الجنجويد (2/3)

 


 

 

الجنجويد (2/3)
  helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
إستعرضنا فى الحلقة السابقة مسلسلات القتل والتدمير التى مارستها مليشيات الجنجويد فى دارفور, وخلصنا إلى أن نوعية تلك الجرائم وشناعتها تشى بشيئ أعظم من مجرد حوادث الصراع على الموارد الطبيعية أو النهب المسلح, وترتقى إلى مستوى الإبادة الجماعية المنظمة (Genocide) مع سبق الإصرار والترصد, لم تجد من الدولة الحاكمة أدنى إهتمام, بل لم تظهر حتى رغبة فى التصدى لها, وتدريجياً تحولت تلك المجازر إلى أخبار يومية عادية, وتحول المحظوظون من القتلى إلى مجرد أرقام جرداء تظهر بصورة متكررة فى صحف  الخرطوم كل صباح قد لا تلقى بالاً من جانب الكثير من القراء, أمَّا الذين مضوا فى صمت دون أن يعلم بهم أحد فلا بد من أنَّ لهم ربٌّ سيأخذ بحقهم ولا يظلم ربُّك أحدا.  لقد صرح مدير المعونة الأمريكية بعد تفقده الأوضاع فى دارفور مؤخراً أنَّ ما تم فيها من قتل ودمار خلال الأشهر الماضية لم يحدث فى تاريخ دارفور منذ إستقلال السودان, ولكننا نزايد عليه بأنَّ ذلك لم يحدث لا فى تاريخ دارفور الحديث أوالقديم فحتى فترة الدولة المهدية, والتى سالت فيها دماء غزيرة بدارفور, كانت مقاومة معلنة بين القوات الرسمية للدولة المهدية وبعض القبائل التى خالفت سياسة التهجير ولم تتخذ طابع الحرب الأهلية السرية العلنية مثلما يحدث الآن.
سنلقى فى هذه الحلقة الأضواء على مليشيات الجنجويد, وسنتعرض للظروف التى أدت إلى نشأتها و تواجدها, ثم الأسباب التى تدفعها إلى إرتكاب هذه الممارسات المفزعة, وسنقرأ أهدافها والجماعات التى وراءها على خلفية وثيقتين هامتين وقعت فى أيدينا مؤخراً, ثمَّ نتعرض كذلك بصورة مقتضبة لدور الحكومات السودانية المختلفة فى السماح لهذه المليشيات بالتفرخ إلى حد الخروج عن السيطرة.
من هم الجنجويد؟
بالرغم من تواترها على ألسنة الناس وصفحات الصحف السيارة فى الآونة الأخيرة تظل كلمة "جنجويد" مبهمة المعنى, وبموازاة ذلك إجتهد بعضهم فى تفسير معنى هذه الكلمة الغريبة فمنهم من قال بأنَّها كلمة مركبة من حروف ثلاثة كلمات هى: جن, وجيم ثرى, وجواد, وهذه الكلمات مجتمعة لا تحتمل سوى تفسير واحد هو الإغارة والقتل والإبادة, لكن جاء فى ركن النقاش بموقع سودانيزأونلاين بالإنترنت أنَّ الكلمة لا تعنى شيئاً أكثر من إسم منسوب إلى قائد مجموعة عصابة مسلَّحة من العرب راكبى الخيول والجمال تأسست في الثمانينات بقيادة شخص يقال له حامد جنجويت, من قبيلة الشطية, خرج على الحكومة وعاث فساداً وقتلاً فى الأهلين حتى صار إسمه مرعباً ومنسوباً لكل فئة باغية طاغية تمارس القتل والحرق, وعلى هذا الأساس تحرف الإسم من جنجويت إلى جنجويد أو جانجويد كما تكتب فى مصادر الإعلام أحياناً, وصارت تبعاً لذلك تطلق على كل فصيلة مسلحة من العرب راكبى الخيول أو الجمال تقوم بتلك العمليات, ومن هنا جاء الوصف الحكومى لهذه المليشيات بالقوات الراكبة, لكن العالمين بثقافة القبائل العربية بدارفور يقولون بأن كلمة جنجويد طغى إستخدامها منذ فترة بعيدة, ربما منذ الستينات من القرن الماضى, ككلمة إستهجان لفقراء ومنبوذى الأعراب وكوصف للغوغائيين من شتاتهم الذين يعتمدون فى حياتهم على المهن الهامشية ويعانون من نظرة المجتمع الدونية لهم, وعلى كل, وبخلاف ذلك, فإنَّ مليشيات الجنجويد اليوم قد أصبحت لها القوة والمنعة بجانب الكلمة الحاسمة فى ريف دارفور, ودانت لها الأمور تقتل وتنهب حين تشاء وتفتك بمن تشاء, وحين تغيب سلطة الدولة, أو تتم تغييبها عن عمد وبقصد, يشيع قانون الغابة دون وازع من ضمير, لكن مهما تسامت درجات القتل وبشاعة التدمير تظل بعض الأسئلة مشروعة مثل لماذا هذا القتل أساساَ؟ وما هى المشكلة؟ وإذا كان الهدف النهائى هو إجبار الأهالى على الفرار والنزوح النهائى من أراضيهم فإلى أين يذهبون؟ وهل إطمئن المهاجمون من أى مساءلات محلية أم عالمية عن المذابح التى يرتكبوها؟ الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تتطلب قراءة تاريخية لطبيعة الصراع السياسى الإقليمى حول دارفور خلال العقدين الأخيرين وإندياح إفرازاتها السلبية على الأمن المحلى بالإقليم على النحو الذى نشاهده اليوم.
الصراع الإقليمى وأثره على دارفور:
تتجلى هشاشة تركيبة الدولة السودانية الحديثة أكثر ما تكون فى طبيعة الصراع القبلى بدارفور وأبعادها الجيوسياسية المرتبطة بها, ويمكننا بكل ثقة من أن نقول إن جزءاً كبيراً من مشكلة دارفور فى العقدين الأخيرين تتعلق بالسياسات الداخلية والأهداف الإستراتيجية الخاصة للدول الثلاثة الكبرى التى تحيط بها وهى السودان وليبيا وتشاد, مع جرجرة ذلك لدول أخرى ذات تأثيرات أقل مثل مصر وأمريكا, بجانب نزاعات داخلية مختلفة إنعكست عليها سلباً مثل الحرب فى جنوب السودان بوجه خاص وجبال النوبة بدرجة أقل. وبينما تطورت الصراعات العنيفة بين ليبيا وتشاد ونجاحهما فى نقل ميدان ذلك الصراع بعيداً إلى دارفور منذ العام 1980م, نجد أنَّ الحكومات السودانية المتتابعة منذ ذلك الحين ظلت دوماً فى موقف المتفرج, أواللا مبالى لأكثر ما تكون, بالرغم من أنَّ الصراع يدور على أرضها ويهدد جزء من شعبها وأمنها القومى.
