يا عمر .. لا تئد طفلة تنفض الغبار عن لحيتك

 


 

 


salimahmed1821@yahoo.fr
الشعور الوطني البريء عند المواطن تم جلبه "ساكت درادر وضَيْعَه" وجرى بيعه في سوق النخاسة السياسية الحاصلة. نعم لقد خرج بعض السودانيين ضد قرار قاضيات المحكمة الجنائية الدولية ليس تأييدا للحكومة العسكرية الراهنة ولا محبة في رئيسها، لكنهم خرجوا بدافع الحس الوطني السوداني الذي يرفض بتكوينه الفطري أن تنال جهة خارجية من مواطن سوداني حتى لو تم ضبطه بالجرم المشهود. لكن هذا الشعور الوطني الصافي المتسامي على كل العذابات والضنك قد تم تجريده من ملابسه وبيعه عاريا في سوق الرقيق السياسي. فالحكومة وأقطابها وأطرافها وأطنابها ورئيسها قالوا: شايفين الناس بحبونا قدر شنو؟ وإنه لكذب قراح.
نعيدكم يا أقطاب وأطناب أمن الحكومة إلى منتصف القرن الماضي عندما قالت مصر "مجرد قول" أن حلايب مصرية. كانت مصر في عنفوانها الناصري وكان حب الشعب السوداني لجمال عبد الناصر يفوق حب المصريين له. كان عبد الله خليل هو رئيس الوزراء، وكان مكروها من النقابات خاصة نقابات العمال. وبمجرد أن سمع السودانيون بالقولة المصرية تقاطرت جموع السودانيين خاصة نقابات العمال في حشود تكاد تفوق يوم الحشد الأعظم في صبيحة إعلان استقلال السودان. كل تلك الجموع والحشود والنقابات أيدت موقف عبد الله خليل .. المكروه لدى النقابات .. وتقدم حب السودانيين لوطنهم وتراجع حبهم لعبد الناصر .. فتراجعت مصر.
لم يقل عبد الله خليل لتلك الجموع شكرا لمحبتكم لي، ولم يقل عبد الله خليل للعالم انظروا إلى هذه الحشود وشوفوا الشعب السوداني بحبني قدر شنو!  عبد الله خليل كان يعرف وكذلك تلك الجموع كانت تعي أنهم لم ينهضوا في حب عبد الله خليل أو حزبه، بل من أجل بقعة كرامة من تراب الوطن.
ونعود بكم أيها الناس إلى ما قبل ذلك، إلى مجلس حرب عبد الله التعايشي قبل يوم واحد من معركة كرري عندما قرر التعايشي مهاجمة الجيوش الغازية صباحا مخالفا بذلك رأي غالبية أركان حربه. عندها قال أحد القادة للتعايشي بأنهم سوف لن ينتصروا في المعركة، لكنه وفرقته سوف يؤدون واجبهم بسد الثغرة الموكلة لهم في جدار الواجب الوطني في المعركة. ورغم أن التعايشي حاول أن يفرض خطته تحت ستار ديني بقوله أن سيد الأنبياء قد أمره بذلك، إلا أن هذا الذي يعرف بواطن الأمر، كما كان يعرفها هامان، لم يتردد في قولة الحق برغم عواقبها المميتة .. الخوف من بطش التعايشي شيء وقولة الحق شيء والواجب نحو الوطن أمر مختلف. والحدود بين هذا وتلك واضحة لا تدليس عليها.
ونعود بكم مرة ثالثة إلى تاريخ قريب عندما قام الطاغية نميري بإعدام الشهيد عبد الخالق محجوب. فقد استغرب الطاغية من غضبة الحزب الشيوعي وقال للشيوعيين الذين معه لماذا تغضبون مني لأنني أعدمته برغم أنكم كنتم غاضبون عليه؟ كانت الإجابة البديهية التي لم تكن تستدعي سؤلا: لأنه سكرتير عام حزبنا نحن ونحن وحدنا من يحق لنا مساءلته أو حتى معاقبته.
وإذا استعصى كل ما سبق على الفهم والهضم والاستيعاب، أعيدكم يا أقطاب وأطناب الحكومة إلى حقيقة ماثلة كل يوم في شوارع وحواري وضهاري السودان. تخيلوا معي أن أبا ينهال ضربا على ابنه ليؤدبه حسب ما يظن مثل هذا الأب .. وفي الأثناء يأتي أحد المارة أو الجيران وينهال بالضرب على الابن ليساعد الأب في تأديب هذا الابن الضال! لا شك أن الأب سوف يكف عن ضرب ابنه ليقول لهذا الشخص "إنتَ مالك؟ إنتَ لا يحق لك ضرب ابني .. هو ابني وأنا وحدي من له الحق في تأديبه !" وغالبا ما يدخل الأب في معركة قد تكون دامية مع هذا الشخص المتطفل.
