هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟ (1)

 


 

طلعت الطيب
24 February, 2009

 

فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (1)

تابعت وسط مشغوليات متعددة فعاليات افتتاح المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعى السودانى وان كان بشكل متقطّع ، ولم اندهش عند سماعى لتكرار السكرتير العام الاستاذ محمد ابراهيم نقد، نفسه ، عند اعتذاره عن تأخر عقد المؤتمر الى مدة تتجاوز الاربعة عقود من الزمان، وكانت قيادته قد فعلت نفس الشىء بتسجيل الاعتذار فى الوثائق المقدمة للمؤتمر العام . لكن اربعة عقود هى بالتأكيد عمر لاجيال كاملة وفترة طويلة جدا حدثت فيها تغييرات عاصفة على المستويين المحلى والعالمى . فقد شهدت الفترة بين النصف الثانى من ستينات القرن الماضى وحتى الآن استيلاء المشروع الاصولى الاسلامى على السلطة السياسية فى السودان ومآلات ذلك التغيير الرهيب على كل الواقع السودانى المرير والذى نعيشه الآن ، اما على مستوى العالم فقد شهدت تغييرات ضخمة ايضا كان من اهمها انهيار حائط برلين الشهير واختفاء ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتى (العظيم) والمنظومة الاشتراكية، اختفاءا تاما شاملا، من على وجه البسيطة. والاهم من كل ذلك ، وعلى المستوى الفكرى والفلسفى ، الزعم القائل بأن نهاية الالفية كان تعد نهاية للحداثة التى بدأت منذ اكثر من خمسائة عام تقريبا مع بداية الكشوفات الجغرافية الشهيرة وحلول عهد المستعمرات ، وأن الفترة بين المؤتمرين الرابع والخامس قد شهدت وفقا لهذا الزعم ميلاد ما بعد الحداثة Postmodernism و ما بعد البنائية
وغض النظر عن اتفاق او اختلاف القارىء مع الزعم الاخير، الاّ اننى لا اعتقد انه او ، انها، يمكن ان تختلف حول الاهمية البالغة لفترة الغياب التى جسدها اهم حلقة من حلقات الممارسة الديمقراطية لاى منظومة بشرية ، وهو ما عرف بقيام المؤتمرات العامة الدورية من اجل الحوار لتجديد الرؤى والبرامج وانتخاب قيادات جديدة. ورغم ذلك يقدّم السكرتير العام وسكرتارية اللجنة المركزية (سلم) اعتذارا شفهيا عن عدم اتخاذهم لقرار عقد المؤتمر العام من قبل، حيث كان الظرف مواتيا خاصة فى الفترة التى تلت انتفاضة ابريل عام ١٩٨٥م. ولا غبار على الاعتذار فهو فضيلة انسانية عظيمة ولكن تبقى الاشكالية فى مصداقية الاعتذار نفسه فى حالة غياب الضمانات الخاصة بعدم حدوث مثل ذلك التأجيل مرة اخرى ، حيث يتحوّل الاعتذار حينئذ الى مجرد (اعتراف كنسى كاثوليكى ) لا طائل من ورائه ، لا اعتقد انه يليق بحزب تجسّد فكرة زعم العقلانية والعلمية لديه قاعدة الهرم فى كل بنائه الفكرى مثلما ظلّت فكرة الادّعاءات الاخلاقية تقوم بنفس المهام على قاعدة هرم البناء الفكرى الاصولى الاسلاموى الذى بدأ يتداعى. وبذلك تصبح مسألة عدم توفر الضمانات لعقد المؤتمرات فى مواعيدها هى بمثابة مطالبة للعضوية بتوقيع شيك على بياض والانتظار السلبى لفترات اخرى قادمة لا يعلم مداها الاّ الله، وفى تقديرى الامر يتعلق باشكالية فكرية جسدتها الوثائق المقدمة الى ذات المؤتمر العام الخامس حينما أكدّت على فكرة تمسّك الحزب بالماركسية كمنهج ومرشد، وهو يعنى الاستمرار فى ذات النهج القديم والذى يقوم على ما عرف بمبدأ ( المركزية الديمقراطية) او اسمها الجديد المقترح (الديمقراطية المركزية) !، وهو بناء تنظيمى يقوم على قاعدتين اساسيتين مهمتهما اعاقة أعضاء الحزب بأن تغلق فى وجوههم جميع الابواب المفضية الى امكانيات التعبير الحر عن ارادتهم . فمبدأ خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا، ومبدأ عدم السماح بالتحرك والتنسيق الافقى بين الوحدات والهيئات الحزبية الذى يعتبر تكتل وتآمر يستحق المحاسبة ، يضع كل التنظيم فى مقام الميت بين يدى الغاسل. والغاسل فى هذه الحالة هو السيد السكرتير العام ومن معه من اعضاء القيادة المركزية وهو مفهوم كما نرى لا يختلف عن وضع او مفهوم امير الجماعات الاسلامية وشيوخها من اهل ( الحل والعقد) !
