النُّوبة في السُّودان… وما يدريك عن دورهم في الإطار الإقليمي والدَّولي

 


 

 


د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk

جبال النُّوبة... الإثنيات واللُّغات
أدَّى تفاعل الأحداث في السنوات الأخيرة بخصوص مسألة النُّوبة (The Nuba Question)، والتي ترمي بظلال كثيفة على مشكل النزاع الدَّموي في السُّودان، إلى وضعها في بؤرة الأحداث المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة.  وكأي شعب أصيل، امتلك النُّوبة حضارة إنسانيَّة عريقة، ولعبوا دوراً رائداً في النطاق الإقليمي الواسع الذي أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، وذلك بحكم توسُّعهم الجغرافي حتى البحر الأبيض المتوسط واتصالهم التجاري والسياسي بالأمم المجاورة.  بيد أنَّهم كانوا حراصاً على الأشياء التي تميِّزهم عن غيرهم، وبالتَّالي حموا كيانهم الحضاري، ولكن إلى حين.  وعندما اشتدَّت بهم الأهوال والأوجال انتشروا في أرض السُّودان الشاسعة، وتفرَّقوا أيدي سبأ.(1)  ثم أسهموا - أي إسهمام - في تفعيل تأريخ شرق أفريقيا الحديث، وعبروا المحيط الأطلسي إلى المكسيك لخوض حروب الأغيار.  وفي السُّودان استقرَّ النُّوبة في جبال النُّوبة يذودون عن ديارهم حتى لا يظن الأقوام أنَّهم تضعضعوا وونوا، ولم يكونوا خشباً ينقصم أو عوداً ينحطم، وقد احتملوا الحياة في شئ من الصبر والجلد، خليق بالرَّثاء والإعجاب معاً. ومن خلال هذه الدراسة نحاول إزاحة الستار عن، وإلقاء الضوء على، جذور وتأريخ وأسرار مسألة النُّوبة، وتداعيات ذلك على أمن واستقرار السُّودان.  فعلى الرغم من أنَّ النُّوبة خاضوا حروباً ضارية في الجبال وكل المواقع الحربيَّة التي استبسل فيها الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان - بما فيها جنوب السُّودان - إلاَّ أنَّ الإعلام الغربي غالباً ما يختزل المشكل السُّوداني بأنَّه نزاع شمالي-جنوبي.  إذ أن مبتغى الأنظمة الحاكمة في الخرطوم كان - ومازال - يتمثَّل في حصر هذه القضية القوميَّة في في إطار إقليمي ضيِّق بحيث يتَّسع فقط لإعادة ارتداء إتفاق أديس أبابا في العام 1972م، أو زد عليه قليلاً، وبذلك تضيع حقوق سكان المناطق المهمَّشة الأخرى الذين رفعوا السلاح أسوة بأهل الجنوب وناضلوا معهم أي نضال وما بدَّلوا تبديلاً. ولكن بادئ ذي بدء، من هم النُّوبة؟
تُستخدم لفظة "النُّوبة" لوصف الزنوج القاطنين في الرقعة الجغرافية المعروفة حالياً - ومن قبل - بجبال النُّوبة في القطاع الجنوبي-الشرقي من إقليم كردفان بجمهوريَّة السُّودان. وإذا استقرأنا جغرافية وطبوغرافية منطقة جبال النُّوبة، نجد أنَّها تشتمل على الحقائق التَّالية: تبلغ مساحة جبال النُّوبة في جنوب كردفان حوالي 30,000 ميلاً مربعاً، وتقع بين خطي عرض 29 - 31 درجة غرباً وخطي طول 9 - 13 درجة شمالاً، كما أنَّه ليس هناك تعداد سكاني للنُّوبة يمكن الإعتماد عليه نسبة للظروف السياسيَّة التي تمر بها البلاد والعباد.  وتحدها من الشمال ولاية شمال كردفان، ومن الشرق ولاية النيل الأبيض، والتي تشمل مناطق تابعة لجبال النُّوبة، ومن جهة الجنوب الشرقي ولاية شمال أعالي النيل، ومن جهة الجنوب الغربي ولاية الوحدة، ومن الغرب ولاية غرب كردفان، التي تشمل - كذلك - مناطق هي في الأصل تابعة لجبال النُّوبة. وتُستخدم لفظة "النُّوبيُّون" لوصف أهل شمال السُّودان حتَّى جنوب أسوان في مصر، الذين مازالوا محافظين على عاداتهم وتقاليدهم التليدة على الرَّغم من قساوة التاريخ والجغرافيا عليهم. فقد ذهب المؤرِّخون في تعريف كلمة "نوبة" مذاهب شتى، واتخذوا في سبيل ذلك طرائق قدداً. فمنهم من قال إنَّ الكلمة مشتقة من لفظة "نوب" (Nub) التي تعني الذهب في اللُّغة الفرعونيَّة القديمة، ونحن نعرف شهرة بلاد النُّوبة بالذهب إبان العصور الفرعونية، إذ كانت هذه المنطقة هي الوحيدة التي تُغذي مصر بتلك الكميات الهائلة من الذهب. فما زالت هناك أسرة في مدينة الدلنج تحمل الاسم "سرنوب" أي سوار الدهب كما عرَّبها النُّوبيون أهل الشمال. ومنهم من قال إنَّ الكلمة انحدرت إلينا عن طريق الكلمة القبطية (Anouba or Anobades) بمعنى يُضفر، وفي هذه الحالة يكون معنى (نوبة) ذو الشَّعر المضفَّر أو المجعد.(2)  ويقول بروكوبيوس إنَّ الإمبراطور الروماني ديوكليشيان (في الفترة بين 284-305م) قد دعا "نوباتا" (Nobatae) من الصحاري الغربيَّة (الخارجة) وأسكنهم في وادي النيل، لكيما يوقفوا غارات البجة (Blemmyes) والنُّوبة على مصر العليا جنوب أسوان. غير أنَّ هنالك رأي يقول إنَّ كلمة "نوباتا" مشتقة من العاصمة نبتة (Napata). وإنا نميل إلى التَّكهن بأنَّ الكلمة ربما قد اُشتقَّت من لفظة (Nubile) التي تعني في الانجليزيَّة الفتاة البَّالغة سن الزَّواج، ومن المعروف أنَّ الإغريق استخدموا النوبيَّات كجواري في المنازل بعد السبي والاسترقاق. ومهما يكن من أمر، فقد جاء العرب وأطلقوا اسم "النُّوبة" عليهم، كما أطلقوا اسم "المريس" (Nobatia) على إقليم النُّوبة بين أسوان إلى دنقلا.(3)
أيَّاً كان صواباً من هذه المشتقات، غير أنَّ الذي لا مراء فيه هو أنَّ أرض النوبيين في شمال السُّودان كانت غنيَّة بثرواتها المعدنيَّة من ذهب وحديد وزمرد ونحاس وغيرها. فالنُّوبيُّون قوم تحدَّروا من حضارات، فأرضهم يفوح منها عبق التاريخ، والنقوش تنطق بحضارات كانت سائدة ثم بادت من جراء النكبات التي انتابت عالمهم في الأزمنة الغابرة. وقد اُستخدم العبيد في مناجم التعدين وغير ذلك من الأعمال الشاقة التي دوماً تحدثنا عنها كتب التاريخ. ونتيجة لأعمال السخرة وتجارة النخاسة هاجرت مجموعات كبيرة من النوبيين من شمال السُّودان نحو مناطق السُّودان المختلفة بما فيها جبال النُّوبة، وبوَّأهم الله في الأرض وكانوا "ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين" (الحجر 15/82). بيد أنَّ أكبر هجرة جماعية حدثت لراعيا مملكة مروي في شمال السُّودان كانت في القرن الثالث الميلادي (العام 325م) بعد الحرب الشعواء والهزيمة النكراء التي سددها الملك عيزانا - ملك مملكة أكسوم الأثيوبيَّة. وفي استعراض بديع للتاريخ، سجَّل عيزانا انتصاراته في لوح محفوظ عثر عليه الباحثون فيما بعد، ودوَّن عيزانا في سجلاته أنَّ النوبة، الذين ناصبوه العداء، كانوا نوعان: الحُمر والسُّود. ودارت جل معاركه مع أعدائه النُّوبيين حول نهر تاكيزي (عطبرة حالياً). أما الهجرة الثانية فتقول الروايات التاريخية أنَّها بدأت بعد سقوط مملكة علوة والدمار الذي أعقب الانهيار. ولعل عبدالله جماع قد قاد تجمع العرب حول الخرطوم وقام بالإنقلاب على سلطة المملكة، التي طالما وفَّرت لهم الأمن والطمأنينة، وسمحت لهم بممارسة شعائرهم الإسلامية على الرَّغم من أنَّ المسيحيَّة كانت ديانة المملكة الرَّسمية. وقد اكتظت الطُّرق بجموع الفارين من سوبا، عاصمة مملكتهم التي باتت هباءاً منثوراً، حيث لم يطب بهم المقام في أربجي (عرب بجي) - أي العرب قادمون، واتجهوا نحو الغرب وتفرَّقت بهم السُّبل. وقد عثر علماء الآثار على آثار هذه المملكة، التي اندثرت، في مناطق جبل موية بين سنَّار وكوستي، مما يعني امتداد نفوذ المملكة إلى هذه المنطقة أو تكون هذه الآثار قد خلفها القوم الهاربون.
بيد أنَّ بعض المؤرِّخين يعزون وجود النُّوبة في هذه الجبال إلى حقب سحيقة. وحسبنا أن نذكر - في هذه الدراسة - أن المورِّخ الأغريقي (اليوناني) هيرودوت تحدَّث عن الجنود الأبَّاق (الهاربين) وقد سمَّاهم "أشام"، وتعني التَّسمية في اللُّغة اليونانية الذين يقفون يسار الملك. لقد فرَّ هؤلاء الجنود، الذين بلغ تعدادهم 240,000 شخصاً، واستقرَّ بهم المقام في أثيوبيا (السودان حالياً). فلم تفلح معهم كل المحاولات التي بُذلت لإرجاعهم لوطنهم وزوجاتهم وأبنائهم. وفي غمرة هذه المحاولات الميؤوسة أشار أحدهم إلى أعضائه التناسليَّة وقال: "مادام لديَّ هذه فسيكون لي زوجات وأبناء أينما ذهبت".(4)  هذه هي الهجرات التي لها علاقة عضوية بوجود النُّوبة في منطقة الجبال ومجموعات أخرى في شمال دارفور هي الميدوب والبرقد، وأخرى استوطنت في شمال كردفان فيما تعرف بالجبال البحريَّة، وذلك قبل دخول العرب والإسلام إلى السُّودان. فما هي تلك الجبال؟ وما الذي حدث للنُّوبة في هذه الديار؟
تضم تلك الجبال البحريَّة جبل حرازة، أبوحديد، أم دُرَّاق، كاجا (كاجا السُّروق، كاجا الحفرة، كاجا سودري)، كتول، أبوطُبر، الأضيَّة، العفاريت، والعطشان. وتنتمي هذه المجموعة البشريَّة إلى قبيلة العنج (Anag). وتقول السِّيرة الشَّعبيَّة قي جبل حرازة إنَّ أهل أبوكنعان، الذين تربطهم صلة بالعنج، قد عاشوا في ديارهم في عهد الرُّسل الذين سبقوا بعث الرَّسول سيدنا محمد صلى اللَّه عليه وسلَّم - أي قبل ظهور الإسلام، وكانوا أثرياء أشداء وقد هُلكوا في مساكنهم بسبب الفاقة.(5)  إنَّ مواطني جبل حرازة كانوا حتَّى العام 1857م يتكلَّمون لغاتهم "النوباويَّة". وتمثِّل لغة جبل حرازة، مع اعتبار الوضع الجغرافي، الحلقة المفقودة بين لغات البرابرة في نهر النيل والبرقد والميدوب والألسن ذات المقاربة في شمال وشمال وسط دارفور. كما أنَّه من المعلوم أنَّ البرقد كان يمثِّل العرق السَّائد في جبال كاجا في شمال كردفان خلال القرنين السادس عشر والسَّابع عشر الميلادي، وأحفادهم في دارفور يذكرون أنَّ لهم نسب وحسب مع الميدوب، ولغتهم ذات صلة وثيقة بلغات البرابرة في شمال السُّودان.(6)  وفي العام 1911م خطَّ داؤود جبارة بن سليمان مسودة تاريخيَّة أورد فيها أنَّ جبل عبدالهادي الذي يقع بين دنقلا وكردفان كان العاصمة القديمة لمملكة النُّوبة، وضمَّت المملكة، فيما ضمَّت، النُّوبيين في نهر النيل.(7)   ومهما يكن من أمر، فقد أمست المسودَّة مادة دسمة للنقاش لدي ماكمايكل الذي كتب تاريخ العرب في السُّودان. كما ذهب البعض قولاً إن مدينة بارا هي العاصمة الثانية للنُّوبة بعد دنقلا. ولعل العثور على نقوش في شمال جبال أبونجيلة في شمال كردفان يؤكد ما ذهب إليه داؤود. وقد احتوت النقوش، فيما احتوت، على رسوم حيوانية وصليبين من الكنيسة الأرثوذكسيَّة ومخطوطة كُتبت باللُّغة النُّوبيَّة، حيث تُرجمت على النحو التالي: "أنا أنينا من كوش حينما كان هارون ملكاً". ويبدو أن ناحت هذه النقوش كان متعلِّماً، فخوراً كان ثم متباهياً بمملكته مروي وملكها هارون، الذي ربما اتَّخذ هذه المنطقة ملجأً له عندما تهاوت مملكته في وجه الملك عيزانا. ويعود التمازج العرقي في جبل حرازة إلى أوائل القرن الثامن عشر الميلادي حينما هاجرت جماعة من الركابية من منديرا في النيل الأزرق واستوطنوا في المنطقة، بعدما أخرجوا أهلها من ديارهم بغير حق، وتزاوجوا مع بعضهم بعضاً. ثمَّ جاء الفوج الثاني من الركابية، الذي بلغ أكثر من 70 شخصاً، إلى جبل حرازة بعد المعارك التي دارت رحاها بينهم وبين الشايقيَّة في النيل الأزرق وانتهت بهزيمة نكراء للركابية.