تلك الأمثال نضربها لكم لأنها تعكس جانبا هاما من التكوين النفسي للمجتمعات السودانية دون سواها. السودانيون، إن لم تعلموا بعد، يرفضون رفضا فطريا أن يعاقب الغريب فردا منهم مهما كانت جريرة هذا الفرد. لذلك يقدّمون المعركة ضد الغريب ويؤخرون مسألة معاقبة الشخص المخطئ من بينهم  لكنهم لا ينسونها! لقد كان نميري على جهل فاقع عندما ظن أن الشيوعيين سوف يهللون له لإعدامه للشهيد عبد الخالق محجوب. جهل نميري رديف لجهل هذا الغريب أو الجار الذي أراد أن يعاون الأب في تأديب ابنه! والابن يكون على حال غير عادي من الغباء أو الاستغباء لو ظن أن معركة والده مع الغريب سوف تسقط عنه العقوبة التي سوف ينالها طال الزمن أم قصر، لكن فقط على يد والده !. 
الشعب السوداني قد رسم الحدود بدقة بين ما هو للوطن وبين محبة أو كراهية أو تأييد الشخص أو الحكومة التي يصادف وجودها على سدة إرادة البلاد، أو كما قال شاعرهم (نحرق ديارنا ونحرسا ..) وقد يتساءل من لا يعرف خصائص الشخصية السودانية كيف يحرق المرء داره ويحرسها. وأنتم يا رئيس وأهل الحكومة العسكرية وأطنابها تعلمون تمام العلم أن قطاعات عريضة من المواطنين السودانيين خرجوا رفضا لقرار قاضيات الجنائية الدولية وليس تأييدا للحكومة ولا حبا في رئيسها. خرجوا فقط رفضا لتسليم مواطن سوداني، رئيس أو غير رئيس، إلى أيد أجنبية. لذلك كان من المفترض عليكم، من الوجهة الدينية الأخلاقية البحتة فقط لا غير، أن تعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. كان من الواجب عليكم أن تقولوا: ".. نحن نعلم يا شعب السودان أنكم خرجتم حبا لوطنكم ودفاعا عن كرامة بلادكم ولم تخرجوا كلكم تأييدا لحكومتنا أو حبا لرئيسها لأننا نعلم أنكم لا تعانون من مرض نفسي سايكوباتي أو مانوشيزم يجعلكم تحبون من يعذبكم ويقمعكم ويصادر حرياتكم" كان من المفترض عليكم يا أهل الحكومة أن تقولوا " ... نعم يا شعب السودان، نحن ارتكبنا أخطاء بل جرائم فادحة في دارفور مثلما ارتكبنا مثلها في كل مدن وأقاليم السودان .. ونحن نأسف على هذه الأخطاء الفادحة التي رمتنا في ما نحن فيه اليوم .. وسوف نجعل من الحدث مناسبة لتصحيح الأخطاء على الوجهة التي يريدها الشعب السوداني وتقتضيها مصلحة البلاد العليا مهما كان الثمن .. نعم يا شعب السودان سوف نستنسخ خطوات عظماء التاريخ مثل غادي ومانديلا وعبد الناصر وحتى نكسون فنمضي ونترك لكم تدبر شؤونكم" لقد كان من المفترض عليكم يا أهل الحكومة أن تعترفوا، كما أمركم الله، أمام الشعب بأخطائكم الطافحة الفائحة وأن تطلبوا الغفران. لو فعلتم لكنتم قد وجدتم هذا الشعب يتميز بقدرة غير عادية على التسامح. كان من الواجب عليكم أن تطلبوا من الشعب السوداني أن يساعدكم في الخروج من مأزقكم الذي رميتم فيه أنفسكم والبلاد. لو فعلتم لكنتم وجدتم أيادي العون سمراء وسوداء ومختلف ألوانها ممدودة إليكم مبرأة من كل ما درجتم عليه.
لكنكم عوضا عن كل ذلك رميتم كتاب الله والحق والعدل ظهريا وتنافختم في وجه الشعب بالويل وتقطيع الأوصال. ومع كل ما استللتم من خناجر الإرهاب الاجتماعي، فإن حب الوطن تقدم في صدور العديد من المواطنين فخرجوا بأوصال سليمة غير راجفة وبقلوب غير واجفة ضد مذكرة قاضيات الجنائية الدولية، من أجل الكرامة الوطنية وليس حبا في الحكومة ولا تأييدا لرئيسها. لكن يا لأسف هؤلاء! فكلما رفع أحدهم بصره وجد لافتة فوق رأسه مكتوب عليها "نحن خلف القائد الملهم الملهم" ويافطات ويافطات كانت جاهزة من زمان تردح بمثل هذا القول. وكلما القوا السمع سمعوا إعلامكم يشرخ آذانهم تهليلا وتكبيرا بحب الشعب للحكومة ولرئيسها .. ورمز عزتها وكرامتها كمان! لكن صحيح أن الذي بيده المايكروفون لا يقول عن نفسه شقي! الحكومة في يدها المايكروفون والإذاعة والتلفزيون (المسرح مغلق لدواع أمنية!) وفوق ذلك دفعتم بمزيد من أدوات الإرهاب الاجتماعي، بمجاهديكم ومجاهداتكم الذين أهدروا دم الشعب وقالوا للناس أنهم سوف يقمعون كل من يؤيد المحكمة الجنائية الدولية. طبعا لم يفت على فطنة الشعب السوداني أن التهديد بالقتل موجه تحديدا إلى كل من يعارض الحكومة بمن فيهم أولئك الذين يعارضون مذكرة قاضيات الجنائية!