منهج الاعتذار الشفهى والتلاعب بالالفاظ كما فى محاولة تخطى المركزية الديمقراطية بعد تنامى الوعى حول مساوئها وكثرة النقد والطرق عليها كمبدأ معيب انسانيا ناهيك عنه سياسيا، من خلال اقتراح تغييراسمها ليصير (الديمقراطية المركزية) وهو تخطى لفظى يشابه احمد وحاج احمد فى المثل الشعبى الشهير. وهو نفسه النهج المتبع عندما تمّ تقديم رؤية حول حركة ١٩ يوليو تتنصل من المسؤولية باطلاق تلك العبارة الفضفاضة الشهيرة التى تمت استعارتها من القائد المصرى سعد زغلول (ان الحركة شرف لا ندعيه وتهمة لا ننكرها)، ثم هو نفس نهج التخطى الخطابى عند الحديث عن المناقشة العامة والاقرار بالتغييرات التى حدثت على خارطة العالم ولكن رغم ذلك يلى اتباع ذلك الاقرار وثائق تتمحور حول (التمسك بالماركسية كمنهج ومرشد)، هو نفسه عند الادعاء بتقبل الحزب وايمانه بالديمقراطية التعدّدية فى المجتمع السودانى ثم مصادرتها داخل التنظيم والاصرار على تبنى الماركسية كمنهج وحيد اوحد، وهو نفس النهج عند التصريح برفض قرارات المحكمة الجنائية استنادا على مقررات مؤتمر القمة الافريقى المتزامن مع اصدار بيان جماهيرى يحفل بالمتناقضات لامتصاص غضب العضوية، وهى مجمل مظاهر فكرية تميزت بمحاولات الجمع بين المتناقضات والتوفيق بين المستحيلات، ولكن على مستوى النص اللغوى فقط، مع ترك الواقع يموج بها، فتترك عصيّة على الحل.. وهو منهج فى القيادة لا يورث حكمة، ولا يبنى تنظيما طموحا ، كانت قد درجت عليه قيادة الاستاذ محمد ابراهيم نقد منذ توليه مهام قيادة الحزب.
على ان أكبر ما يواجه الحزب ومؤتمره العام من مشكلات هى عزلته التامة عن العالم وما يمور به من احداث سياسية مهمة وتطورات فكرية هائلة على مستوى العلوم الانسانية ، اهم ملامح ذلك التغيير الهائل هو غروب شمس المدارس والمناظير الاجتماعية التى تدّعى الاحاطة التامة والشاملة بكل شىء، وغروب شمس الحوار والنزاع الشهير الذى كان يحدث فى العالم بين مدرستين فلسفيتين احدهما من اليمين والاخرى من اليسار، واعنى بالمدرسة الاولى البنائية الوظيفية Structural – Functionalists اما الثانية فهى التى يمثلها منظور النزاعات او الصراع اذا صحّت الترجمة لكلمة Conflict theorists . وقد بدأ ذلك الصخب يخبو ويفقد بريقه مع نهاية سبعينات القرن الماضى، مما هيأ المناخ لظهور اتجاهات جديدة تماما فى العلوم الانسانية تقوم على نقد مجمل تجربة الحداثة ومسألة التخندق فى تيار على حساب الاخر على زعم اعتبار صحته الكلية ، وظهر بدلا عن ذلك جيل جديد من علماء الاجتماع والفلسفة يضع امامه فكرة الاستفادة من كل الاتجاهات الفلسفية الموجودة واعادة انتاج وتركيب مفاهيم جديدة منها Synthesis وهو الاتجاه الذى بلغ حد التراكم المركّز ودرجةالاجماع على اهميته فى الوقت الذى يدخل فيه الحزب الشيوعى مؤتمره بوثائق تؤكد على (نقائه الماكسى ) والتمسك بالماركسية كمنهج ومرشد!