محيميد.. لن يموت النيل … بقلم: ضياء الدين بلال
21 February, 2009
diaabilal@hotmail.com
بصدق.. فاجأتني عيناي بدمعتين وأنا استمع للـ (بي. بي. سي) بالعربة في طريقي الى مباني الصحيفة. كان الكاتب المصري الرفيع جمال الغيطاني يتحدث عن الراحل الطيب صالح - المصريون دوماً من أكثر المجيدين للتعبير عن المشاعر السلبية والايجابية تجاه الاحياء والأموات - تحدث الغيطاني بحب شفيف. ومعرفة عميقة بالروائي ورواياته، وقال انه تعرف على السودان المجاور لمصر، والمتداخل معها تاريخياً، لا عبر الزيارات. ولكن عبر روايات الطيب صالح. ذلك الرجل الذي أجاد الدكتور عبد الله علي ابراهيم وصفه بأنه «رجل بلا مزاعم».. والغيطاني قال انه درويش عظيم. تسكنه أرواح التصوف. يأتي الى أعظم الافكار عبر أقرب الطرق. وكما هو كاتب بديع هو كذلك متحدث مجيد. لا تستطيع أذن أن تقاوم رغبة الإصغاء لما يقول. فالحكمة تجري على لسانه كما تجري مياه النيل..!
الاستاذ محمد ابراهيم نقد.. تجمعني به محبة خالية من الادلجة.. ومحادثات هاتفية - تًسر معنا شركات الاتصالات - اتصل بي ليلتها وقال لي: (كتب علينا ان نستقبل مبدعينا في توابيت من خشب.. علي المك وصلاح أحمد ابراهيم. وأخيراً الطيب صالح.. صلاح رثا علي المك والطيب رثا صلاح فمن يرثي الطيب؟)... قالها نقد وفي صوته أحزان اليسار واليمين..!
الدكتور عبد الله قال إن الطيب «رجل بلا مزاعم».. هذا أفضل تلخيص لوصف كاتب باتساع وعمق الطيب صالح، في وطن تتعالى فيه أصوات المزايدات وكل يضيف الى ملامحه وسيرته، ما اتسع له المجال من ادعاءات واوهام. تجد سوقها رائجاً في حواري السقّايين وتجار البخور.
الدكتور محمد ابراهيم الشوش من أكثر العارفين وأجود المتحدثين عن الطيب صالح. ذلك بحكم المزاملة والمساكنة ببريطانيا، الى درجة ذهاب البعض الى ان بعض مقومات شخصيات الطيب صالح الروائية لها نصيب من سيرة الشوش اللندنية..!
الشوش حكى لنا بمباني مجلة «الخرطوم الجديدة» التي يرأس تحريرها الصديق الطاهر حسن التوم، حكى ذكريات تلك الايام. وألقى وقتها بملاحظة شدّت انتباهنا الى مداه الأقصى..!
قال الشوش إن أياماً طوال جمعته في مسكنٍ واحدٍ بالطيب صالح بلندن - في الخمسينات أو الستينات لا أذكر- وأنه - أي الشوش- كان يراقب تصرفات وأفعال الطيب بعينٍ راصدةٍ، تبحث عن التجاوزات والهناّت، التي يوفّرها مناخ لندن البارد لشبابٍ ساخن الدماء..!
ورغبة البحث والترصد مصدرها قناعة راسخة لدى الشوش بأن الاستحالة البشرية تقتضي عدم وجود شخص بمثالية الشاب الطيب صالح. لذا ربما أن الرجل له براعة استثنائية في الإخفاء وكتمان الاسرار.. وقال الشوش بعد سنوات طوال اكتشف أمراً خطيراً.. وهو ان الطيب صالح تخلّص من نزواته ورغباته عبر شخوص رواياته ونال مصطفى سعيد النصيب الأوفر.. واحتفظ الطيب لحياته الواقعية بكل هذه المثالية والنقاء..!
اكتشاف الشوش هو نقيض ما وصل اليه عبد الرزاق عبد الواحد الشاعر العراقي الشهير، وهو يتحدث في البرنامج الأروع «أيام لها ايقاع» عن صديقه وزميل دراسته الشاعر بدر شاكر السياب.. فقال ان بدر كان في الواقع شخصاً قميئاً كثير المثالب، ولكنه كان حينما يمسك القلم، فارس كلمة لا يشق له غبار..!
عبد الرزاق اختصر صديقه في وصف محكم حين قال:(السياب شاعر بالغ الروعة يعصر نفسه بين السطور ولا يبقى منه إلا الوحل).. وبمناسبة (أيام لها إيقاع).. ترى متى يُطلق سراح قلم الأستاذ حسين خوجلي؟!.. فقد رحل الكثيرون من مبدعي السودان وثرواته القومية دون أن يسمح للبارع حسين خوجلي، بأن يضع توقيعه الأنيق على دفاتر أحزانهم.. عندما يكتب حسين عن الطيب صالح سيضطرنا جميعاً للجلوس على مقاعد الجماهير..!
الأحزان واحدة.. رحل الطيب صالح قبل أن تتحقّق أمنية ورغبة محيميد. حينما قال: (وقتين طفح الكيل، مشيت لأصحاب الشأن قلت ليهم خلاص. مش عاوز.. رافض.. أدوني حقوقي عاوز أاروّح لي أهلي، دار جدي وأبوي.. أزرع وأحرث زي بقية خلق الله، أشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وارقد على قفاي بالليل في حوش الديوان.. أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة.. قلت ليهم عاوز أعود للماضي أيام كان الناس ناس، والزمان زمان)، ولكن محيميد عاد أخيراً محمولاً على تابوت خشبي..!