الحركة الإسلامية.. خرج الطعام وبقي السُحت
سالم أحمد سالم
15 January, 2009
15 January, 2009
سالم أحمد سالم
باريس
Salim.ahmed@nef.fr
الحركة الإسلامية السودانية عقدت مؤتمرها وانفض سامرها إلى حين مؤتمرها القادم إن كان لها أن تعقده. وقد تابعت ركاما كثيرا كتبته الأقلام المعبأة بحبر الحكومة (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة، الآية 79. هؤلاء كفانا الله مؤونة الحديث عنهم، فلا مزيد بعد كلام الله. ثم هنالك من حاول تفنيد النتائج التي انتهى عندها مؤتمر الجماعة مثل عدم تناول القضايا الملحة وفوز علي عثمان بالنمرة الكاملة، وإلى ذلك. على أن كل ما كتب قفز فوق البديهيات وتجاوزها، ولم يمر الكتبة على البديهيات حتى مرور الكرام!. لذلك سوف أقوم أنا بهذه المهمة، مهمة الكتابة عن البديهيات. أكتب عن البديهيات لأنني على يقين أن من البديهيات ما يفوق في الأهمية تلك الأمور العظام التي بحث الناس عنها في ما بعد أو وراء البديهيات. والبديهيات في تقديري الخاص ليست التفاصيل. فالرقم "واحد" بديهية والمليون والمليار تفاصيل للواحد. فكل عدد بعد الرقم "واحد" هو تراكم لهذا الواحد، أي تفاصيل له. بمعنى أننا إذا طفقنا نعد من واحد حتى نصل إلى العدد مليون نكون فعلا قد غرقنا في التفاصيل وأهدرنا الوقت. لذلك أجد الفرق عظيما بين البديهيات وبين التفاصيل. ولا أجزم أن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ كان يقصد هذا المعنى تحديدا عندما قال "إن مسيرة المليون ميل تبدأ بخطوة واحدة"، لكنه أدرك بالتأكيد أن تراكمات الخطوة الواحدة قد تصل إلى مليون ميل.. وصولا إلى ذلك المنتهى حيث يكون النجاح. ثم إن إسحق نيوتن قدم لنا الحقيقة العلمية لجاذبية الأرض لمجرد أنه توقف عند بديهية سقوط التفاحة من الشجرة إلى أسفل. سقوط التفاحة كان تلك البديهية التي تجاوزها الناس إلى جمع التفاح!
طبعا مؤتمر الحركة الإسلامية لم يسقط على الناس تفاحا لأنه لا توجد شجرة في الأساس، ولم يسقط المؤتمر على الناس بصلا, فقد دخل البصل من زمن بعيد في سوق الندرة وإن تكدس في مخازن بعض الذين شاركوا في المؤتمر. وبرغم ذلك لابد لي من أن أبدأ بالبديهيات، وأول البديهيات أن عدد المشاركين في المؤتمر بلع أو بلغ خمسة آلاف شخص. وطبعا هؤلاء الخمسة ألف ناموا في فنادق على سرر وثيرة، متقابلين أو متدابرين سيان، وأكلوا ما لذ وطاب وشربوا العصائر والكولا والشاي الذي هو على مزاجك والقهوة ذات النكهة.. إلى غير ذلك مما كان مزاجه كافورا أو جنزبيلا. ثم إن المؤتمر انعقد في قاعات كبيرة وثيرة مبردة ومضئية ومزودة بأنواع الخدمات بما فيها من بوفيات مفتوحة للمؤتمرين مغلقة أمام غيرهم، ومراحيض ومايكروفونات وتسجيلات، والعمال الذين يقومون على الخدمة أثناء وبعد الجلسات. من الذي دفع قيمة كل هذا الانفاق ؟.
وبما أنني أمسك بتلابيب هذه البديهيات، فسوف تجيبونني بصوت واحد: طبعا الحكومة هي التي دفعت. إذن سوف نستمر في تفكيك هذه الإجابة البديهية ونسأل جملة أسئلة لا تقل بديهية وسذاجة عن سؤالنا السابق: من أي مال دفعت الحكومة ؟ هل للحكومة مال خاص بها اسمه "مال الحكومة" أم أن الحكومة دفعت من الخزينة العامة التي تحت عهدتها، أم أنها دفعت من مصدر آخر ؟. .
إذا دفعت الحكومة التكلفة من الخزينة العامة فلا داعي لباقي الأسئلة.
أما إذا قالت الحكومة أنها دفعت من مالها الخاص، لابد أن نسألك يا حكومة من أين لك يا حكومة هذا المال؟!. أنت يا حكومة وعلى مدى عقدين من عمر هذا الشعب تأكلين وتشربين وتنفقين وتتجملين وتذبحين وتنحرين وتسهرين، هل ذلك من أموال جئت بها ليلة القبض على السلطة، أم أنك يا حكومة تنفقين من أموال تخص الخزينة العامة ؟.
أما إن قلت يا حكومة أنك تنفقين من أموال الخزينة العامة، فلا داعي لباقي الأسئلة.
أما إن زعمت يا حكومة أنها أموال اقترفتموها قبل ليلة القبض على السلطة، فلا نقول لك نعمّىا هي، بل نقول لك يا حكومة واحد من اثنين: إما أنك تكذبين، فالكل يعلم أنك يا حكومة جئت على ظهر دبابة. يوم كان طواف دباباتك حول "حرم" الحكم مكاء وتصدية. لم يكن في يدك كيسا من الدنانير تنثرينها على الناس ابتهاجا بمولود سلطانك الذي كان توءما سياميا قبل فصله في جراحة المفاصلة الرمضانية الشهيرة. فإن قلت يا حكومة أنك جئت بأموالك فسوف تكونين مثل ذلك الرجل الفقير الذي أصابه الغنى المباغت فأنساه المال نفسه حتى قال لجيرانه الذين يعرفونه أيام فقره أنه ورث المال عن أبيه عن جده عن أسلافه الأغنياء!. لذلك أوصيك يا حكومة أن لا تكذبي بهذه الصورة المفتشرة. سوف نساعدك ونفتح لك ثغرة تمرين بها بين الكذب وبين مال الخزينة العامة. ثغرة تشبه ثغرة الدفرسوار التي فتحها الجيش الإسرائيلي للجيش المصري!. قولي يا حكومة أن أغنياء الحركة الإسلامية (ومترفيها الذين أمرهم الله) ومصارفها وبيوتها المالية هم الذين مولوا الإنفاق على مؤتمر الحركة الإسلامية. بمثل هذا القول سوف يحالفك التوفيق وتكونين في مفازة من الكذب المفضوح، ولسوف نقنع أنك يا حكومة لم تمولي مؤتمر الحركة الإسلامية من أموال الخزينة العامة.