، بدلا عن الاستفادة من الماركسية وكل الافكار والاتجاهات الانسانية الاخرى وتاكيد اهميتها جنبا الى جنب مع (مشروع التحرر الماركسى ) وليس الماركسية ، اذ ان الماركسية كنموذج للمعرفة او بارادايم Paradigm يحمّل فى طياته كثير من المفاهيم الشمولية والفاشية التى قادت الى الوصاية على الطبقة العاملة اولا ثم على كل المجتمع المدنى ثانيا بعد وصولها الى السلطة وتحوّلها الى بيروقراطية لا تعدو ان تكون سوى نسخة طبق الاصل مما كان قد حذّر منه ماكس فيبر فى اقفاصه الحديدية iron cages والتحوّل الى مشروع للسيطرة ، وذلك بتبنيه لمفاهيم المركز والكلية totalities او Holistic theories وكلها ظهرت فى اخطاء ماركس وتنبؤاته بجملة من الاحداث كان يعتبرها بمثابة حتميات لا بد من حدوثها نتيجة لاستخدامه المبدا المادى فى التحليل او(المادية التاريخية) التى لا ياتيها الباطل من بين يديها ابدا !، فكان تنبؤه بحدوث الثورة البروليتارية فى انجلترا باعتبارها اكثر المجتمعات الرأسماية نضوجا ، ثم حتمية انهيار المجتمعات الرأسمالية وقيام دولة دكتاتورية البروليتاريا، وحتمية زوال الطبقة الوسطى وهكذا . مع ان كل هذه التنبؤات ما قامت الاّ على اكتاف (ايمان فلسفى) وليس على معلومات تجريبية وهو المنهج العلمى الذى تزعم الاحزاب الشيوعية اتباعه ! اضافة لهذه الخصائص الفكرية المرتبطة بعدد من التنبؤات الفاشلة، كانت الماركسية تراهن على حتمية قيام دولة العمال، وهو مشروع تمّ التبشير به دون توفر معلومات دقيقة تعززه وتعضده، وهو يشابه التناقض الذى يمثله ادّعاء الموضوعية التامة والعلمية ثم ترشيح العمال كرسل للجنة الاشتراكية القادمة، ترشيح العمال بناءا على ايمان فلسفى مجرد مبدأ غائى يجد سنده فقط فى نموذج المفاهيم الدينية والغيبية وليس العلوم التجريبية ، وهو لا يعد عيبا فى حق الاديان طالما ظلت القيم هى موضوع المجتمعات الانسانية ... ولكن العيب يكمن فى انعدام الانسجام فى منطق من يعتقد ان المجتمعات البشرية يجب ان تخضع للمعرفة التجريبية وحدها، ويقوم باستنباط قوانين ومقولات من العلوم الطبيعية بزعم امكانية تطبيقها على المجتمعات البشرية ، وهو بالضبط ما فعلته الماركسية فى بناء (ماديتها التاريخية) ، والغائية Teleology جرثومة كان كارل ماركس قد ورثها عن الحداثة ، وهى ظاهرة فكرية عبّر عنها المرحوم الخاتم عدلان وصورها خير تصوير حينما كتب فى دراسته الانيقة (آن أوان التغيير) ما يلى:
( يصعب الحديث عن الطبقة العاملة السودانية الا اذا تعاطينا مع التلفيق ، وحددنا بصورة مسبقة وتحكمية ، ان الماركسية اللينينية هى تلك الايديولوجية وعلى الطبقة العاملة ان تتبناها رغم انفها وفى هذه الحالة لا يكون هناك فرق بين ان تتبنى هذه الايديولوجية او ان ترفضها ، لاننا لم نضع اعتبارا لهذا القبول او الرفض، فى وصف الماركسية بانها ايديولوجية الطبقة العاملة. ونحن قد فعلنا ذلك وما زلنا نفعله . ولكن الوصاية المبثوثة فى هذا القول لم تعد محتملة اليوم . فالوعى الديمقراطى قد تنامى بصورة تجعل من مثل هذا الادّعاءات فادحة الثمن على المروجين لها.
ان ازمة المشروع الماركسى تتمثل فى هذه النقطة بالذات ، وقد راهن هذا المشروع على حصان بدا جامحا ولكنه اصيب بالوهن فى منتصف الطريق . ولعله سيكون من المفيد ان نتذكر ان تعلق ماركس بالبروليتاريا كان فى اساسه تعلقا رومانسيا لفتى لم يتعدى العشرين الا قليلا عندما كان يبحث عن العدالة المطلقة ، فاستعار دون ان يعى مفهوم المسيح المخلص ، واصبغه على طبقة اثارت شفقته ، واستفز شقاؤها حسه العميق بالعدالة . وقد ظل ماركس فى نضجه وشيخوخته امين امانة مدهشة ، لمشروع كان قد صاغه فى صباه . ان من يقرأ نصوصه حول العمال الفرنسيين ، والعمال المهاجرين الالمان - الذين يشع النبل من اجسادهم - سيدرك بسهولة ما نرمى اليه . ان المطلع على اعمال ماركس لن يجد فى ترشيحه للبروليتاريا لقيادة التاريخ الانسانى سوى اسباب واهية .)