لقد كان العام 1980م عاماً مضطرباً بالنسبة لنظام الرئيس جعفر النميرى إذ بالرغم من إكتشاف شركة شيفرون الأمريكية للنفط حول منطقة بانتيو فى العام الذى قبله إلاَّ أنَّ الأوضاع السياسية والإقتصادية فى البلاد بمجملها أخذت فى التردى, صاحب ذلك تدخل ليبيا فى تشاد فى ديسمبر 1980م مما دفعت حكومة النميرى المطالبة بطرد ليبيا من جامعة الدول العربية, وفى غضون ذلك نزح نحو 2 مليون من التشاديين ولجأوا إلى دارفور, ثمَّ إندلعت أحداث عنف خطيرة بالفاشر مطلع 1981م, عُرفت "بإنتفاضة دارفور", ضد تعيين النميرى لحاكم لها من غير أبناء الإقليم, أدت إلى مقتل بعض الأشخاص ليتراجع النميرى على أثرها ويسارع بتعيين أحمد إبراهيم دريج حاكماً لدارفور, وهى المرة الأولى منذ العام 1916م, منذ مقتل السلطان على دينار, التى يحكم فيها دارفور واحداً من أبنائة. وبسبب تفاقم الأوضاع بالبلاد أحبطت الحكومة مخططاً لإنقلاب عسكرى قاده العميد سعد بحر وإتهمت قوى أجنبية من بينها ليبيا بدعم المحاولة دعا النميرى على أثره فى 31 مارس 1981م للإطاحة بالقذافى أو قتله.
لقد كانت لليبيا توجهات آيدلوجية عروبية للتوسع جنوباً وبنت على هذا الأساس إستراتيجية رصدت تشاد كهدف مباشر للسيطرة عليها تليها مناطق دارفورمن شرقها والنيجر من الغرب, ولعلَّ الهدف غير المعلن هو إزاحة العناصر الأفريقية من سكان هذه البلاد وإستبدالهم بعناصرعربية تتكامل مع التوجه العروبى القومى فى ليبيا ومد الحزام العربى فى أفريقيا جنوباً, تدعمها توجهات عروبية مماثلة فى دول أخرى مثل العراق وسوريا, وقد أدى كل ذلك إلى إنزعاج نظام النميرى ودفعته إلى تعزيز مساندتها لمصر على خلفية إتفاقية كامب ديفيد, تحصل النميرى  بعدها على مساعدات عسكرية فى حدود 100 مليون دولار من حكومة الرئيس الأمريكى رونالد ريجان, ثم قامت هذه الدول الثلاثة, بجانب فرنسا, بدعم حسين هبرى, الذى تم تجهيزه وإعداده فى دارفور, لينطلق منها إلى إنجمينا ويطرد جوكونى عويدى رئيس تشاد الموالى لليبيا, ويسيطر على البلاد فى نهايات عام 1982م. لقد سبق ذلك إن كان هبرى متحالفاً مع جوكونى فى حكم تشاد وكان يشغل منصب وزير الدفاع, وسبق لهما أن تمكنَّا من خلال دعم ليبى من الإطاحة بالرئيس السابق فيلكس مالكوم لكن يبدو أنَّ ليبيا آثرت بعدها إزاحة الجانب الأفريقى, أى هبرى وجماعته, فى ذلك التحالف لصالح العناصر العربية مما فجَّر الخلاف خرج على أثرها هبرى وقواته ليتخذ من دارفور قاعدة معارضة دون إذن من الحكومة السودانية, بل كان بإمكان هبرى التجول فى أسواق الفاشر وأحيائه دون حسيب أو رقيب! ويورد شريف حرير وتريجى تفيدت فى كتابهما "السودان: النهضة أو الإنهيار" (1997م) أنَّ التركيب الإثنى للتحالف الحاكم فى حكومة هبرى كان مكوناً من قبائل السارا (جنوبيون مسيحيون) والقرعان (مجموعة هبرى) والزغاوة الهاجيراى وكلهم مجموعات غير عربية (صفحة 283), وإضافة إلى ذلك فإنَّ العداء القديم والمستحكم بين القذافى والنميرى جعل أى تفكير للأول للألتفاف على هبرى من جهة دارفور يبدو مستحيلاً, وكرد فعل لذلك أخذت ليبيا فى تبنى الحرب بالوكالة مستعينة بالمجموعات العربية التى خسرت السلطة فى تشاد فقام بتجنيدها ودعمها بالسلاح والمال, هذه المجموعات كانت تقيم على مناطق الحدود بين السودان وتشاد ولها علاقات دم تتداخل مع قبائل أخرى تقطن داخل إقليم دارفور وجلَّهم من قبائل مثل الجلول والعطيفات والعريقات والشطية والرزيقات الماهرية وبنى حسين وبنى هلبة, ومع غياب وجود الدولة السودانية لم يكن من الصعوبة تسلل تلك الأسلحة والأموال بسهولة إلى هذه القبائل. إلى ذلك أجبرت ضغوط قوات حسين هبرى جزء كبير من هذه المجموعات العربية بتشاد من العبور بأسلحتها وحيواناتها شرقاً إلى داخل دارفور ومن ثمَّ محاولتهم, ولو بالقوة, إيجاد موطئ قدم لهم على السفوح الجنوبية والغربية لجبل مرة وفى دار المساليت ومناطق وادى صالح.
