مريود شعبه وأمته … بقلم: محمد المكي إبراهيم
18 February, 2009
ibrahimelmekki@hotmail.com
"الريد" تصريف سوداني لللفظة "يريد " التي تفيد في أصلها القاموسي الرغبة في شيء أو شخص أو الحاجة إليه وطلب قربه أو حيازته بشكل من الإشكال. ولكن الاشتقاق السوداني ينصرف إلى معنى آخر هو معنى الود والمحبة فإذا قلت عن الطفل انك تريده أو عن الفتاة انك تريدها فانك تعبر عن محبتك لكليهما ولا تقصد انك تريد أن يكون ذلك الطفل ابنك أو تلك الفتاة بنتك أو حبيبتك. وفي الأدب الشعبي القديم احتلت الريدة ( ورديفتها "الغي" ) محل ما نسميه الآن بالحب أو الغرام أو الهيام ولكن ظهور مفردة "الحب" ومشتقاتها في أدب التخاطب الحديث قلل من استخدامات الريد فأصبح قاصرا على العلاقات داخل العائلة وعلى العلاقات مع الأشياء وعلى إحساس الود نحو أناس مبجلين . فالريدة تعبير جائز للإعراب عن عاطفتنا نحو أطفال العائلة وقراباتها وفي زماننا هذا لا يقول العاشق لحبيبته "بريدك" إلا على سبيل الهزل والدعابة وإنما يقول لها بطريقة السينما "أحبك".ويبدو أننا أصبحنا أكثر تفطنا إلى محمولات الكلمة التي تعبر عن الرغبة في الحيازة، وتفاديا لسوء الفهم انحصرت استخدامات الكلمة في شبكة أضيق من العلاقات ولم تعد مستخدمة في وصف الولع والهيام.
التقط أديبنا الأكبر-الطيب صالح- تلك المفردة وأطلقها اسما لبطله ومن ثم عنوانا لروايته فكأنه أعطاها حياة جديدة إذ سرعان ما أصبحت اسما للمحلات والبقالات واللواري والشاحنات كما أصبحت اسما معتمدا لمجلة أطفال ترأس تحريرها واحدة من ألمع الأقلام النسائية في بلادنا( بخيتة أمين) . وليس بين الأدباء السودانيين من يقترب من ذلك النجاح الداوي سوى التجاني يوسف بشير ومحمد عبد الحي وذلك أن اسم "إشراقه" الذي اختاره التجاني عنوانا لديوانه أصبح علما على كل أنواع المحلات والحافلات كما صار اسما نسائيا عريقا بلغ من عراقته أن بعض حاملاته أصبحن في عداد الحبوبات. ومن جهة أخرى حققت نجاحا مماثلا تسمية الشاعر محمد عبد الحي لإحدى قصائده باسم "السمندل يغني" فقد سمي على السمندل الكثير من محلات الموضة وشركات النقل والترحيل. وفي حين أتت تلك التسميات من قواميس العربية وكتبها القديمة جاءت "مريود" من صميم اللهجة السودانية الدارجة وسياقاتها المعهودة .والواقع إن في ذلك نوعا من الفأل فأديبنا الطيب صالح هو نفسه من أجدر الناس بالريدة وصفة المريود فقد انحازت إليه قلوب السودانيين (إنسا وجنا وشعبا وحكومة) وقلوب العرب العاربة وغير العاربة وقلوب الكثير من أبناء آدميتنا الخواجات. وفي كل تلك الفصائل تأخذ ريدة الطيب صالح شكلا متقدما من أشكال التعصب والتفضيل على المتقدمين والمتأخرين ففي إحدى جامعات نيويورك اكتشفت عظمة الطيب صالح أستاذة للأدب الأفريقي هي كونستانس بيركلي وهي آية من آيات اللطف والرقة ولا زالت تلهج بذكر الطيب حتى ذهبت إلى التقاعد وبدت عليها بعض سمات التقدم في العمر ومنها التكرار والإعادة ولاشك أنها سعيدة بتكرار اسمه الميمون فهي سيدة أمريكية افريقية الأصل ويسعدها أن يكون من بني قارتها الأم من هو في مثل عبقرية الطيب وتفوقه الفكري . ثم هنالك البروفسور قودوين الذي روى حكايته صديق الطيب الأستاذ الفاتح إبراهيم فقد أسبغ الرجل على الطيب من الأوصاف ما ظل يضن به بعض مواطنيه وبني جلدته.