متى إذن كتبتم كل هذه اللافتات الأنيقة وأنتم تزعمون أن الخروج كان عفويا؟ الخروج العفوي كان عندما وصل الدكتور جون قرنق إلى الخرطوم. كان قرنق تلك النسمة الاستوائية التي أيقظت وطناً بأكمله على أمل الحرية والتعايش السلمي، فهرعت إليه الملايين تعدو في عفوية صادقة لا تدانيها "عفوية التخويف وتقطيع الأوصال" ...
ثم ما قولكم يا أقطاب الحكومة وأطناب أمنها أنني أستطيع وبسهولة شديدة أن أفتح صفحة عقولكم وأقرأ فيها أنكم كنتم تعلمون سلفا أن غالبية الشعب السوداني ترغب في زوال حكومتكم للأسباب التي تعرفونها جيدا ولا داعي لتكرارها. وتبعا لذلك كنتم تتوقعون، بداهة، أن قطاعات عريضة سوف تتخذ من قرار قاضيات الجنائية الدولية فرصة للخروج والتعبير عن رغبتها في زوال حكومتكم. فإجراءات إرهاب المجتمعات التي اتخذتموها قبل صدور القرار والتهديد بتقطيع الأوصال الذي أعلنتم عنه بصورة استباقية وتجميعكم لعصابات العنف والإرهاب وتسليحها سرا تؤكد جميعا أنكم كنتم على علم مسبق برفض الناس لحكومتكم وبالاحتمال القوي لخروجهم من قيود إرهابكم بمجرد سماعهم نبأ قرار قاضيات الجنائية الدولية. ومن علمكم المسبق برأي الشعب فيكم لجأتم إلى حيلة تقسيم الشعب بين مؤيد ورافض لقرار قاضيات الجنائية الدولية، فوضعتم قسرا الغالبية التي ترغب في زوالكم في خانة "مؤيدي الجنائية" التي ابتدعتموها، ثم ربطتم بين "تأييد الجنائية" وبين "خيانة الوطن" لإعطاء أنفسكم مبررا صنعتموه بأنفسكم ولأنفسكم لضرب كل من يخرج يعارض سلطانكم. وبذلك قمعتم وأرهبتم كل من حاول الخروج للتعبير عن رفض حكمكم. ومع ذلك تظل القسمة الصحيحة والثابتة هي بين قلة قليلة منتفعة تؤيد استمرار حكومتكم وبين غالبية ساحقة ترغب في زوالكم. لا يفوتني أن أشير أن الكثيرين خاصة من أبناء دارفور قد وقعوا في هذا الفخ نصبتموه نصبا واحتيالا على الحقيقة، فخ القسمة بين مؤيد ومعارض للجنائية، فحصر هؤلاء أنفسهم في خانة "تأييد الجنائية" بدلا من البقاء ضمن الرأي العام الغالب الذي يرغب في زوال حكمكم. وبذلك سهل عليكم تجريمهم بعدم الوطنية! أن كل الذين صنفتموهم في خانة تأييد الجنائية الدولية أو ألقوا بأنفسهم في هذا الفخ هم في الأساس ضمن القطاع الغالب من الشعب الذي يرفض حكمكم ... وهذا من أبجديات المنطق لأن رفض الشعب لحكمكم سابق لقرار الجنائية ولا يمكن تصنيف السابق على اللاحق!
وهكذا يا أقطاب الحكومة وأطناب أمنها سرقتم الموقف الوطني النبيل للذين خرجوا في حب الوطن وبعتم كل هذا النبل الوطني في سوق النخاسة السياسية عندما علقتم لافتاتكم فوق الرؤوس وزعمتم أن الناس خرجوا في حبكم .. هي سرقة صغيرة إذا ما قورنت بسرقاتكم للوطن وللحريات ولحقوق الشعب وممتلكاته. فإذا كنتم ترون أن قاضيات الجنائية الدولية قد ظلمنكم بقرارهن، فأنتم قد مارستم أقصى درجات الظلم والاسترقاق ضد شعب بأكمله بسلبكم لحرياته وممتلكاته بما لا يرضي الله والحق والعدل، فخرجتم عن الملّة والدين.