ظلَّ هذا الوضع على ما عليه حتى سقوط النميرى فى 6 أبريل 1985م طارعلى أثرها القذافى إلى الخرطوم فى زيارة لم يعلن عنها إلاَّ قبل ساعة من وصول طائرته إليها, حاول خلالها, وعلى بث حى فى التلفزيون السودانى, إجبار اللواء سوار الذهب رئيس المجلس العسكرى الإنتقالى على التحالف الفورى بين البلدين, ولم يفلح, لكن تم إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مما إنعكس سلباً على العلاقات مع أمريكا وتوترها مع مصر حين رفض السودان المشاركة فى مناورات النجم الساطع العسكرية بين الدول الثلاث والتى بدأها نظام النميرى منذ عام 1980م, ثم تدهورت العلاقات أكثر مع أمريكا حين نصحت رعاياها فى أكتوبر من ذلك العام بتفادى السفر للخرطوم نسبة للوجود الليبى. لكن نفوذ الليبيين ظلَّ متصاعداً فأستغلوا عدم الإستقرار فى السودان مع إنشغال المجلس العسكرى الإنتقالى بالهجمات المتزايدة للجيش الشعبى لتحرير السودان لتعزيز خطوط أمدادهم إلى المعارضة التشادية والمجموعات العربية بدارفور, وأبرزها مجموعة الشيخ إبن عمر المكونة من العناصر العربية البدوية التى تتوزع مناطقها على طول الحدود السودانية التشادية, ويورد حرير وتفيدت فى كتابهما سابق الذكر أنَّه بينما تلقت هذه المجموعات الأموال والأسلحة تلقت مجموعات سودانية أخرى مثل المسيرية الزرق وبنى هلبة أسلحة مماثلة, إذ كانت الأسلحة رخيصة الثمن وتقوم المجموعات التشادية فى بعض الأحيان بمقايضتها للحصول على الطعام, لقد ذكر مدرس بمدرسة الجنينة الصناعية أنهم وأثناء إفطارهم الصباحى بالمدرسة أن أقبل عليهم أحد الملثمين على جمل يجر خلفه شيئاً محمولاً على عجلات ومغطى وأخبرهم دون تردد من أنَّه يريد أن يبيعهم ذلك الشيئ والذى كان مدفعاً هائلاً, ولمَّا أعرضوا عنه أنصرف لحاله مطمئناً وكأنَّ شيئاً لم يحدث, وعلى كل فقد وجدت الكثير من تلك الأسلحة طريقها بشكل غير مباشر لمجموعات قبلية أخرى خاصة فى جنوب دارفور بل وجنوب كردفان, ومن جانب آخر أصبحت دارفور مفتوحة للإستخدام الليبى الحر فى العبور إلى تشاد خاصة بعد الدعم المالى الكبير الذى قدمه القذافى لحزب الأمة لخوض إنتخابات عام 1986م (حرير وتفيدت صفحة 286) ضمنوا من خلالها تغاضى حكومات الصادق المهدى عن تحركاتهم إلى الدرجة التى أصبح وجودهم بدارفور أكثر سفوراً, زادت معها تدفق الأسلحة الحديثة الضاربة من قاذفات ومدافع وأسلحة أوتوماتيكية تفوق كثيراً ما عند الجيش السودانى نفسه, لقد أوردت التقارير حينها عن دخول 1000 من القوات الليبية إلى دارفور فى مارس 1987م لكنها إنسحبت بعد معالجات من الحكومة.
إنَّ أكثر الجوانب خطورة فى هذا النزاع هو أنَّ معظم القبائل العربية التشادية قد رحلت بمواشيها إلى داخل دارفور وأرادت أنًّ تتخذ لها دارات داخل ديار الفور الخضراء صاحبتها دعم ليبى بالسلاح والمال من أجل زعزعة نظام هبرى مقرون بشعار آيدلوجى أنَّ العنصر العربى قد أصبح السلطة المهيمنة على المنطقة بالأمر الواقع, وقد كانوا صادقين فى ذلك بسبب عجز كل من القوات المسلحة وقوات الشرطة السودانية من التصدى لهم أو حتى محاولة إعتراض تحركاتهم فى أرجاء الإقليم الواسعة, فتركت الحكومة السودانية دارفور لرحمة ربِّها, وبسبب علاقة الدم والقربى بين القبائل العربية الوافدة بإخوانهم القبائل المتوطنة فى دارفور فقد صاروا سودانيين بحكم تلك العلاقة ومرروا ذلك الشعار الآيدلوجى الذى وجد قبولاً رائجاً بين هؤلاء المتوطنين. وحقيقة فقد تنامى الشعور الآيدلوجى بين القبائل العربية بدارفور منذ وقت مبكر لكنه صار أكثر وضوحاً بعد تعيين أحمد إبراهيم دريج حاكماً لإقليم دارفور فى عام 1981م, إذ شاع فى الجو شعور بين أبناء الفور وكأنَّ سلطنة الفور التاريخية قد إنبعثت من جديد الشيئ الذى شكل حساسية بالغة ومشاعر قلق بين القبائل العربية مخافة تهميشهم وعدم تمثيلهم بإنصاف فى أجهزة الحكومة الإقليمية, وقد حرص دريج على تبديد ذلك الشعور إذ إستدعى كفاءات مقدرة من أبناء العرب بعضهم كان يعيش خارج السودان ليتولوا مناصب مهمة فى حكومته, كما إستحدث ولأول مرة فى تاريخ الإقليم إدارات ريفية للعرب الرحل إذ لم يكونوا يتمتعون بذلك من قبل, إلاَّ أنَّ كل ذلك لم يخفف من حدة القلق العربى خاصة مع تنامى الشعار العروبى المؤدلج الذى أتى من ليبيا, من ناحية ثانية, ولمقابلة تلك الآيدلوجية العروبية, حاولت عناصر من الفور رفع شعار الأفريقانية, أو"الحزام الأفريقى" فى مقابل "الحزام العربى" مما زاد من حدة الإستقطاب.