يتميز الطيب صالح بتواضع طبيعي جذب إليه القلوب وليس ذلك تواضع الرجل محدود المعرفة الذي لا يحسن الخروج من مجالات الأدب إلى مجالات العلم والتفكير المنطقي الدقيق فواقع الحال أن له نظرات في السياسة والاجتماع حيرت بدقتها أفهام المتخصصين .وفي "أصيلة" التي شهدتها معه تحدث في جلسة عن أزمات العالم العربي فاتني حضورها للأسف ولكنني صحبته عقيب تلك الجلسة في جولة على المدينة وكان الناس يستوقفونه أينما مضى ليأخذوا صورة له أو صورة معه ويشيدون بما قاله بالأمس حتى ارتفعت حرارة فضولي فسألته :ماذا قلت في ليلة الأمس وأي كلام بهرت به كل هذه الأسماع فكان رده الساخر
- كلام أيه ... دا كلام ترابلة ساي.
ولا عجب أن يتحدث الطيب بدقة علمية فهو نفسه من دارسي العلم وقد بدأ حياته الدراسية بكلية العلوم بجامعة الخرطوم حتى أدركته "حرفة الأدب" فأحسن فيها وتقدم على كل متقدم.
وفي نفس تلك المناسبة في نفس تلك المدينة كان السامر ينعقد ولا ينفض إلا في الهزيع الأخير وكانت حلقة الطيب صالح هي دائما الأكثر حضورا وقاصدا وذلك رغم أن الطيب لم يكن يحتكر فرص الحديث وإنما يتيحها لسواه أدبا منه وتواضعا. وفي مثل تلك المجالس لا يأبه النادل لأحد غيره ولو كان ممن يرتدون العقال دليلا على الوفرة والنعمة فيتقدم إلى الطيب دون غيره بفاتورة المشروبات – ليس مشروباته الشخصية وإنما مشروبات الحلقة من مبتداها إلى منتهاها. واترك لكم أن تقولوا إذا كان ذلك ثمنا معقولا للإعجاب والمعجبين.
ولقد وفقني الله إلى بيت من عيون الشعر العربي القديم كتبه شاعره قبل أكثر من ألف عام ولكنه بنظري كتبه في الطيب صالح وكرمه الفياض وذلك حيث يقول:
أبو زينب قاصر فقره على نفسه ومشيع غناه
أي أنه يكتم حالة فقره عن الناس ولا يطلع عليه أحدا سوى ذاته(لاحظ ولا حتى أهله من زوج وولد) ولكنه يشيع في العالمين انه واسع الجاه عريض الثراء.ولا يريد الشاعر أن ممدوحه (وهو الطيب دون شك) يشيع في الناس أمر غناه على سبيل الدعاية والتكذب ولكنه يتركهم يتوسمون فيه الغنى فلا يصدهم ولا يخيب أملهم باطلاعهم على حقيقة حاله. وأزعم أن المقصود بهذا المدح هو الأديب السوداني الطيب صالح خاصة وان له ابنة اسمها زينب ومن حقه أن يتكني باسمها فهو حقا وصدقا أبو زينب المخفي فقره والمشيع غناه.
* *
الطيب الآن مريض كما تعلمون وهو مرض لا مناسبة له ولا موقع له من الإعراب فقد أفسد علينا بهجتنا بأديبنا الأكبر وبما دأب على تحقيقه لنا ولبلادنا من أشكال المجد والنجاح وهو يملأ الإسماع ويشغل الدنيا عن نفسها..إن مرضه أكثر من فاجعة شخصية لكونه فاجعة قومية وهو ما يجعلنا نعود إلى تعزية النفس ومخادعتها بنسبة ذلك المرض إلى العين والحسد وحقد الكائدين وهو ما تؤكده تلك الترنيمة الحزينة التي علمنيها صديقي الشاعر الحردلو في زمان قديم:
الوكيل الشالتو العين/الوقع بين الصندلين / يا موحمد/ دا بلودو وين
شالتو العين ولكن سوف نستعيده من براثنها بقدرة الله