كانت لفظة العنج تطلق على سكان مملكة علوة القدماء (قبل دخول العرب السُّودان)، وسكان جزيرة مروة، وسكان الجبال الواقعة في شمال كردفان، والعنج معناها الحاكم. وهذا اللفظ يستعمل أيضاً في أوراق النسب السُّودانيَّة مرادفاً للفظ النُّوبة. ويظهر، إذن، أنَّ العنج كانوا من النُّوبة واستقلوا من أصلهم الأول.(8)  ومهما يكن من أمر، فلقد شهدت جبال كاجا وكتول وفود غرباء كثر، نذكر على سبيل المثال، الكنجارة، البرقد، والكيروبات من جهة دارفور، والبديات من وسط كردفان، واستوطنوا وتزاوجوا مع المواطنين الأصليين في مراحل مختلفة من التاريخ. وجاءت البديرية إلى هذه المنطقة في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وبعدها هاجم هاشم المسبعاوي (نسبة إلى مملكة المسبعات) كتول، وقطع طرق إمداداتهم، وقتل أهليهم، وباع البعض الآخر في سوق النخاسة. ومن ثّمَّ ذهب إلى جبل كاجا وشقَّ عدداً من الآبار في صخور سودري، وغيرها من الجبال المجاورة، وهي فوجا، مزروب، كتول، كوقوم، والمقينص. وقد اعتبر المواطنون هذه الصناعة عملاً خارقاً لم يأت به أحد من قبله.
وما يعنينا في هذا الأمر مقال كتبه السيد عبدالرسول النور إسماعيل - حاكم إقليم كردفان السَّابق في عهد حكومة السيِّد الصَّادق المهدي (1986-1989م). ذلكم المقال، الذي هو جزء من دراسة وُصفت خطأً بأنَّها تتميَّز "بنظرتها الموضوعيَّة الثَّاقبة لقضايا منطقة جبال النُّوبة، والتصوُّر الأمثل لحلولها"، قد نُشر في صحافة العهد الغيهب في السُّودان. وما كنا أن نعيره انتباهاً لولا أنَّ الأمر قد تجاوز الافتئات، فالافتئات دوماً تسويل للأغراض، حيث أنَّ المستفيدين من هذه الأساطير هم سماسرة الفتنة في الخرطوم. وقد تجنَّى الحاكم الظليم على حقائق تاريخيَّة دامغة تجاه النُّوبة صاحب الحق التهيم. فماذا كتب الحاكم من باطل لجج؟ ومن ذا الذي دعاه إلى الخوض فيما ليس له به علم فبات ملوماً محسوراً؟ يقول عبدالرسول النور :"إنَّ النُّوبة وصلوا إلى جبال النُّوبة واستقرَّوا بها منذ العام 1323م (...) وقد وجدوا استقبالاً وضيافة من إخوانهم الذين استقروا قبلهم في المنطقة من عرب، وداجو، وشات. لأنَّ العرب دخلوا هذه المنطقة منذ نهاية القرن الثالث عشر، أي العام 1317م كما تقول معظم الروايات".(9)  فإننا نتساءل من أين له بهذه المصادر التاريخية التي تهيَّب من ذكرها وتزاور عنها؟ مما يعني أنَّه يتعمَّد تزوير التاريخ وخاصة لأنًّ ما أورده يناقض حقائق بديهيَّة عند الثقاة.  وسبيل الباحث المحقِّق أن يستعرض الأشياء في عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض، فيدرسها محلِّلاً ناقداً، مستقصياً في النقد والتَّحليل، فإن انتهى من درسه هذا إلى حق أو شئ يشبه الحق أثبته محتفظاً بكل ما ينبغي أن يحتفظ به من الشك الذي قد يحمله على أن يغيِّر رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد.  إنَّ هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به، لا لأنَّ الشك مصدر اليقين ليس غير، بل لأنَّ الإثبات والتَّحقيق ينبغي أن يقومان على أساس متين. ومما يضحض افتراءات عبدالرسول النور تلك الهجرة لمجموعة "أجانق" "والتي تقول (المجموعة) بنزوحهم من دنقلا بعد اتفاقيَّة البقط الشَّهيرة العام 652م واستقرارهم في الأجزاء الشماليَّة من جبال النُّوبة وانحسارهم بمرور الوقت للاحتماء بطبيعة جبال النُّوبة".(10)  وخير دليل على هذه الهجرة وجود قربى لغويَّة بينها وبين النُّوبيين في شمال السُّودان. ومن العادات التي جلبها هؤلاء القادمون الجدد الاحتفال بسبر الحصان "الكوج" كنوع من الطقوس. هذا الحيوان هو الذي جعل جدهم بعانخي يغزو مصر حينما علم أن المصريين يضطهدون الحصان. وكذلك تزيين النُّوبة لجدران منازلهم برسومات للنيل والنخيل، وعادة الخفاض الفرعوني، التي تلاشت فيما بعد. هؤلاء هم النُّوبة، وقد نزحوا في فجاج الأرض من ضيم وإملاق.  وقد أوجد البروفسير الألماني، كارل ماينهوف، علاقة وثفى بين المصطلحات اللُّغويَّة المستخدمة في جبال النُّوبة ولغة الدناقلة، غير أنَّه أصرَّ أنَّ الفراق الذي تمَّ بينهما قد حدث منذ زمن باكر جداً.  ودليله في إثبات هذا الزعم عدم وجود ألفاظ إغريقيَّة أو قبطيَّة في جبال النُّوبة، مما يوحي أنَّ الفراق قد حدث قبل وصول المسيحيَّة وسيادتها في شمال وادي النيل، وهكذا يزعم ماينهوف أنَّ القول بأنَّ النُّوبة احتموا بجبال النُّوبة هربا من غزو المسلمين العرب غير دقيق.(11) هذا عكس ما أثبته باحثون آخرون.(12)
ويرى فريق من المؤرِّخين الأفذاذ وعلماء الأجناس الذين أفنوا أعمارهم في البحث لإتحاف البشريَّة بالمعرفة، يروا "أنَّ الداجو خاضوا حروباً طاحنة مع أهل جبال النُّوبة خاصة في الأجزاء الشماليَّة من الجبال، مع مجموعة الأجانق، وهي تقريباً آخر مجموعات قبائل النُّوبة وصولاً لهذه المنطقة. لقد انسحب الداجو بعد هذه الحروب غرباً مخلفين وراءهم مجموعات صغيرة مثل صبوري ولقوري وشات، التي هي جزء من النُّوبة اليوم، هذا بالإضافة إلى المجموعة التي تحمل اسم الداجو في الدار الكبيرة، فقد واصلت هجرتها حتى دارفور وأقامت هناك مملكة مشهورة في أوائل القرن الثاني عشر في حوالي العام 1125م ثم من بعد في تشاد".(13)  كان أشهر ملوك الداجو في دارفور هو عمر كسفورو الملقَّب "بآكل الفور". خاض عمر حرباً لا هوادة فيها مع الفور، طاغية كان ثم مستبداً، ومما يُعرف عنه أنَّه حاول تحويل جبل أم كردوس من موضعه الحالي وضمَّه إلى ال99 جبل، ومازالت قاعدة جبل أم كردوس محفورة من جراء عملية الإزاحة الفاشلة. وقد قتلته رعيته شر قتلة. هذا ما كان من أمر الدَّاجو في دارفور.
وعوداً إلى الدَّاجو في جنوب كردفان نجد أنَّ قائمة السَّلاطين الذين تعاقبوا على سلطنة الدَّاجو في الدار الكبيرة قد بلغوا ثلاثة عشر سلطاناً في خلال أربعة أجيال، بدءاً بسلطانهم موم، الذي كان له الفضل في لم شعث الدَّاجو، وتكوين وحدة سياسيَّة قويَّة منهم. وقد خلف موم خمسة من أبنائه هم شينقو، جيقر، دنقس، صابون، ووادي. ثم حكم حفيد صابون، ومن بعده ابني دنقس. غير أن آدم، أحد أبناء دنقس، لم يحظ بإدارة السُّلطنة، حيث انقطع التسلسل السلطاني حينما استولى على العرش كوداي وهو من العرب المسيرية الذي تزوج من الأسرة الحاكمة. ويعكس هذا الانحراف عن التقليد التليد مدى تأثير نفوذ المهدية، التي باتت تدق على أبواب الجبال يومئذٍ. ويبدو أنَّ الاضطرابات السياسيَّة والاجتماعية التي عمت البلاد إبان الثورة المهديَّة (1881-1898م) قد ساهمت بقدر كبير في قطع الصلات التاريخيَّة لأهل النُّوبة بالماضي البعيد، الذي كان هادئاً إلى حدٍ ما. ونجد أنَّه في بعض الأحايين من يخبرك من أعيان النُّوبة أنَّهم عاشوا في هذه الجبال والتضاريس منذ خلق البشريَّة. ويقول هؤلاء الأعيان أنَّهم شعب أصيل في المنطقة منذ آلاف السنين، وليس شعباً طارئاً. ونذكر على سبيل المثال مجموعة النيمانج، الذين يقولون إنَّهم نزلوا من السماء مباشرة إلى مناطقهم الحالية غرب مدينة الدلنج - حاضرة المنطقة - وحجَّتهم في ذلك بأنَّ هناك آثار بشريَّة فوق صخورهم تدل على نزولهم قبل استواء هذه الصخور. فالنيمانج هم أكثر المجموعات النوباويَّة معرفة بأصولهم.  ولعلَّ وجود أطول الناس قامة في مناطق مورو، وأشرون، وسرف جاموس، وأقصرهم قامة في مناطق تيرا، وهيبان، وشواي لا يمكن أن يكون مدعاة للتفريق بين النُّوبة كأثنية، كما حاول - عبثاً - عبدالرسول النور أن يعتبره "اختلافات أساسية تجعل (جبال النُّوبة) مناطق وليست منطقة واحدة". ومهما يكن من أمر التباين البدني واللُّغوي، فإنَّ الذي يجمع النُّوبة كشعب أفريقي أصيل أكبر من كل هذه الشكليات المختلقة بواسطة أهل الحكم في الخرطوم.