لقد أدت جملة من الأسباب فى تعميق ذلك الإستقطاب إلى الحد الذى إستدعى الإحتكام إلى السلاح فى أحداث ليس محلها, أولها إتساع حدة الحرب بين ليبيا وتشاد, فبعد إنفتاح دارفور أمام القوات الليبية وفيلق إبن عمر وجيش الخلاص الإسلامى, وهى مجموعات تدعمها ليبيا, أحسَّ نظام حسين هبرى بخطورة الموقف من جهة دارفور فخطط لهجوم عسكرى على ليبيا بحجة تحرير شريط أوزو الغنى بمادة اليورانيوم وسبق أن ضمتها ليبيا إلى حدودها, وقد تمكن هبرى وبدعم عسكرى من حلفائه من الدول من إلحاق سلسلة من الهزائم المنكرة بالليبيين وإجلاءهم عن ذلك الشريط, ومما زاد من حرج الموقف بالنسبة للقذافى هو وجود سرب من الطيران الحربى الفرنسى مرابط بصورة دائمة بتشاد صدته عن التفكير فى الهجوم مرة أخرى على تلك الدولة, وعليه فقد إعتمدت القيادة الليبية أكثر من ذى قبل على مبدأ الحرب بالوكالة وإستعمال العناصر العربية التشادية والدارفورية لزعزعة النظام التشادى, ثانياً إستغل أفراد القبائل العربية النازحة من تشاد فرصة توفر السلاح الحديث لديهم فشنوا غارات على مناطق الفور مات فيها خلق كثير, صاحبتها حرق وتدمير واسع للقرى لإجلاء الأهالى منها, ردَّ عليها الفور بحرق المراعى لحرمان حيواناتهم من الرعى, ثالثاً أستثمر هبرى إنتصاره على ليبيا والغطاء الجوى الفرنسى ليسدد ضربة قاضية ونهائية على فلول القبائل العربية المساندة لليبيا, ولاحقهم حتى داخل الحدود السودانية, بل وسعى إلى تسليح الفور للضغط على تلك القبائل ولمساعدتهم فى الدفاع عن أنفسهم ضد الغارات التى ظلت تتزايد بصورة مستمرة فإنداح السلاح بصورة أكثر وتيرة إلى دارفور, كذلك ساعد قرار المجلس العسكرى الإنتقالى بقيادة سوار الذهب تسليح القبائل العربية فى منطقة التماس مع جنوب السودان للدفاع عن نفسها ولدعم القوات المسلحة السودانية فى حربها ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان فى إنتشار السلاح بصورة أكبر وسط قبائل البقارة فى جنوبى دارفور وكردفان, إضافة لذلك تسرب قطع كثيرة من الأسلحة كانت الجبهة الوطنية السودانية قد دفنتها فى الصحراء منذ فشل حركة محمد نور سعد عام 1976م ووجدت طريقها لبعض القبائل بشمال دارفور, وبالفعل, والحال هكذا, صارت دارفور بمثابة ترسانة حربية مليئة بمختلف أنواع الأسلحة الحديثة التى كانت تنتظر أى إشارة مناسبة لتنفث حممها فى كل الأتجاهات فكانت حادثة الجفاف والمجاعة عام 1984-1985م سبباً كافياً لذلك.
لقد دفع الجفاف الذى ضرب الجزء الشمالى الكثير من القبائل, خاصة العرب الأبالة والزغاوة, للنزوح جنوباً, وربما تكون تلك الهجرات موسمية فى الأحوال العادية إذ إعتادت القبائل الرعوية التنقل فى مسارات موسمية تبعاً للأمطار وتوفر المراعى لحيواناتهم, لكن هذه المرَّة, ومع إشتداد الجفاف, فقد تحول النزوح إلى أستقرار دائم فى أو بالقرب من المناطق الندية, وهى ديار الفور حول جبل مرة بالتحديد, وتبعاً عليه تحول الإستيلاء على الأرض هدفاً ثابتاً خاصة للقبائل العربية النازحة ساعدهم فى ذلك إخوانهم حملة السلاح القادمين من تشاد, وطغيان الآيدلوجية العروبية, والشعور بالإستعلاء العرقى, فتحولت أرض دارفور الطاهرة إلى سلاخانة ضخمة تحت غياب تام للدولة السودانية. لكن للحقيقة يجدر بنا أن نوضح هنا أنَّ الجفاف والصراع على الموارد الطبيعية لا تمثل السبب الرئيسى الوحيد للنزاع المسلح حسب ما يتعلل به الكثيرون كسبب مباشر لأحداث العنف, بل نعتقد أنَّ السيطرة على الأرض ظلَّ هوالهدف الثابت والأساسى, ويدعم قولنا هذا إحصائيات الثروة الحيوانية بدارفور خلال العقدين الأخيرين, فبعد جفاف 1984م وإلى عام 1994م تضاعف أعداد الثروة الحيوانية بدارفور إلى 6 أضعاف ثمَّ وصل إلى 10 أضعاف فى عام 2002م مقارنة بإحصائية عام 1984م, وصارت دارفور اليوم تحتوى على قرابة نصف ثروات السودان الحيوانية من الأبقار والجمال والضأن والماعز, فأين تأثير الجفاف يا ترى؟ إذن السيطرة على الأرض بفعل الآيدلوجية العروبية هى التى ظلت تتم تحت غطائها كل هذا الدمار والمجازر التى تشهدها دارفور.
قيام التجمع العربى:
مع تنامى الآيدلوجية العروبية والدعم الليبى المتواصل, ثم تسلم الصادق المهدى لرئاسة الوزارة عقب إنتخابات عام 1986م, ساد شعور خاص بين القبائل العربية المتوطنة والمهاجرة بدارفور بأنَّ الحكومة المركزية السودانية صارت أقرب إليهم, زاد من ذلك نفورهم من الحكومة الإقليمية التى كان على رأسها الدكتور عبدالنبى على أحمد ثم خلفه عليها الدكتور التجانى سيسى محمد, وكلاهما من القبائل غير العربية, ليتبنوا موقفاً عنصرياً أكثر تطرفاً, ولذلك سعوا تحت التأثير الفكر العروبى المؤدلج إلى تكوين تحالف عربى عريض يشمل كل القبائل ذات الأصول العربية بدارفورأطلقوا عليه إسم "التجمع العربى" فى عام 1987م, ضمت 27 قبيلة عربية, خلافاتها وحروباتها فيما بينهم أكثر من غيرهم من سكان الإقليم ولا تجمعها فى ذلك التحالف إلاَّ عداوتها المعلنة للزرقة (القبائل الأفريقية), وقد أصدروا بياناً بشأن ذلك عُرفت ببيان التجمع العربى أعلنوا فيه أن نسبة العرب بين سكان دارفور تبلغ 40% ولذلك يجب أن ينالوا حقوقاً موازية فى السلطة والثروة, وطالبوا فيه كذلك بضرورة تغيير إسم الإقليم (دارفور) لأنه يحتوى على مدلول عنصرى لا تناسبهم, ومن هنا تعزَّز الوضع فى دارفور وتحوَّل بصورة لافتة إلى صراع آيديولوجى عنصرى بحت أخذت شكل مواجهة بين العرب والزرقة تطورت إلى ممارسات القتل والحرق على أساس عرقى بين العرب والفور إبتداءاً, ثم بين العرب والقبائل الأخرى ذات الأصول الأفريقية, خاصة الكبيرة منها كما هو مشاهد الآن, ونتج عنها مباشرة تطوير العرب لمليشيات الجنجويد كأداة عسكرية ضد الفور والتوسع فى الأرض ضد قبائل الزرقة.