أما إن كذبت الحكومة، فلا داعي لباقي الأسئلة،
وأما أن قالت الحكومة أن مترفيها ومصارفها هم الذين مولوا المؤتمر، فإن هذه الإجابة تعيدنا بضع عقود إلى الوراء، إلى منتصف سبعينات القرن الماضي. في ذلك الأوان بدأ تنامي مصارف الحركة الإسلامية وبيوتها المالية وشركاتها القابضة. كلها قابضة لأنها قبضت على عنق الاقتصاد الشعبي وغرست أنيابها في وتينه، ثم مصّت محتوياته إلى أمعاء غليظة عميقة تهضم كل ما دخلها من زرع ورع وأطفال. اختفت الذرة ولبن الأطفال والحديد والخشب والأدوية والأمصال والبصل والفول والتمر والدخن واللحم السمين بدأ رحلة الهجرة مبرّدا أو على أربع وسائر المواد الغذائية التي يتقوتها المواطن العامل والموظف والتلميذ والأمهات حتى غرزن غير حبالى وتحولت ضروعهن إلى مضغة تعافها نفوس الأطفال فلاذوا بالصراخ حتى شبعوا موتا. (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة، الآية 74. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) القرة، الآيات 204 ،205 ،206.
إذن فقد ضربت الحركة الإسلامية بعصاها البلد فتحول كل ما ذكرنا إلى أربطة وكراتين وأرقام من العملات الحرة وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة والأسهم والسندات. ومن ذلك الزمن تهشمت هياكل الاقتصاد التقليدي وتحول الاقتصاد من حالة الإنتاج النامي إلى المضاربة. كل شيء يباع ويشترى، تسمع جعجة البيع والشراء لكن لا ترى بضاعة ولا إنتاجا. (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة، الآية 188. ومنذ ذلك الزمن ضربت الحركة الإسلامية بعصاها فانفلق الشعب إلى فئة قليلة تملك كل شيء وغالبية ساحقة مسحوقة معدمة. فقد تهشمت الطبقة الوسطى عماد النهضة بسبب الاحتكار والغلاء والتشريد، فتهاوت الطبقة الوسطى فتوسعت قاعدة الإملاق... حتى حصل السودان على "حالة من العدل في الفقر والمسغبة" لم يسبقه عليها شعب. وبعد ليلة القبض على السلطة جاءت التي اسمها "سياسة تحرير الاقتصاد" التي استعبدت الناس إلى يوم الناس هذا. أما ما تبقى بعد الحريق من هشيم وغصون ذابلة وسيقان جرداء، فقد نفشت فيها طفيليات الحركة الإسلامية. تلك إذن هي مصادر أموال ومليارات مترفي الحركة الإسلامية ومصارفها وبيوتها المالية التي مولت وأنفقت على مؤتمر الحركة الإسلامية الأخير. (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) سورة التوبة، آية 35. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا) النساء الآيات 37، 38.
فإذا مولت الحكومة مؤتمر الحركة الإسلامية من الخزينة العامة فهو مال الشعب، وهو مال للكافة وليس للخاصة. وإن تمول المؤتمر من أموال مترفي ومصارف الحركة الإسلامية فهي أموال منهوبة من دموع الأطفال والجوعى من الآباء والأمهات. أنى تولوا وجوهكم يدرككم حق الشعب. الظلم وأكل الحقوق تنزعان الدين نزعا. الإنفاق على المؤتمر من مال الشعب (الخزينة العامة) حرام وخيانة أمانة وسرقة ليس فيها تعزير. والإنفاق على المؤتمر من مال مترفي الحركة الإسلامية ومصارفها حرام في ظلل من حرام. ولن تناكفني الحكومة جهرا أن أكل الحرام هو السحت لا غير، وأن كل ما نما من سحت فهو إلى النار. أولم تسمعوا أيها المؤتمرون بحكاية الخليفة الراشد الذي تقيأ لمجرد الريبة في لقمة واحده ازدردها؟. أولم تسمعوا يا جماعة الحركة الإسلامية بحكاية الخليفة العادل عمر وهو يطلب السماح من المسلمين "كافة" بسبب دريهمات وصلته بغير علمه من بيت المال؟. لقد والله أكلتم سحتا وشربتم سحتا في مؤتمركم هذا. سحت لا مجال لتقيؤه، فقد خرج الطعام وبقي السحت (وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) المائدة الآية 62، فسارعوا إلى مغفرة من ربكم (وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) سورة البقرة، آية 48. أكل حقوق الغير ظلم والظلم معادل للشرك بالله (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان, الآية 13.
ها أنتم ترون أن سوقنا للبديهيات كاد يخرجكم عن الملّة وقد نزع عن مؤتمركم صفة "الإسلامية" نزعا بالحق، فأصبح "مؤتمر الحركة" فقط لا غير كغيركم من الحركات التي تعقد مؤتمراتها. وفوق ذلك ها أنتم مدينون للشعب السوداني بإيداع ما أنفقتموه على مؤتمركم. فإن كنتم تريدون إلصاق صفة "الإسلامية" إلى جماعتكم ومؤتمركم القادم، فإن أول خطوة لا محالة هي رد الحقوق إلى أهلها ورد المظالم إلى أهلها ورد السلطة إلى أهلها، ورد المطرود إلى عمله، ورد الحليب إلى الأطفال، والله لا يهدي القوم الظالمين. وليس من باب الصدف أن غالبية مترفي سودان اليوم هم من رهط الحركة الإسلامية.
أنتم الآن أمام مفاضلة بين أمرين: إما رد الحقوق والظلامات مقابل إلصاق صفة "الإسلامية" بجماعتكم ومؤتمركم والله يحكم فيكم بعد ذلك، أو أن تحتفظوا بما اقترفتموه من أموال وحقوق وسلطان كاعتراف قاطع بتخليكم عن صفة "الإسلامية" ولكم ما اخترتم. (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة الآية 24. لم يجمع الله في قلب امرئ بين الظلم وبين الإيمان الحق، أو بين الإيمان وبين ازدراد حقوق الناس وأكل السحت.
الزور قولا وفعلا من البديهيات المتداولة. فقد ورد في النص القرآني، الآية 72 من سورة الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)، ثم قوله تعالى في سورة الحج، الآية 30 (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). قد أصبح النهي عن فعل وقول الزور من المسلمات، الحديث الشريف (.. ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش حتى يدع قول الزور... الحديث الشريف). والحديث الشريف (.. الشرك بالله وعقوق الوالدين... ألا وشهادة الزور.. ألا وشهادة الزور. وظل يرددها، الرسول الكريم، حتى تمنينا أن سكت). وشهادة الزور هي قول مكذوب يخالف الحق والحقيقة لمنفعة من شهد شاهد الزور لمصلحته حتى يستملك هذا الأخير حقا لغيره. وقد ضربت لشهادة الزور السياسي مثالا بالاستفتاء على الدستور الذي فرضته الحكومة في تسعينات القرن الماضي قبل المفاصلة. قلت آنذاك أن الحكومة أرغمت الناس على ارتكاب معصية الزور بالتصويت لدستور لم يطلعوا على نصه. ذلك أن التصويت هو شهادة في الدنيا والآخرة، والتصويت بدون علم لا يعدو كونه شهادة زور.