إنَّ خير دراسة علميَّة أُخرِجت للناس هي التي قام بها الدكتور ناديل في الفترة بين 1938-1941م في جبال النُّوبة، وقد غطَّت الدراسة عشر مجموعات نوباويَّة مع التركيز على قبائل هيبان، عطورو، وتيرا.  هذه الدراسة قد تمَّت بدعوة من دوقلاس نيوبولد، حاكم كردفان آنئذٍ، للدكتور ناديل لإجراء بحث أنثروبولوجي لمجموعات النُّوبة في جنوب كردفان، وإبراز طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصاديَّة التي تعيشها هذه القبائل.  وقد قسَّم ناديل - لاعتبارات عمليَّة - القبائل النوباويَّة إلى مجموعات ثقافيَّة مستخدماً المعايير الثلاثة الآتية:
التركيب الأسري، أي حسب الانتماء من ناحية الأب أو الأم.
طبيعة العشيرة وقوة وضعف "التكافل الاجتماعي".
الاعتقاد بوجود أو غياب عالم الآلهة وأرواح السلف في المسائل الدينيَّة.
بيد أنَّ أعظم عمل خرج به الدكتور ناديل من هذه الدرسة هو "مفهوم التكافل الاجتماعي" (The concept of social symbiosis)، وتعني نظريَّة التكافل الاجتماعي طريقة فهم التركيبة الاجتماعيَّة التي بها تقوم كل شريحة في المجتمع بأعباء محدودة - دينيَّة كانت أم سياسيَّة - بالإنابة عن المجتمع ككل. فمثلما تعني لفظة التكافل في علم الأحياء، فإنَّ التعايش المقوِّ لأفراد الكائنات الحيَّة، بحيث أنَّ بقائهم الفردي يصب في بقاء واحتواء المجموعة كلها، كان هو نواة هذه الفسلفة الاجتماعيَّة.  وقد طبَّق ناديل مفهومه هذا في دراسة ال 29 عشيرة التي تتكوَّن منها قبيلة كرتالا، وكذلك الجبال الستة التي منها تتكون مجموعة الكدرو، بالإضافة إلى بعض الأسر غير النوباويَّة التي استوطنت في هذ المنطقة وتنوبنت (أي أمست نوباويَّة تقاليداً وعادات).(14)  ويتَّضح من هذا البحث الذي أجلاه الدكتور ناديل، والذين خدموا الأمبراطوريَّة البريطانيَّة في جبال النُّوبة من إداريين وضباط سياسيين، أنَّ للنُّوبة عادات اجتماعيَّة عظيمة وتقاليد ثقافيَّة نبيلة؛ فهم يبجِّلون الصغار، ويوقِّرون الكبار، ويطعمون الجائع، فلا يقهرون اليتيم، ولا ينهرون السائل، ويكرمون وفادة الضَّيف، ويعينون ابن السبيل على نوائب الدَّهر.  كما أنَّهم يمتنعون ويمانعون عن زواج الأقارب، ولا يمارسون عادة ختان البنات، ويعتبرون القتل جريمة بشعة، وبالرَّغم من العقوبة التي يوقِّعونها على القاتل من دية وهجر واستتابة، إلاَّ أنَّهم يعتقدون أنَّهم مهما بلغوا في إنصاف أهل القتيل غير أنَّ الذي يستطيع عقاب هذا الجاني القاتل هو الله رب العالمين.  وفي مجتمعات الكدرو يحدِّد أسلوب القتل ونوع الآلة التي اُستخدمت في الجناية كيفيَّة ونوعيَّة العقوبة طبقاً للأعراف القبليَّة.  هذه صورة مصغَّرة من النظام الاجتماعي القديم الذي وجده البريطانيُّون والمصريُّون في جبال النُّوبة، فاعتمدوا عليه وطوَّروه مع إدخال بعض القوانين الجنائيَّة والمدنيَّة والأحوال الشخصيَّة عليه.
ويعيش في منطقة الجبال، بالإضافة إلى النُّوبة، بعض المجموعات العربيَّة - أو هكذا تطلق على نفسها - مثل المسيريَّة والحوازمة وأولاد حميد. وتنتشر في المنطقة كذلك أقلية من الفلاتة، ويقطن منطقة أبيي دينكا نقوك، الذين أتبع البريطانيُّون إدارتهم إلى كردفان (جنوب كردفان حاليَّاً) منذ العام 1905م، وباتت تشكل مشكلة في الصراع الدَّموي الدائر بين الشمال والجنوب.  كما اقتطع البريطانيُّون منطقة المجلد - موطن دينكا نقوك، تحت كبيرهم ملوال كيريجي - ومنحوها للعرب المسيريَّة لأسباب إداريَّة، أو هكذا زعموا. فالمسيرية قبيلة ذات قسمين هما المسيريَّة الزُرق والحُمر. أما المسيريَّة الزُرق فموطنهم حول جبل السنوط والمفرع، وينقسمون في كردفان إلى أولاد أم سليم والغزايا والديراوي وأولاد أبونعمان وأولاد هيبان. وقد دخلوا في نزاع مع قبائل كردفان "النوباويَّة" بغرض التوسع. وينقسم الحُمر إلى فرعين أساسيين: الحُمر العجايرة والحُمر الفلاتية، وموطن الحُمر بين البركة وشكا، ومن مراكزهم الأضية وأبو قلب، وفي فصل الدرت يقيمون في منطقة المُجلد. أما الحوازمة، فتقع منطقتهم إلى الشرق من الدلنج في جهات السنجكاية وأم علوان، وبعض القرى بالقرب من كادقلي. وتنقسم القبيلة إلى ثلاثة أقسام: عبدالعلي، حلافة، والرواوقة. ونسبة لتوغلهم في جبال النُّوبة فقد اختلط بعضهم بشعب النُّوبة حتى أنَّ بعضهم يسمى أولاد نوبة، وأخذوا كثيراً من اسماء النُّوبة (كوكو مثلاً)، وبعضاً من عاداتهم وثقافتهم مثل المصارعة ورقصة الكرنق. أما أولاد حميد فموطنهم حول تقلي، ويقولون إنَّ جدهم بابكر العباس من الجعليين(15) الذين نزحوا إلى كردفان في حوالي منتصف القرن الثامن عشر حيث أقام في منطقة بين الرَّهد وشركيلة وفي جنوب غرب تقلي. وفي تلك المنطقة تنازعوا مع الهبانيَّة وجانب من الحوازمة قبيل المهديَّة، وعند اندلاع الثورة المهديَّة حاولوا مقاومتها ولكنهم فقدوا كثيراً من رجالهم المحاربين فاضطروا إلى تأييدها والانضمام إليها. وفي كردفان اختلطوا ببعض القبائل الأخرى، كما تداخلوا في قبائل النُّوبة مما ساعد ذلك في تسرب بعض الدماء النُّوبيَّة إليهم. أما الفلاته فهم في الأصل من النيجيريين الذين حضروا طواعياً وسكنوا في السُّودان أو جلبتهم السُّلطات البريطانيَّة قبل الحرب العالمية الأولى للعمل في تشييد سد مكوار (سنار). وأكثر هجرة جماعية حدثت العام 1903م بعد معركة بورمي، حيث فرَّ حوالي 25,000 لاجئ فولاني واستوطنوا حول النيل الأزرق ومنحتهم السلطات البريطانية الأرض للفلاحة، وقد لعب الفلاتة دوراً رائداً في الاقتصاد السُّوداني على الرغم من المخاوف التي باتت تساور السطات البريطانية في العام 1910م نسبة لتزايد أعدادهم مما بات يشكل خطراً كامناً. ومن أعيان الفلاتة أحمد عمر، الذي جاء من إقليم سوكوتو في نيجيريا واستوطن في أم درمان، ثم نزح إلى جبال النُّوبة ووجه نداءاً للفلاتة للالتحاق به في الجبال، وقد استجاب لندائه عدد قليل.(16)  ويقيم الفلاتة في جبال النُّوبة في الفرشاية، التُّكمة، البرداب، وتقلي.(17)
وفي المبتدأ كانت كلمة كردفان ترمز إلى جبل كردفان، الذي يقع بالقرب من منطقة العين - إحدى محطات السكة حديد بين الأبيض والرهد. وهو اصطلاح أُحذ عن قول الأهالي (كلد فار) أي يغلي، وكلد هذا هو آخر ملوك النُّوبة الذين احتلَّت منهم قبيلة الغديات جبل كردفان، وكان من عادة هؤلاء التنقل خلف المرعى والماء فوجد بذلك اسم كردفان شيوعاً بين سائر السكان حتَّى صار يغلب على بقية المناطق.(18)
إنَّ أهم ما يميِّز المجموعات "النُّوباويَّة" المتباينة - إضافة إلى عادات الأفراح والأتراح - التعدُّد اللَّغوي، حيث أنَّ اللُّغة تلعب دوراً فعَّالاً في تحديد الفواصل العرقيَّة بين هذه المجموعات. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ سهول جوس في نيجيريا وجبال النُّوبة في السُّودان تُعتبر من أكثر مناطق أفريقيا تعدداً في اللُّغات.  وفي هذين الإقليمين لتجدنَّ القرى، التي تبعد بضع أميال عن بعضها البعض، تتحدَّث لغات مختلفة تماماً، "وأسأل القرية التي كنا فيها" (يوسف 12/82).  كما يبلغ تعداد متحدثي بعض اللغات مئات من المواطنين.  هذه اللغات قد تطوَّرت في غياب النفوذ الخارجي، حتى باتت تتميَّز بسمات لغويَّة خاصة.  وقد أثبتت الجغرافيا والتأريخ أنَّه كلما استوطن النَّاس بكثافة في مناطق جبليَّة كلما تعدَّدت وتنوَّعت اللُّغات وتركز التحدُّث بها في مجموعات صغيرة، وكذلك الحال في الحدود بين نيجيريا والكميرون وتشاد.  هذا التعقيد اللُّغوي يفسِّر تأريخاً طويلاً جعل هذه اللُّغات تتنوَّع، كما أنَّ هذه المناطق الجبليَّة يسهل الدفاع عنها، فقد أمست هذه الأقاليم مناطق لجوء، حيث استطاع المواطنون الأوائل الدفاع عن أنفسهم ضد القادمين الجدد، وبذلك حفظوا لغاتهم من الانقراض بالعكس لما حدث لسكان السهول الواطئة.(19) ويعرِّف علماء اللسانيات اللُّغة بأنها وسيلة للتخاطب والتخابر بين البشر، أمَّا اللَّهجة فهي الاستخدامات المختلفة للغة الواحدة بين الشَّعب الواحد أو المجتمعات المختلفة، فمثلاً لهجة الشايقيَّة في إطار اللغة العربيَّة السُّودانيَّة أو لهجة البقَّارة وغيرهما.  وبناءاً على هذا التعريف نجد أنَّ منطقة جبال النُّوبة تشتمل على عدة لغات ولهجات. إذن، كيف حافظ النُّوبة على لغاتهم وحملت المنطقة في أحشائها هذا الكم الهائل من اللَّهجات؟ ولعلَّ إقامة النُّوبة في المناطق الجبليَّة قد ساعدت على بقاء هذه اللُّغات الكثيرة المتنوعة، بل والمحافظة عليها من التغول الأجنبي، بينما وقع بقية سكان السُّودان القديم ممن سكنوا السهول فريسة الانصهار اللُّغوي مع المجموعات التي وفدت إلى السُّودان من كل فج عميق. كما أنَّ تفشي الحروب القبلية وانتشار تجارة الرق على أيدي عملاء الاستعمار في تاريخ المنطقة قد حالت دون اتصال النُّوبة ببعضهم البعض، فلم تختلط هذه اللُّغات فيما بينها، على الرَّغم من وجود بعض النُّوبة الذين يتحدَّثون لغات القبائل الأخرى بطلاقة. ويدل النقاء اللُّغوي المبين في جبال النُّوبة على مقدار تمسك النُّوبة بثقافاتهم واعتزازهم بهويَّتهم.  إذن، ماذا تعني اللُّغة بالنسبة لأيَّة مجموعة أثنيَّة؟  الجدير بالذكر أنَّ باللُّغات يمكننا الغوص في فطنة وحكمة الأجداد الهالكين، حيث أنَّ هذه الحكم المأثورة هي - في حد ذاتها - شهادة للتأريخ والقرون الماضية، لذلك تُوصف لغة أي شعب أنَّها روح ذلكم الشعب، ولا ريب أنَّ النَّاس ينظرون إلى لغاتهم ليس فقط كأدوات ماديَّة للتحادث والتخابر، بل كوسيلة من وسائل حفظ التراث.  وعليه، يحدثنا تأريخ الشعوب أنَّه ليست هناك وسيلة أكيدة في سبيل اختمار الفتنة وخلق المشكل السياسي غير اتِّخاذ سياسة لغوية وطنية تحاول محو اللُّغات القوميَّة الأخرى.  ولأهمية اللُّغة في حياة أية أمة، كتب أحد الأفارقة يقول: "كل القبائل واللُّغات ينبغي أن نسمح لها، أو نشجِّعها، أن تعيش حتى يدرك العالم ما هو مدفون تحت ثدييه.  إنَّ أهل فاي (في ليبيريا) قد يكون لهم غناء به يودون الإصداح، أو حكمة عنها يرغبون الإفصاح، أو صلاة بها يعتزمون القيام، أو قانون في تفسيرها هم يلحِّون؛ وكل هذه العناصر تعتبر مهمة في تقدُّم ونهضة الحضارة الإنسانيَّة.  فإذا تركنا لغة واحدة كي تموت نكون قد حرمنا العالم من إحدى مجوهراتها اللاَّمعة، لأنَّ اللُّغة هي الوسيط الوحيد الذي من خلالها تستطيع روح الإنسانيَّة أن تنفذ." فبالرَّغم من مجاورة النُّوبة للعرب واختلاطهم بهم في بعض الأحايين، وبالرَّغم من الحروب والنكبات التي ألمَّت بهم في بعض مراحل تأريخهم، بقي النُّوبة على ما تركه لهم أجدادهم الأوَّلون، وما بدَّلوا تبديلاً. إنَّ ما يقوم به مركز اللُّغات المحليَّة السُّودانيَّة، التي تأسَّست العام 1993م بمدينة أم درمان وبمساعدة خبراء من مجموعة سل (Summary Institute of Linguistics -SIL)، في بحث وتطوير اللُّغات والثقافات المحليَّة السُّودانيَّة يجد منا كل التقدير والإشادة، لأنَّه يهدف - فيما يهدف - إلى مساعدة منطقة جبال النُّوبة في كتابة لغاتها وثقافاتها والحفاظ عليها من الضياع، والاهتمام بالتُّراث والرقصات الشَّعبيَّة للقبائل اللُّغويَّة.  وهنا تجدر الإشارة إلى أن المركز قد أنجز - خلال برنامج عمله اللُّغوي - تأهيل الكوادر سنويَّاً في شكل كورسات وورش عمل تُعقد للقبائل اللُّغويَّة، وإصدار كتب دراسيَّة واعتماد مناهج ثقافيَّة في مجال لغاتها، وتوعية وتشجيع لجان القبائل اللُّغويَّة لإنشاء مراكز تعليميَّة للغاتها.