لقد إرتكب الصادق المهدى خطأًّ فادحاً بصمته المطلق على تلك الفتنة العرقية بالرغم من إستنكار كل القوى السياسية لها, وقد ظنَّ الموقعون على بيان التجمع العربى أنَّهم بذلك قد نالوا رضا رئيس الوزراء فلم يستنكفوا عن خططهم برغم الإستنكار القومى الواسع, بل ومضوا فى تطوير برنامجاً طويل المدى, يشمل أيضاً القبائل العربية فى كردفان, من أجل السيطرة على كل غرب السودان ثم الحكومة المركزية, وتبنوا تنظيماً جديداً أطلقوا عليه إسم "قريش" يبدو أنه برنامج مرحلى متدرج لتحقيق أهداف خاصة بالعناصر العربية فى غرب السودان على نحو ما سنرى لاحقاً, لكن قبل ذلك نود أن نلفت النظر إلى حقيقة هامة وهى أنَّ الكثير من الجماعات العربية الواعية إستنكرت, بل وظلت مستنكرة لهذا الإتجاه العنصرى الذى يتم بإسمهم, كما نعلم أيضاً أنَّ منهم من إتخذ فعلاً خطوات عملية لإيقافها من التوسع وإنهائها حيث بدا لهم جلياً أنَّها سوف لن تضر إلاَّ أنفسهم وسكان دارفور أجمعين, ولذلك نرجو أن نقرأ الفقرات التالية بذات الفهم ولا نرمى بها كل المجموعات العربية بدارفور وكردفان, ونعتقد أيضاً أن الذين تبنوا فكرة التجمع العربى هم قلة من الأفراد, قد يشمل المتعلمين وأنصافهم من أبناء هذه القبائل, ونستبعد ضلوع الأدارات الأهلية فيها بالرغم من إعتقادنا أنَّ بعضاً منهم قد يكون إنجر وراءها جزئياً تحت ضغوط هؤلاء المتعلمين.
وثيقة التجمع العربى:
لقد وقع فى أيدينا صورة طبق الأصل من منشور سرى للتجمع العربى أرسلته هذه المجموعة لأعضائها وهى خالية التاريخ والمصدر والتوقيع, ربما قصد مرسلوها ذلك بسبب السرية, فلنقرأها أولاً ثم نعلق عليها:
سرى للغاية
السيد .................
إجتمعت اللجنة التنفيذية للتجمع لتقييم نشاط الأعضاء فى كل المجالات ودراسة توضع بعد تعيين وزراء الحكومة الإقليمية من الزرقة, وقد إستقر الرأى أننا لم ننال من مكانة بدارفور إلا بالكفاح والتصميم والتضامن وأنَّ هذه مرحلة دقيقة وصعبة لا يستطيعها إلا أولو العزم من الرجال, ولتحقيق أهداف التجمع قررت اللجنة العليا القرارات التالية:
-على أعضاء التجمع الملتزمين والذين أدوا القسم:
1- إثارة المتاعب فى طريق الحكومة الإقليمية لإقلاقهم وإستخدام كل الوسائل المتاحة حتى لا تتمكن الحكومة من تنفيذ  سياساتها وبرامجها الإصلاحية.
2- العمل على شل حركة مرافق الخدمات بمناطق الزرقة وزعزعة المواطن وجعله يشعر بضعف الحكومة وعجزها عن توفير أبسط مقومات الحياة.
3- مضاعفة المتطوعين فى كل مناطق الزرقة لأن الواجب يحتم علينا عدم إستتباب الأمن ووقف الإنتاج بهذه المناطق وتصفية الزعماء.
4- العمل على خلق منازعات بين قبائل الزرقة حتى لا يكونوا متحدين.
5- على أعضاء التجمع الذين يشغلون وظائف قيادية الإلتزام بالآتى:
أ) تركيز الخدمات فى مناطق نفوذ التجمع ما أمكن ذلك.
ب) عدم وضع أبناء الزرقة فى وظائف ذات أهمية والعمل على وضع العراقيل أمام الذين يتبوأون وظائف إدارية وتنفيذية كلما سنحت الظروف.
ج) العمل بكل الوسائل والسبل لوقف إستقرار المدارس فى مناطق الزرقة.
سرى للغاية
التحليل:
(1) يبدو من نبرة هذا المنشور أنَّه يكون قد صدر فى منتصف عام 1988م بعد تعيين الصادق المهدى الدكتور التجانى سيسى حاكما لدارفور.
(2) تأكيد المجموعة تصميمهم على إفشال الحكم الإقليمى وتعطيل قدراتها فى تنفيذ المهام الملقاة على عاتقها.
(3) تعقيد الحياة فى مناطق القبائل الغير عربية (الزرقة) وتحويل حياتهم لجحيم لا يطاق.
(4) إطلاق يد الجنجويد لتدمير مناطق الزرقة بتدمير البنيات التحتية والخدمات وتصفية زعماء الإدارات الأهلية.
(5) خلق الفتن والإشكالات بين فئات القبائل الغير عربية والعمل على عدم توحيدهم حتى يمكن شل حركتهم لمواجهة القبائل العربية أو تطوير أنفسهم.
(6) تركيز الخدمات الإجتماعية ومشاريع التنمية فى مناطق العرب وحرمان الزرقة منها.
(7) تعطيل تقدم وتطور أبناء الزرقة فى مجالات الحكم والإدارة وحرمانهم من التعليم بكل الوسائل والسبل يشمل ذلك حرق المدارس والمؤسسات التعليمية.
لا أدرى كيف يفكر أى أشخاص بمثل هذا الفهم المبنى على الكراهية العنصرية البغيضة؟ وكيف يحلو لهم حرمان إخوة لهم شاركوهم الحلو والمر فى ذلك الأرض على مرالتاريخ؟ أنَّ دارفورمن الناحية الديموغرافية تقف على ساقين هما القبائل ذات الأصول الأفريقية وأولائك ذوو الأصول العربية وفى النهاية فإنهم كلهم مواطنون سودانيون متساوون فى الحقوق والواجبات وفرص الحياة والعيش الكريم, ومن الناحية الدينية فإنهم جميعاً من آدم وآدم من تراب, أولم يعلموا أنَّه ليس لعربى على أعجمى من فضل إلا بالتقوى؟ فكيف إذاً يسترخصون حياة الإنسان والبشر إلى الحد الذى يحرمونهم فيه حق الحياة؟ إنَّ الشيئ الوحيد الذى ربما يخفف من حدة الشعور بالألم والغثيان من عمق الأزمة هو أن هؤلاء المجموعة لا يمثلون السواد الأعظم من القبائل العربية وإنما قلة منفلتة ضاقت لهم أرض دارفور الوسيعة فصاروا يقيسونها بقدر عقولهم الضيقة.