وشهادة الزور قرينة بفعل الزور. وفعل الزور هو أن يقدم الشخص على فعل مكذوب من أجل تكسب حقوق غيره مع علمه أن ما فعله يناقض الحق. في سياق هذه البديهيات عن قول الزور وفعل الزور نقرأ تصويت أعضاء مؤتمر الحركة الإسلامية الذي أعطى علي عثمان طه النمرة الكاملة. نأخذ البيّنة على الحركة الإسلامية أولا من الأسلوب الذي جرت عليه انتخابات المؤتمر السابق، حيث كان التصويت برمي بطاقة المؤتمر في صندوق أحد المتنافسين... والعاقبة بالخواتم عندما يتم "جرد" الأصوات ومعرفة الأسماء، ومن بعد ذلك تجري عمليات "تجريد" من لم يضع بطاقته في الصندوق الصحيح من وجهة نظر الحكومة.. ففاز علي عثمان بالنمرة الكاملة، أو هكذا شهد أعضاء الحركة الإسلامية على أنفسهم وعلى أمينهم الذي ارتضوه وهم صاغرون تحت شعار "التصويت ولا التجريد"!!. السرّية هي الضامن الوحيد للإدلاء بما هو في الضمير، إذ لن يبلغ البشر هذه الدرجة النورانية من الشفافية بفعل الحق جهرا في مثل هذه المناسبات المحسومة سلفا. فالخوف دائما في الظاهر والعدل في الفعل قد تحجبه المنفعة أو الخوف أو الحياء أو المجاملة إلا من قاض عادل يحكم بين أفرقاء ولا يكون طرفا في الخصومة. لذلك فإن كل اقتراع علني لا يعدو كونه عملا معيبا في الأداء الديموقراطي والإيماني.
ثم نأخذ عليكم البيّنة في انتخاباتكم الأخيرة من اختلاف أهل السقيفة يوم تولية أبو بكر الصديق رضي الله عنه. لن يكون الناس على قلب رجل واحد أطهركم كان أم أفجركم. فالتفاوت سنة من سنن هذا الكون لضمان استمرار الحياة على قاعدة المنطق المقبول لعقولنا كبشر. فقد يتفق الأغلبية على أمر، لكن ذلك لا يمحق حق الأقلية وإن قبلت بالرأي الغالب. وقد اتفق أهل السقيفة لأن البديل كان الردة إلى الجاهلية والاحتكام للسيف فتذهب ريحهم بددا. واتفق أهل السقيفة لأن اختلافهم كان على أي الفئتين أحق، وكلا الفريقين كان على حق. ولأن خلافكم آنذاك يا جماعة الحركة الإسلامية كان خلافا على فردين أيهما يضمن المصالح، فقد رفعتم حينذاك شعار "التصويت ولا التجريد". أما لجهة انتخابات مؤتمركم الأخير فقد صوتم برفع الأصابع. كاذبون أنتم إذن لو قلتم أنكم كنتم على قلب رجل واحد، وبأنكم أفضل من أهل تلك السقيفة، مع أن الفرق بينهم وبينكم يبقى شاسعا. وحتى لو أجمعت أغلبيتكم على اختيار علي عثمان، هل كان يجرؤ أحدكم على عدم رفع إصبعه حتى لو من باب الامتناع عن التصويت ؟. إذن بينكم من رفع إصبعه بما يخالف ضميره خوفا على مصالحه، وهذا هو عمل الزور. إذن بينكم من يفعل الزور. إذن فعل الزور ينسحب على كل ما قمتم به، وكل عمل قائم على الزور فهو باطل في هذه الحياة الدنيا وله حسابه عند ربكم يوم لا ولي ولا علي ولا شفيع. لقد صوتم هذه المرة تحت شعار "رفع الأصابع ولا قطع المنافع". ولو كنت في موقع علي عثمان لرددت "البيعة المضروبة" على أهلها تمظهرا بالعدل ومفازة من الزور البائن، وأيضا لتعليم قواعده السلوك الديموقراطي إن كنتم تؤمنون بالديموقراطية كوسيلة لا بديل لها ولا محيد عنها لتداول السلطة وإن طال السفر. وفيم الانتخابات يا هؤلاء طالما أن فوز علي عثمان جازم لكل أفعالكم المضارعة ؟!.
هي إذن الشمولية التي لا تلد إلا شمولية ولا تربي جماعتها إلا على الشمولية. الله سبحانه وتعالى نهى الأنبياء والرسل عن الشمولية (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) سورة الغاشية، الآيتان 21، 22. وحدد الله مهمة الرسل والأنبياء على التبليغ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) سورة المائدة الآية 67. (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) سورة النور، الآية 54. لقد وردت كلمة "البلاغ" إحدى عشر مرة في القرآن الكريم، وكلها تقصر مهمة الرسل في البلاغ. فإذا قبلت الحركة الإسلامية بكتاب الله وقرآنه، فلا شمولية في الإسلام ولا سائر الرسالات السماوية. الله هو الديموقراطي الأعظم لأنه جل من قائل (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة، الآية 256. الله هو الديموقراطي الأعظم لأنه ترك للبشر، بعد الهداية بالرسل، حرية الكفر أو الإيمان (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) سورة الكهف، الآية 29. ولقد دمّر الله الشموليين من فراعين وأكاسرة لأنهم ينتهون بأنفسهم وبالناس إلى الفساد والإفساد واستخفاف أقوامهم وسوقهم إلى عبادة الفرد والوثن. فبأي مسوغ يا هؤلاء فرضتم شموليتكم وهي نقيض صريح لما أمر به الله ؟.
ثم نمضي حقبا في هذه البديهيات، ولتكن واحدة أخرى. فقد اصطففتم يا فئة الحركة الإسلامية تحت مسمى "الحركة الإسلامية". والاصطفاف على هذا النحو يقتضي بالضرورة وجود صف آخر مقابل لاصطفافكم هذا. إذ لا يستوي عقلا أن تصطفوا هكذا قبالة لا شيء. فهل اصطففتم في قبالة المجتمع السوداني كله ؟. فإن كان الأمر كذلك، من الذي اصطفاكم دون غيركم بصفة "الإسلامية" وأنتم الفئة الأقل عددا قياسا إلى السواد الغالب من المسلمين السودانيين ؟. وما حكمكم في باقي المسلمين من السودانيين خارج حركتكم ؟ هل ترونهم في عداد المسلمين ؟ فإن كنتم ترونهم كذلك من أين لكم هذا البرزخ الذي ميزتم به أنفسكم عن الكل المسلم ؟ وهل المسلم داخل حركتكم يختلف أو يتميز عن المسلم خارجها ؟. فإن أجبتم بنعم فأنتم وأيم الله جماعة باطنية تكفيرية تكفر سواد المسلمين وتستبيح حقوقهم وتسبي نساءهم. وإن قلتم كلنا مسلمون والمسلمون سواسية بطلت جماعتكم. ولكم ما اخترتم.
