الذين أنعم الله عليهم … بقلم: د. عمر محمد سعيد الشفيع

 


 

 


omar.alshafi@gmail.com
السورة الأولى في القرءان العظيم هي سورة الفاتحة. واسمها يدل على أنها فاتحة ومقدمة الكتاب التي تلخِّص مواضيعه الرئيسية. ويعتبرها أمين أحسن إصلاحي مقدمة للكتاب كله وفي الوقت نفسه مقدمة أيضاً للمجموعة الأولى من المجموعات السبعة التي يتكون منها الكتاب كله حسب تدبره. والمجموعة الأولى تشمل السور الخمسة الأولى إبتداءً من الفاتحة وحتى المائدة وعمودها المركزي هو الشريعة من موقع الشهادة على الناس.
وسورة الفاتحة نفسها تبدأ ـ بعد البسملة ـ بحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وهذه المركبات الثلاث أو الأربع {الحمد لله (رب العالمين) / الرحمن الرحيم / مالك يوم الدين} تحتاج إلى تدبر في القرءان العظيم حسب التشابه والمثاني الخاصة بها، أي حسب التعالق والإقتران المرتبطين بألفاظها.
ثم يأتي في السورة مركب “إهدنا الصراط المستقيم” على المستوى النظري المعرفي ومركب “صراط الذين أنعمت عليهم” على المستوى العملي التطبيقي. ولن أشتغل اليوم بماهية “الصراط المستقيم” وخصائصه ولكن الذي يهمني هو صراط “الذين أنعمت عليهم” وسؤالي: من هم الذين أنعم الله عليهم؟
مجموعات الذين أنعم الله عليهم
وقد أوضحت الآية 69 من سورة النساء  أن من يطع الله والرسول فأولئك مع “الذين أنعم الله عليهم” من:1. النبيين 2. والصديقين 3. والشهداء 4. والصالحين. وواضح أن صراطهم هو طاعة الله والرسول طاعةً متصلة غير منفصلة وتعني إتباع هذا القرءان العظيم.
إذن هؤلاء هم المجموعات الجزئية لمجموعة (الذين أنعم الله عليهم). والصراط المنسوب إلى المجموعة الكبيرة (الذين أنعم الله عليهم) هو أيضاً صراط المجموعات الجزئية {النبيون، الصديقون، الشهداء، الصالحون}.
والسؤال الأول: من هم الذين ينضوون تحت كل مجموعة جزئية؟
والسؤال الثاني: من هم الذين يشتركون في أكثر من مجموعة؟
دعونا نبدأ أولاً بعناصر كل مجموعة على حدة قبل أن ندلف إلى العناصر المشتركة بين أكثر من مجموعة.
النبيون
النبيون بعثهم الله مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق بعد أن كان الناس أمة واحدة وأخذ منهم ميثاقهم وفضَّل بعضهم على بعض وجعل خاتمهم محمداً وسوف يُجاء بهم مع الشهداء يوم تشرق الأرض بنور ربها ويوضع الكتاب. والنبيون الذين أنعم الله عليهم هم من خمسة مجموعات وهي (1) من ذرية آدم (2) وممن حملنا مع نوح (4/3) ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل (5) وممن هدينا واجتبينا كما أوضحت ذلك الآية 58 من سورة مريم.
ومجموعة {النبيون} تحتوي في القرءان العظيم على مجموعة {الأنبياء} في تقاطع بيِّن بينهما كما هو التقاطع البيِّن بين الرسل والمرسلين. والنبيون ذكرهم القرءان في زُمَر هي:
الزمرة الأولى ـ زمرة النبيين الذين ذُكِر كل واحد منهم بأنه “نبي” وهم عيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى  وهارون وإسماعيل وإدريس وهؤلاء ورد ذكرهم في سورة مريم وإسحاق ورد ذكره مرة ثانية في سورة الصافات. وهذه الزمرة هي التي أشارت إليها آية مريم بلفظ “أولئك” وذكرتهم كأمثلة للمجموعات الخمسة التي يأتي منها النبيون الذين أنعم الله عليهم.
الزمرة الثانية ـ زمرة “الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة” وهم الذين ذكرتهم سورة الأنعام. ويشملون ـ بالإضافة إلى سبعة من الثمانية المذكورين في الزمرة السابقة (إدريس لم يذكر في زمرة إيتاء النبوة) ـ نوح وداوود وسليمان وأيوب ويوسف وزكريا ويحيى وإلياس وإليسع ويونس ولوط (وهذه الزمرة مقسَّمة على مجموعات أخرى مثل مجموعات المحسنين والصالحين والمفضَّلين على العالمين).