هذه الأوضاع التى تمت خلال عهد الديمقراطية الثالثة جهزت الأرضية لنظام الإنقاذ لتحيلها لأشدِّ الفترات دموية فى تاريخ دارفور, وكما ذكرنا فى مقال سابق عن كيف إنحازت حكومة الإنقاذ للجماعات العربية بدارفور لدعم برنامجها الحضارى الإسلاموعروبى, ويعلم أهل دارفور جيداً عن إستلام مسئول نافذ كبير فى نظام الإنقاذ هو الآن فى حكم ربِّه لملف القبائل العربية وإشرافه المباشر لتفتيت ديار القبائل الكبرى وتثبيته للبطون والقبائل الوافدة التى إستولت على أراضى بتلك الديار بقوة السلاح, كما يعلم أهل دارفور جيداً سياسات الحكومة بتسليح مليشيات القبائل العربية وتدربيها فى معسكرات الدفاع الشعبى إلى الدرجة التى أصبحت الآن معترفاً بها حتى من بعض المسئولين فيها, وكيف إستغل الطيب إبراهيم محمد خير فرسان البقارة لإبادة حملة داؤود يحيى بولاد, حيث ما زالت نفس السياسات مستمرة إلى اليوم, فبعد هجوم حركة تحرير السودان الشهير على مطار الفاشر وتدميرها لعدد من الطائرات الحربية التى كانت تستخدمها الحكومة لقصفهم أعلن والى جنوب دارفور عن أنَّ المئات من فرسان البقارة قد أعلنوا جاهزيتهم للدفاع عن مدينة نيالا إذا ما تعرضت لنفس الهجوم, مما يعنى تجيير تلك القبائل للدفاع عن سياسات الحكومة حتى وإن كانت ظالمة بحق أهل دارفور.
إنَّ خروج نائبا البرلمان الدكتور فاروق أحمد آدم وعبدالجبار آدم عبدالكريم من حظيرة الجبهة الإسلامية القومية وإنضمامهما للحزب الإتحادى الديمقراطى عام 1988م شكَّل أبرز دليل على ضلوع الجبهة الأسلامية لتمزيق وحدة أهل دارفور, وقد أكَّدها كذلك خروج المهندس داؤود يحيى بولاد أيضاً بل ومحاربته لحكومة الجبهة/الإنقاذ, وبدلاً عن التبصر فى تحليل خلفيات ذلك الخروج, ومن قوى دارفورية مؤثرة, آثرت الجبهة طيهم فى ملف النسيان بل وتوصل الدكتورالترابى لإستنتاج مفاده أنَّ: "الإسلاميين من القبائل الزنجية صاروا يعادون الحركة الإسلامية, وعليه تهدف خطة الجبهة إلى تأييد القبائل العربية بإتباع الخطوات التالية: التهجير القسرى للفور من جبل مرة  وحصرهم فى وادى صالح ونزع سلاحهم كلياً, وإعادة توطين الماهرية والعطيفات والعريقات (من القبائل العربية الأبالة) فى منطقة جبل مرة, وعدم إعادة السلاح للزغاوة وتهجيرهم من كتم إلى أم روابة (ولاية شمال كردفان) وتسليح القبائل العربية وتمويلها بحيث تكون نواة للتجمع العربى الإسلامى" (محمد سليمان محمد, السودان: حروب الموارد والهوية, صفحة 382). هذه السياسات وما تبعتها من تفتيت الإدارات الأهلية بفرض ما أسمته الحكومة بنظام الأمارة أدت إلى الأوضاع المريرة التى تعيشها دارفور اليوم, إنَّ الحكومة هدفت بتلك الخطة السيطرة على الأرض وتوزيعها على محاسيبها من القبائل, فتم ذلك بقرارات فوقية لم تأخذ فى حسبانها ثقافة الأرض وعلاقتها بحياة مختلف القبائل بدارفور, وخلال ذلك فهمت بعض المجموعات العربية من إستمالة الحكومة لها تشجيعها للإستيلاء على الأراضى حتى وإن تم ذلك على حساب أرواح الأبرياء سكان القرى, وفهموا كذلك إنَّ تلك الأراضى هى أراضى الزرقة حلال لهم مهاجمتها وإجبار أهلها على النزوح منها.
وثيقة قريش 2:
إنَّ ما يدعم قولنا هذا هو حصولنا على وثيقة على درجة عالية من السرية من وثائق برنامج قريش, وهو قريش 2, وهذا الرقم 2 يدعم وجود مخطط إستراتيجى ممرحل, لكل مرحلة رقم محدد, هذه الوثيقة, كسابقتها, من غير تاريخ أو مصدر معين وربما يكون مقصوداً إمعاناً فى السرية, فلنقرأها ثم نعلق عليها بعد ذلك.
قريش 2
سرى للغاية
النسخة رقم .....
بسم الله الرحمن الرحيم
"قل اللهم مالك الملك, تؤتى الملك من تشاء, وتنزع الملك ممن تشاء, وتعز من تشاء, وتذل من تشاء, بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير"  
صدق الله العظيم
كنا قد تناولنا فى قريش -1- ميلاد قريش جديد وبعض البرامج إلا أن التطورات التى تشهدها البلاد والمستجدات السياسية بأبعادها الداخلية والخارجية تتطلب وقفة تذكير بالأهداف ومراجعة الخطط وتعزيز الإنجازات فى سبيل تحقيق غايتكم السامية.
وكما تعلمون فقد حال الجعليون والدناقلة والشايقية بيننا وبين حكم السودان لمدة تناهز القرن, وهم مهما تدثروا بثياب العروبة, هجين أصبح عرقاً وثقافة جزء لا يتجزأ من النسيج النوبى المتمصر, وستظل تلك الفئة تتشبث بحكم البلاد إلى الأبد, إذ بلغنا أنَّ أطراف هذا الثلاثى قد أقسموا مؤخراً على أن تبقى السلطة تداولاً بينهم.
يمر قريش بمرحلة مخاض حرجة, والمطلوب من الجميع, وخاصة الطرفين, التسامى على الإنتماءات الفكرية والطائفية فى سبيل تحقيق الأهداف النبيلة والمحافظة على الإنجازات التى تحققت حتى الآن, وضرورة العمل الدؤوب لبلوغ الغايات التى نراها قريباً عبر الإلتزام بالتالى:
أ- الموعد العام 2020 على حد أقصي.
ب- الهدف قريش 20.
ج-  الهدف المرحلى: ولايات الغرب الستة.
د- الخطط والبرامج والوسائل:
داخلياً:
1- إعطاء إهتمام خاص بالتعليم أفقياً ورأسياً وإعداد كوادر عالية التأهيل فى مختلف المجالات السياسية. والإقتصادية والإعلامية والأمنية والعسكرية.
2- إقامة مؤسسات إقتصادية.
3- الإنخراط الواعى فى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية.
4- مواصلة خطة إظهار التعاون مع السلطة القائمة.
