البعنيب والرخم في ميزان الفضيلة والكرم .. بقلم: صلاح حامد هباش

 


 

 

salahhabash@hotmail.com
1-3
مدخل:
يقول الشاعر حسونة في مدح العمدة ود كنيش:
الرجال بُـتَّــاب وإنت عيش   الرجال ساكت غزار ديــش
القمر طلع النجم في ايـــش    والصقر ركَّ والرخم في ايـش
ويقول ود الفراش:
بعد بعنيب بقت رخمة بتجيكن
والبعنيب هو ذات صقر الشاعر  حسونة.
***
مع الفضيلة:
 الإنسان الغني في نفسه والذي تشبعت نفسه بالمرؤة وإمتلأت روحه بالحب والتسامح تفيض فضائله لتروي ما حوله براً ولطفاً ورحمةً فيسجد حينئذٍ شاكراً لنعم الله المتزايدة وآلائه المتنامية التي مكنته من الأخذ بتلابيب المشاكل والعوائق التي تحاصر مجتمعه الصغير فيأخذ في حلها بسخاء القادر ووعي العارف ولذلك تنبعث في أرجاء نفسة همة وحيوية ونشاط فيندفع ويتحمس ويمضي قدما في إرضاء نفسه وإشباع رغباته بمد المزيد من الأيادي لأهل الحاجة.. ولذلك تجده ساكن النفس مرتاح البال ومطمئن القلب
ونأخذ هنا ومن خلال أغاني التراث بعض النماذج التي تتجسد فيها معاني الفضل والفضيلة.
يقول الشاعر أبو شوارب في مدحه لإبراهيم بك أبو سن:
آخِـرتو إمتثالْ صاحبي البتمم كيفي
إبراهيم ثبات عقلي ودرقتي سيفي
سترة حالي في نساي وجناي وضيفي
مطمورة غلاي مونة خريفي وصيفي
لقد جمع الممدوح من سماحة الشمائل وكرم الصفات وسخاء العطاء الكثير وهذه فضائل فطرية خُلق بها وجبل عليها.. إمتزجت بتكوينه الأول وتفاعلت مع روحه ونفسه..فأصبح بذلك في حالة من العطاء المتصل والمتواصل الغير منقطع.. تألف قربه وتنيخ رواحل وزوامل همومك عند ساحته الرحبة مطمئناً.. وهذه النماذج العظيمة من كرام الناس هم الذين يحفظون التوازن في حياة الناس والمجتمعات فيكونون بمثابة الشِّعب والركائز التي تقوم عليها الصروح.. والأعمدة التي يشيد عليها  البنيان الإنساني ويشمخ فوقها شرف وكبرياء الأمة... وقد وردت ذات الألفاظ صراحة في الشعر الشعبي ومن ذلك
 قول العبادي:
سلام يا مك ديارنا ومرتع الآمال        شعبة الكون وركازة الزمان إن مال
ومنها أيضا أغنية الأمين البنَّا:
إِت مركز الدائرة وجبارة الحيل
إت شمس الضحى وفوقك غناي بـ خِيـْل
 ومنها أيضاً لسعد الدين إبراهيم:
أبوي شعبتنا قطر آمالنا ضو البيت
ضراعه الخضراء ساريتنا بنقيل في ضليلها نبيت
ولعل الأدب الشعبي في طول وعرض البلاد وعلى إمتداد الوطن يذخر ويحفل بالكلام الجميل المُسْكِر في وصف الفضل وأهله والفضائل وأصحابها مما يجعلهم من الخالدين في أفئدة الناس وذاكرة التاريخ تميزهم الإيجابية المطلقة في تفاعلهم مع زخم الحياة من حولهم.. ولعلها أي هذه الإيجابية المندفعة والتي تصل في كثير من الأحيان إلى درجة التهور.. لا يخصون بها فئة دون الأخرى فتكون بذلك قصراً على هذه الطبقة أو براً لتلك الفئة دون سواها بل أنَّها منهجهم في الحياة وطبعهم الذي فُطِروا عليه فهو سلوك واحد لا ريـاء فيه ووجه طلق يتلقاك به هاشاً باشاً على الدوام.. ولعل ذلك المنحى الكريم يتوافر وبغزارة زائدة ورائدة لدى شيوخ الطرق الصوفية وفي ذلك إتفاق عام حيث أنه لم يكن يوما مكان جدل بين الناس فهم يأتون في رأس قائمة النفوس الصافية والتي هي أقرب للكمال منه إلى النقص كما تقول بذلك أدبيات مدارس المتصوفة...  ويمكن أن نكتفي بقليل من النماذج لكي تعطينا صورة مصغرة...
