هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟ (5)
طلعت الطيب
24 February, 2009
24 February, 2009
فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (٥ - ٥)
فى الحلقات الاربع السابقة كنت قد توجهت بانتقادات الى قيادة الحزب الشيوعى ومؤتمره العام الخامس، على انى اختم اليوم سلسلة هذه المقالات باعادة تلك الانتقادات لاهميتها كونها تتعلق بأهم قضيتين وهما الديمقراطية (الاصلاح الديمقراطى فى السودان) واخرى تعتبر اشكالية حداثية (مفهوم الازمة عند كارل ماركس).
اولا قضية الاصلاح الديمقراطى داخل الحزب الشيوعى:-
أعتقد جازما بانعدام مصداقية الاستاذ محمد ابراهيم نقد حينما أعلن اعتذاره وتحمله مسؤولية تأخّر انعقاد المؤتمر العام الخامس لاكثر من اربعة عقود من الزمان، خاصة وان الظروف السياسية كانت تسمح بقيامه بعد انتفاضة ابريل ١٩٨٥م وهى الظروف نفسها التى اختارت فيها قيادة الحزب الاحتفال بالعيد الاربعين للتأسيس ، بدلا عن عقد المؤتمر العام الخامس. اتهامى للاستاذ نقد بانعدام المصداقية فى اعتذاره ذاك يعود الى أن الاعتذار لم يصاحبه تعديل للمبادىء التنظيمية التى تحكم الحياة الداخلية لحزبه ، الامر الذى لا يوفر ضمانات لعدم تكرار مثل تلك الاخطاء الفادحة، حيث تمّ تعديل المركزية الديمقراطية لأن يكون اسمها الجديد هو الديمقراطية المركزية مع احداث تغييرات اجرائية شكلية لا تمس الجوهر، فتظل قواعد الحزب الشيوعى غير قادرة على التنسيق الافقى من اجل اجبار القيادة على عقد المؤتمرات العامة فى حالة تقاعسها عن فعل ذلك ، لانها ببساطة ما زالت مقطعة الاوصال بفعل المركزية التنظيمية التى تحرّم التنسيق الافقى بين الهيئات القاعدية للتنظيم.
ثانيا حول مفهوم الازمة عند كارل ماركس:-
كنت قد كتبت عن احتفاء السيد نقد فى كلمته الافتتاحية للمؤتمر بقاعة الصداقة، بما عرف بالازمة المالية العالمية الاخيرة. ولا اختلاف من جانبى حول حقيقة ان تراكم رأس المال الخاص يأتى على حساب دافع الضرائب ، خاصة من ابناء وبنات الطبقات الوسطى والدنيا، وهو ما أشار اليه يورغن هابرماس حينما تحدث عن عمليات تدخل الدولة واضفاء الشرعية التى كنت قد كتبت عنها فى المقالين الاخيرين Legitimation System ، ولكن الخلاف كان حول مفهوم (الازمات) عند كارل ماركس والذى لا يخرج عن كونه استبطان واستلاف لمفهوم الازمات الذى كان سائدا فى عصره سواء المفهوم السائد فى وثنية الاغريق او مسيحية الرومان او الموجود فى كل الاديان السماوية وربما يذكرنا الانفجار الدراماتيكى الحتمى للرأسمالية بفعل تناقضاتها الداخلية والثورة التى تقودها الطبقة العاملة، يذكرنا بقوم عاد وثمود فى القصص القرآنى. ولا تسريب على الاديان طالما ظلّت القيم هى موضوعات المجتمعات الانسانية، ولكن تصبح المسألة مدعاة للتهكم حينما تصدر من نظرية اجتماعية تدّعى العلمية وتتدثر بلباسها. لعل الاختفاء الدرامى لما كان يعرف بالاتحاد السوفيتى (العظيم) والمنظومة الاشتراكية هو الاقرب الى ظاهرة اختفاء نظام اجتماعى كامل فى لمح البصر، وهو من سخرية الاقدار!
