الثمن الباهظ لنصر السودان على الجنجويد: ملحمة الدم، الموارد، والمستقبل المرهون

 


 

 

كتب الدكتور عزيز سليمان أستاذ السياسة والسياسات العامة

حين تلوح الحروب في الأفق، فإن أول من يدفع الثمن هو الإنسان. السودان، الذي يقف اليوم على مشارف ملحمة عسكرية فاصلة ضد مليشيا الجنجويد، يعلم أن النصر لن يُحصَّل دون فواتير باهظة تُسدد من دماء مواطنيه ومن ثرواته ومن رهاناته على المستقبل. ولأن كل معركة لها شركاؤها في الظل، فإن اليد الروسية، التي لطالما امتدت إلى إفريقيا الطامحة في مواردها وموانئها، تبدو متأهبة لمساومة الخرطوم على ما لا يُرد.

على المواطن: دماء وآلام لا تحصى
"الحرب ليست أكثر من استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، هكذا قال كارل فون كلاوزفيتز، لكن ماذا عن ثمن السياسة ذاتها؟ إن الحرب ضد الجنجويد تعني استمرار معاناة السودانيين في مخيمات النزوح، تفاقم المجاعة، وتهالك البنى التحتية. المواطن السوداني، الذي يعيش بين فكي الطموح الوطني والخوف اليومي، يدرك أن النصر العسكري قد يأتي على حساب أجيال كاملة ستنشأ وسط حطام اجتماعي واقتصادي، في بلد يعاني أصلاً من شروخ اجتماعية عميقة.

على الموارد: رهانات الروس وحاجة الخرطوم للسلاح
لا تخفى على أحد شراهة روسيا للموارد الطبيعية، لا سيما الذهب السوداني الذي لطالما كان شريان حياة لمغامرات موسكو الجيوسياسية. العلاقة بين مجموعة "فاغنر" والجنجويد، التي كانت بالأمس تحالفاً سرياً، اليوم تقف على الضفة الأخرى من الحرب، لكن الهدف الروسي ثابت: المزيد من النفوذ في إفريقيا، خصوصاً عبر موانئ البحر الأحمر الاستراتيجية.
في مقابل الحصول على السلاح والدعم الدبلوماسي، بما في ذلك الحماية من العقوبات الدولية عبر الفيتو الروسي في مجلس الأمن، سيكون على السودان تقديم تنازلات تتعلق بموارده وأراضيه. من المرجح أن موسكو ستطلب توسيع قاعدة "فلامينغو" البحرية التي تطمح لإقامتها على البحر الأحمر، كجزء من طموحاتها للتمدد العسكري في المنطقة، ما قد يعمق من تهديد الديمقراطية والحكم المدني في السودان مستقبلاً.

الاقتصاد الجيوسياسي: من الدولار إلى عملة البريكس
روسيا، التي تجد نفسها في مواجهة النظام الاقتصادي القائم على الدولار، تدعم بقوة الشراكات مع دول البريكس. السودان، الغارق في أزماته المالية، قد يصبح مختبراً جديداً لهذا النظام، حيث يمكن لموسكو وبكين فرض استخدام عملة البريكس في التعاملات الثنائية. هذا التحول، وإن بدا جذاباً على المدى القصير، قد يضعف سيادة السودان الاقتصادية، ويجعله رهينة لسياسات اقتصادية كبرى تتجاوز حدوده.

الصين: اللاعب القادم بقوة
وإن كانت روسيا تسعى للنفوذ العسكري، فإن الصين، الحاضرة دوماً بأموالها واستثماراتها، ستكون الرابح الأكبر بعد انتهاء الحرب. من المتوقع أن تعزز بكين استثماراتها في البنية التحتية السودانية، بما في ذلك الطرق والموانئ وقطاع الطاقة. ولكن، كما قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "من يملك الموارد يملك القوة". ستجد الصين نفسها لاعباً اقتصادياً رئيسياً، ما قد يخلق توازنات جديدة في مستقبل السودان السياسي.

مواقف الدول الكبرى: إسرائيل والولايات المتحدة ومنفذ مخططتهم الامارات
الإمارات، التي لطالما لعبت دور الوسيط في النزاعات الإقليمية، تراقب المشهد بعين المصلحة. نفوذها الاقتصادي في السودان، خاصة في قطاع الزراعة والتعدين، يجعلها حذرة من أي تحولات كبرى. أما إسرائيل، التي تبحث عن تحالفات جديدة في إفريقيا، فقد ترى في السودان ساحة لتحقيق أهدافها الأمنية والاقتصادية. وفي المقابل، فإن الولايات المتحدة، التي تخوض حرباً باردة جديدة مع روسيا والصين، قد تسعى لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، ولكن شريطة أن يخدم ذلك مصالحها الجيوسياسية.

التحدي الأكبر: الحفاظ على الديمقراطية
في نهاية المطاف، فإن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للسودان أن يحقق نصره العسكري دون أن يدفع ثمنه السياسي؟ إن تمكين النفوذ الروسي أو الصيني في السودان قد يعني وأد التجربة الديمقراطية قبل ولادتها. وكما قال الفيلسوف الإسباني جورج سانتيانا: "من لا يتذكر الماضي، محكوم عليه بتكراره".
بين الطموح الوطني والضغوط الدولية، وبين الحرب والسلام، يقف السودان على مفترق طرق. الثمن المطلوب للنصر أكبر من ساحة المعركة، لأنه يرسم ملامح مستقبل أمة بأكملها.

quincysjones@hotmail.com

 

آراء