ومما سبق من تعليل لأهمية اللُّغة، قسَّم عالم اللُّغات الألماني الألمعي - كارل ماينهوف - اللُّغات النوباويَّة إلى ثلاث مجموعات هي: لغة الجبال الستة، اللُّغات السُّودانيَّة، واللُّغات التي تستخدم بادئة في ألفاظها.  وتشمل المجموعة الأولى نوبة جبل داير، دلنج، كُدُر، هبيلا، مجموعة كاركو (التي تضم دُلمان، كُندوكُر، كوُكنديكيرا، كاشا، وشيفر)، مجموعة خلفان (بالإضافة إلى جبال مورونج)، مجموعة كدرو، مجموعة والي (والي بوباي، والي كوروم، ووالي أبوسعيدة)، أبوجنوك، طبق، وحجيرات (وتضم كبجا، شنشان، بوشا، سيجا، طبق، وأبوقرين)، فندا، كونيت (وتعرف باسم كجوريَّة)، دبري، مجموعة نيمانج، ومجموعة مندل.  باستثناء نيمانج ومندل وأفيتي في جبل داير، تتحدَّث هذه المجموعات لغة واحدة وشبيهة بلغة الدناقلة في شمال السُّودان.(20)  وتعتبر لغات الجبال الستة - لغة النيمانج بالتحديد - وتيمين وبعض لغات النُّوبيين في شمال السُّودان، ومجموعة الدَّاجو تعتبر من مجموعة اللُّغات السُّودانيَّة الشرقيَّة، التي صنَّفها قرينبيرج في قسم شاري-النيل والذي ينتمي إلى لغات الصحاري-النيليَّة.  وحسب تصنيف قرينبيرج، تنقسم لغات النُّوبة إلى مجموعتين: المجموعة الكردفانيَّة، التي هي فرع من النيجر-الكردفاني، حيث أنَّ الفرع الآخر هو النيجر-الكونغولي، والمجموعة الثانية هي شاري-النيل.  ويقول علماء اللسانيات إنَّ لغات النُّوبة تنتمي إلى فصائل مختلفة.(21) وعليه، يمكن تقسيم النُّوبة إلى عشر مجموعات لغويَّة:
مجموعة "الأجانق" التي تقطن المناطق الشماليَّة والغربيَّة من جبال النُّوبة، ولها ارتباط لغوي مع النُّوبيين في شمال السُّودان وجنوب مصر. تُعتبر هذه المجموعة من المجموعات العرقيَّة الكبيرة، وتضم قبائل: جبل الداير، كُدُر، كدرو، دلنج، غلفان، كاركو، أو ما يعرف بالجبال الستة؛ وكذلك والي، أبوجنوك، طبق، كاشا، وشيفر (شمال شرق الجبال)، فندا، وكجوريَّة. ويقول رواة التاريخ التقليديون إنَّ أهل طبق حضروا إلى هذه البقعة قادمين من جبل الأضية في شمال كردفان في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي هرباً من هجمات الفور وغارات الحمر.(22)
مجموعة تقلي، وتشمل تقلي نفسها، رشاد، كيجاكجا، تقوي، توملي، موريب، وتورجوك. ومن اللُّغات المستخدمة في هذه المنطقة طقوقن وتيريفيت.  ويعتبر بحث هير في لغة تمولي، التي يتحدَّث بها مواطني مجموعة تقلي-تقوي في جبال النُّوبة، الأساس في دراسة الخلفية التأريخيَّة للُّغات السُّودانيَّة، والطليعة في دراسة اللُّغات النيليَّة بواسطة أوسين هوكير.(23)
مجموعة النيمانج، وتشمل قبيلة النيمانج، مندل، وأفيتي في الجانب الشرقي من جبل الدَّاير.(24) فالنيمانج ينحدرون من منطقة كوجيا الواقعة غرب الأضية غرب كردفان (دارفور الحالية)، فالنيمانج هم النُّوبة الوحيدون الذين يتسمون بأسماء ترجع لمنطقة دارفور مثل الفاشر ودارفور.(25)
وحدة كتلا التي تضم قبيلة كتلا، جلد، وتيما.
مجموعة تُلشي-كُرُنقو في المنطقة الجنوبيَّة من جبال النُّوبة، وتضم تُلشي، كيقا، ميري، كادقلي، كاتشا، كُرُنقو، وجزء من أبو سنون.
مجموعة تيمين، وتشمل قبيلة تيمين، كيقا جيرو، تيسي أم دنب، وجزء من والي. وتتفرع قبيلة والي نفسها إلى: والي بوباي، والي السُّوك، والي أم كُرم، والي كرندو (جوار كجوريَّة)، ووالي أبوسعيدة.
مجموعة كواليب-مورو، وتضم كواليب، هيبان، شواي، أطورو، تيرا (الأخضر، ماندي، ولُمون)، مورو، كما تشمل هذه المجموعة فنقور، كاو، نيارو،(26) وورني في أقصى جنوب-شرق الجبال في المنطقة المتاخمة للنيل الأبيض.
مجموعة تلودي-مساكين، وتشمل تلودي، الليري، مساكين (طوال وقصار)،(27) أشرون، تاكو، تورونا، وكوكو-لُمون.
مجموعة لافوفا، وتضم لافوفا نفسها وأميرة.
مجموعة داجو،(28) وتضم داجو، لقوري، صبوري، تالو، وشات (الدمام، صفية، وتبلديَّة)، ومجموعات صغيرة في أبوهشيم وأبوسنون.
وقد اعتبرت الحكومات المركزية، التي تعاقبت على سدة الحكم في الخرطوم، اللُّغات واللهجات المحلية - بما فيها لغات النُّوبة - أحد العوائق التي تعرقل مسيرة الوحدة الوطنيَّة في السُّودان. وقد سماها البعض رطانات (جمع رطانة وتعني لغواً لا يُفهم)، وقد ادَّعى البعض بأنَّها غير مكتوبة، وأخذ البعض الآخر بالتجهيز والاجهاز عليها ريثما تحل محلها اللُّغة العربية والثقافة الإسلامية. فقد جنح رواد التربية في السُّودان "في مضمار السَّعي لتحسين أداء صغار التلاميذ في مناطق السُّودان الناطقة بغير العربيَّة بتوصي إدخال الناشئة، في هذه المناطق، المدرسة في سن أبكر من رصفائهم في المناطق التي فيها العربية لغة أم (...) من قبل أن تتمكن منهم العجمة".(29)  وهذ العجمة التي يخشى رجال التربية على التلاميذ تمكنها منهم هي - في عبارة أخرى - لغاتهم التي ورثوها عن أمهاتهم وأبائهم وأسلافهم. ولا يضير الوطن بشئ إذا نشأ الناشئة وهو يتحدث عدة لغات، مع العلم أن الطفل في مثل هذه السن المبكرة قادر على اتِّقان أكثر من لغة دونما أية مشقة. أما هؤلاء الذين يتشدَّقون بأنَّ لغات النُّوبة غير مكتوبة، فإننا نقول لهم لقد وجدنا في المدارس الوسطى كتاب المطالعة بلغة النيمانج (Nyimang Reader)، وهنالك نسخاً من الإنجيل بلغات تيرا وهيبان وعطورو وغيرها، بل هناك دراسات وبحوث في لغات النوبة وهي في انتظار قرار سياسي لكيما تبدأ تدريسها للأطفال. وقد بدأت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في تنفيذ ذلكم البرنامج لربط الطفل بالبيئة والثقافة المحلية التي تكوِّن هوية وشخصية النُّوبة.
تذخر جبال النُّوبة بموارد طبيعية، وكانت هناك مناجم للذهب في تيرا مندي، دونقور، تيرا الأخضر، عطورو، شيبون، لوخا، شواي، وتقلي. وقد أدرك مزيج من العاملين باللسانيات والآثار والحفريات والتأريخ - منذ وقت مبكر - أن اشتغال سكان النُّوبة الأوائل بالتعدين يؤكد حقيقة أزلية ما زلنا نرددها ألا وهي أنَّ أسلافهم سكنوا المنطقة الممتدة بين النيل والبحر الأحمر، وتوغَّلوا إلى الجبال لحظة اشتداد "الغزوات" المصرية عليهم. في العام 1791م نزحت عائلة عربية من المسلمية في النيل الأزرق - نتيجة حرب قبلية - واستوطنت في جبل شيبون، وأطلقت على نفسها اسم "شوابنة"، وأصبحت هذه العائلة حلقة وصل بين التجار الجلابة والنُّوبة - أصحاب المناجم. وقد تقهقر سكان شيبون الأصليون - دوليب وهم أقرب إثنياً إلى المورو - إلى شواي. وازدهرت شيبون وأمست مركزاً تجارياً هاماً في جنوب كردفان في الفترة 1770- 1882م.