5- المحافظة على علاقات العمل القائمة مع بعض الشخصيات المحورية مع أبناء الثالوث فى قيادة الدولة.
6- التنسيق المحلى مع أبناء العمومة فى الوسط والشرق.
7- التأكيد على أهمية قبائل التماس وحث الدولة على المزيد من دعمها وتسليحها وتدريبها (الدفاع الشعبى, المجاهدين, قوات السلام).
8- حث جميع القادرين من الأهل للإنخراط فى قوات السلام.
9- المحافظة على قنوات التفاهم مع الدينكا.
10- التقيد التام ببنود عملية "شاهين" لجنوب كردفان.
11- إحتواء نذر الفتنة بين النهود والفولة ومناشدة الأهل فى أرجاء الوطن النأى عن الصراعات الداخلية التى تبدد الطاقات.
12- عدم إثارة موضوع البترول قبل إستخراجه الفعلى.
13- إحتواء آثار وتداعيات حادث نيالا فى أضيق نطاق والسعى للإفراج عن الفرسان.
14- تأمين المراعى الكافية للرعاة فى السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى.
15- محاربة الأعراف الخاصة بحيازة الأرض (حواكير, ديار, ... ألخ) بشتى الوسائل.
16- إبراز دورنا القومى فى التصدى للقبائل غير العربية فى الغرب كإمتداد طبيعى للتمرد.
17- توسيع فجوة الثقة بين المركز وأبناء القبائل غير العربية بدفع القيادات المنتقاة من أبناء الزرقة إلى المزيد من التطرف فى التعبير عن الظلم الواقع على الغرب ومجاراتهم بوعى فى النعرات الجهوية والعنصرية.
18- السعى للحصول على المزيد من المناصب الدستورية فى المركز والولايات.
19- الحفاظ على إنجازات برنامج الجاموس لغرب دارفور بتداعياته المحسوبة.
20- على الطريفى 2 والطريفى 3 مواصلة العمل لتمكين القرشيين فى دارفور.
21- الإستعداد لأى إنتخابات ولائية فى الولايات الستة.
22- الحرص على الإنضباط والنأى عن السلوكيات الطائشة كالحديث عن دولة البقارة.
23- ضرورة إهتمام القيادات بالإعلام الإيجابى.
24- ضرورة ترقية الأداء المالى لقريش.
25- تبقى القيادات البارزة من القرشيين فى المؤتمر الوطنى 3 من بين قريش 3, ووضع القرار حسب مقتضيات الحل.
خارجياً:
1- تقوية التنسيق والتشاور مع القرشيين فى دول الجوار.
2- تطوير التفاهم الإستراتيجى مع الجماهيرية على هدى ما إختطه البقلانى أصيل والشيخ إبن عمر.
3- تطوير برامج سباق الهجن والإستفادة منه فى توثيق الروابط مع الأشقاء فى دول الخليج, وبالله التوفيق.
"ونريد أن نمن على الذين إستضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين, ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون".
صدق الله العظيم
سري للغاية
التحليل:
(1) تعتبر المجموعة المكونة لتنظيم قريش مجموعة عربية تهدف للسيطرة على السلطة فى السودان على المدى البعيد وقيام دولة العرب عام 2020 بإستراتيجية تبنى على الآتى:
أ- مهادنة السلطة القائمة والإستفادة من الإمكانات للإستيلاء على مراكز القرار بحكم القبضة القوية من القبائل الشمالية (الجعليين, الشايقية والدناقلة).
ب- معاملة قبائل الجنوب وبخاصة الدينكا خوفاً من الدخول معهم فى مصادمات.
ت- معاملة أبناء النوبة وكل المجموعات الغير عربية متمردين وتشديد الخناق عليهم بإبعادهم وتصفيتهم.
ث- متابعة العمليات المسمى فى البيان فى جبال النوبة "شاهين" ودارفور "الفرسان" وذلك من أجل تفريغ هذه المناطق والإستيلاء عليها وإفساح المجال للعرب للهيمنة عليها.
ج- التحكم فى أى قرار بشأن المناطق المذكورة.
(2) تمثل السيطرة على الأرض وإحلال العرب مكان الزرقة الهدف الأسمى لهذه المجموعة ويدعم ذلك إسقاط ضمنى بإيراد تلك الآيتين فى صدر وعجز البيان من خلال تضمينهما لمبدأى أيلولة السلطة والخلافة فى الأرض.
(3) الإستعانة ببعض الدول العربية للمساعدة فى دفع هذا التوجه من خلال تنفيذ بعض البرامج كغطاء للمشروع الأساسى.
(4) السيطرة على كل غرب السودان, دارفور وكردفان, كمنطلق أولى للسيطرة على حكم السودان.
(5) عدم وجود أى محاذير بل إستخدام كل الوسائل بما فيها التصفية الجسدية وإبادة قبائل الزرقة للوصول إلى الهدف النهائى.
(6) يبدو أن الوثيقة صدرت بعد عام 1996م حيث أشارت إلى ولايات الغرب الستة ولم تكن عدد الولايات 6 قبل عام 1996.
أين الحكومة السودانية؟ وأين جهاز الأمن القومى؟ وهل الحكومة ورئيسها ونائبها الأول على علم بذلك؟ إن كانوا لا يعلمون فمصيبة, وإن كانوا يعلمون ولم يتحركوا فالمصيبة أكبر, وإن كانوا يعلمون ويتحركون لدعم ذات التوجه فذلك شيئ أعظم نعجز أن نصفه بالكلمات, ثمَّ ما ذنب الأبرياء الذين يذبحون آناء الليل وأطراف النهار فى دارفور؟ ماذا جنوا ضد الحكومة أم التتر الجدد حتى يقتلوا وهم الآمنون فى قراهم يتغنون لوطن إسمه السودان؟ وهل ينام هؤلاء القتلة ملء جفونهم يحسبون أنَّهم يفعلون شيئاً مقبولاً؟
جنجويد جبال النوبة:
لقد حدثت مثل هذه المذابح أيضاً فى جبال النوبة, وفى جنوب السودان من قبل, وظلَّ الهدف ثابتاً فى كل هذه الأحوال الثلاثة ألا وهو السيطرة على الأرض أو سياسة حرق الأرض بالنسبة للجنوب فى هجوم محموم لفتح تلك الأراضى لإكتشافات النفط, وكما نرى أعلاه فإنَّ مشروع قريش 2 يحتوى على تشجيع عمليات الجنجويد الميدانية والتى عرَّفوها بعمليات "الفرسان" بدارفور ضد قبائل الزرقة, وبعمليات "شاهين" بجبال النوبة ضد قبائل النوبة. لقد تعالت قريحة الحكامة .. ( شبالة بت العرب ) .. تنخي أولاد البقارة علي الإغارة وسلب ممتلكات النوبه في كردفان قائلة:
قايد
قايد الطوف..