يقول المادح:
عشرة آلاف ماشة طاحونة     عشرة آلاف قاعدة للمونة
قد لا يقصد الشاعر في هذه الحالة هذا الرقم المحدد بالعشرة ألف نسمة وإنما يكون المراد هو ضخامة الأعداد التي تتوافد على ذلك المسيد ولفظ طاحونة تعني تواصل وإستمرارية تلك السيول البشرية في التدفق ولكل منهم مشكلة تخصه وموضوع يهمه يختلف في الحجم والمضمون عن مواضيع الآخرين... ويأتي إلى هنا بكل ثقة وإطمئنان... يأتي إلى من عودّ الناس إحساناً ومكرمةً
يقول المادح ود مصطفى في مدح شيخه:
ينفق يمينه وينفق شمالا   أب وجها طليق قط ما قال لا لا
الكفه طالا...
هذا البيت يشبه إلى حد كبير بيت المتنبي القائل:
ما قال لا إلا في تشهده        ولولا التشهد لكانت لاؤه نعم
والإنفاق عند الشيوخ تتعدد صوره وضروبه.. فقد شيدوا المؤسسات التعليمية بمراحلها المختلفة والتي تكتظ بطلاب العلم والمدارس القرآنية والتي تطورت فيها أساليب التدريس ثم المرضى وذويهم من المرافقين لهم.. فضلا عن الزوار الذين تضيق بهم الساحات والميادين وتعج بهم بيوت الضيافة والدواوين لا سيما في المناسبات الدينية السنوية وقد أنشأوا لذلك الأفران والطواحين التي تواصل العمل ليلا ونهارا لتوفير القِـرى......
هذا على مستوى أهل المساجد وأئمة الصلاح  قدَّس الله أسرارهم.. ومن أخذ منهم من تلاميذهم وحيرانهم..
يقول المقدم الشاعر رضوان رحمه الله واصفاً لذلك الحال:
الناس من الشروق والغروب قاصدانا
تعال شوف العربات والكوامر والفيافي ملانة..
 يتلو ذلك الخيِّرين من الرأسمالية الوطنية والأجنبية والزعامات القبلية من الذين نذروا حياتهم لأعمال الخير فأشعلوها ثورةً هيجاء في كافة المرافق.. فحملت أسماؤهم المستشفيات ودور العلم.. وساهموا بقدر طاقتهم في مشاريع تنمية الفرد والمنطقة فمنهم الزاهد والعابد.. من أهل التقوى والورع الذين لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى.. ومنهم المرائي.. الذي يعشق الفـشر والبوبار وفي كل الأحوال إنما الأعمال بالنيات ولكل إمريء ما نوى.. فكلها تصب في حوض واحد هو حوض الفضيلة.. ولهذا السبب إستحقوا المدح فتدفقت الألسن شعراً يمجد فضلهم ويحكي مناقبهم ويرثي فيهم الشموع والمشاعل.. الشيء الذي ترصده كتب التاريخ وتوثقه لتتعلم منه الأجيال مناهج التربية والفضيلة...
والمتأمل لمجتمع أهل السودان من خلال التراحم والتوادد الذي يطغى على حياتهم.. يجد الكم الهائل من الفضائل والفواضل وكريم السجايا التي تكسو وجه الحياة وتغطي شتى مناحيها ولعل معظمها قد ارتبط بالبذل والعطية لذوي القربى واليتامى والمساكين وغريب الديار والغارمين وبن السبيل والذي هو فريضة من الله... ولذلك جاءت نسبة كبيرة من الأدب الشعبي المتمثل في الأغاني تمدح وتمجد هذا المنحى المادي
 وعلى هذا المنوال نجد أنَّ هنالك معنى واحد يتكرر ويعاود التكرار بمفردات مختلفة حتى يكاد يشمل ويغطي معظم الأغاني.. مثل كلمات الحمل والحمول.. ولعلها تعني مجمل المشاكل التي تكتنف حياة الناس وتقتضي في الكثير من أحوالها صرف المال فهي إذاً تحمل الأعباء وتقدير المسئوليات.. بل مجابهة مشاكل الحياة والتصدي لها.. ولذلك تأخذ الأولوية في حياة الناس...