لم تقتصر هوية "الشوابنة" على الاسم فحسب، بل بات الذراري خليطاً بين العرب والنُّوبة، ويتكلمون لغة هجينة بين العربية ولغة تيرا. وارتبط مصيرهم في الماضي بمملكة تقلي، وكان عبدالرحمن بن يوسف نائباً لملك تقلي في شيبون. وإنَّ الطقوس الدينية التي كانت تقام حول المناجم في كل من شيبون وتيرا مندي وبمشاركة عينيَّة من ملك تقلي، تدحض الآراء التي ظل المؤرخون الإسلاميون يردِّدونها وهي أنَّ تقلي كانت إسلامية مملكة وملكاً. فما هي هذه الطقوس وعلام كانت تُقام؟ كان يرسل ملك تقلي - مع الوفود الزائرة إلى مملكته - ثوراً أسوداً، وماعزاً أسوداً، وديكين أسودين ليتم ذبحها حول المنجم. أما الكجور، الذي كان صاحب قوة ما وراء الطبيعة، وتقع على عاتقة حراسة الذهب، فيخصه الملك بطاقية أم قرنين ومئات من السوار، والكلاب التي كانت مصدراً غذائياً هاماً يومئذٍ. وينقسم "الشوابنة" إلى بطون صغيرة هي: مسلمية، جموعية، حسبالاب، ورياش.(30)  ومن شدة ما أعجبهن ذهب شيبون بدأت الحكامات (المغنيات الشعبيات) من عرب الحوازمة، والكواهلة، وأولاد حميد في جبال النُّوبة يصدحن بالأغاني، وفيما يلي نورد بعضاً منها:
إنَّ وزن دهب شيبون مرجَّح مايل، شوف ذات الدهب فوق الدهب كيف خايل.
دهب شيبون اللكيك - طول عمري بغني ليك.
دهب شيبون الغالي ولونه جميل من فراقك أنا ما بنوم الليل.
دهب شيبون الجمروه قلبي بريده والنَّاس أبوه.
ولعل من نافلة القول أن نذكر أنَّ هناك تواجد بشري، في شكل أفراد أو جماعات، للتجار الجلابة (The haughty, cosmopolitan merchants) في مدن جبال النُّوبة المختلفة.(31)  وقد ازداد حضور هؤلاء التجار إلى المنطقة مع انتعاش زراعة القطن قصير التيلة في العام 1924م، وانتشار مشاريع الزراعة الآلية في هبيلا وكرتالا في السبعينيات من القرن المنصرم، فوجدوا التربة الصالحة والعمالة الرخيصة فأثروا ثراءاً فاحشاً. وقد تدخَّلت الدولة والبنك الدولي بتمويل هذه المشاريع، وأدَّت سياسات الفلاحة غير الرَّشيدة إلى استهلاك التربة وتعرية الجبال من الغطاء النباتي، وانقراض حيوانات متوحشة كانت بمثابة ثروة حيوانية للمنطقة. وأصبح الزحف الصحراوي يهدِّد هذه الجبال بما تنذر بكارثة طبيعية وشيكة، وبات الأهالي ينتابهم القلق بما حلَّ بديارهم من تغييرات بيئية ومناخية.


النُّوبة في الإطار الإقليمي
تناقلت وكالات الأنباء - المرئية والسمعية والمقروءة - نبأً مفاده أنَّ الجنرال عيدي أمين دادا قد استعان بأفراد من قبيلة الكاكوا - التي ينتمي إليها وتقطن شمال-غرب يوغندا وجنوب السُّودان - وكذلك قبيلة النُّوبي في الجيش اليوغندي للاستيلاء على السُّلطة في كمبالا في العام 1972م. وقد أصبحت هذه القوة المسلَّحة - فيما بعد - العمود الفقري لنظام عيدي أمين طيلة الثمانية أعوام التي قضاها في إدارة البلاد والعباد. كما أنَّ قوة تعدادها 3,000 جندي نوبي من الكتيبة الاحتياطيَّة في معسكر بوندو هي التي أخَّرت انهيار واندثار نظام عيدي أمين. فما هو سر وجود هذه القوة الضاربة في الأرض اليوغنديَّة؟ وما هي علاقة أفرادها بالسُّودان؟
بعد بزوغ الثورة المهدية (الانتفاضة المسلحَّة بلغة العصر) في السُّودان، ونجاحها في تصفية نظام الحكم التركي-المصري العام 1885م، أمسى أمين باشا - حاكم المديريةَّ الاستوائيَّة - منقطعاً عن العاصمة، الخرطوم. وعلى الفور بدأ ستانلي، جاكسون، وبيترس في سباق مع الزَّمن، كل يريد أن ينقذه. وقد يتساءل البعض عن هويَّة وأهميَّة أمين الذي ذاع صيته، والذي قد لا تعرف عنه الأجيال المعاصرة إلاَّ لماماً؟ نشأ أمين وتعلَّم في ألمانيا، وتنقَّل في بلدان وأمصار الشرق الأوسط واعتنق الإسلام. كان أمين طبيباً، عالم نبات، العالم بالطيور، لغوي يتحدَّث اللُّغة الألمانيَّة، الفرنسيَّة، الإنجليزيَّة، الإيطاليَّة، التركيَّة، العربيَّة، الفارسيَّة، اليونانيَّة العاميَّة، ولغات سلافيَّة. وصل الطبيب اليهودي-الألماني المدعو إدوارد شينترز (Eduard Schnitzer) إلى الاستوائية في جنوب السُّودان بعد أن عمل في تركيا. بعد وصوله ادَّعى أنَّه تركي ويُدعى أمين أفندي. ولعل أمين أفندي هذا، بالرَّغم مما أُوتي من نفاق، لم يستطع اقناع الرفاق جيسي الإيطالي وغردون البريطاني بهويَّته المزوَّرة.(32) كان هذا هو الشخص الذي أوكل إليه إدارة المديريَّة الإستوائيَّة في جنوب السُّودان، حيث لم يكن - في بادئ الأمر - على اطِّلاع تام بدقائق وخصائص المنطقة. لكنه طاف المنطقة بجبالها وسهولها وخبر أهلها وتعلَّم عاداتهم وتقاليدهم. وفي المبتدأ - حين كانت الثَّورة المهديَّة في أوجها - رفض أمين الإذعان إلى فكرة الجلاء وترك الخلاء الذي عاش فيها ردحاً من الزمان، ولكن علَّمته تجاربه الحياتيَّة أنَّ الطأطأة أمام الريح قد تكون ضروريَّة في بعض الأحايين. وفي خضم هذا المزج في المبادئ والحسابات، حزم أمين أمتعته وغادر جنوب السُّودان.
ووسط حالة القلق من المصير المجهول، جاء ستانلي منقذاً لأمين وجنوده السُّودانيين. "وفي أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأت فلول جيش أمين بك في الانسحاب جنوباً هرباً من جيوش المهديَّة، بدأت هذه الفلول في الاستقرار في شرق أفريقيا، بينما كان أمين مواصلاً انسحابه صوب المحيط الهندي. استقرَّت فلول جيش أمين بك، التي اعتنقت الإسلام، في مناطق أروا الحالية وبمبو التي تقع على بعد 20 ميلاً من العاصمة كمبالا، وفي منطقة عنتيبي. كما استقرَّ جزء منهم بمدينة أروشا بتنزانيا، وفي نيروبي في حي يسمى كيبيرا، ولقد ساهم هؤلاء النفر، والذين عُرِفوا فيما بعد باسم "النُّوبي"، في نشر الإسلام وأصبحت لهم لغتهم الخاصة، والتي سُمِّيت بلغة النُّوبي وهي خليط من اللُّغة العربيَّة بلكنة محليَّة."(33)  ويبلغ تعداد قبيلة النُّوبي في كينيا حوالي 10,000 نسمة، حيث يتراوح عددهم في كيبيرة في نيروبي بين 3,000 - 6,000 شخص، ويستخدم النُّوبيُّون اللُّغة السواحيليَّة في التخاطب مع المجموعات غير النُّوبيَّة، ويتحدَّث 30% منهم اللُّغة الإنجليزيَّة، مما يعني أنَّ نسبة التَّعليم فيهم ضئيلة.  فكيف كان الوضع السياسي والاجتماعي في يوغندا قبل وبعد نزوح هؤلاء الجنود السُّودانيين إليها؟
كانت يوغندا عبارة عن ممالك متفرقَّة، وكانت بوغندا إحدى هذه الممالك العريقة التي حكمت قلب يوغندا قبل وصول الأجانب من كل حدب ينسلون. وفي العام 1848م، بينما كانت هذه المملكة تحت حكم كاباكا (الملك) سونا، وصل أول عربي إليها. لكن في حقيقة الأمر، فإنَّ المدعو سايم كان مزيجاً بين العروبة والأفريقية (Mulatto)، وتبعه بعد العام عيسى بن حسين وهو جندي آبق من قوات سلطان زنجبار العربي، وعمل هذا الأخير مستشاراً للملك سونا. وحينما زار سناي بن أمير المملكة العام 1852م، وجد هذا المستشار في بلاط الملك وقد تبوَّأ مكاناً عليَّاً. وقد بدأ النمو والنفوذ العربي يتزايد في يوغندا بشكل مضطرب، وبوصول المبشِّرين المسيحيين الأوربيين وجدوا بها مستعمرة عربيَّة، حيث كان يمارس العرب تجارة العاج والرقيق. وكان يُقايض أثنين من الذكور ببندقية واحدة، أو قماش أحمر مقابل ذكر واحد، أو 100 طلقة بمعدَّل أنثى واحدة. على الرَّغم من أنَّ العرب كانوا يقومون بنشر التعاليم الدينيَّة، غير أنَّ هدفهم الرئيس كان العمل في التجارة، وبالتَّالي لم يستطيعوا أسلمة مجموعة كبيرة من المواطنين. وفي العام 1875م قابل الرحَّالة هنري ستانلي موتيسا الأول - ملك بوغندا - وكتب رسالة نيابة عن الملك ونشرت في صحيفة "الديلي تيليغراف" اللندنية، يتوسَّل فيها إلى المبشِّرين المسيحيين في الحضور إلى مملكته. وقد بدا جليَّاً أن موتيسا، الذي بات يتوجَّس خيفة من الوجود التركي-المصري في جنوب السُّودان، في حاجة ماسة إلى السِّلاح لتأمين مملكته شمالاً. وجاء البريطانيُّون البروتستانتيُّون العام 1877م، وتبعهم الفرنسيُّون الكاثوليكيُّون العام 1879م، وشرعوا في تنصير شيوخ المملكة والبلاط الملكي، حيث أنَّ موتيسا كان يمارس بعض الشعائر الإسلاميَّة كصومه لشهر رمضان في الفترة 1867-1876م. وعند مجئ المسيحيَّة أصبح الدين أداة للتنافس والتناحر السياسي. وبعد وفاة موتيسا في العام 1884م قامت حرب طائفيَّة بين المسلمين والمسيحيين بتشجيع الأجانب للطَّرفين، والتي انتهت بهزيمة المسلمين وتعيين الكاثوليك الملك موانقا خلفاً لموتيسا. وبناء على ما سبق أمسى الملك الجديد أسيراً لقوى سياسيَّة أجنبيَّة دون أن يتمتَّع بحق التسيُّد عليها.