يهمنا التأكيد هنا على ان الحزب الشيوعى بقدر ما يدخل مؤتمره الخامس بكامل النقاء الماركسى ، فانه انما يدخله بكامل اغترابه ايضا عن روح العصر وطبيعة معالجته لقضاياه ، فقد هجرت العلوم الانسانية تقاليد التخندق فى مدارسها القديمة والتخلى عن مقولة ان الحق لا يعرف الاّ من خلال تلك المناهج ، الى الاستفادة من كل اساليب البحث العلمى التى وفرّتها المناظير والمدارس الاجتماعية المختلفة بكل الوان طيفها السياسى وحدثت عملية تكامل بين هذه المدارس لاضاءة الظواهر الاجتماعية حيث يستطيع منظور ما كشف العتمة واجزاء ما منها حسب طبيعة الموضوع المراد تقصيه ومعرفته ، وقد كان للتركيب الجديد ميزات وفوائد عظيمة فى معالجة قضايا الواقع الاجتماعى والسياسى فى عالمنا المعاصر مثل قضايا التنمية ، والعدالة الاجتماعية، المرأة العالم الثالث ، والبيئة الخ ..
أهم المحاولات التى يمكن الاشارة اليها فى هذه السانحة هى اعمال البريطانى انتونى قيدنز Anthony Giddens المعروفة باسم Structuration وهو يعتبر على يمين الطيف السياسى، لانها تعطى فكرة جيدة عن كاتب استطاع ان يتخطى الحواجز الدوغمائية القديمة able to crossover his traditional boundaries وهى السمة التى تميّز الجيل الجديد من الباحثين فى مجالات العلوم الانسانية والاجتماعية كما سبق ان ذكرت. كما ان هناك امثلة ممّن فعل نفس الشىء من يسار الطيف السياسى من امثال يورغن هابرماس Jurgen Habermas وهو آخر فلاسفة مدرسة فرانكفورت المعاصرين ، وقد اخترت ان تكون بعض اعماله موضوع الجزء الثانى من هذا المقال، حيث سنرى كيف استطاع ان يقدّم تفسيرا جيدا للسؤال الذى عجز فلاسفة الحداثة عن التصدى له، والسؤال هو:
كيف استطاعت الرأسمالية ان تتعايش مع تناقضاتها وان تنمو وتتطوّر ؟
وسوف اتعرض انشاء الله لشرح آلية (اضفاء الشرعية ) legitimation اذا صحّت ترجمتى المتواضعة وكيف انها مكّنت الدولة الرأسمالية من النمو دون انفجارها من الداخل بفعل تناقضاتها الداخلية كما ادعى كارل ماركس يوما ما .
هذا ويعتبر هابرماس اهم من قاموا بمعالجة نظرية جيّدة لما عرف بالبناء الفوقى superstructure فى الماركسية الذى كان قد تحوّل الى اداة للسيطرة فى النموج الماركسى بدلا عن التحرر، وذلك من خلال تحرير المفهوم الفلسفى للخصوصية عن طريق جعل الكلى عوالم ثابتة وليست تجريد فلسفى كجوهر يتم تعميمه على الظاهرة المراد استنطاقها ، ولذلك سنلاحظ تقسيمه للمجتمع الرأسمالى المتقدّم الحالى الى ثلاثة انسقة تتفاعل مع بعضها من خلال تنسيق الدولة مع القطاع الخاص والجمهور من اجل ادارة الازمات ، وهو ما اسماه هابرماس بالعقلانية التواصلية.

 

آراء