حتى التقيت به فجأة وحاورته ليلة بأكملها أثناء حلمي الموصوف هنا.

تركت عوض الصنديد في هيأته الأولى يرتقي ببطء وتثاقل عتبات الدرج إلى مقصورة الغياب متجهاً إلى نافذة قصيّة يطل منها على عالم يضج بالحياة انسل منه كالشعرة من العجين.

برغم سطوع شمس الصباح الجاهرة الضياء، خبت شيئاً فشيئاً هالة النور المحيطة بعوض الصنديد في وقفته المطلّة على مسرح حلمي فغاب من جديد. غاب عوض الصنديد حين هبطتُ إلى الوادي بحثاً عن رفاقي المهاجرين، غاب فانهارت دعائم عالم استدعاه هتاف الصنديد باسمي: انمحت
في اثره القلعة بأحجارها المنحوتة، وشجرها المثمر حتى في
الثلوج، وغارت نافورتها البهلوانية الماء، واختفت البحيرة ذات البط والأوز والزنابق العائمة بين السمك الملون لما داهمها في الصبح سونامي الضياء، ومعها انطمس في خاتمة المطاف كل أثر من حارسي البوابة الحديدية المكفنة بالنباتات المتسلقة

لم يحيّرني غياب عوض الصنديد هذه المرة إذ أنّ توالي الظهور المفاجيء والغياب المفاجيء عنده ديدن قديم مذ عرفته في شرخ الشباب ونحن نعدّ العدّة للخروج من السودان طلباً للعلم في بلغاريا الإشتراكية حيث رَتَّب لنا الحزب الشيوعي السوداني مع رصيفه البلغاري
الحاكم وقتها أمر إكمال الدراسة في جامعاتها، وظل عوض الصنديد طوال معرفتي به شيوعياً حاد النصل، مخلصاً لانتمائه وملتهب
الحماسة للأفكار التي تعرف عليها في بواكير شبابه من البينة الأمدرمانية التي نشأ وترعرع فيها في حي بيت المال وهي بيئة ميّالة للحزب الشيوعي السوداني.
صادفت عوض الصنديد لأول مرَّة في دار الحزب الشيوعي بأم درمان في خريف العام 1988 وهو خريف مشهور لاتُنسَى كوارث
فيضاناته وسيول أمطاره التي اجتاحت مناطق واسعة من السودان. حينها كنت قادماً من البطانة الغارقة في أمطار ووحول اوشكت
على عزل البُطانة عن العالم.