بعد إبرام اتفاق مع الملك موانقا - ملك بوغندا - ركَّز اللورد لوقارد جهوده على اخضاع المسلمين، الذين كانوا يدعون أنفسهم حزب محمد. ومما ساعد لوقارد في حملته ضد المسلمين توحيد الكاثوليكيين والبروتستانتيين تحت راية واحدة وتكوين جيش بوغندي قوي من الطَّائفتين تحت قيادة أبولو كاقوا. وفي العام 1891م هُزم المسلمون في موقعة بوقانقادزا، وقد حالت الأمطار الغزيرة دون وصول جنود أبولو إلى بونيورو - معقل المسلمين. ونتيجة للأحداث اللاحقة يبدو أن اللورد لوقارد استطاع اخماد التمرُّد دون أن يعمل على إزالة أسباب تفجُّر الصراع. غير أنَّ فكرة إحياء التمرُّد لم تمت في نفوس المسلمين، وفي العام 1893م ظهر حزب سياسي يسمى حزب محمد وطفق يطالب بصلاحيات سياسيَّة أكثر من المشيخات الثلاثة الممنوحة لأتباعه. بيد أنَّ الذي جعل هذا التحرُّش أمراً خطيراً وجود الجنود السُّودانيين تحت قيادة سليم بك، والذين لم يخفوا تعاطفهم مع المسلمين الحانقين على أوضاعهم السياسيَّة. وبما أنَّ الجنود السُّودانيين كانوا مسلمين أنفسهم، فقد خشيت السُّلطات الإنجليزيَّة أنَّه في حال نشوب عصيان مسلَّح من المسلمين، وتضامن الجنود السُّودانيين معهم فسيكون من الصعب جداً استتباب الأمن وعودة الحياة إلى طبيعتها. وبالتالي تحركت السلطات مسرعة وهزمت المسلمين مستخدمين عناصر من البروتستانتيين البوغنديين، وتم تجريد الحامية السُّودانيَّة في ميناء أليس (عنتيبي حالياً) من السلاح واعتقال سليم بك. لقد أدى تحرُّك النقيب ماكدونالد - الذي آلت إليه مقاليد السُّلطة في كمبالا بعد ذهاب السير جيرالد بورتال - إلى درء خطر حرب أهلية وشيكة كادت أن تندلع. وقد لعب الجنود السُّودانيون، الذين اشتهروا بشدة المراس، دوراً فعيلاً في هزيمة الملك كاباريقا في أرض بونيورو - غرب يوغندا، وكذلك في إنهاء تمرُّد الملك موانقا - وأتباعه - بعد أن ثار ضد الإنجليز حينما بدأت نفوذه تنحسر وتنهال عليه قيود المبشرين المسيحيين من كل فجٍ. تجذَّرت قناعة في ذهن موانقا بأنَّه لايمكن أن يعيش أسيراً لأهواء الكهنة المسيحيين الذين يتدخَّلون في عادات وتقاليد القبيلة بما فيها منع تعدد الزيجات وغيرها، ومن ثمَّ ثار على الوضع القائم يومذاك. وما أن أنهت السلطات البريطانيَّة تمرد موانقا عنوة واقتداراً حتى ظهر خطر جديد بات يهدِّد الوضع. كان هذا الخطر آت من الجنود السُّودانيين الذين استخدمتهم السُّلطات البريطانيةَّ كأداة فعالة لتطويع الوضع الأمني في غرب وشرق وجنوب-غرب البلاد. بدأت المشاكل تطفو إلى السَّطح عندما أُمر هؤلاء الجنود بالتوجه شرقاً صوب وادي الداما تحت قيادة الرائد ماكدونالد، وذلك بغرض اكتشاف منابع نهر جوبا، وصد الزحف الفرنسي من الكنغو والحبشة والخطر المهدوي في جنوب السُّودان، في الوقت الذي كان السير كتشنر زاحفاً نحو أم درمان - عاصمة الدولة المهديَّة في السُّودان. ويعُزى أسباب اندلاع التمرُّد وسط الجنود السُّودانيين إلى التغيير المستمر في قيادة أولئك الجنود، وقلة الأجور التي كانوا يتقاضونها بالمقارنة مع رصفائهم في مناطق أخرى من شرق أفريقيا، علاوة على أن هذه الأجور قد بلغت متأخراتها ستة أشهر. غير أنَّ أحد قيادات التمرُّد - مبروك أفندي - كان يبغي بهذا العصيان إثارة الوضع آنذاك لخلق ظروف تسمح بالسيطرة على السُّلطة في يوغندا لصالح المتمرِّدين السُّودانيين، وهكذا استخدم الأسباب الفعليَّة للتذمُّر كوسيلة لتحقيق مآربه. ويمكن اعتبار مسألة التنقُّلات الكثيرة في أرجاء يوغندا أمراً لم يكد يقبله الجنود السُّودانيُّون الذين أنهكتهم الحرب، وما هي إلاَّ أياماً معدودات حتى اُستدعوا من الجنوب بغرض خوض غمار الحرب وويلاتها في مكان قصي من البلاد.
وأيَّاً كانت الأسباب، فقد اندلع العصيان العسكري في 23 أيلول (سبتمبر) 1897م بالقرب من وادي الداما، الذي كان بمثابة بؤرة تجمع قوات ماكدونالد. وحينما عجز كل من ماكدونالد وجاكسون من الايفاء بشروط الجنود السُّودانيين، زحف الجنود نحو بوغندا، يقتلون وينهبون حتى استقر بهم المقام في قلعة لوبا. ولم تفلح محاولات الرائد ثرستون، الذي كان على رأس العسكر في يوغندا، في إقناع المتمرِّدين بالاستسلام، بل سقط رهينة في يدهم مع أثنين آخرين من الأوربيين الذين قُتلوا جميعاً فيما بعد. نصب ماكدونالد، ومن معه من الجنود السواحيليين والبوغنديين، حصاراً حول لوبا. وعلى الرَّغم من الهجوم المكثف على القلعة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1897م حتى كانون الثاني (يناير) 1898م، صمد الجنود السُّودانيُّون أيما صمود. وقد أدَّى تبادل النيران إلى قتل شقيق ماكدونالد وكذلك بيلكنجتون - أحد المبشرين المسيحيين الذي قام بترجمة الإنجيل إلى لغة اللُّوغندا، وأصبح يشار إليه بالبنان في يوغندا. فبينما ظل القلق ينتاب ماكدونالد، قامت السُّلطات البريطانية بارسال تعزيزات عسكريَّة من الجنود الهنود من أرض جوبا وبومباي، وأصبح الوضع ينذر باحتمال تمرد بقية الجنود السُّودانيين في بونيورو، تورو، بودو، وكمبالا. ومما زاد الأمر سوءاً ظهور موانقا كرة أخرى وإعلانه اعتناق الإسلام، وجمع فأوعى 2,000 جنديَّاً مسلَّحاً. وفي هذه اللَّحظة انسحب ماكدونالد غرباً لمواجهة موانقا، فانتهز السُّودانيُّون الفرصة وتوجَّهوا صوب بونيورو للإلتحاق بالحاميات السُّودانيَّة فيها، ولا سيَّما أنَّها أبدت رغبة أكيدة للإنضمام إلى العصيان. لقد تمَّت السَّيطرة على الوضع بعد وصول الملازم سكوت مع الجنود الهنود واستطاع أن يجرِّد حاميات بونيورو من السِّلاح ويوقف زحف السُّودانيين إليها. تمركزت القوة الأخيرة من المتمرِّدين في كاباقامبي على بحيرة كيوجا، الذين قُضى عليهم في شباط (فبراير) 1898م، وفرَّ فلول منهم عبر البحيرة وأصبحوا يغيرون على نقاط الحكومة من حين لآخر حتَّى تمَّ تشتيتهم بواسطة مليشيات من قبيلة لانجو في العام 1901م. وبهزيمة الجنود السُّودانيين ماتت الفكرة التي داعبت مخيلة مبروك أفندي عسى ولعلَّ أن تصبح إحدى الأهداف الممكنة.(34)  
مما مضى من حديث نجد أنَّ النُّوبة، أو النُّوبي كيفما أو حسبما شئت أن تسمِّيهم، قد أسهموا في تأطير الحياة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والسياسيَّة في شرق أفريقيا، حتى أمسوا الآن جزءاً أصيلاً من شعوب المنطقة.  فلم يكونوا ظاهرة تراثيَّة أو أنثروبولوجيَّة عابرة تنتهي بانتهاء مرحلة من مراحل التطوُّر الاجتماعي والتأريخي، بل أمسوا جزءاً أساساً من التركيب الحيوي للمجتمع، وبالتَّالي لا يمكن إنكار فعاليتهم في حركة التغيير الاجتماعي والسياسي كما شهدنا في يوغندا، بما فيها من استغلال العامل الدِّيني - الإسلام أو المسيحيَّة - كأداة رائسة في تأجيج الصِّراع السياسي والقبلي.  لقد تمَّ هذا التداخل الإقليمي في عهد لم تكن هناك حدود سياسيَّة، وأضحى النُّوبي - بالرَّغم من تغيُّر الزمن والأوضاع السياسيَّة - وحدة اجتماعيَّة بلغتها وعاداتها وتقاليدها الرَّاسخة، التي حافظوا عليها من البوار والاندثار.  هذا ما كان من أمر النُّوبة في الإطار الإقليمي، فما يدريك عن دورهم في الإطار الدَّولي؟


النُّوبة في الإطار الدَّولي
ففي عهد الخديوي سعيد باشا أُرسِل جنود سودانيون إلى المكسيك (1863-1867م) لمساعدة الإمبراطور ماكسيميليان في الحرب الأهليَّة المكسيكية، وقد أبلوا بلاءاً حسناً.  إذ وصف الأمير عمر بسالتهم في رسالة له منشورة في مصر العام 1933م بعنوان "بطولة الأورطة السُّودانيَّة-المصريَّة في المكسيك".  وفي إحدى المعارك، التي اشترك فيها السُّودانيُّون في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 1863م، كتب حاكم فيراكروز - في رسالته إلى القائد العام: "هذا الاشتباك قد توَّج السُّودانيين، الذين تحمَّلوا أعبائه ونالوا من المكافأة أرفع الشأن، حيث أنَّهم لم يأبهوا بكثافة النيران التي تلقوها من العدو الذين زادوا عليهم بنسبة تسعة إلى واحد، ولكنَّهم هزموهم في نهاية الأمر."  غير أنَّ بسالتهم هذه لم تلق الاهتمام من الدوائر الفرنسيَّة إلاَّ في الدراسات الطبيَّة، حيث أنَّ السُّودانيين لم يتأثَّروا بالحمى الصفراء التي كانت تفتك بالأوربيين فتكاً شديداً.  وقد عزا هؤلاء الأطباء الأوربيُّون سبب مقاومة السُّودانيين إلى طبيعة الزنوج، ولا مراء أنَّ أغلب هؤلاء الجنود كانوا من النُّوبة الذين اصطادوهم رقيقاً من جبال النُّوبة وتجنيدهم في جيوش الحكومة التركية-المصريَّة، حيث ورد في عدة مصادر أنَّ حوالي 200,000 منهم قد أُسِروا وأُخِذوا مصفدين إلى مصر حتى العام 1839م، وآلاف أخرين قد استاقهم عرب السهول المحيطة بهم وباعوعم للنخاسين العرب في الأسواق المحليَّة.(35)  وفي رسالة أخرى من فيراكروز إلى القائد العام في 22 نيسان (أبريل) 1864م، ذكر الراسل: "إنَّ الجيش المصري-السُّوداني يتقدَّمون بطريقة تؤكِّد شجاعتهم في المعارك ضد عدو متفوق عليهم عدداً، لكنَّهم ما يزالون في مستو عال من البسالة - كما شهدنا سلفاً.  لذلك، كذلك، لم يكد القائد العام أن يكتم إعجابه بهم إلاَّ أن يكتب إلى رؤسائه في وزارة الحرب الفرنسيَّة في 12 تموز (يوليو) 1864م يخبرهم عما شهد من الوقيعة.  فماذا دوَّن الكاتب في الخطاب؟  كتب قائلاُ: "إنَّ روح الجنود المصريين-السُّودانيين، التي لا تسمح لهم أنفسهم بترك سجين حرب على قيد الحياة، قد لمعوا في ساحة الوغى.  لم أشاهد في حياتي هذا العزم الأكيد والإصرار الفريد مثلما رأيتهما في هذ المعركة.  إنَّ عيونهم تحكي عما في مشاعرهم، ولهم من الشجاعة حظ عظيم، إنَّهم ليسوا ببشر، بل قسورة."  إنَّ المجنَّدين والعسكر، الذين تم تجنيدهم من كردفان ودارفور، قد نالوا إعجاب البوليس المصري في الإسكندرية لحظة مغادرتهم إلى المكسيك في 28 كانون الأول (ديسمبر) 1862م.  وقد عاد الجنود السُّودانيُّون - عن طريق باريس حيث نالوا أعلى الأوسمة الحربيَّة في فرنسا - إلى الإسكندريَّة في 28 آيار (مايو) 1867م، وكان في استقبالهم الخديوي إسماعيل باشا، خليفة سعيد باشا.(36)  
حين وصل السير صمويل بيكر إلى الخرطوم في كانون الثاني (يناير) 1870م وجد وسط العسكر الذين سوف يصطحبونه إلى مديريَّة الإستوائيَّة ضباطاً ممن خدموا في الحملة المكسيكيَّة.  ومن هؤلاء الضباط الرائد عبدالله، النَّقيب مرجان شريف، النَّقيب عبدالله، الملازم مرجان، والملازم فيرتك (؟)، وقد اصطحبوا السير صمويل بيكر - بعد عامين من وصوله إلى الخرطوم - إلى أرض أشولي وبونيورو اليوغنديَّة.  وفي منطقة بونيورو أصبح الرائد عبدالله قائداً على حامية فاتيكو، وقد اصطدم مع النخاسين في هذه المنطقة مرات عديدة.  كذلك كان الرائد عبدالله من مستقبلي العقيد شالي لونج، مبعوث الجنرال غوردون إلى الملك موتيسا - عظيم بوغندا.(37)  
في هذا البحث، الذي أوجزنا فيه السَّرد التأريخي وظروف الجغرافيا وعامل السياسة والتعدُّد الأثني واللُّغوي في جبال النُّوبة، استخدمنا نهج الخاص إلى العام، وإن كنَّا نعلم يقيناً أنَّ البعض يفضلون منهج العام إلى الخاص.  ومهما يكن من أمر المنهج، فقد تتبَّعنا حياة النُّوبة في السُّودان القديم والحديث، وإسهامهم إقليميَّاً في شرق أفريقيا، ودوليَّاً عبر المحيط الأطلسي إلى المكسيك لخوض معارك ضد أقوام لم يكن لنا معهم من شجار.  بيد أنَّ هذا الإسهام المحلِّي والإقليمي والدَّولي لم يُكسبهم من أهل الحل والعقد في الخرطوم إلاَّ بطشاً، لا لسبب إلاَّ لأنَّهم يودُّون الحفاظ على تراثهم وتقاليدهم وأديانهم.  فقد بدأ رجال أحزاب الشمال الإسلاميَّة يجادلوهم بالقرآن ما وسعهم الجدال، وحين رأوا أنَّ الجدال قد أصبح قليل الغناء، لجأوا إلى الكيد، ثمَّ إعلان الحرب الجهاديَّة عليهم.  وما الحرب التي ظل النُّوبة في سبيلها يتحمَّلون العنت والعسف إلاَّ للحفاظ على هويتهم ضد الذين يلهثون في محوها - أو على الأقل - يبغون أن يبقوهم بحيث لا يظهرون إلاَّ إذا كانوا لغيرهم تبَّعاً.  فقد رفض النُّوبة أجمعون الإذعان لشروط الاستسلام، إلاَّ الذين رضوا بالإفتئات على (أو من) موائد الاضطهاد، والشواذ ضعاف الآفاق، والشاذ لا حكم له.  فقد رفع النُّوبة الشعار الذي كان يبادي به الشَّاعر أبو نواس من يخاصمه كما كان يبادي به من يغريه بالجاه والسلطان:
وما أنا بالمشغوف ضَرْبَة لازبٍ        ولا كلّ سلطانٍ عليَّ أمير!