إن مضغ المساويك وإطالة اللحى والتمظهر بالصلاة في أوقاتها وقلوبكم منصرفة إلى المصارف وحسابات الأرصدة والصفقات.. والحج من تلك الأموال التي اقترفتموها، ليست من الدين في شيء. الدين براء منها ومن أهلها. هنالك حالة اسمها "التقمص الديني" تصيب بعض الناس من الأديان كافة، فمنهم من يظن أنه قديس ومنهم من يظن أنه رسالي ومنهم من ظن أنه وارث موسى وسليمان وداؤود عليهم السلام. والتقمص الديني هو حالة من خداع النفس وتصديقها!. وقد قدم القرآن الكريم تشخيصا علميا دقيقا لهذه الحالة في سورة البقرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة، الآيات من 8 إلى 13. لاحظ تكرار عبارات لا يشعرون ولا يعلمون في الآيات الكريمة كدليل على حالة اللاوعي والتقمص والغي. المصابون بالتقمص الديني يحسون بطمأنينة هائلة تجاه الله، وفي نفوسهم يقين شديد أن الله راض عن كل عمل يفعلونه. وفي الحالة الماثلة نجد أن لسان حال الحركة الإسلامية كأنما يقول للمولى عز وجل: لقد فعلنا كل ما تريد من فرض للشريعة وإقام الصلاة وإرسال الخلق إلى المساجد والصوم والعبادات كافة وبناء المساجد، ومن حقنا أن نفعل أيضا ما نريد لدنيانا. وبسبب حالة التقمص يحسون بهذه الطمأنينة العميقة تجاه الله ويفعلون فعلا ما يريدون كالأفاعيل التي ذكرنا فوق. ولو أن أحدهم فتح كتاب الله وهو مفتوح البصيرة لقرأ قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال، الآية 2. ولقرأ أيضا (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الحج، الآية 35. فالوجل من الله ومخافته هي العلاقة الطبيعية المتينة بين الإنسان وربه، لأن الخوف من الله يقلل خوف الإنسان من الإنسان. أما عند جماعتنا فقد انعكس هذا اليقين الأعمى في الاسترخاء الحالم على وسائد المليارات التي ذكرنا مصادرها والتلذذ بأطايب لحم الضأن ومداعبة الحلمات وجر السبح جوار المسابح في الحدائق الغناء.. كلوا من طيبات ما رزقناكم أوليس كله من فضل الله ؟!. ثم انعكس اليقين الأعمى إبان حرب الجنوب في روائح المسك التي تفوح من الجثث وصكوك الغفران وزيجات الحور العين. هكذا، بزعمهم، قال لهم الله، وإلا فمن أين لهم هذه المعرفة اليقينية والطمأنينة التي لا تعرف الوجل من الله إلا أن تكون حالة من حالات التقمص الديني ؟!. (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) سورة الأحقاف الآية 9. مطمئنون والرسول الكريم يقول لفاطمة الزهراء لا أملك لك يا فاطمة من الله شيئا..
حديثنا عن الاصطفاف سوف يدفع بقواعد وقيادات الحركة الإسلامية لترديد عبارة هي أيضا بديهية عندهم مردوا على ترديدها، وهي أنهم يصطفون في وجه العلمانيين. وفي الزمن السالف كانوا يقولون نصطف في وجه الشيوعيين. ذهب لينين وستالين حتى غورباتشوف، وجفا زبد الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث. وفجأة خرجت علينا الجماعات التي تسمي نفسها بالإسلامية بهذه النبتة الشيطانية التي اسمها العلمانية. إنها صناعة العدو من أجل السيطرة على المجتمعات. وصناعة العدو تجارة قديمة تتجسد في حاضرنا بعدو صنعته أميريكا اسمه الإرهاب الدولي. وباسم هذا العدو الوهمي ضربت أميريكا بنفسها برجي التجارة الدولية، ومن ثم خرجت لتطارد هذا العدو العنقاء في منابع النفط في العالم!. أسامة بن لادن وهم لا وجود له صنعته الأجهزة الأميريكية وروجت له الحكومات العربية. فمن أين لهذا الفأر المختبئ في جحور أفغانستان أن يقوم بمثل هذا العمل.. ؟ هذا إن كان على قيد الحياة ولا أظنه. يجب أن نخسر عقولنا أولا حتى نصدق هذه الفرية. وحتى مسمى "القاعدة" فهو صناعة أميريكية مائة بالمائة لأنه مستحلب من كلمة "كايد" في القاموس اللفظي الأميريكي حيث كانت تطلق على زعامات المافيا. فهي من كلمة كايد أو قائد وليست قاعدة.
الحركات الإسلامية خلقت وهم العلمانية وجعلت منه مطابقا للشيوعية (الكافرة الملحدة بنت الكلب!) بعد أن فقد وهم الشيوعية الصلاحية. وبذلك أصبح العلماني هو الكافر المناهض للدين!. والمؤسف أن من الناس من يقول أنه علماني، ومن الجماعات السياسية من يقول نحن علمانيون فقط لمجرد تمييز أنفسهم عن الحركات الإسلامية السياسية، وما درى هؤلاء أنهم وقعوا في الفخ المنصوب كما يقع الذباب في خيوط العناكب. والواقع أنه لا يوجد فكر محدد اسمه العلمانية مثلما ليس من المسموح به دينيا أن تسمي جماعة نفسها بالحركة الإسلامية وتحتكر الدين الإسلامي لنفسها دون سائر المسلمين. هنالك فرق عظيم بين أن يرفض الشعب (المسلم) حكما شموليا دكتاتوريا باسم الإسلام وبين رفض الدين ذاته. الشعب السوداني المسلم منه لم يرفض دينه الإسلام، بل رفض أن تتسلط عليه جماعة باسم الإسلام. السودانيون الذين يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون مسلمون صادقون فقراء يؤدون شعائر دينهم بأحسن ما يكون، لكن فات عليهم الزعم بالعلمانية لا يكبّر لهم كوما في الثقافة الاجتماعية السودانية، وهو ذات الخطأ الذي وقع فيه الشيوعيون في سالف الزمن عندما ظنوا أن المناداة بحقوق الطبقات الكادحة سوف يجعل لهم قاعدة عريضة كاسحة، وهو ما لم يحدث أولا بسبب الثقافة المتجذرة في أوساط الطبقات الكادحة نفسها، وثانيا لأن أحزاب الطوائف والعقائد استغلت مدلولات "شيوعي" أبشع استغلال ليس في نحر الحزب الشيوعي فحسب، بل في قمع الوعي الاجتماعي المتنامي آنذاك. والليلة نسخة عن البارحة. فالحركة الإسلامية في السودان تصف خصومها بأنهم "علمانيون كفرة يريدون إزالة الدين وإفساد البنات والأولاد والعباد" مع أنه لو نظر أحد هؤلاء أسفل منه أو حوله أو لمس جيبه لرأى فسادا منقطع النظير!. والمشكل الحقيقي أن قسمة علمانية إسلامية الوهمية قد ساهمت في حصر البدائل السياسية في السودان بين الحركة الإسلامية الحاكمة شموليا وبين الأحزاب الطائفية المشاركة والمتربصة. لذلك، ومن أجل انفتاح المستقبل السياسي للسودان، أتوجه بالنداء الحار إلى كل سوداني يقول أنه علماني أن يكف عن صف نفسه أو جماعته بالعلمانية. وإذا قيل لكم أنت علمانيون قولوا لا. أطرحوا برامج بديلة وقولوا نحن سودانيون وطنيون وكفى. عمق السياسة هو تفويت الفرص على الخصوم.
أيها الحركة الإسلامية، لقد دخلنا عليكم من باب البديهيات فخرجتم أنتم "كما خلقتني يا مولاي"!. ومع ذلك سوف أعترف لكم بجهلي الشديد لأنني لم أتمكن من الإجابة على سؤالين اثنين. السؤال الأول هو: هل الصين على المذهب المالكي أم الحنفي أم الحنبلي ؟ والسؤال الثاني هو: هل كلمة "شيوعي" في اسم الحزب الشيوعي الصيني مشتقة من كلمة شيعي ؟!. أفتونا هداكم الله فلا أحد يفتي في شريككم الاقتصادي الأول وأنتم في المدينة!