يوم مر بالمجروس..
النوبة ديل
طلعوا الجبل فوق..
نشيل الجيم
نمشي ندلي الجوك..
... ... ...
قايد (أى قائد), المجروس (عربات النقل العسكرية), الجيم هو الجيم ثرى المعروف كسلاح فردي للمشاة في الجيش السودانى, والجوك هو نوع من الأبقار ذوات قرون طويلة إشتهرالنوبة والجنوبيون بتربيتها. وقد قام الأب فيليب عباس غبوش والرابطة العالمية لأبناء جبال النوبة مؤخراً بالشكوى للأمم المتحدة ضد تجاوزات الجنجويد بحق أهاليهم وطالبوا الحكومة السودانية بتعويض قدره 50 بليون دولارعن جرائم الإبادة العرقية التى مارستها فى منطقة الجبال, ففى إجتماع لهم بالسيد/ كارين براندركاست مساعد الامين العام للامم المتحدة للشئون السياسية ومساعدوه فى مكتبه بنيويورك يوم 6/11/2003م أبلغوه عن المظالم التى تعرض لها النوبة بوجه عام وطالبوا بحق تقرير المصير, ثم أصدروا بياناً بعد تلك الزيارة, نشرته موقع سودانايل بتاريخ 7/11/2003م, جاء فيه: "ولقد زود الوفد الامم المتحدة بتقارير كاملة عن ما يسمى بتنظيم قريش العربى وبعض اعضائها النشطين فى أروقة الحكومة والمنظمات والذين يعملون على ابادة المجموعات الافريقية, اى ما يسمونهم بالزرقة, واحتلال مواقعهم بحلول 2020م، مستغلين امكانات الدولة والمنظمات للتقوية وتأجيج الصراعات فى المنطقة. وقد أعتبر الوفد تلك المجموعة محدودة يجب ان يتم حسمها بعد التحرى حولها وتقديم مجرميها للعدالة العالمية". وذلك ما يتطابق تماماً مع الوثيقة التى أوردناها أعلاه.
الوضع الحالى لمليشيات الجنجويد:
مليشيات الجنجويد هى اليوم مليشيات عربية حكومية تقوم بدور مزدوج ألا وهما مساعدة القوات الحكومية فى حربها ضد ثوار دارفور من خلال تشكيل قوة مساندة لها, ثم تنفيذ دورها المنوط بها فى تصفية قبائل الزرقة والإستيلاء على أراضيهم كما هو مخطط فى برامج قريش وأهداف مجموعة التجمع العربى, وهم ينقسمون إلى قسمين قسم صغير بشمال دارفور يتكون من عدة مليشيات تابعة للقبائل العربية الصغيرة هناك وهم عادة ما يصاحبون كتائب الجيش السودانى, أشهرها تلك المجموعة التى إستباحت مدينة كتم فى 6 سبتمبر الماضى وعاثت فيها قتلاً ونهباً, ثم المجموعة الأكبر التى تتكون من مليشيات القبائل العربية بجنوب دارفور وهؤلاء يتصرفون وحدهم وبحرية كاملة, ويقال أنَّ عدددهم كبير إذ يبلغون نحو 5000 رجل يمثلون معظم قبائل البقارة, عدا قبيلة المعاليا فى بعض الروايات, ويتخذون من جبل كرقوا الحصين أقصى جنوب غرب دارفور معقلاً دائماً لهم ينطلقون منه للإغارة على مناطق وسط وغرب دارفور. هذه المجموعات بدأت تعمل خارج سيطرة الدولة مدفوعة بالبرنامج الآيديولجى وحده, وصاروا من القوة وشدة البأس بحيث لا توجد سيطرة لأحد عليهم إذ ظلوا خارج سلطة الدولة والإدارات الاهلية,  لكن عندما فطنت إليهم الحكومة عفت عنهم مقابل إنخراطهم فى معسكرات إعداد خاصة أسمتها الحكومة "معسكرات التائبين" حيث تمَّ إستقطابهم إلى جانبها وأعدتهم للمشاركة فى تنفيذ أهداف محددة للجيش السودانى, وليس من المؤكد ما إذا كانت الحكومة قد وعدتهم بغض الطرف عن برنامجهم الإستراتيجى بإبادة قبائل الزرقة, لكن واقع الحال قد لا يشير إلا إلى ذلك. كما يقال أنَّ الحكومة تمنحهم رتباً عسكرية إسمية ورواتب مالية خاصة لقادة هذه المليشيات تعتمد على حجم القوة ودرجة خطورة المهمة المنوط بها, ويقال فى هذا الصدد أنَّ قائد القوة التى دخلت مدينة كتم, وهو شيخ قبيلة مشهورة فى تلك المنطقة, كان برتبة عسكرية إسمية لواء أركان حرب ومرتب شهرى قدره 20 مليون جنيه له ولأتباعه, كما أنهم لا يتبعون للسلطات المحلية وإنما يتلقون أوامرهم مباشرة من جهة ما بالخرطوم, قد تكون شخصية متنفذة, وهذا ما يفسر عجز حكام ولايات دارفور الثلاثة فى التعامل معهم بحسم, لكن من جانبها ظلت الحكومة تصر على سياستها المعلنة التى تنفى أى شكل من أشكال التعاون بين القوات المسلحة والمليشيات القبلية أو تورطها فى تسليح إنتقائى للقبائل.
لقد ورد فى كتاب حرير وتفيدت (1997م)  إشارة إلى تقرير كتبه أحد المراقبين الأوربيين عن دور المليشيات القبلية فى المشكلة السودانية جاء فيه أنَّه "لأسباب إستراتيجية فقد رعت حكومة السودان إبادة قسم من سكانها المدنيين, فقد قتل عدة آلاف من السكان بواسطة المليشيات الحكومية, كما مات عدة آلاف نتيجة لغارات هذه المليشيات ومن المحتمل أنَّ الآلاف قد حرموا من المواطنة وإخذوا كرقيق بواسطة المليشيات بالتعاون مع القوات الحكومية" (J. Ryle, 1988), وبرغم من أنَّ ذلك يتسم قليلاً بالمبالغة إلاَّ أنَّ الحقيقة تظل أنَّ المليشيات قد حطمت حياة عشرات الآلاف من المواطنين فى جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور.
ما هى الحلول؟ وهل هناك من مخرج لهذا النفق المظلم؟

 

آراء