وتشمل هذه الزمرة أيضاً بني إسرائيل (الجاثية 16).
الزمرة الثالثة ـ زمرة {الأنبياء} هي زمرة النبيين الذين جُعِلوا أنبياء في قوم موسى وهم من ذرية نوح وذرية إبراهيم في مجموعهم أما على التفصيل فقد حدد القرءان منهم إسحاق ويعقوب وعيسى. وارتبط لفظ الأنبياء بالجعل {أنبياء قوم موسى، إسحاق، يعقوب، عيسى} والقتل الذي ارتبط بهم أنبياءً ونبيين.
الزمرة الرابعة ـ زمرة من وصفه القرءان بـ”النبي” لفظاً معرفاً بنفسه بألـ التعريف ومنفصلاً عن غيره وارداً في القرءان ثلاثين مرة. وورد لفظ النبي مرتبطاً بالواو “والنبي” مرة واحدة في آية المائدة 81 . وهذه المجموعة تشمل النبي محمد وحده وتفصِّل سيرة نبوته مع الذين آمنوا معه ومع أزواجه وغيرها من الموضوعات في مركبات أخرى مع لفظ النبي مثل (يا أيها النبي) و(هذا النبي) و(على النبي) و(النبي والذين آمنوا).
الخلاصة في مجموعة النبيين:
أولاً ـ الألفاظ الواردة في موضوع النبيين والنبوة هي {نبي، نبياً، النبي، النبيون، النبيين، الأنبياء، أنبياء، أنبياء الله، النبوة}. ويبدو أن كل لفظٍ من هذه الألفاظ يتجه إلى دلالة فرعية خاصة به إذ أن لفظ (نبي) يرد في سياق الحديث عن النبيين عامةً ولفظ(نبياً) يرد في سياق تحديد نبي معين ولفظ (النبي) يرد في السياق الخاص بالنبي محمد.
ثانياً ـ النبيون الأشخاص عددهم عشرون نبياً هم {نوح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، إدريس، يوسف، داوود، سليمان، أيوب، إلياس، إليسع، يونس، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، محمد}. أما المجموعات التي جاء منها هؤلاء النبيون فهم ذرية نوح وذرية إبراهيم وبنو إسرائيل.
ثالثاً ـ هود وصالح وشعيب وذو الكفل ليسوا من النبيين إلا أن منهم رسلاً وبذلك يتبيَّن لنا خطأ القاعدة التي تقول أن كل رسول نبي.
الصديقون
وردت مادة الجذر {ص، د، ق} في جذوع مختلفة في لسان القرءان منها زمرة (تصدَّق والمتصدقين والمصَّدِّقين والصدقات) ومنها زمرة (صدَّق وتصديق ومصدِّق وصدِّيق) ومنها زمرة (صدَق وصِدْق والصادق والصادقون). وما يهمنا هنا هو الزمرة الثانية التي يدخل فيها الصِّدِّيقُون.
الصديقون يمثلون مجموعة قائمة بذاتها تدخل مجموعةً جزئيةً في مجموعة (الذين أنعم الله عليهم) ومجموعة الصديقين تحتوي على مجموعة وأشخاص.
أما المجموعة فهم (الذين آمنوا بالله ورسله) كما ورد في آية الحديد 19 .
وأما الشخوص فهم إبراهيم وإدريس ومريم ويوسف وهارون.
إبراهيم: .
إبراهيم صدِّيق ونبي وحتى الآن نرى إبراهيم يدخل في الصديقين والنبيين وهو كان صديقاً قبل أن يكون نبياً إما لأنه صدَّق بالله وملكوته من خلال منهاجه الحنيفي أو لأنه صدَّق الرؤيا التي رآها في منامه
إدريس: . إدريس صدِّيق ونبي على منهاج إبراهيم وذُكِر مع إسماعيل وذي الكفل بأنه من الصابرين والصالحين.بالإضافة إلى أنه رُفِع مكاناً عليَّاً.
مريم: ومريم صديقة لأنها صدَّقت بكلمات ربها وكتبه . وأنظر إلى هذا التركيب (كانا يأكلان الطعام) إذ أن مريم لم تأكل من الطعام الذي نعرفه المتمثِّل بالرطب لحظة أن هزَّت جذع النخلة إلا بعد ولادة المسيح لأنها كانت تأكل من رزق الله الذي كان يأتيها حتى تتهيأ لحمل المسيح ساعات قليلة.
يوسف: . وجاء وصف يوسف بالصدِّيق على لسان رسول الملك.
هارون: . وجاء وصف هارون بفعل (يصدقني) على لسان أخيه النبي موسى.
والخلاصة أن إبراهيم وإدريس ويوسف وهارون من الصِّدِّيقين ومن النبيين ومريم من الصديقين.