وأن كنتم تظنون أنكم على شيء من الدين وأن الدين يقركم على استخدام الإكراه والإرهاب حتى من أجل الدين ذاته، إذن فاستمعوا بآذان ليس فيها وقر أو رنين ذهب إلى قول الله: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) سورة يونس. (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة. بقول الله الحاسم الناهي المانع أنتم لستم من الدين في شيء لأنكم تكرهون الناس وترهبون الناس بتقطيع الأوصال وتهدرون دماء المسلمين وتسرقون الحرية التي كرم الله بها الإنسان وتأكلون السحت وحقوق الناس بالجبر وبالباطل. ولن تكونوا على شيء من الدين حتى تفيئوا إلى أمر الله وتردوا الحقوق إلى أصحابها وتطلبون من الله ومن الناس الصفح والمغفرة. الدين هو فعل العدل والله هو الديموقراطي الأعظم، خلق الإنسان ومنحه الحرية، وفي تكريم الإنسان بالحرية يكمن سر خلق الإنسان وسؤاله. فالحرية ملازمة لخلق الإنسان فلا يستطيع كائن من كان أن يمنح الحرية لمخلوق صنعه إلا الله، وإلا فأتوني بمن صنع شيئا أو حتى آلة وأعطاها الحرية غير الله. لذلك حرية الإنسان عزيزة عند الخالق .. وأنتم صادرتم هذه النعمة الربانية عن خلقه. فماذا تقولون لربكم يوم يقف الأشهاد؟
فلا ترفعوا بعد يوم الناس هذا عصيكم في وجوه الخلق مهللين مكبرين باسم الله لأن الله يعرف ولن تخادعوه أو تخدعونا أو تكيلوا لله بمكيالين (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) البقرة. أنتم كالذين قال الله فيهم في سورة الأعراف (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وصدق الله العظيم.
وأن كنتم تظنون أنكم على حق وتفعلون الصواب فتأملوا جيدا قول الحق في الذين يظنون أنهم يفعلون الصواب بينما كل أعمالهم البائنة مجانفة لأسس العدل والأمانة: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) الأعراف. (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) الكهف. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) المجادلة.
وإذا كنتم تظنون أن دعاتكم في مساجدكم سوف يكبحون الشعب باسم الدين فإن ورقة الدين الزائفة التي استخدمتموها انسهكت وانكشف زيفها. الشعب اليوم يعلم أن مساجد كثيرة قد بنيت لغير وجه الله في زمن هذه الحكومة الدكتاتورية. مساجد كالتي نهى الله رسوله الكريم عن الصلاة فيها، وقال المولى فيها في سورة التوبة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أئمة مساجدكم يبيعون كلام الله بثمن بخس ويدعون إلى مجانفة الحق والعدل لقاء أموال قد اقترفوها. هؤلاء هم الجانب اللزج من الأزمة السودانية حتى ينزلق بهم الأبرياء إلى مناصرة الظلم. لقد كان الأجدر بهؤلاء أن يذكّروا أقطاب حكومتكم بمقولة (عدلت فأمنت فنمت يا عمر) .. مساجدكم هذه تعج بأكثر من (غبشاوي).. وإن كنا لا نرى بين أقطاب حكومتكم من هو في قامة طلعت فريد حتى يستحق سقطة الغبشاوي عليه رحمة الله. فلا تئد يا عمر طفلة تمسح الغبار عن لحيتك.
ردوا الحقوق إلى أهلها وادخلوا في دين الله من جديد واطلبوا الصفح والمغفرة من الله ومن هذا الشعب لعل الله يتوب عليكم. وبعد ظنكم أن الإيمان جاوز أفواهكم وبلغ منكم القلوب ارفعوا من بعد ذلك عصيكم وهللوا وكبروا (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة.
إن هدفكم الواضح من تصعيدكم الإرهاب الاجتماعي وتهديد الشعب بتقطيع الأوصال وقطع الرقاب هو كبح حركة المجتمعات السودانية التي تسعى إلى استعادة حقوقها الإلهية المسلوبة المنهوبة. تهديداتكم ليست لها علاقة بموضوع الجنائية الدولية، لكنكم تظنون أنكم تحسنون صنعا باستغلال موضوع الجنائية في قمع المجتمعات السودانية وفرض سيطرتكم عليها. هي إذن سياسة التخويف التي ظللتم تمارسونها منذ أول يوم في انقلابكم العسكري المشؤوم. لكن تصعيدكم للإرهاب الاجتماعي لن يخيف المجتمعات السودانية، فقد ولى زمن الخوف إلى غير رجعة، وإن حدث ذلك فإلى حين قصير. سوف لن تحصدوا من تصعيد الإرهاب إلا مزيدا من المقت الاجتماعي والعزلة .. عزلة داخلية في جوف عزلات إقليمية ودولية. (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) سورة النور آية 40.