سالم أحمد سالم
باريس
18 أغسطس 2008
باريس
Salim.ahmed@nef.fr
الحركة الإسلامية السودانية عقدت مؤتمرها وانفض سامرها إلى حين مؤتمرها القادم إن كان لها أن تعقده. وقد تابعت ركاما كثيرا كتبته الأقلام المعبأة بحبر الحكومة (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة، الآية 79. هؤلاء كفانا الله مؤونة الحديث عنهم، فلا مزيد بعد كلام الله. ثم هنالك من حاول تفنيد النتائج التي انتهى عندها مؤتمر الجماعة مثل عدم تناول القضايا الملحة وفوز علي عثمان بالنمرة الكاملة، وإلى ذلك. على أن كل ما كتب قفز فوق البديهيات وتجاوزها، ولم يمر الكتبة على البديهيات حتى مرور الكرام!. لذلك سوف أقوم أنا بهذه المهمة، مهمة الكتابة عن البديهيات. أكتب عن البديهيات لأنني على يقين أن من البديهيات ما يفوق في الأهمية تلك الأمور العظام التي بحث الناس عنها في ما بعد أو وراء البديهيات. والبديهيات في تقديري الخاص ليست التفاصيل. فالرقم "واحد" بديهية والمليون والمليار تفاصيل للواحد. فكل عدد بعد الرقم "واحد" هو تراكم لهذا الواحد، أي تفاصيل له. بمعنى أننا إذا طفقنا نعد من واحد حتى نصل إلى العدد مليون نكون فعلا قد غرقنا في التفاصيل وأهدرنا الوقت. لذلك أجد الفرق عظيما بين البديهيات وبين التفاصيل. ولا أجزم أن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ كان يقصد هذا المعنى تحديدا عندما قال "إن مسيرة المليون ميل تبدأ بخطوة واحدة"، لكنه أدرك بالتأكيد أن تراكمات الخطوة الواحدة قد تصل إلى مليون ميل.. وصولا إلى ذلك المنتهى حيث يكون النجاح. ثم إن إسحق نيوتن قدم لنا الحقيقة العلمية لجاذبية الأرض لمجرد أنه توقف عند بديهية سقوط التفاحة من الشجرة إلى أسفل. سقوط التفاحة كان تلك البديهية التي تجاوزها الناس إلى جمع التفاح!
طبعا مؤتمر الحركة الإسلامية لم يسقط على الناس تفاحا لأنه لا توجد شجرة في الأساس، ولم يسقط المؤتمر على الناس بصلا, فقد دخل البصل من زمن بعيد في سوق الندرة وإن تكدس في مخازن بعض الذين شاركوا في المؤتمر. وبرغم ذلك لابد لي من أن أبدأ بالبديهيات، وأول البديهيات أن عدد المشاركين في المؤتمر بلع أو بلغ خمسة آلاف شخص. وطبعا هؤلاء الخمسة ألف ناموا في فنادق على سرر وثيرة، متقابلين أو متدابرين سيان، وأكلوا ما لذ وطاب وشربوا العصائر والكولا والشاي الذي هو على مزاجك والقهوة ذات النكهة.. إلى غير ذلك مما كان مزاجه كافورا أو جنزبيلا. ثم إن المؤتمر انعقد في قاعات كبيرة وثيرة مبردة ومضئية ومزودة بأنواع الخدمات بما فيها من بوفيات مفتوحة للمؤتمرين مغلقة أمام غيرهم، ومراحيض ومايكروفونات وتسجيلات، والعمال الذين يقومون على الخدمة أثناء وبعد الجلسات. من الذي دفع قيمة كل هذا الانفاق ؟.
وبما أنني أمسك بتلابيب هذه البديهيات، فسوف تجيبونني بصوت واحد: طبعا الحكومة هي التي دفعت. إذن سوف نستمر في تفكيك هذه الإجابة البديهية ونسأل جملة أسئلة لا تقل بديهية وسذاجة عن سؤالنا السابق: من أي مال دفعت الحكومة ؟ هل للحكومة مال خاص بها اسمه "مال الحكومة" أم أن الحكومة دفعت من الخزينة العامة التي تحت عهدتها، أم أنها دفعت من مصدر آخر ؟. .
إذا دفعت الحكومة التكلفة من الخزينة العامة فلا داعي لباقي الأسئلة.
أما إذا قالت الحكومة أنها دفعت من مالها الخاص، لابد أن نسألك يا حكومة من أين لك يا حكومة هذا المال؟!. أنت يا حكومة وعلى مدى عقدين من عمر هذا الشعب تأكلين وتشربين وتنفقين وتتجملين وتذبحين وتنحرين وتسهرين، هل ذلك من أموال جئت بها ليلة القبض على السلطة، أم أنك يا حكومة تنفقين من أموال تخص الخزينة العامة ؟.
أما إن قلت يا حكومة أنك تنفقين من أموال الخزينة العامة، فلا داعي لباقي الأسئلة.
أما إن زعمت يا حكومة أنها أموال اقترفتموها قبل ليلة القبض على السلطة، فلا نقول لك نعمّىا هي، بل نقول لك يا حكومة واحد من اثنين: إما أنك تكذبين، فالكل يعلم أنك يا حكومة جئت على ظهر دبابة. يوم كان طواف دباباتك حول "حرم" الحكم مكاء وتصدية. لم يكن في يدك كيسا من الدنانير تنثرينها على الناس ابتهاجا بمولود سلطانك الذي كان توءما سياميا قبل فصله في جراحة المفاصلة الرمضانية الشهيرة. فإن قلت يا حكومة أنك جئت بأموالك فسوف تكونين مثل ذلك الرجل الفقير الذي أصابه الغنى المباغت فأنساه المال نفسه حتى قال لجيرانه الذين يعرفونه أيام فقره أنه ورث المال عن أبيه عن جده عن أسلافه الأغنياء!. لذلك أوصيك يا حكومة أن لا تكذبي بهذه الصورة المفتشرة. سوف نساعدك ونفتح لك ثغرة تمرين بها بين الكذب وبين مال الخزينة العامة. ثغرة تشبه ثغرة الدفرسوار التي فتحها الجيش الإسرائيلي للجيش المصري!. قولي يا حكومة أن أغنياء الحركة الإسلامية (ومترفيها الذين أمرهم الله) ومصارفها وبيوتها المالية هم الذين مولوا الإنفاق على مؤتمر الحركة الإسلامية. بمثل هذا القول سوف يحالفك التوفيق وتكونين في مفازة من الكذب المفضوح، ولسوف نقنع أنك يا حكومة لم تمولي مؤتمر الحركة الإسلامية من أموال الخزينة العامة.
أما إن كذبت الحكومة، فلا داعي لباقي الأسئلة،
وأما أن قالت الحكومة أن مترفيها ومصارفها هم الذين مولوا المؤتمر، فإن هذه الإجابة تعيدنا بضع عقود إلى الوراء، إلى منتصف سبعينات القرن الماضي. في ذلك الأوان بدأ تنامي مصارف الحركة الإسلامية وبيوتها المالية وشركاتها القابضة. كلها قابضة لأنها قبضت على عنق الاقتصاد الشعبي وغرست أنيابها في وتينه، ثم مصّت محتوياته إلى أمعاء غليظة عميقة تهضم كل ما دخلها من زرع ورع وأطفال. اختفت الذرة ولبن الأطفال والحديد والخشب والأدوية والأمصال والبصل والفول والتمر والدخن واللحم السمين بدأ رحلة الهجرة مبرّدا أو على أربع وسائر المواد الغذائية التي يتقوتها المواطن العامل والموظف والتلميذ والأمهات حتى غرزن غير حبالى وتحولت ضروعهن إلى مضغة تعافها نفوس الأطفال فلاذوا بالصراخ حتى شبعوا موتا. (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة، الآية 74. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) القرة، الآيات 204 ،205 ،206.