الماركسية ابن غير شرعى للمدرسة التجريبية:-
تقوم المادية التاريخية على تعميم جوهر القوانين الطبيعية وتسميه الكلية الفلسفية ثم تقوم بتطبيقه على المجتمعات (الخصوصية الفلسفية) وهو الامر الذى يضعها فى تضاد مع المدارس الانسانية بما فى ذلك مدرسة فرانكفورت التى يمثلها هابرماس برغم من ان هذه المدرسة نشأت برأسين احدهما ماركسى والاخر هيجيلى، ولكنى ازعم بانها انفصلت عنهما تماما ، ويمكن مناقشة هذا الزعم على مستوى الافتراضات التخصصية الاساسية domain assumptions . وهنا اعنى الجوانب الايديولوجية، الانطولوجية (طبيعة المعرفة)، والابستمولوجية اى المعرفية . فى الجانب الاول كنت ذكرت ان الحزب الشيوعى السودانى حينما دخل مؤتمره الخامس بكامل النقاء الماركسى ، فانه انما دخله ايضا بكامل اغترابه عن العصر، وهو العصر الذى زالت فيه الحقبة التى تزعم فيها نظرية ما قدرتها على الاحاطة التامة والشاملة بكل شىء وامتلاكها لمفاتيح الحقائق، وذهبت الى ذمة التاريخ وخف الضجيج الذى كان يثيره الصراع بين البنائية الوظيفية من جهة اليمين ونظرية الصراع من جهة اليسار وذلك حتى انقطع تماما مع نهاية سبعينات القرن الماضى. بدا الان عصر جديد يقوم على التركيب synthesis من كل النظريات والاستفادة من كل جديد فى الابحاث الاجتماعية. وقد رأينا كيف قام هابرماس بابراز التناقض بين تراكم رأس المال والقيم الثقافية واعتبارها تشكل الازمة المركزية للمجتمعات الرأسمالية المعاصرة حيث السعى الى انجاز الكفاءة بفعل نزوع رأس المال الخاص نحو تراكم الارباح الذى يأتى على حساب الوظائف والتعليم والصحة، يستدعى تربية جديدة واعادة صياغة اجتماعية حيث لم يعد هناك حافزا للعمل بعد ندرة الوظائف واتشار البطالة. ما يهمنا هنا هو امران : الاول استخدام ادوات البنائية الوظيفية جنبا الى جنب مع نظرية الصراع او النزاع ، اما ثانيا: فهو استخدام الانسقة الثلاثة الاقتصادية والادارية والشرعية كعوالم ثابتة فى محاولته لفهم التحولات التى طرأت على المجتمعات الرأسمالية المعاصرة وذلك بدلا عن تعميم جوهر فلسفى كلى يقوم بتخريب معرفة الخصوصية الفلسفية . ولعلنا هنا نتذكر الاكذوبة الماركسية الكبرى المعروفة باسم نمط الانتاج الاسيوى وكأن هناك خصوصية واحدة فقط تقع خارج اطار المجتمعات الاوروبية الغربية ومركزيتها ، بدلا عن عوالم متعددة وتجارب وثقافات بشرية غنية ومتنوعة.
فى الجانب الوجودى فمن الواضح ان ماركس لم يستطع التخلص من التقاليد النظرية السائدة فى عصره، مثلما لم يستطع الخروج عنها وجدانيا حينما قام باستلاف مفهوم الازمة كما ذكرنا سابقا. فقام باعتماد المجتمع كاشكال ومؤسسات وطبقات على حساب الافراد وخصما عليهم ،اذ اعتبرهم مجرد قطيع سالب، وهو شكل من التفكير يعرف بالكلية sociological holism لانه يقوم بتغييب الانسان الفرد ، ويقابل مفهوم الكلية هذا مفهوم اخرشبيه فى التطرف لكنه مضاد فى الاتجاه، يعتقد باهمية الافراد ويختزل المجتمع على اعتباره مجرد تجريد ، ويعرف بمذهب الفردية sociological individualism ، وعند التحدث عن تقاليد العصر ربما يقفز الى الذهن ايميلى دوركهايم ودراسته الشهيرة عن الانتحار حين نجح فى توضيح ان معدلات الانتحار تتحكم فيها عومل خارجة عن الافراد، عبارة عن حقائق اجتماعية ضاغطة عليهم ، وقد اضاء بذلك معارف كبيرة حول الظاهرة الاجتماعية ، ولكن ليس كلها، حيث تظل هناك مساحات واسعة مظلمة تحتاج الى دراسة كل حالة اتنحار على حدة ، واستجواب من كانوا حول القتيل لمعرفة دوافع الانتحار هذا اضافة الى العامل الذاتى المتعلق بالتردد فى تسجيل حالات الوفاة كانتحار نسبة لتعارضها مع الاديان والقيم السائدة فى كل المجتمعات تقريبا ، يعتبر الانتحار عيب وعار يلتصق باقارب القتيل ولذلك يتردد مسؤول الاحصاء فى المستشقي كثيرا قبل تقيده الوفاة كانتحار. ذلك يعنى ان معدلات الانتحار المسجلة رسميا والتى اعتمد عليها دوركهايم تقل كثيرا عما يحدث فعلا فى الواقع.
على الصعيد الابستمولوجى وهو المتعلق بكيفية معرفة الحقائق الاجتماعية، فقد انحازت الماركسية الى المدرسة الطبيعية التى لا تعتقد بوجود فرق اساسى بين دراسة العلوم الطبيعية وبين دراسة المجتمع البشرى ، ولذلك فان الهدف من دراسة المجتمع هو تفسيره من اجل التنبؤ بالظواهر الاجتماعية المتكررة، حسب زعمها. تعتد هذه المدرسة بتركيب النظريات الاجتماعية بناءا على التحليل القائم على علاقات السببية.
وفى العلوم الطبيعية مثلا يتم دراسة ظاهرة الكسوف الشمسى من اجل فهم الاسباب والتنبؤ بمكان وزمان الكسوف القادم بالدقة المطلوبة. جدير بالذكر ان تنبؤات ماركس حول الانفجار الحتمى والدرامى للمجتمعات الرأسمالية عن طريق التغيير الثورى للبروليتاريا تعتبرها المدرسة التجريبية او الطبيعية تنبؤات غير علمية لانها لم تطرح اسباب كافية وجدول زمنى لحدوث ذلك (الانفجار العظيم) Time frame وهى محقة فى ذلك ، مما يعنى ان الماركسية تعتبر ابنة غير شرعية للمدرسة الطبيعية.