ومن ذلك نأخذ النماذج التالية:
الفنان: عوض الحسين:
للحمول شايل عاجبني     الهمام البعدل المايل
 ...  الفنان: حسين شندي
اللا كلَّ ملْ لا قال إنحمل... أريد ولدي
ياود العَشا وياقمر العِشا... أريد ولدي
ياود العقَاب خيرك في الرقاب أريد ولدي
والحمول كانت ولا تزال هي الهم الأكبر والمعضلة الأولى لكل بني الإنسان.. ولذلك يصبح الشخص الذي يتولى هذا الأمر هو القمر والضو والقنديل وود العقاب وغيرها من الصفات والنعوت( مرواد عماي شوفي وعيوني)
والمعنى السابق أيضاً يرِد بألفاظ أخرى:
الشاعرة: مكة محمد سعد
توريقك في الضيق بِيْعيِطْ     يا الميبر ال للفتوق يخيط
 فالتوريق هو عمود أفقي في الساقية يحدث صوتاً يشبه صوت الأنين.. أمَّا الميبر فهو إبرة متوسطة الحجم تستخدم لتنجيد المراتب وأستعارت الشاعرة هذا المعنى لتصف به والدها فهو كالإبرة التي ترتق الخروق والفتوق في الثياب والأسمال البالية لكي ينستر ويتدثر بها أصحابها والمراد هنا سد الفجوات وردم الثغور ماليا وإجتماعيا..  
 ثم تتوالى ذات المعاني لتصطحب معها معاني أخرى مرتبطة بها إرتباطا وثيقا لا تنفصم عراه وهي صفات الشجاعة والبأس.. حتى تصبح صفات الجبن والبخل من الصفات المستحيلة في حق الكرام لأنها تتجافى وتتنافر مع البذل والسخاء...  
بلاص/ ودالبادية
في شكرك بجُره غناي                 يحيِّـر نمة الدوبيت
يا التلب اللزوم في الشيلة             يا ركزة عماد البيت
معروف بالثبات في العصرة          ماك ولداً تجيب الزيت
تعرف لقلوب أعداكَ                   شقيش ما لفحت رميت
 التلب هو الجمل الذي اكتمل نموه وبلغ الأربع سنوات واللزوم كناية عن الصبر وقوة الإحتمال للأحمال الثقيلة وقد تلازمت صفة الكرم والتي تتمثل في عبارة ركزة عماد البيت مع صفة الشجاعة
للجمل أسماء كثيرة تشير مثلا إلى سنه فمنها الجضع ( الجدع) والتني والرباع والسديس: يقول المادح: (فوق سديس   لزيارة السيد يا جليس)
  ومن أسمائه أيضا الكلس:
الفنان: عوض الحسين
(لاك سديس ولاك رباع       كلس يا أب نايباً ضراع)
 وكذلك نجد ضرب آخر من الصفات الجميلة والنبيلة تعكس الأدب وحسن الخلق في التعامل وفي ذلك يقول قيقم في وصف الأرباب مختار ود رحمة:
إنْ أدَّ ما بيقول أدّيت          وما إتفشر بقول سوّيت
يا القنديل سراج البيت       حمد الله بسلامتك جيت
وهذا يضيف على كل ما تقدم أدب التعامل بعدم مساس كرامة الآخرين وهو من صلب الدين وجوهر العقيدة.. ( والذين لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى) وهذه سماحة متناهية.. تعكس أصالة المعدن ونفاسة الجوهر ولذلك نراها تنعكس في السلوك الحضاري الراقي... 