إذن فقد ضربت الحركة الإسلامية بعصاها البلد فتحول كل ما ذكرنا إلى أربطة وكراتين وأرقام من العملات الحرة وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة والأسهم والسندات. ومن ذلك الزمن تهشمت هياكل الاقتصاد التقليدي وتحول الاقتصاد من حالة الإنتاج النامي إلى المضاربة. كل شيء يباع ويشترى، تسمع جعجة البيع والشراء لكن لا ترى بضاعة ولا إنتاجا. (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة، الآية 188. ومنذ ذلك الزمن ضربت الحركة الإسلامية بعصاها فانفلق الشعب إلى فئة قليلة تملك كل شيء وغالبية ساحقة مسحوقة معدمة. فقد تهشمت الطبقة الوسطى عماد النهضة بسبب الاحتكار والغلاء والتشريد، فتهاوت الطبقة الوسطى فتوسعت قاعدة الإملاق... حتى حصل السودان على "حالة من العدل في الفقر والمسغبة" لم يسبقه عليها شعب. وبعد ليلة القبض على السلطة جاءت التي اسمها "سياسة تحرير الاقتصاد" التي استعبدت الناس إلى يوم الناس هذا. أما ما تبقى بعد الحريق من هشيم وغصون ذابلة وسيقان جرداء، فقد نفشت فيها طفيليات الحركة الإسلامية. تلك إذن هي مصادر أموال ومليارات مترفي الحركة الإسلامية ومصارفها وبيوتها المالية التي مولت وأنفقت على مؤتمر الحركة الإسلامية الأخير. (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) سورة التوبة، آية 35. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا) النساء الآيات 37، 38.
فإذا مولت الحكومة مؤتمر الحركة الإسلامية من الخزينة العامة فهو مال الشعب، وهو مال للكافة وليس للخاصة. وإن تمول المؤتمر من أموال مترفي ومصارف الحركة الإسلامية فهي أموال منهوبة من دموع الأطفال والجوعى من الآباء والأمهات. أنى تولوا وجوهكم يدرككم حق الشعب. الظلم وأكل الحقوق تنزعان الدين نزعا. الإنفاق على المؤتمر من مال الشعب (الخزينة العامة) حرام وخيانة أمانة وسرقة ليس فيها تعزير. والإنفاق على المؤتمر من مال مترفي الحركة الإسلامية ومصارفها حرام في ظلل من حرام. ولن تناكفني الحكومة جهرا أن أكل الحرام هو السحت لا غير، وأن كل ما نما من سحت فهو إلى النار. أولم تسمعوا أيها المؤتمرون بحكاية الخليفة الراشد الذي تقيأ لمجرد الريبة في لقمة واحده ازدردها؟. أولم تسمعوا يا جماعة الحركة الإسلامية بحكاية الخليفة العادل عمر وهو يطلب السماح من المسلمين "كافة" بسبب دريهمات وصلته بغير علمه من بيت المال؟. لقد والله أكلتم سحتا وشربتم سحتا في مؤتمركم هذا. سحت لا مجال لتقيؤه، فقد خرج الطعام وبقي السحت (وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) المائدة الآية 62، فسارعوا إلى مغفرة من ربكم (وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) سورة البقرة، آية 48. أكل حقوق الغير ظلم والظلم معادل للشرك بالله (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان, الآية 13.
ها أنتم ترون أن سوقنا للبديهيات كاد يخرجكم عن الملّة وقد نزع عن مؤتمركم صفة "الإسلامية" نزعا بالحق، فأصبح "مؤتمر الحركة" فقط لا غير كغيركم من الحركات التي تعقد مؤتمراتها. وفوق ذلك ها أنتم مدينون للشعب السوداني بإيداع ما أنفقتموه على مؤتمركم. فإن كنتم تريدون إلصاق صفة "الإسلامية" إلى جماعتكم ومؤتمركم القادم، فإن أول خطوة لا محالة هي رد الحقوق إلى أهلها ورد المظالم إلى أهلها ورد السلطة إلى أهلها، ورد المطرود إلى عمله، ورد الحليب إلى الأطفال، والله لا يهدي القوم الظالمين. وليس من باب الصدف أن غالبية مترفي سودان اليوم هم من رهط الحركة الإسلامية.
أنتم الآن أمام مفاضلة بين أمرين: إما رد الحقوق والظلامات مقابل إلصاق صفة "الإسلامية" بجماعتكم ومؤتمركم والله يحكم فيكم بعد ذلك، أو أن تحتفظوا بما اقترفتموه من أموال وحقوق وسلطان كاعتراف قاطع بتخليكم عن صفة "الإسلامية" ولكم ما اخترتم. (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة الآية 24. لم يجمع الله في قلب امرئ بين الظلم وبين الإيمان الحق، أو بين الإيمان وبين ازدراد حقوق الناس وأكل السحت.
الزور قولا وفعلا من البديهيات المتداولة. فقد ورد في النص القرآني، الآية 72 من سورة الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)، ثم قوله تعالى في سورة الحج، الآية 30 (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). قد أصبح النهي عن فعل وقول الزور من المسلمات، الحديث الشريف (.. ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش حتى يدع قول الزور... الحديث الشريف). والحديث الشريف (.. الشرك بالله وعقوق الوالدين... ألا وشهادة الزور.. ألا وشهادة الزور. وظل يرددها، الرسول الكريم، حتى تمنينا أن سكت). وشهادة الزور هي قول مكذوب يخالف الحق والحقيقة لمنفعة من شهد شاهد الزور لمصلحته حتى يستملك هذا الأخير حقا لغيره. وقد ضربت لشهادة الزور السياسي مثالا بالاستفتاء على الدستور الذي فرضته الحكومة في تسعينات القرن الماضي قبل المفاصلة. قلت آنذاك أن الحكومة أرغمت الناس على ارتكاب معصية الزور بالتصويت لدستور لم يطلعوا على نصه. ذلك أن التصويت هو شهادة في الدنيا والآخرة، والتصويت بدون علم لا يعدو كونه شهادة زور.