ثم كان ردكم على المجتمع الدولي وقرار المحكمة بطرد منظمات العمل المدني الأوروبية. ولسوف تعلمون أن هذا الرد غير الحصيف قصير النظر سوف يفتح عليكم أبواب جهنم ويخرج القضية بكاملها من أيدي العربان والأفارقة والوطنيين السودانيين ويضعها ويضعكم بالكامل في يد من لا يرحم. إن ردكم هذا عبارة عن وثيقة إثبات نادرة عجز مدعي الجنائية الدولية الحصول على مثلها. وها أنتم تقدمونها بأريحية لن يحسدكم عليها أحد على مر التاريخ. طردكم لهذا العدد الكبير من المنظمات الدولية بمجرد صدور قرار قاضيات الجنائية الدولية دليل فاقع أن الطرد رد على قرار المحكمة، وهذا عمل معيب في الأداء السياسي. ثم إن تعللكم بأن هذه المنظمات لها أجندة ضد مصلحة البلاد يدفع بالسؤال: لماذا أذن تركتموها كل هذه المدة تعيث فسادا بمقدرات البلاد؟ ثم لماذا لم تكشفوها واحدة تلو الأخرى بالجرم المشهود فتطردونها واحدة تلو الأخرى؟ ثم هل سألتم أنفسكم لماذا لم يقدم لكم العرب مما تكدس في أرصدتهم من الأموال لسد الثغرات المميتة التي ينفذ منها الموت في معسكرات اللجوء؟ ولماذا لم تفرضوا على أنفسكم نصيبا مفروضا (صندوقا) من أموال النفط السوداني لمقابلة احتياجات اللاجئين؟ أليس لدارفور حصة فيه، أم أن عائدات النفط تبقى هكذا "قسمة غرماء" بين مترفيكم وبين الحركة الشعبية؟     
ومع ذلك سوف أذهب إلى أقصى حدود التفاؤل لأتوقع بعض الهدوء الدولي في موضوع الجنائية الدولية ليس لأن العالم قد ارتعدت فرائصه خوفا من خطبكم وشتائمكم وأحذيتكم ومن بعد أحذيتكم مجاهديكم، بل لأن قرار قاضيات المحكمة قد دخل بين براثن مصالح القوى الدولية وحساباتها الأخرى التي تختلف كثيرا عن مسالة القضاء والعدالة. والهدوء الدولي المحتمل سوف لن يستدعي الرجوع إلى مجلس الأمن الدولي في الوقت الحاضر، فهنالك الكثير من السيناريوهات الممكنة خاصة بعد رحيل جورج بوش ووصول باراك أوباما للبيت البيض والتقارب الاقتصادي الوشيك بين الولايات المتحدة الأميريكية والصين. ومع احتمال أن تمارس الصين عليكم ضغطا كبيرا، إلا أن ذلك سوف لن يعني أبدا طي هذا الملف، بل يتم في الأثناء توظيف قرار الجنائية في المقاصة الاقتصادية الدولية. ولعلها تكون المرة الأخيرة لانتهاز الفرصة السارية ونطلب من رئيس وأقطاب وأطناب الحكومة العسكرية الرجوع إلى المجتمعات السودانية وتنفيذ ما سبق أن أشرت إليه مرارا وتكرارا بتطبيق شروط المرحلة الانتقالية كافة روحا ونصا. تلك الشروط التي تجدونها واردة تفصيلا في اتفاقات نيفاشا لجهة تكوين الحكومة الانتقالية التي تضمن الحريات وتكفل التحول الديموقراطي ,/ن بعذلك إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
لقد سقط "التمكين" وتهشم تماما ولم يبق إلا وجه الله وهذا الشعب. لا عاصم اليوم إلا خضوعكم التام لإرادة الشعب المنصوص عنها في اتفاقات نيفاشا. لقد أصبح في حكم المستحيل استمراركم في الهروب إلى الأمام وأنتم مثقلون بما اكتنزتم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ومن الحريات والدماء والحقوق. لم يعد هنالك ما كان يعرف بحكومة الإنقاذ، الإنقاذ ماتت وشبعت موتا، والموجود اليوم جماعة حاكمة باسم الإنقاذ. هذه حقيقة أدركتها الجماعات الطفيلية الملتصقة بحكومتكم تماما مثلما يدرك القراد نفوق الحيوان فيهرب ساعة الاحتضار .. ألم تر إلى الذين داهنوا وانتفعوا وهم يغرفون الدولارات غرفا من الأسواق استعدادا للهروب الكبير؟ (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) التوبة، الآية 57.