الشهداء
مادة الجذر (ش، هـ، د) جاء منها في القرءان على مستوى الأسماء الجذوع التالية: {شاهد، شاهدون، مشهود، شهادة،شهادات، شهيد، شهداء، شهود، أشهاد، مشهد}. والذي يهمنا هم الشهداء (لفظاً معرفاً) بإعتبارهم مجموعة جزئية من مجموعة الذين أنعم الله عليهم. والشهداء (المفرد شهيد) تختلف شهادتهم عن شهادة الشاهدين (المفرد شاهد) حيث أن شهادتهم حضورية فؤادية في حين أن شهادة الشاهدين هي شهادة خبرة كما هو واضح من شاهد يوسف (وشهد شاهد من أهلها) وليس شهيد من أهلها.
وللتوضيح فإن القتيل في سبيل الله هو شهيد في المعركة بمعنى أنه شهدها حاضراً ومشاركاً فيها وموته أكبر دليل على أنه شهيد هذه المعركة ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى شهداء المعركة الأحياء الذين يمكن لهم أن يؤرخوا لها لأنهم شهداؤها.
ولفظ “الشهداء” ورد 6 مرات في القرءان في 5 موارد وما يهمنا منها هي موارد النساء (69) والزمر (69) والحديد (19) حيث ذكر مورد النساء الشهداء أنهم ممن أنعم الله عليهم وذكر مورد الزمر أن الشهداء يجاء بهم والنبيين يوم تشرق الأرض بنور ربها ويقضى بينهم بالحق وذكر مورد الحديد أن مجموعة الذين آمنوا بالله ورسله أولئك من الصديقين والشهداء. وبذلك نعرف أن مجموعة الشهداء تضم مجموعة (الذين آمنوا بالله ورسله) وتضم أيضاً شخوصاً هم:
محمد: وكذلك في آل عمران 98 والحج 78.
عيسى: .
شهيد من كل أمة: وكذلك النحل 84.