وشهادة الزور قرينة بفعل الزور. وفعل الزور هو أن يقدم الشخص على فعل مكذوب من أجل تكسب حقوق غيره مع علمه أن ما فعله يناقض الحق. في سياق هذه البديهيات عن قول الزور وفعل الزور نقرأ تصويت أعضاء مؤتمر الحركة الإسلامية الذي أعطى علي عثمان طه النمرة الكاملة. نأخذ البيّنة على الحركة الإسلامية أولا من الأسلوب الذي جرت عليه انتخابات المؤتمر السابق، حيث كان التصويت برمي بطاقة المؤتمر في صندوق أحد المتنافسين... والعاقبة بالخواتم عندما يتم "جرد" الأصوات ومعرفة الأسماء، ومن بعد ذلك تجري عمليات "تجريد" من لم يضع بطاقته في الصندوق الصحيح من وجهة نظر الحكومة.. ففاز علي عثمان بالنمرة الكاملة، أو هكذا شهد أعضاء الحركة الإسلامية على أنفسهم وعلى أمينهم الذي ارتضوه وهم صاغرون تحت شعار "التصويت ولا التجريد"!!. السرّية هي الضامن الوحيد للإدلاء بما هو في الضمير، إذ لن يبلغ البشر هذه الدرجة النورانية من الشفافية بفعل الحق جهرا في مثل هذه المناسبات المحسومة سلفا. فالخوف دائما في الظاهر والعدل في الفعل قد تحجبه المنفعة أو الخوف أو الحياء أو المجاملة إلا من قاض عادل يحكم بين أفرقاء ولا يكون طرفا في الخصومة. لذلك فإن كل اقتراع علني لا يعدو كونه عملا معيبا في الأداء الديموقراطي والإيماني.
ثم نأخذ عليكم البيّنة في انتخاباتكم الأخيرة من اختلاف أهل السقيفة يوم تولية أبو بكر الصديق رضي الله عنه. لن يكون الناس على قلب رجل واحد أطهركم كان أم أفجركم. فالتفاوت سنة من سنن هذا الكون لضمان استمرار الحياة على قاعدة المنطق المقبول لعقولنا كبشر. فقد يتفق الأغلبية على أمر، لكن ذلك لا يمحق حق الأقلية وإن قبلت بالرأي الغالب. وقد اتفق أهل السقيفة لأن البديل كان الردة إلى الجاهلية والاحتكام للسيف فتذهب ريحهم بددا. واتفق أهل السقيفة لأن اختلافهم كان على أي الفئتين أحق، وكلا الفريقين كان على حق. ولأن خلافكم آنذاك يا جماعة الحركة الإسلامية كان خلافا على فردين أيهما يضمن المصالح، فقد رفعتم حينذاك شعار "التصويت ولا التجريد". أما لجهة انتخابات مؤتمركم الأخير فقد صوتم برفع الأصابع. كاذبون أنتم إذن لو قلتم أنكم كنتم على قلب رجل واحد، وبأنكم أفضل من أهل تلك السقيفة، مع أن الفرق بينهم وبينكم يبقى شاسعا. وحتى لو أجمعت أغلبيتكم على اختيار علي عثمان، هل كان يجرؤ أحدكم على عدم رفع إصبعه حتى لو من باب الامتناع عن التصويت ؟. إذن بينكم من رفع إصبعه بما يخالف ضميره خوفا على مصالحه، وهذا هو عمل الزور. إذن بينكم من يفعل الزور. إذن فعل الزور ينسحب على كل ما قمتم به، وكل عمل قائم على الزور فهو باطل في هذه الحياة الدنيا وله حسابه عند ربكم يوم لا ولي ولا علي ولا شفيع. لقد صوتم هذه المرة تحت شعار "رفع الأصابع ولا قطع المنافع". ولو كنت في موقع علي عثمان لرددت "البيعة المضروبة" على أهلها تمظهرا بالعدل ومفازة من الزور البائن، وأيضا لتعليم قواعده السلوك الديموقراطي إن كنتم تؤمنون بالديموقراطية كوسيلة لا بديل لها ولا محيد عنها لتداول السلطة وإن طال السفر. وفيم الانتخابات يا هؤلاء طالما أن فوز علي عثمان جازم لكل أفعالكم المضارعة ؟!.
هي إذن الشمولية التي لا تلد إلا شمولية ولا تربي جماعتها إلا على الشمولية. الله سبحانه وتعالى نهى الأنبياء والرسل عن الشمولية (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) سورة الغاشية، الآيتان 21، 22. وحدد الله مهمة الرسل والأنبياء على التبليغ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) سورة المائدة الآية 67. (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) سورة النور، الآية 54. لقد وردت كلمة "البلاغ" إحدى عشر مرة في القرآن الكريم، وكلها تقصر مهمة الرسل في البلاغ. فإذا قبلت الحركة الإسلامية بكتاب الله وقرآنه، فلا شمولية في الإسلام ولا سائر الرسالات السماوية. الله هو الديموقراطي الأعظم لأنه جل من قائل (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة، الآية 256. الله هو الديموقراطي الأعظم لأنه ترك للبشر، بعد الهداية بالرسل، حرية الكفر أو الإيمان (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) سورة الكهف، الآية 29. ولقد دمّر الله الشموليين من فراعين وأكاسرة لأنهم ينتهون بأنفسهم وبالناس إلى الفساد والإفساد واستخفاف أقوامهم وسوقهم إلى عبادة الفرد والوثن. فبأي مسوغ يا هؤلاء فرضتم شموليتكم وهي نقيض صريح لما أمر به الله ؟.
ثم نمضي حقبا في هذه البديهيات، ولتكن واحدة أخرى. فقد اصطففتم يا فئة الحركة الإسلامية تحت مسمى "الحركة الإسلامية". والاصطفاف على هذا النحو يقتضي بالضرورة وجود صف آخر مقابل لاصطفافكم هذا. إذ لا يستوي عقلا أن تصطفوا هكذا قبالة لا شيء. فهل اصطففتم في قبالة المجتمع السوداني كله ؟. فإن كان الأمر كذلك، من الذي اصطفاكم دون غيركم بصفة "الإسلامية" وأنتم الفئة الأقل عددا قياسا إلى السواد الغالب من المسلمين السودانيين ؟. وما حكمكم في باقي المسلمين من السودانيين خارج حركتكم ؟ هل ترونهم في عداد المسلمين ؟ فإن كنتم ترونهم كذلك من أين لكم هذا البرزخ الذي ميزتم به أنفسكم عن الكل المسلم ؟ وهل المسلم داخل حركتكم يختلف أو يتميز عن المسلم خارجها ؟. فإن أجبتم بنعم فأنتم وأيم الله جماعة باطنية تكفيرية تكفر سواد المسلمين وتستبيح حقوقهم وتسبي نساءهم. وإن قلتم كلنا مسلمون والمسلمون سواسية بطلت جماعتكم. ولكم ما اخترتم.