والسؤال: لماذا طالت رماح الجنائية الدولية رئيس الحكومة العسكرية وحده دون سائر أقطاب الجماعة الحاكمة؟ ونقول أن الإجابة لها ثلاثة جوانب. جانبان داخليان وجانب خارجي. أما في الجانب الخارجي فسوف يقول أقطاب الحكومة ليّاً بألسنتهم وطعنا في الحقيقة أن المستهدف هو السودان باستهداف رئيس الحكومة لأنه رمز عزتنا وكرامتنا. كضبا كاضب. سوف نعرض عن ذلك ونصحح هذا الكلام المعوج بالقول أن السودان ليس مستهدفا من أجل تدميره أو امتهان كرامة أهله. فإذا كان هدف القوي العظمى هو امتهان كرامة الشعب السوداني لتركوه في ما هو عليه من امتهان للكرامة لا تدانيه "امتهانات" ! وإذا كان الهدف هو تدمير السودان ففي مقدور القوى الدولية أن تفعل ذلك بين طرفة عين وانتباهتها ولا تخشى لومة لائم. لا هذا وتلك، أنما هي المقاصة الاقتصادية التي أشرت إليها. هي معركة مصالح اقتصادية واحتكارات دولية كبري لا يتبادل أطرافها إطلاق الرصاص على بعضهم البعض. فالعالم رقعة شطرنج بين يدي القوى العظمي كلما أزاحت إحداها بيدقا استهدفت القوى الأخرى طابية! لذلك يختلط القانون بالسياسة وبكل الوسائل المعتمدة بين أطراف اللعب الدولي الكبير! والسودان بلد عظيم تحكمه بيادق تحمل بنادق مصوبة إلى رأس الشعب، لذلك تتعامل معكم القوى العظمى بهذه الأساليب. لن تجرؤ القوى العظمي أن تفعل ما فعلته معكم مع أي حكومة منتخبة ديموقراطيا.
والسودان غني بإمكاناته الاقتصادية وموقعه الاستراتيجي، والصراع حوله قديم متجدد. وخلال هذه المرحلة من صراع القوى الكبرى تصادف أن تحكم السودان حكومة عسكرية دكتاتورية عديمة الخبرة بالصراعات الدولية أو بكيفية التعامل معها، إذا نظرت حكومتكم شرقا عميت أن ترى الغرب! حكومة تدير بلدا في اتساع السودان وتعقيداته كما يدار اتحاد طلاب أو كما تدار ثكنة عسكرية ! وبمساعيها لتبديل هوية المجتمعات السودانية دخلت الحكومة الدكتاتورية في صراعات ومعارك طاحنة مع المجتمعات السودانية. وبذلك هيأت الحكومة الدكتاتورية المسرح السوداني للصراعات الدولية كأفضل ما يكون حتى انتهى بها الأمر إلى أعتاب القضاء الدولي بتهم جرائم الحرب. لذلك لا ينبغي أبدا أن يلهينا الصراع الدولي التقليدي عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الحكومة الدكتاتورية في حق الشعب السوداني وحقوقه في الحرية والتنمية. الصراع الدولي لن يكون شماعة لتعليق فشل الحكومة ولا يبرر أخطاءها أو يمنحها صكا بالتأييد والبقاء. بل على العكس من ذلك، فالصراع الدولي يستدعي أن تنشأ في السودان حكومة يختارها الشعب بإرادة حرة حتى تكون في قامة الصراع الدولي ومتطلباته. فالحكومة الديموقراطية لابد لها أن تقدّم الكفاءة على الولاء، وأنتم قدمتم الولاء على الكفاءة بل وشردتم الكفاءات الوطنية .. فانظروا ما حاق بكم جراء تقديمكم الولاء على أكفاء هذا البلد.
في هذا المعطى الدولي، ظن مدعي المحكمة الجنائية الدولية أن التوجه مباشرة إلى رئيس الحكومة العسكرية هو أقصر الطرق لبلوغ هدفه، وأن ملفا واحدا يتناول "الرأس" سوف يغنيه عن فتح 50 ملفا لمن شملتهم قائمة الاتهام. صحيح أن العمل على ملف واحد يستدعي جهدا أقل، لكن مدعي الجنائية ضل الطريق ووقع في خطأ تكتيكي فادح نتجت عنه نتائج معاكسة تماما لرغبة غالبية المجتمعات السودانية في الخلاص من الحكومة الدكتاتورية. ذلك لأن توجيه الاتهام إلى رئيس الحكومة الدكتاتورية قوّى من شوكة الحكومة بتمكينها من تصعيد الإرهاب داخليا، كما جعل مهمة "الدفاع عن الرئيس" مهمة أسهل بالنسبة لأجهزة الحكومة الدكتاتورية، بل ومهمة مقصودة لذاتها لدى حكام الأقطار العربية والأفريقية، علاوة على أن الدول الكبرى المستفيدة من الحكومة الدكتاتورية مثل الصين وروسيا قد وجدت الذريعة المناسبة أيضا في "الدفاع عن الرئيس" والغريب الملاحظ أن الحكومات الإقليمية والدولية قد تناست تماما أنها تدافع عن حكومة غير شرعية من أساسها من حيث أنها سطت على الحكم بانقلاب عسكري، كما فشلت الحكومة في اكتساب "شرعية المشاركة" في الحكومة الانتقالية لأنها وقفت عقبة في وجه تنفيذ شروط المرحلة الانتقالية الواردة في اتفاقات نيفاشا. وسوف تظل هذه الحكومة المسماة جورا بحكومة الوحدة الوطنية فاقدة للشرعية الدستورية رغم أنف الحركة الشعبية إلى حين الوفاء بكل شروط تكوينها كحكومة انتقالية لها مهام محددة. في المقابل فإن توجيه الاتهام لعدد وفير من أركان الحكومة الدكتاتورية كان سوف يحدث هزة عنيفة في أركان الحكومة يصعب احتواؤها، وربما قوبل اتهام من هذا النوع بمساندة غير مباشرة من الأطراف الإقليمية والدولية تحت ذريعة تحقيق العدالة. وبذلك كان توجيه الاتهام لخمسين من أقطاب الحكومة هو أقصر الطرق لبلوغ الأهداف التي قصدها مدعي الجنائية الدولية.