كان أحرى بحكام السُّودان الحديث تنمية هذه اللُّغات الوطنيَّة في الجبال وغيرها في أرجاء الوطن الواسع وإمطارها بالرِّعاية الحكوميَّة، وتقليص هيمنة ثقافة واحدة على غيرها، لأنَّ المشكلات الناشئة في السُّودان اليوم أصلاً سببها التقاء ثقافتين ودينين - أو أكثر - مختلفين، ولا تُحل هذه المشكلات إلاَّ عن طريق التَّفاوض الذي ينتج عنه الاحترام المتبادل وقبول الآخر بهيئته.  إنَّ الاحتقان النَّاجم عن حالة التعدُّديَّة الثقافيَّة والإثنيَّة الصَّارخة في البلاد يستلزم إجراء توازن بينها وبين الوحدة.  إذ على السُّودانيين أن يدركوا بأنَّ أية محاولة للقفز على التُّراث وحقائق الحياة إنَّما هي إنكار للواقع والتأريخ، وعدم الإعتراف بالتَّنوُّع قد كلَّفنا ثمناً باهظاً.

خلاصة
مما أوردناه من بحث يتضح أنَّ منطقة جبال النُّوبة ظلَّت - وما زالت - موطن إثنيات عرقية متباينة.  وقد عاشت هذه المجموعات المختلفة في هذه المنطقة - بالرَّغم من أحداث التأريخ الشائكة وعوامل الجغرافيا الشَّاقة - حياة تتخلَّلها حروبات قبليَّة كانت معظمها لإشباع رغبات الحكومات المركزيَّة منذ العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م) حتَّى هذه اللَّحظة.  إذ استخدم الأتراك قبائل البقَّارة في حملاتهم للحصول على الرقيق من النُّوبة، واستخدمهم المهدي لإخضاع النُّوبة، واستغلَّهم البريطانيُّون لإخماد تمرد وعصيان النُّوبة، وكذلك فعلت الحكومات الوطنيَّة بعد زوال نظام نميري العام 1985م في "التطهير العرقي" ضد النُّوبة بإعتبارهم متمرِّدين و"مرتدين".  بيد أنَّ الذي يجمع بين هذه المجموعات البشريَّة هو اشتراكها في الفقر والجهل والمرض؛ هذا الثالوث الاجتماعي لم يجد عناية فائقة من أهل الحكم في الخرطوم، وزادت الأوضاع سوءاً بُعيد وصول الحرب الأهليَّة إلى هذا الجزء من السُّودان.  إنَّ السَّلام والوئام هما مطلبين عزيزين لكل مجتمع ينشد الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصاديَّة والعدالة الاجتماعية، لذلك كان لزاماً على السلطات المحليَّة والمركزيَّة بحث سبل بسط الأمن والطمأنينة في الفئات البشرية التي تقطن هذه الديار قبل اللَّهاث وراء السَّلام الشامل (Charity begins at home).  وهنا يمكن الاستعانة بنظرية "التكافل الإجتماعي"، التي استخدمها الدكتور ناديل في دراسته الأنثروبولوجيَّة لمجتمعات النُّوبة، كما أسلفنا الحديث عنها.  فقد كانت هناك ميكانيكيَّة نوباويَّة لفض النزاعات وحل الصراعات داخل المجموعة الواحدة أو تلك التي تنشب بين المجموعات الإثنيَّة المختلفة، بما فيها المجموعات العربيَّة التي استوطنت في المنطقة وتنوبنت (أي أمست أو تبنَّت تقاليد وعادات نوباويةَّ).  وباستخدام العرف السائد والقانون المعمول به نجحت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في عقد اتفاقات سلام وتعايش سلمي مع قبائل البقَّارة في المنطقة؛ نذكر منها اتِّفاق برام العام 1993م، ريجيفي العام 1995م، وكين العام 1996م.(38)  استشعاراً لأهميَّة السَّلام والأمن على شعوب المنطقة، فقد وصَّى المؤتمرون - فيما وصَّوا - في مؤتمر كاودا في جبال النُّوبة، الذي انعقد بين الفترة من 2-5 كانون الأول (ديسمبر) 2002م، على ضرورة عقد مؤتمر سلام بين النُّوبة والقبائل غير النُّوباويَّة المستوطنة في المنطقة في سبيل الوصول إلى معايير وأسس التعايش السلمي و"التكافل الاجتماعي".  وتهدف هذه التَّوصية إلى إزالة الفجوة المأساويَّة بين الماضي والحاضر، كما تسعى لبناء مستقبل زاهر يمكن الاستفادة منه في غرس المفاهيم الرَّاشدة حول السَّلام، رحماً بالنَّاس وإشفاقاً عليهم ألاَّ يتورَّطوا في الخلاف والمراء فيما لا ينبغي فيه خلاف ولا مراء.  ولا نحسب أنَّ النُّوبة - بعد هذا الظلم والاضطهاد - سوف يصرُّون على الاقتداء بالهاييتيين في القرن التاسع عشر حين انتفض الأرقاء المحرَّرين في جزيرة هاييتي وهزموا البريطانيين والفرنسيين والأسبان، ومن ثَمَّ أقسم الأمين العام للمنتفضين أن يستخدم الهاييتيُّون الأحرار جمجمة الرجل الأبيض كمحبرة وجلده كورق والدم بدل الحبر لكتابة إعلان الاستقلال العام 1804م.(39)  بل سيقتدي النُّوبة بكلمات قائدهم الرَّاحل يوسف كوة مكي في قصيدته "أفريقيتي":
(...) سأبني حضارتي
وعندها سأمد راحتي
وسأغفر لمن تعمَّد طمس هويَّتي
لأنَّ المحبة والسَّلام هي غايتي
غير أنَّ هذه المغفرة والصفح الجميل سوف لا يشملان القتلة الفجرة، الذين تلطَّخت أياديهم بدماء النُّوبة الأبرياء التي سُفِكت والأنفس الزكية التي أُزهِقت والمؤودة التي قُتِلت.
لم تعش منطقة جبال النُّوبة في أي وقتِ مضى بمعزل عن القوى الخارجيَّة التى وفدت إلى السُّودان سواءأ من الشمال، الشرق أم الغرب، بل كانت المنطقة ملتجأ للفارين - حذر الموت - من الاضطرابات السياسيَّة والتحوُّل البيئي في وداي نهر النيل؛(40) وتبدو سمات هذا التداخل البشري جليَّاً في التعدُّد العرقي والثَّقافي والدِّيني في المنطقة.  غير أنَّ السلطات المركزيَّة حاولت استغلال هذا الوضع لمصالحها السياسيَّة ودأبت على تفتيت هذا النسيج الاجتماعي الذي يعاني أصلاً من تصدع.  لذلك لم تسر حكومة البشير نجاحات الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في إبرام الاتِّفاقات سالفة الذكر، وكادت كيدا جبَّاراً في إفشالها.  وما يجري اليوم في منطقة تقلي شر مثال لما نقول.  فقد شهدنا كيف استباحت بعض المجموعات الرعويَّة زراعة المواطنين عنوة بقوة السلاح في منطقة تقلي، دون وازع ضمير أو رادع من سلطان، يحملهم زهو النصر وغلواء البطر.  فالرعاة المدجَّجون بالسلاح الناري لا يتردَّدون في إطلاق النار على المزارعين العزل، وقد بلغت حالات القتل بالرصاص للمزارعين الذين تجرأوا لمنع البهائم من الزراعة 17 حالة حول مدينة العباسيَّة وحدها، مما اضطرَّ وفد من المنطقة، برئاسة الأمير مختار جيلي وعضوية عدد من العمد والمشايخ، لزيارة الخرطوم ليجأرون بالشكوى للمسؤولين في الحكومة المركزيَّة.  فإنَّ عجز الجهات المختصة عن ردع المعتدين القتلة أو التواطؤ معهم يعطي الضحية حق طبيعي في البحث عن سبل أخرى للدفاع عن النفس والعرض والمال.(41)  كان هذا النوع من الاعتداءات وتقاعس السلطات هو أحد الأسباب التي دفعت النُّوبة للالتحاق بالحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان للحصول على السلاح في سبيل حماية النفس والذود عن العرض، وإنَّ ما يجري اليوم في دارفور لتأكيد لذلك.  عليه، فإنَّا لنرى تحت الرَّماد وميض نار، وإنَّا لنخشى لها ضرام.

هوامش وإحالات
(1) كثرة الفتن والحروب الأهليَّة سبباً في تفرُّق قبائل سبأ في أنحاء جزيرة العرب، حتى ضربوا به المثل في التفرُّق فقيل تفرَّقوا أيدي سبأ.  وكان في مملكتهم سد عظيم هدَّه سيل العرم في اليمن، والعرم جمع عرمة كفرحة وهي سد.
(2) أنظر د. شوقي الجمل: تأريخ سودان وادي النيل: حضاراته وعلاقاته بمصر من أقدم العصور للوقت الحاضر، الجزء الأول، القاهرة، 1969م.