الصالحون
الصالحون هم المجموعة الأخيرة من مجموعات الذين أنعم الله عليهم وهم النبيون والصِّدِّيقون والشهداء والصالحون. وفي مسألة الترتيب يقرر سبيط النيلي أن هذه المجموعات الفرعية الأربعة مرتبة ترتيباً تصاعدياً بمعنى أن الصالح هو بالضرورة نبي وصديق وشهيد وأن الشهيد هو بالضرورة صديق ونبي وأن الصديق هو بالضرورة نبي ويشرح ذلك قائلاً أن النبي هو من تأتيه أنباء من السماء وبالوحي، فإذا لم يرتب ويشك وصدَّقها إرتفع إلى رتبة التصديق، فإذا بلغ أن أمر ونهى شهد على أمته، فإذا طابقت كل أفعاله ما أوحي إليه كان صالحاً. وهذا التضمين في الترتيب بحيث تحتوي الرتبة العليا مَن دونها من الرتب لا دليل عليه وهذه المجموعات متداخلة فقد نجد شخصاً من الصالحين مثل ذو الكفل ولكنه ليس بنبي ولا شهيد ولا صديق. ويمكن أن يرسل النبي من الصالحين مثل يحيى وإسحاق الذين إرتبط بهما مركب (نبياً من الصالحين).ومريم عليها السلام صِدِّيقَة ولكنها ليست نَبِيَّة مما ينفي قصة الترتيب التصاعدي في معنى أن الرتبة العليا تتضمن ما دونها من رتب.
وصفات الصالحين في القرءان العظيم:
أنهم من عالمي الإنس والجن (الجن 11)
وأن الله يتولاهم (الأعراف 196)
وأن العباد الصالحين يرثون الأرض (الأنبياء 105)
وقد يقطعهم الله في الأرض مع من دونهم (الأعراف 168)
والمجموعات الفرعية من الصالحين تضم مجموعة الأمة القائمة من أهل الكتاب والملاحظ أن المسارعة في الخيرات (أو فعل الخيرات) من صفات الصالحين.
والمجموعة الثانية التي تدخل في الصالحين هم مجموعة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأحسنوا إلى والديهم .
والمجموعة الثالثة هي مجموعة الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله (النساء 34).
أما الشخوص الذين يدخلون في الصالحين فهم كثر.
في ختام الآية 72 من سورة الأنبياء هكذا بالجمع إشارة إلى أن موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب يشملهم هذا التركيب (وكلاً جعلنا صالحين) ثم أفرد لوط بآية لوحده هي الآية 75 . والآية 86 تشير إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل وبذا نعرف أن الصالحين المذكورين في سورة الأنبياء هم {إبراهيم، إسحاق، يعقوب، موسى، هارون، لوط، إسماعيل، إدريس، ذو الكفل}.ثم ذكرت بعض السور شخوصاً آخرين من الصالحين. ونلاحظ أن القرءان يذكر مجموعة منهم أنهم صالحون أو جُعلوا صالحين ويذكر مجموعة أخرى أنهم من الصالحين أو أُدخلوا في الصالحين.
والآن نذكر هؤلاء الصالحين كما نصَّ عليهم القرءان ونضيف الرتب الأخرى المنصوص عليها من النبوة والتصديق والشهادة.
نوح نبي صالح (التحريم 10).ولم يذكر مع الصديقين والشهداء.
إبراهيم نبي وصديق وصالح وقد دعا ربه أن يلحقه بالصالحين وأن يهبه من الصالحين وهو في الآخرة من الصالحين.
إسحاق نبي من الصالحين وصالح.
يعقوب نبي وصالح.
موسى نبي وصالح.
هارون نبي وصالح.
لوط نبي وصالح.
إسماعيل نبي وصالح وصادق الوعد.
إدريس نبي وصديق ومن الصالحين.
ذوالكفل من الصالحين.ولم يذكر مع النبيين.
يحيى مصدق بكلمة من الله (عيسى) ونبي من الصالحين (آل عمران 39).
عيسى كلمة من الله ونبي وشهيد ومن الصالحين (آل عمران 45 و46)
زكريا نبي ومن الصالحين (الأنعام 85).
إلياس نبي ومن الصالحين (الأنعام 85
يونس نبي  إجتباه ربه فجعله من الصالحين (القلم 50).
أبو الغلامين صاحبي الجدار.
ويوسف دعا مثل دعوة إبراهيم أن يلحقه ربه بالصالحين (يوسف 101) وسليمان أيضاً دعا ربه بدعوة قريبة من دعوة يوسف وإبراهيم وهي أن يدخله ربه برحمته في عباده الصالحين. والرسول صالح أطلق عليه القرءان هذا الاسم ومن يسميه لسان القرءان صالحاً فهو صالح ولكن لم يرد في شأنه صراحةً أنه من الصالحين. وقريب من ذلك صالح المؤمنين (التحريم 4). أما والد المرأتين اللتين سقى لهما موسى فقد وعد موسى بأن سيجده إن شاء الله من الصالحين (القصص 27).
خلاصة في المجموعات الفرعية
والآن يمكنك عزيزي القاريء أن تقوم بالتقاطعات بين هذه المجموعات الفرعية المكونة لمجموعة الذين أنعم الله عليهم وتبحث عن الصراط المستقيم المرتبط بهم. وإليك المجموعات الفرعية التي تضم الشخوص فقط:
1. مجموعة النبيين = {نوح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، إدريس، يوسف، داوود، سليمان، أيوب، إلياس، إليسع، يونس، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، محمد}.
2. مجموعة الصديقين = {إبراهيم، إدريس، مريم، يوسف، هارون}.
3. مجموعة الشهداء = {محمد، عيسى}.
4. مجموعة الصالحين = {نوح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، ذو الكفل، يعقوب، إدريس، إلياس، يونس، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى}.
وذكرت هنا ما نصَّ عليه القرءان ولم ألجأ إلى استنتاجات مثل أن الشهيد الذي يبعث في الأمة هو نبيها أو رسولها. ومجموعة المرسلين والرسل لم تذكر في مجموعة الذين أنعم الله عليهم ولكن سوف نتطرق إليها في حلقة قادمة حتى نرى مَن مِن المرسلين والرسل ليس من الذين أنعم الله عليهم ومن منهم هو نبي أو صدِّيق أو شهيد أو صالح. والله أعلم.

 

آراء