ذلك هو الجانب الخارجي الذي انتهى إلى توجيه الاتهام إلى رئيس الحكومة العسكرية دون غيره من أقطاب حكومته. أما في الجانبين الداخليين، فإن أولهما نتج عن التعامل الفطير لمستشاري وأقطاب الحكومة العسكرية مع مسألة المحكمة الجنائية ومع قضية دارفور على وجه الخصوص. تعامل يبرهن على ضمور في القدرات يظهر في تعامل أقطاب الحكومة مع قضايا السودان كلها. المصدر الأساسي لسوء التعامل كما ذكرنا هو أن هذه الجماعة حاولت كشط هوية المجتمعات السودانية وإحلال طريقتها التي هي في النهاية لا شيء! زد على ذلك أن الجماعة الحاكمة قد مارست أسوأ عمليات إقصاء للكفاءات والمواهب السودانية واعتمدت على قدرات متدنية مهزوزة لعدد شحيح نضب شحيح ما في جعبتهم مع تعاقب الأحداث .. وهكذا تفعل الحكومات الدكتاتورية عادة. لقد اقتصر تعامل الجماعة الحاكمة مع الجنائية الدولية على التعنت وردود الأفعال الحمقاء بعيدا عن السياسة والقانون وذكاء المناورة. وفي الأثناء كانت أنشوطة الجنائية تضيق حول رئيس الحكومة العسكرية. قولا واحدا كان "رجال الرئيس" سببا مباشرا في توجيه الاتهام لرئيسهم وتوريطه وحده وأصبحوا هم في مفازة ولو إلى حين!
وكما هو الحال في كل الحكومات الدكتاتورية فإن أقطاب الحكومة قد وضعوا الصلاحيات الظاهرة والمسؤوليات في يد الرئيس. فهو رئيس الحكومة وهو رئيس الوزراء وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمن والشرطة وهو الذي يعين القضاة ويعزلهم .. هو رئيس كل شيء الآمر الناهي بأمره لا شريك له! إنها صناعة الدكتاتور .. صناعة محلية رخيصة بخبرات إقليمية ولا أروع من ذلك ..! على أن صناعة الدكتاتور لها جانب آخر خطر هو تملص أقطاب الحكومة من كل التبعات! بالتالي أصبح رئيس الجماعة الحاكمة هو أيضا المسؤول الأوحد عن تبعات وجرائر وجرائم كل أقطاب الحكومة الدكتاتورية. وبذلك يكون رئيس الحكومة العسكرية هو المسؤول الوحيد والأول والأخير عن كل ما لحق بالمجتمعات السودانية من ظلمات وقتل وتشريد. وقد كان من الطبيعي أن ينتقل مفهوم "الرئيس هو المسؤول الوحيد" إلى علاقات البلاد الخارجية وإلى الرأي العام الدولي والمنظمات الدولية مثلما هو الحال بالنسبة لكل الحكومات الدكتاتورية في العالم. في هذا الصدد قال الرئيس الأميريكي الأسبق بيل كلينتون قولته المشهورة: (يوجد في مصر أبو الهول واحد ..) وهو يقصد الرئيس المصري حسني مبارك. أو كما هو الحال اليوم بالنسبة لروبرت موغابي وغيره. وتحت جنح كل هذه المسؤوليات المحصورة في يد الرئيس، وجّه مدعي الجنائية الدولية اتهاماته مباشرة إلى المسؤول الوحيد الأول والأخير .. رئيس الحكومة! وعندما وقع الرجز تراجع أقطاب الحكومة عن أي فعل إيجابي يتحملون به نصيبا من المسؤولية وتركوا رئيسهم  وحده يستدرر المساندة من شعب مثخن بالظلم ... طلبتَ عزيزا من شعب عزيز كريم يا عمر ..
وأما الجانب الداخلي الثاني فإنه هو هذا الشعب المثخن بالظلم والمسغبة. فالأسباب التي ذكرنا فقد بلورت عند الشعب السوداني أن هذه الحكومة هي "حكومة البشير". أضحى رئيس الجماعة الحاكمة هو المسؤول الوحيد عند الرأي العام السوداني عن كل ما أصاب ويصيب السودان. وعندما ادلهمت الأمور وزاغت الأبصار وتراجع أقطاب الحكومة إلى ما وراء المايكروفونات، لم يجد رئيس الحكومة من يستعصم بهم غير هذا الشعب المثخن بالظلم فأجاره الشعب طوعا أو كرها أو على الطريقة السودانية السمحة في نجدة الضعيف مهما كان. لكن بعد قليل سوف يدرك الشعب أن كل ما قدمه لرئيس الحكومة سوف يتحول إلى مكاسب سياسية لدعم الشمولية والدكتاتورية، وسوف يتحول إلى مكاسب مادية ودولارات خضراء وإلى ذهب أصفر وأحمر يذهب إلى أرصدة وودائع المنتفعين من الحكم الشمولي. فلا يقبل عقلا ولا منطقا ولا عدلا أن يأخذ رئيس الحكومة من المظلوم ويؤتي الظالم. وحري به اليوم أن يعيد للمظلوم ما اقترفه الظالم وأن يعاقب الظالم على ما اغترفه من جرم في حق أهلنا في دارفور وفي كل بقعة من بقاع السودان إن كان حقا من المؤمنين. كيف ذلك؟  بتطبيق شروط المرحلة الانتقالية الواردة في اتفاقات نيفاشا كأضعف الإيمان.