ثم حطّت بنا طائرة البلقان في مطار صوفيا في نهايات سبتمبر من العام 1988حيث انبسط أمامنا عالم جديد كانت فيه الاشتراكية تعاني الأمرين وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، عالم تتقلّص بأوجاع الطلق أحشاؤه المثقلة بأخطاء التوتاليتارية القاتلة، عالم الفكر الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد والجمود العقائدي وعبادة الزعيم المقدّس وتمجيد السوفييت، عالم المستنسخين المرددين كالببغاوات عبارات هامدة ميتة الروح مستلة من تعاويذ الماركسية الرسمية وهي ماركسية الدولة الستالينية الخانقة للحريات، عالم شائه
تهرّأ كالجوال القديم * وتعفّن، لكن البديل المراد إقامته على مباديء التعددية السياسية واقتصاد السوق كان يتخلق ببطء في جوف العالم القديم الذي انفضّ سامره وكثر
غرماؤه وتكأكأت عليه الرماح وهو يترنح مثقلاً بالأزمات بانتظار لحظة الانفجار والتغيير السياسي في العاشر من نوفمبر 1989، عالم شديد الاضطراب شقّ فيه عوض الصنديد بقامته العالية طريقه بيسر منسرباً كما تنسرب السمكة في الماء. ظلّ
عوض الصنديد كثير الأصدقاء والاختفاء، يختفي بلامقدمات وعندما يطول غيابه طولاً يدعو للقلق، ويغدو من الواضح ألا أحد من أصحابه يعرف أين استقر به المقام، يطفو بغتة على السطح، فيظهر في تجمعات السودانيين في أحد مقاهي المدينة الطلابية في صوفيا، أو يطل في سوق الينسي الشهير الواقع في طرف صوفيا حيث كان يشتغل معظم السودانيين في تلك
الحقبة التي أعقبت انهيار النظام الشيوعي، يظهر عوض الصنديد وعلى وجهه ترتسم ابتسامة عريضة، أشعث الرأس وقد نما شاربه وطالت لحيته.
أين كنت ياصنديد؟!، نسأله في اندهاش مردفين: أقلقتنا ياخي، أين اختفيت؟!
فتجيبنا إبتسامته أولاً قبل أن يغمغم بعبارات مبهمة تخفي في طياتها أكثر مما تفصح. عبارات مقلَّة يتردّد في ثناياها في كل مرّة يختفي فيها عوض الصنديد اسم لمكان جديد مدهش زاره ومكث فيه أثناء غيابه.
لعوض الصنديد قائمة لاحصر لها من الأصدقاء متنوعي المشارب، وهذه ميزة لم يكن يبزِّه فيها من بين مجايليه إلّا محمد الضَوّاها وهو
سوداني أمضى ردحاً من الزمن في بلغاريا صائلاً بين أهلها وجائلاً تاركاً فيها بصمة لاتُمحَى. كان محمد الضَوّاها علماً على رأسه نار وهو حقاً من أعاجيب عصرنا. محباً للناس وللشعر كان محمد الضَوّاها في نفسه طرفةً متجددة تمشي على الأرض، كان إذا مشي في سنتر صوفيا تكاد المدينة بأكملها تحييه أو تردّ تحيته لذيوع صيته وطول لائحة معارفه وأصحابه.
تجد بين أصدقاء عوض الصنديد البلغاري والغجري والتركي والاثيوبي وعامل البناء وايفان الراعي والبائع في سوق شعبي، أصدقاء كثر ينحدرون من كل ملة ونحلة يسألون عنه في لهفة، ويبحثون عنه في اشفاق كلما اختفى، ويعاتبونه على الغياب في مودّة ظاهرة :
أين أنت يازعيم؟ أين أنت يا عوض؟ كم من الوقت مر دون أن نراك؟ أين اختفيت؟ فلتأخذك الأبالسة، دعنا نجلس في مكان ما ونتناول مشروباً.
يخاطبونه وهو لايكفّ عن الابتسام، وحين يسمع عبارة يطرب لها يطلق عقيرته بضحك تتهلّل له أسارير وجهه. كان اصدقاؤه
حين يخاطبونه يلفظون اسمه بطريقة مميزة فيها مَطَّ للواو جاعلين العين ألفاً: أوووضي، فيخرج الاسم مدلّلاً ومصحوباً برنين محبب ودال على رفعة المكانة التي يحظى بها حامل الاسم عند الناطق بالاسم.
لقد حُبي عوض الصنديد بقدرة نادرة على مَدِّ حبال الحديث مع الأغراب، يلقي إليهم بصنارته الذكية مايجتذبهم، ويوقظ اهتمامهم، ويحرّك سكونهم، ويحيي فضولهم، ويخرجهم من اللامبالاة بالآخر، ويصطفي المدخل المناسب الذي يقود إلى كل منهم، يدفعهم لكسر الحواجز النفسية التي تنهض عادة بين الأغراب، و سرعان ماتتردّد بين عوض الصنديد ومحدثيه الضحكات الجزلى حين تحلّ الالفة والتداني مكان النفور والتنائي، فنصمت نحن الشهود على حواراته التي ينثر فها معرفته بلغة الشارع البلغاري، عاجزين عن الكلام نتبادل النظرات
الحيرى، وندير الرؤوس في عجب من أمر الصنديد المحبّ للمغامرات. والموهوب في صنع الصداقات، وفي مَدِّ الجسور إلى الأغراب، وفي إذابة الثلوج القائمة بين البشر.
ترى مَنْ في دفعتي في الدرس ببلغاريا أطلق عليه لقب الصنديد؟
كنت إلى وقت قريب أعتقد أنني من لَقَّب عوضاً بالصنديد. طابقه اللقب تمام المطابقة فتراجع اسم أبيه يوماً بعد يوم، ولقلة التداول لفَّ
النسيان اسم أبيه حتى لم يعد يذكره أحد من مجايليه، لكنني اليوم حين ألتفت إلى الوراء، محاولاً كبح عجلة الزمن، ومُقلِّباً صفحات ألبوم قديم ترقد في طيّاته صورة من الحجم الكبير التقطتها عدسة الكاميرا لأفراد دفعتي في الدراسة في زمهرير العام 1988 في فناء المبنى الرئيسى لمعهد الطلاب الأجانب والخاص بتعليم اللغة البلغارية (اي جي سيي)، - حين أتمعَّن في تلك الصورة التي يطلّ فيها الماضي بعشرين من الوجوه السودانية النيّرة المشبعة بالرواء، عشرون فتى وفتاة تبرق بالأمل عيونهم التي تفيض بالفضول، وتنضح أبدانهم عافية تحتويها سترات وأكسية سميكة وفراء أحاطت بها ثلوج
منهمرة. عشرون فتى وفتاة في مقتبل العمر ينحدرون من شتى ربوع السودان وأعراقه، اغلبهم مسلم وبينهم من الأقباط ممثلين، عشرون فتى وفتاة تجد بينهم الشيوعي، و عضو الجبهة الديمقراطية للطلاب السودانيين، ومن لاحزب له ولا اتجاه سياسي، عشرون فتى وفتاة من سلالة أمل وبدر الصغيرين اللطيفين المحبين للعلم في كتاب المطالعة الابتدائية، بلغ بدر أشده في البلقان، ولم تعد أمل هي تلك الصغيرة الباكية اذا ماضاع منها القلم فيجده بدر فتفرح أمل وتكتب، عشرون فتى وفتاة حملتهم طائرة البلقان من الخرطوم تنادوا ذات نهار مصطفَّين أمام الكاميرا بفتوّة واعتداد يتحدَّون بهما مزالق الثلوج ومكائد الزمن والعوارض من كل لون - حين أتملَّى كل هذا أجدني غير واثق من قوّة زعمي المذكور، فلربما كان أحد أولئك العشرين الذين يبادلونني النظرات من الصورة الجماعية هو من أسبغ على عوض لقب الصنديد لمّا وجده أهلاً لحمل اللقب.

هامش:
* تهرأ كالجوال القديم : عبارة أدين بها لبلاغة علي شعبان وهو اثيوبي كان معارضاً لنظام منجستو هايلاماريام
الجوال القديم تشبيه لنظام منجستو وهو يتداعى وينهار.
عثمان محمد صالح،
تلبرخ، هولندا،
2022-2024
Email:osmanmsalih@hotmail.com

 

آراء