ومن كل ما سبق نجد أنّ صفات القنديل والسراج والمصباح ترتبط بالانفاق لا سيما إذا قدم أحدهم من السفر فينوِّر قدومه الدار وتُضاء المصابيح وتدب الحركة في المنزل فيشهد نشاطا وحيوية أكثر من ذي قبل فتُذكر المناقب وتلهج الألسن بالثناء ويدعون له في غيابه وحضوره  
وتظل ذكراه عطرة وندية لما كان يحمل من صفات كريمة جعلته أهلاً للمدح كما ورد في الأبيات التالية:
إبراهيم بخيت ولداً نفايله كتار
للصاحب ودود حافظ حقوق الجار
النفايل تعني مطلق الصفات الحميدة... والممدوح هنا تعددت صفاته الكريمة فهو يتصف بسماحة النفس وكرم الشمائل ونبل الأخلاق فكان ودوداً في تعامله مهذباً في لسانه وألفاظه باسماً بشوشاً في استقباله للكبار والصغار وللأغنياء والمعدمين فهم سواء في منهجه... وكل ذلك يندرج تحت باب حسن الخلق ولعله يتماشى ويتوافق مع الحديث " أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً"
والبشاشة في الاستقبال تعتبر أهم عنصر في أدبيات الضيافة عند أهل السودان ومن ذلك جاء المثل المعروف (بليلة مباشر ولا ضبيحة مكاشر) وهي أيضاً على درجات وأعلى درجاتها الهوشة وذلك يتمثل في قول العبادي في حديثه عن أهل البطانة:
توقد ناره ده المابـ يكوس الجمرة
للضيفان يهوش سكينه دايماً حمره
ومنها أغنية علي إبراهيم اللحو في رثاء الشاعر محمد عوض الكريم القرشي بالأبيض:
يفرح بينا يمرق برَّه يوم جيتنا
ولعلنا نلحظ ونرى أنه وفي حالات كثيرة يصف الشاعر إتساع دائرة الإحسان وشمول المعروف لمساحات واسعة... فلا يجد في المفردات ما يسع ذلك المعنى ويستوعب تلك الحاتمية غير المطر والسحاب والخريف ولعل ما يلي من أغاني تتفق من حيث المعنى والمضمون
العبادي:
قَـدُرْ ما أقول فيك شكر ألقاهو فيك قِـلَيـِّلْ
وكفك يخجل العينة السحابة منيِّـلْ
العِينة هي منزل من منازل فصل الخريف فالشاعر يستخدم في احيان كثيرة ألفاظ ومفردات مختلفة للتعبير عن ذات المعني فتكون عميقة في دلالتها على المعنى المقصود وتعطي صورا مجسمة مكتنزة بالمعاني محشوة بالألفاظ التي تضعك في قلب الحدث ولعلنا نرى ذلك اكثر وضوحاً في ما يلي من كلمات:
الأمين البنا:
أمبارح صِحيت بعد المساهر نام
بعيني بشوف برق الكرم قدام
سايق الخير كتير هاطل سحاب وغمام
بسند في الضِعاف ويربي في الأيتام
كم حليت كُرب وفرجّت أمراً هام
والبرق هنا بمثابة الحادي الذي يحدو القوافل في سيرها وهذا المعني يأتي من كلمة سايق.. والإنسان في مناطق القطاع التقليدي ترتبط حياته إرتباطاً وثيقاً بالعبادي وهو إسم البرق الذي يأتي من الركن الشمالي الشرقي... وتأتي معه السحب السوداء الداكنة... فعندما يرى هذا البرق ترتفع معنوياته وتتملكه أحاسيس الفرج القريب المترع بالرخاء والسخاء.. وهكذا نجد أن الشاعر خلع على ممدوحه هذه الصورة الجميلة الثملة بالدعاش والمليئة بالندى بل والمثقلة بالعطايا.
سيد خليفة/ كابلي
الدود يا عيال مطر الخلاء الهرَّاج
الدود يا عيال كم درّج المحتاج
الدود يا عيال فتح الدرب مدهاج
الدود قرقر
الدود ياعيال فوق صدره ليه زنود
الدود يا عيال بنتر بقول أنا دود
كلمة درَّج ودرَّاج والتدريج في عمومه يعطي إحساساً جوانياً بالتمرحل في سلالم الحياة.. وتعني طول المدة التي يستغرقها هذا الفعل لكي يُنجز ولذلك يدخل فيها ضمنيا طول البال والصبر وقوة التحمل..
أخذتُ هذا العنوان من ديوان ود الفراش شاعر بربر في رباعيته التي تقول:
بعد بعنيب بقت رخمة بتجيكن
والبعنيب كلمة بيجاوية الأصل تعني العُقاب وكنيته أبو الهيثم وهو اكبر الصقور حجماً وأكثرها شراسة.. أما طير الرخم فهو بعكس ذلك تمام
الجزء الأول من ثلاثة أجزاء
ونواصل....

 

آراء