خاتمة::-
فى مقابل المدرسة الطبيعية ظهرت وتطورت المدرسة الانسانية humanism حيث تشكل مدرسة فرانكفورت الفلسفية عصبها الحى بجانب اخريات، تعتقد ان دراسة المجتمع البشرى تختلف عن دراسة العلوم الطبيعية، وان دور البحوث والدراسات الاجتماعية هو فهم النشاط الانسانى وتفسيره سواء اخذ ذلك النشاط شكل كلمات شفهية او خطاب مكتوب وموثق او سلوك اجتماعى متكرر. ولذلك فهى تعتمد اضافة الى السببية، على التحليل التفسيرى Hermanuetic analysis وهو تحليل يقوم على محاولة فهم وترجمة المعانى الانسانية للنشاط interpretation and understanding وبينما تقوم المدارس الطبيعية على دراسة موضوعها البشرى من الخارج عن طريق الملاحظة والتجربة ، فان المذهب الانسانى يختار دراسة موضوعه من الداخل باتباع طريقة التفسير والفهم وهو بذلك يكون قد اختار مشروع ابستمولوجى مختلف تماما.
تعتبر عقلانية ماكس فيبر ودراسته حول البيروقراطية والاقفاص الحديدية واخلاق العمل البروتستانية من نماذج النظريات التى لا يمكن اختبارها تجريبيا، ولكنها ومع ذلك ، فقد استخدمت بخصوبة بالغة فى حقل الدراسات الاجتماعية مما يؤكد ضعف حجج اصحاب المذاهب الطبيعية. وعقلانية فيبر اضافة الى التحليل النفسى عند فرويد والبنائية الوظيفية شكلت كلها اساس التركيب النظرى الذى قامت على اكتافه النظرية النقدية عند هابرماس. فباستخدام فهم معانى النشاط الانسانى عند فيبر مثلا يمكننا معرفة وتفسيرالنشاط العملى لاعضاء ما كان يعرف بالجبهة الاسلامية بعد الانقلاب العسكرى لما عرف (بثورة الانقاذ)، حين وفر لهم الانقلاب الانفراد بالوظائف العليا الحساسة على حساب اصحاب ذوى الكفاءات الذين طردوا بحجج الاحالة الى الصالح العام، فاعتقد هؤلاء ان ما اصابهم ما هو الاّ فتحا ربانيا ورزق اتى به الله نفسيرا للاية الكريمة التى تبشر بنزول الرزق على من آمن واتقى. وهو مفهوم يقترب كثيرا من ظاهرة صكوك الغفران الذى كانت تمارسه الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى . فى مقابل مفهوم اخر للنشاط الانسانى يعتقد ان الايمان يقوم على العمل الجاد وحب الاخرين والتسامح والتقشف والابتعاد عن التبذير وهو مفهوم يتبناه عدد من المستنيرين دينيا فى السودان وعلى رأسهم مدرسة الفكر الجمهورى بطابعها الاصلاحى لانه يقترب كثيرا من مفهوم التقشف فى الاصلاح الدينى البروتستانى الذى كان ماكس فيبر قد افاض فى شرحه حيث يكون الانسان وفقا للمفهوم الاخير منتخبا فقط من قبل العناية الالهية ولذلك فهو يعمل بكثير من الاجتهاد فى اتجاه التقشف وعمل الخير ( وهو مفهوم يبتعد كثيرا عن مفهوم الكنيسة الكاثوليكية حيث ضمان دخول الجنة ومنح مفتاحها وهو منح كان قد قدمه الترابى من خلال ممارسته النظرية على اية حال لكل اعضاء تنظيمه السياسى تمييزا ومحاباة، على حساب بنى جلدتهم . جيدر بالذكر ان الروح الاصلاحية البروتستانية ( الكالفانية) هى التى ساعدت على تراكم راس المال فى مراحله الاولى حيث لم يتم تبديده كما فعلت فرنسا الكاثوليكية حينما بددت ثرواتها على عهد لويس الرابع عشر على ما اعتقد. الاصلاح الدينى ودوره فى ذلك التراكم كان قد اغفله كارل ماركس وذلك كنتيجة طبيعية للعيوب النظرية التى لخصناها فى عاليه وقد قدم ماركس انصاف الحقائق فى العديد من قضايا الفلسفة والسياسة والاقتصاد ولا يمكن بالطبع تخطيه كفيلسوف كان قد صعد اساسا على اكتاف عمالقة سبقوه ، فاستطاع ان يتبين بعض دروب الغابة الشائكة، بيد ان تخطى البناء الفلسفى الذى اشاده والمسمى ماركسية ، اصبح ضرورة من اجل الاصلاح الديمقراطى والشفافية فى المجتمع.
طلعت الطيب
عضو القيادة الوطنية لحركة القوى الحديثة الديمقراطية