إن مضغ المساويك وإطالة اللحى والتمظهر بالصلاة في أوقاتها وقلوبكم منصرفة إلى المصارف وحسابات الأرصدة والصفقات.. والحج من تلك الأموال التي اقترفتموها، ليست من الدين في شيء. الدين براء منها ومن أهلها. هنالك حالة اسمها "التقمص الديني" تصيب بعض الناس من الأديان كافة، فمنهم من يظن أنه قديس ومنهم من يظن أنه رسالي ومنهم من ظن أنه وارث موسى وسليمان وداؤود عليهم السلام. والتقمص الديني هو حالة من خداع النفس وتصديقها!. وقد قدم القرآن الكريم تشخيصا علميا دقيقا لهذه الحالة في سورة البقرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة، الآيات من 8 إلى 13. لاحظ تكرار عبارات لا يشعرون ولا يعلمون في الآيات الكريمة كدليل على حالة اللاوعي والتقمص والغي. المصابون بالتقمص الديني يحسون بطمأنينة هائلة تجاه الله، وفي نفوسهم يقين شديد أن الله راض عن كل عمل يفعلونه. وفي الحالة الماثلة نجد أن لسان حال الحركة الإسلامية كأنما يقول للمولى عز وجل: لقد فعلنا كل ما تريد من فرض للشريعة وإقام الصلاة وإرسال الخلق إلى المساجد والصوم والعبادات كافة وبناء المساجد، ومن حقنا أن نفعل أيضا ما نريد لدنيانا. وبسبب حالة التقمص يحسون بهذه الطمأنينة العميقة تجاه الله ويفعلون فعلا ما يريدون كالأفاعيل التي ذكرنا فوق. ولو أن أحدهم فتح كتاب الله وهو مفتوح البصيرة لقرأ قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال، الآية 2. ولقرأ أيضا (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الحج، الآية 35. فالوجل من الله ومخافته هي العلاقة الطبيعية المتينة بين الإنسان وربه، لأن الخوف من الله يقلل خوف الإنسان من الإنسان. أما عند جماعتنا فقد انعكس هذا اليقين الأعمى في الاسترخاء الحالم على وسائد المليارات التي ذكرنا مصادرها والتلذذ بأطايب لحم الضأن ومداعبة الحلمات وجر السبح جوار المسابح في الحدائق الغناء.. كلوا من طيبات ما رزقناكم أوليس كله من فضل الله ؟!. ثم انعكس اليقين الأعمى إبان حرب الجنوب في روائح المسك التي تفوح من الجثث وصكوك الغفران وزيجات الحور العين. هكذا، بزعمهم، قال لهم الله، وإلا فمن أين لهم هذه المعرفة اليقينية والطمأنينة التي لا تعرف الوجل من الله إلا أن تكون حالة من حالات التقمص الديني ؟!. (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) سورة الأحقاف الآية 9. مطمئنون والرسول الكريم يقول لفاطمة الزهراء لا أملك لك يا فاطمة من الله شيئا..
حديثنا عن الاصطفاف سوف يدفع بقواعد وقيادات الحركة الإسلامية لترديد عبارة هي أيضا بديهية عندهم مردوا على ترديدها، وهي أنهم يصطفون في وجه العلمانيين. وفي الزمن السالف كانوا يقولون نصطف في وجه الشيوعيين. ذهب لينين وستالين حتى غورباتشوف، وجفا زبد الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث. وفجأة خرجت علينا الجماعات التي تسمي نفسها بالإسلامية بهذه النبتة الشيطانية التي اسمها العلمانية. إنها صناعة العدو من أجل السيطرة على المجتمعات. وصناعة العدو تجارة قديمة تتجسد في حاضرنا بعدو صنعته أميريكا اسمه الإرهاب الدولي. وباسم هذا العدو الوهمي ضربت أميريكا بنفسها برجي التجارة الدولية، ومن ثم خرجت لتطارد هذا العدو العنقاء في منابع النفط في العالم!. أسامة بن لادن وهم لا وجود له صنعته الأجهزة الأميريكية وروجت له الحكومات العربية. فمن أين لهذا الفأر المختبئ في جحور أفغانستان أن يقوم بمثل هذا العمل.. ؟ هذا إن كان على قيد الحياة ولا أظنه. يجب أن نخسر عقولنا أولا حتى نصدق هذه الفرية. وحتى مسمى "القاعدة" فهو صناعة أميريكية مائة بالمائة لأنه مستحلب من كلمة "كايد" في القاموس اللفظي الأميريكي حيث كانت تطلق على زعامات المافيا. فهي من كلمة كايد أو قائد وليست قاعدة.
الحركات الإسلامية خلقت وهم العلمانية وجعلت منه مطابقا للشيوعية (الكافرة الملحدة بنت الكلب!) بعد أن فقد وهم الشيوعية الصلاحية. وبذلك أصبح العلماني هو الكافر المناهض للدين!. والمؤسف أن من الناس من يقول أنه علماني، ومن الجماعات السياسية من يقول نحن علمانيون فقط لمجرد تمييز أنفسهم عن الحركات الإسلامية السياسية، وما درى هؤلاء أنهم وقعوا في الفخ المنصوب كما يقع الذباب في خيوط العناكب. والواقع أنه لا يوجد فكر محدد اسمه العلمانية مثلما ليس من المسموح به دينيا أن تسمي جماعة نفسها بالحركة الإسلامية وتحتكر الدين الإسلامي لنفسها دون سائر المسلمين. هنالك فرق عظيم بين أن يرفض الشعب (المسلم) حكما شموليا دكتاتوريا باسم الإسلام وبين رفض الدين ذاته. الشعب السوداني المسلم منه لم يرفض دينه الإسلام، بل رفض أن تتسلط عليه جماعة باسم الإسلام. السودانيون الذين يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون مسلمون صادقون فقراء يؤدون شعائر دينهم بأحسن ما يكون، لكن فات عليهم الزعم بالعلمانية لا يكبّر لهم كوما في الثقافة الاجتماعية السودانية، وهو ذات الخطأ الذي وقع فيه الشيوعيون في سالف الزمن عندما ظنوا أن المناداة بحقوق الطبقات الكادحة سوف يجعل لهم قاعدة عريضة كاسحة، وهو ما لم يحدث أولا بسبب الثقافة المتجذرة في أوساط الطبقات الكادحة نفسها، وثانيا لأن أحزاب الطوائف والعقائد استغلت مدلولات "شيوعي" أبشع استغلال ليس في نحر الحزب الشيوعي فحسب، بل في قمع الوعي الاجتماعي المتنامي آنذاك. والليلة نسخة عن البارحة. فالحركة الإسلامية في السودان تصف خصومها بأنهم "علمانيون كفرة يريدون إزالة الدين وإفساد البنات والأولاد والعباد" مع أنه لو نظر أحد هؤلاء أسفل منه أو حوله أو لمس جيبه لرأى فسادا منقطع النظير!. والمشكل الحقيقي أن قسمة علمانية إسلامية الوهمية قد ساهمت في حصر البدائل السياسية في السودان بين الحركة الإسلامية الحاكمة شموليا وبين الأحزاب الطائفية المشاركة والمتربصة. لذلك، ومن أجل انفتاح المستقبل السياسي للسودان، أتوجه بالنداء الحار إلى كل سوداني يقول أنه علماني أن يكف عن صف نفسه أو جماعته بالعلمانية. وإذا قيل لكم أنت علمانيون قولوا لا. أطرحوا برامج بديلة وقولوا نحن سودانيون وطنيون وكفى. عمق السياسة هو تفويت الفرص على الخصوم.
أيها الحركة الإسلامية، لقد دخلنا عليكم من باب البديهيات فخرجتم أنتم "كما خلقتني يا مولاي"!. ومع ذلك سوف أعترف لكم بجهلي الشديد لأنني لم أتمكن من الإجابة على سؤالين اثنين. السؤال الأول هو: هل الصين على المذهب المالكي أم الحنفي أم الحنبلي ؟ والسؤال الثاني هو: هل كلمة "شيوعي" في اسم الحزب الشيوعي الصيني مشتقة من كلمة شيعي ؟!. أفتونا هداكم الله فلا أحد يفتي في شريككم الاقتصادي الأول وأنتم في المدينة!
سالم أحمد سالم
باريس
18 أغسطس 2008