وأنا أدفع هذا السياق للنشر، أقرأ حديث الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون الذي يقول فيه (إن على الحكومة السودانية التحرك قضائياً لمواجهة التعديات والانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان في دارفور، إذا أرادت استيفاء شروط إعمال المادة 16 من معاهدة روما، التي تتيح تأجيل تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير.) إذن فقد بدأت "التهدئة المؤقتة" التي أشرت إليها في مطلع هذا السياق .. هي آخر فرصة نعم، لكن المشكلة أن أقطاب الحكومة أعجز من أن يحملوا هذه الفرصة الأخيرة قدما ولو لخطوة واحدة. ولأن الفرص لا تتكرر، فقد جاء وقت اتخاذ القرارات الصعبة .. يا عمر .. قبل أن يستمتع أهل الساقية بلحم ثورهم المكسور!
وبعد
قبل صدور قرار قاضيات الجنائية كنت قد اقترحت (الوثيقة) التي تضمنت مقترحا مفصلا لتشكيل الحكومة الانتقالية التي يمكن أن تجتاز بها البلاد هذه المرحلة الدقيقة. وقد تضمن الاقتراح تنحي رئيس الحكومة وتولي نائبه الأول مقاليد الرئاسة الانتقالية لصون الكرامة وتفادي تداعيات قرار الجنائية، إلى غير ذلك من تفاصيل الحكومة الانتقالية التي وردت في (الوثيقة) المنشورة. الآن وبعد صدور القرار من البديهي أن يتمسك رئيس الحكومة بموقعه مخافة أن يجعل منه أقطاب حكومته كبش محرقة. هذا الوضع المستجد يقتضي بعض التعديلات منها:
أن يبقى رئيس الحكومة الانتقالية لفترة أخرى محددة وقصيرة لا تجاوز ستة أشهر بشرط توسيع المشاركة السياسية الفعلية وضمان الحريات وإقالة الحكومة وتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة بما يتفق مع شروط المرحلة الانتقالية، ومن ثم السعي مع المجتمع الدولي في إيجاد حل انتقالي لملف دارفور ومعالجة ملف الجنائية الدولية بتوفير الضمانات التي تكفل عدم تسليم رئيس الحكومة للجنائية الدولية والشروع فورا في محاكمات جادة داخلية تطال كل من ارتكبوا جرائم حرب في دارفور برقابة دولية وإقليمية وبواسطة قضاة يتم اختيارهم من خارج قضاة الحكومة. بعد انقضاء مدة الستة أشهر تنتقل كل صلاحيات رئيس الحكومة الانتقالية تلقائيا إلى النائب الأول عن الحركة الشعبية حتى لو لم تكتمل هذه الترتيبات.
منذ الآن، يتولى النائب الأول جميع ملفات علاقات السودان السياسة الخارجية بما في ذلك تمثيل السودان في القمم العربية والأفريقية والمحافل الدولية كافة. وعليه يقوم النائب الأول بتمثيل السودان في القمة العربية المقبلة وما يليها من قمم عربية وأفريقية،
منذ الآن يتولى نائبا رئيس الحكومة كل ما يتعلق بملف قضية دارفور، وأن ينقل رئيس الحكومة الانتقالية إلى نائبيه كامل صلاحيات هذا الملف، وينضم إليهما لاحقا نائب رئيس الحكومة الانتقالية عن دارفور.
بعد ذلك تتفق القوى السياسية والمدنية في البلاد على تنفيذ ما تبقى من اقتراح تشكيل الحكومة الانتقالية ومجلس الوزراء الجديد والإدارات الانتقالية للولايات حسب ما ورد في (الوثيقة) المقترحة مع التعديلات التي يرى الإجماع السياسي في البلاد ضرورة إدخالها (يرجى مراجعة الوثيقة)
حسب ظني لن يكون هنالك أفضل من هذا المخرج، بدلا عما يجري حاليا من مزاعم جمع الصف الوطني الداعمة للدكتاتورية ومن تشنجات وتحديات جوفاء سوف تنهال نتائجها بالتأكيد على رؤوس أصحابها.
سالم أحمد سالم
باريس
12 مارس 2009

 

آراء