Vantini, G, Christianity in Sudan, Bologna, 1981; and Stevenson, R C, The Nuba People of Kordofan Province: An Ethnography Survey, Khartoum University Press, 1984.
(3) يقول البروفسير عبدالله الطيب في صحيفة "الاتحادي الدوليَّة": 6/4/1999م إنَّ المريس من "المَرَس" - أي الحبل إذ كان البحارة يضطرون إلى جر المراكب بالحبال في هذا الإقليم، ومن المعلوم أنَّ "المريسة" شراب ضعيف الإسكار يصنع من الذرة ويمرس بالأيدي قبل أن يجعل في آنية الشراب. ومريسة - من مرست شيئاً في الماء إذا وضعته فيه لينقع. وتقول بعض المصادر إنَّ المريس كلمة قبطية معناها الجنوب.
(4) Herodotus, The Histories, Edinburgh, 1954.
(5) MacMichael, H A, The Tribes of Northern and Central Kordofan, Cambridge, 1912.
(6) Newbold, D, Some Links with Anag of Gebel Haraza, Sudan Notes and Records, 1924, Vol 7, No 1; and Newbold, D, The White Nuba of Jebel Haraza, and White Races of North Africa, Sudan Notes and Records, Vol 7, No 2, 1924.
(7) Bell, H, An Extinct Nubian Language in Kordofan, Sudan Notes and Records, 1973, Vol 54.
(8) الدكتور عبدالعزيز أمين عبدالمجيد، التربية في السُّودان: من أول القرن السادس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر والأسس النفسيَّة والاجتماعية التي قامت عليها، الجزء الأول، القاهرة، 1949م.
(9) صحيفة "الرأي العام": 23/1/1999م.
(10) صحيفة "الاتحادي الدوليَّة": 20/10/1997م.
(11) Meinhof, C, Sudan Notes and Records, Vol 3, No 4, 1920.
(12) Caputo, R, Sudan: Arab-African Giant, The National Geographic Magazine, Vol 161, No 3, March 1982, Pages 346-378.
(13) صحيفة "الرأي العام": 31/1/1999م.
(14) Nadel, S F, The Hill Tribes of Kadero, Sudan Notes and Records, Vol XXV, Part I, 1942; Nadel, S F, The Nuba: An Anthropological Study of the Hill Tribes in Kordofan, Oxford, 1947; Hawkesworth, D, Sudan Notes and Records, Vol XXIX, Part I, 1948; and Salat, J, Reasoning as Enterprise: The Anthropology of S F Nadel, 1983.
(15) Holt, P M, A Modern History of the Sudan: From Funj Sultanate to the Present Day, London, 1961.
للمزيد من الإيضاع عن مدلول جعل ونسب الجعليين إلى العباس عم النبي صلى الله عليه ةسلَّم أنظر المقال الجيِّد الذي سطره علي حليب باسم "الأصل الزنجي لأسماء المدن السُّودانيَّة... المعاني والأبعاد"، سودانايل: 7/5/2003م.
(16) Manger, L O, From the Mountains to the Plains: The Integration of the Lafofa Nuba into Sudanese Society, Uppsala, 1994.
(17) أنظر سراج الدين عبدالغفار عمر: تأريخ الصراع في جبال النُّوبا: الفترة 1984م - 1996م، الخرطوم، 1996م.
(18) عوض عبدالهادي العطا، تاريخ كردفان السياسي في المهديَّة (1881م - 1899م)، الخرطوم، 1973م.
(19) Africa Today, London, 1996.
(20) Hawkesworth, D, The Nuba Proper of Southern Kordofan, Sudan Notes and Records, Vol XV, Part II, 1932.
(21) صحيفة "الاتحادي الدوليَّة": 20/10/1997م؛ صحيفة "الاتحادي الدوليَّة": 21/10/1997م.
MacDiarmid, D N, Notes on Nuba Customs and Language, Sudan Notes and Records, Vol X, 1927; MacDiarmid, P A and MacDiarmid, D N, The Languages of the Nuba Mountains, Sudan Notes and Records, Vol XIV, Part II, 1931; Stevenson, R C, Linguistic Research in the Nuba Mountains - I, Sudan Notes and Records, Vol 43, 1962; Stevenson, R C, Linguistic Research in the Nuba Mountains - II, Vol 45, 1964; Stevenson, R C, The Present Position of Research in the Nuba Mountains Languages, Directions in Sudanese Linguistics and Folklore, co-edited by Sayyid Hamid Hurreiz and Herman Bell, Institute of African and Asian Studies, Khartoum; Hair, P E H, A Layman’s Guide to the Languages of the Sudan Republic, Sudan Notes and Records, Vol 47, 1966.
(22) الحَمر والحُمُر من بطون القبائل العربيَّة التي تسكن شمال كردفان.
Henderson, K D D, Nubian and Nuba, Sudan Notes and Records, Vol 18, Part II, 1935.
(23) Hair, P E H, The Brothers Tutschek and their Sudanese Informants, Sudan Notes and Records, Vol 50, 1969.
(24) Kauczor, P D, The Afitti Nuba of Gebel Dair and their Relation to the Nuba Proper, Sudan Notes and Records, Vol VI, No 1, 1923; Hawkesworth, D, The Nuba Proper of Southern Kordofan, Sudan Notes and Records, Vol XV, Part II, 1932; and Bolton, A R C, The Dubab and Nuba of Jebel Daier, Sudan Notes and Records, Vol XIX, Part I, 1936.
(25) صحيفة "الشرق الأوسط": 4/9/1998م.
(26) Kingdom, F D, Bracelet Fighting in the Nuba Mountains, Sudan Notes and Records, Vol XXI, 1938; Riefenstahl, L, The People of Kau, London, 1976.
إنَّ خير من وصف قيم وعادات النُّوبة في منطقة الكاو-نيارو هو الأستاذ عباس مصطفى صادق في روايته "محنة الكاو".  وفي هذه القصة يعمد المؤلف إلى رسم صورة واقعية لحياة الناس في جبال النُّوبة، وما يمارسونه من طقوس في بعض المناطق.  ويروي الأستاذ صادق،  في هذه الرواية، ظروف الجفاف والتصحُّر التي جثمت - بأثقالها المرهقة الشَّاقة - على حياة النَّاس في منطقة الكاو، حيث اختلط فيها البؤس والفقر بالجهل والتخلف (صحيفة "الوفاق": 20/2/1999م).

(27) Luz, O and Luz, H, Proud and Primitives, The Nuba People, The National Geographic Magazine, November 1966; and Riefenstahl, L, The Last of the Nuba, London, 1973.
قدَّم لوذ دراسة اجتماعيَّة عن مساكين قصار وطوال تتضمَّن طريقة معاشهم ومناسك الدَّفن وطقوس الحصاد وسبل الزراعة والحصاد والمصارعة وغيرها.
(28) Sudan Notes and Records, Vol V, 1922; Hillelson, S, Notes on the Dago: with special reference to the Dago settlement in Western Kordofan, Sudan Notes and Records, Vol VIII, 1925; and Macintosh, E H, A Note on the Dago Tribe, Sudan Notes and Records, Vol XIV, Part II, 1931.
(29) الدكتور عبدالله بولا: شجرة نسب الغول في مشكل الهويَّة الثقافية وحقوق الإنسان في السُّودان، مجلة "مسارات جديدة"، العدد الأول، أسمرا، أغسطس 1998م.
(30) Dunn, S C, Native Gold Washings in the Nuba Mountains Province, Sudan Notes and Records, Vol 4, No 3, 1921; and Bell, G W, Shaibun Gold, Sudan Notes and Records, Vol 20, Part I, 1937.
(31) نشرت صحيفة "الخرطوم" بتاريخ 9/5/1994م الورقة التي قدَّمها الدكتور جون قرنق - رئيس الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان - أمام المؤتمر الأفريقي السَّابع، الذي عُقد في كمبالا - يوغندا - في نيسان (أبريل) 1994م. وفي تلك الورقة قال رئيس الحركة الشَّعبيَّة إنَّ الجلابة جماعة اجتماعيَّة تطوَّرت ونمت في السُّودان منذ القرن الخامس عشر، وقد لعبوا دوراً في تجارة الرقيق، وامتلكوا القوة الاقتصادية والاجتماعية، التي تحولَّت إلى قوة سياسية وورثوا السلطة من المستعمر وطبقوا أيديولوجية العروبة والإسلام السياسي لحماية مراكزهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمع السُّوداني.
(32) Trench, C C, Charley Gordon: An Eminent Victorian Reassessed, London, 1978.
(33) صحيفة "الإتحادي الدَّوليَّة": 29/11/1998م.
(34) March, Z and Kingsnorth, G W, An Introduction to the History of East Africa, Cambridge University Press, 1965.
(35) Strachan, R, With the Nuba Hillmen of Kordofan, The National Geographic Magazine, Vol XCIX, No 2, November 1951.
(36) Kirk, R, The Sudanese in Mexico, Sudan Notes and Records, Vol 24, 1941.
(37) Thomas, H B, Notes on the Sudanese Corps in Mexico (1863-1867) and on Fort Magungu, Uganda Journal, Vol 8, Part I, 1940, Pages 28-32.
(38) Suliman, M, The Nuba Mountains of Sudan: resources, access, violent conflict and identity, London, 2001.
(39) The Economist, March 6, 2004.
بالرَّغم مما أبدوه الهاييتيُّون من حقد وموجدة ضد الرَّجل الأبيض، إلاَّ أنَّهم لم يستطيعوا الانفكاك من قبضته.  حيث أنَّ هذا الرجل الأبيض بدا دائماً دخيلاً في شؤون هذه الجزيرة منذ مجئ الرحَّالة كولومبوس العام 1492م حتى مغادرة الأب جون-بيرتراند أرستيد في 29 شباط (فبراير) 2004م.  فقد بدأت كوارث هاييتي بالتَّعويضات، ثم الحظر الاقتصادي، وأخيراً المؤامرات.  ففي العام 1915م تدخَّلت القوات الأمريكيَّة لأسباب زُعِمت بأنَّها إنسانيَّة، غير أنَّ الهدف الرئيس كان مبطناً في تقليم النفوذ الألماني في المنطقة والحفاظ على المصالح الأمريكيَّة.  فقام المحتلُّون الأمريكان بتشييد البنى التحتيَّة والقضاء على الأمراض الإستوائيَّة، بيد أنَّ الاستخدام القسري للعمال قد أدَّى إلى نشوب انتفاضة ثانية قُتل فيها آلاف من الهاييتيين، وفرض عليهم الأمريكان دستوراً فوقيَّاً، ونصبوا رئيساً ضعيفاً تابعاً، وخرجوا من البلاد العام 1934م.  بيد أنَّ تدخُّلات "العم سام" في شؤون هاييتي الدَّاخليَّة لم تنته بعد، حيث ساندت الإدارة الأمريكيَّة دكتاتوريَّة دوفاليير ضد ما أسمته شيوعيَّة كاسترو في كوبا حتى الانتفاضة الشعبيَّة العام 1986م، وساعدت الحكومة الأمريكيَّة في نفي دوفاليير الإبن خارج البلاد.  ثم من بعد نجئ إلى انقلاب الجنرالات الذين أطاحوا بحكومة أرستيد الأولى العام 1991م، ذلكم الانقلاب الذي تشير أصابع الاتِّهام إلى وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة أنَّها وراءه.  أيَّاً كانت الجِّّهة المنفِّذة لهذا الانقلاب، فقد فرَّ أرستيد المخلوع إلى أمريكا حتى قامت إدارة الرئيس بيل كلينتون بإعادته إلى السُّلطة العام 1994م.  وأخيراً - وربما ليس بالفصل الأخير - قامت أمريكا بإقناع (أو اختطاف) أرستيد واقتياده إلى المنفى الاختياري (أو الإجباري) في جمهوريَّة أفريقيا الوسطى.
(40) Davidson, A P, In the Shadow of History: The Passage of Lineage Society, London, 1996.
(41) صحيفة "ألوان": 25/1/2004م.

 

آراء