adballashiglini@hotmail.com (1) قلت لنفسي : بعضنا أمة مكنوزة بالعجائب ، تأتي كل المهاجر بثقافاتها ، فتجلس عندنا جلوس التأدُب مع الإنصات . تأخذ الدُنيا دورتها . يأتي المُهاجرون بسيوفهم اللامعة أو يأتون بكتاب السَلَم . السيوف للقهر وأهلنا منذ قديم الزمان لهم أنوف عالية بعلو كرامتهم . يقبلون حيلة السلام وبث الفِكَر بتبجيل الموروث واحترام العقائد المحلية رغم تضادها مع الشرائع الوافدة ولا يستكينون للسيف. تحدث المُختصون كثيراً حول كيف أنبتت الثقافات إرثاً هجيناً يقبل من الحلول أوسطها ، فتتكون أجساداً تقاطيعها من الوطن ، ولون بشرتها خليط وثقافتها خليط آخر نما ليس كالبغال خليط الصلابة والقوة مع انعدام التناسُل ، بل هجين خلاق ، يعبُر كل الحواجز المُمكنة ويتفرَّد . رغم أنا لا نعرف كيف نجلو العتمة عن لمعة الذهب . نبدأ حديثنا عن مادة كتبناها في ذكرى رحيل مورد عذب من مُداح رسول الله ، هو الشيخ (على المُبارك المادح ) . نشأ في بيئة أهلها لهم ما ذكرنا من خليط الثقافات وتوسُط في هجين ربط الدين مسلكاً ، والنغم الإيقاعي مدرسةً للولوج من الأبواب المُحمدية التي لا يعرف الكثيرون من حَنبليي التَدَيُن كيف يجدون لها مَخرجاً . أفضلهم قال : إن مدح رسول الله باب شرعه المولى حين قال في الذكر الحكيم :{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4 بثَّ المولى مدحه للرسول الكريم ، ونهلت البوادي والأرياف تُحاول اللحاق بقمم الألوهية في برزخها فما لحقت ، ولكنها أنجزت ما قدِرتْ عليه . ظل الأمر بين شدًّ وجذب ، يرفضه البعض ويتقبله البعض الآخر ، ولكنه بقي جزء من موروث وسط السودان وبعض شماله وجزء من غربه وبعض الشرق . إيقاع ونغم وشعر عامي و فصيح في مدح رسول الله والتابعين ومن نهجَ نهجهم من مؤسسي الخلاوى وخيط تناسلهم . بدأت الأذكار وسطاً لتقريب العقيدة الإسلامية لتتعوَد على الناس ، أفراحهم وأتراحم حتى قبضت قبضتها في الوجدان. (2) في ربوع ( الفتيحاب ) القديمة ، ترى الأنجُم ساهرة في الليل و بيوت الطين نائمة تُطل على النيل الأبيض . هُناك مرتع صبا الشيخ ( علي المبارك المادح ) . فيها نشأ وأضاءت شمسه ثم غرُبت في ريعان الصبا ، و فيها سُجيَّ و وُريَّ الثرى . تترفق الأرض ويتسع حِياض باطنها مزرعة للأجساد عند انقضاء الآجال ، أوحين تُرفعُ أبسطة العُمر وترحل الأرواح إلى أفنانها التي لا نعلم . رحمه المولى وأنـزل على قبره ماءً ينسكب من أباريق الجنان الموعودة يُزهر ، ويُرطِّب مرقده ، و يلهم المولى الأكباد المُنفطِرة صبرها بعد فقده ويلُمَّ العقد النفيس الذي انفرط من مُداح رسول الله ، وهم يتبعون ظلال الخير الوارف عند ذكر الحبيب المُصطفى . ينتشلوننا من غُبار الدُنيا وملذاتها . يطوَّفون بنا عشقاً بمدحه ، ألف صلاة وألف سلام عليه . (3) يقولون : تدلف الرؤى من أبواب القص حالمة كصنبور يُخرج الماء من فم تمثال في مكانٍ عام . منْ يُجلِ السرائر غير المولى صاحب الزمان والمكان ، ومن يفتح كنوز النفس البشرية لننهل من مائها العذب غير المعبود الذي احتجبت صورته ترفقاً بمُحبيه . عندما سأل أكرم الخلق سيدنا عُمر بن الخطاب : ـ أي الناس أحب إليك ؟ . تلعثم الصحابي الجليل ، فذكَّره المُصطفى عليه الصلاة والسلام بمحبته . تصغُر محبة النفس وتَعظُم محبة المُصطفى . صلاة عليه ذكرٌ عند كل لمحة ونفسٍ . ففي مُقتبل العُمر تعلَّق قلب الشيخ " علي المبارك المادِح " بحُب رسول الله ، فحَباهُ المولى بصوتٍ جهير ، و بعُذوبة تزوي عند سماعها الطير لتتسمَّع تغريد الوَلِه الذي عشِق الحبيب . (4) وجه ( علي ) نضَّره المولى بإصباح عجيب . مربوع القامة ، وضَّاح بسُمرة . نَضار يكسو قُرص وجهه . ضفائر معقودة ترتاح على الكَتِف . وقَّاد النظرة . حَور العينين يُشرِق . تأخذك محبتُه من أول نظرة . تخرج الطُرفة من فمه بريئة يكسوها الورع من الزينة والزُخرف ، حتى تحسب أن روائح النعيم قد عرَّجت عليك في دُنياكَ لتُغريك بالخير لتفعل ، ويسلَم المُسلمُون من لِسانَك واليد ، ومن كل قسوة تتخفى من لُغة تجاسرت أو طبع طَفَح . قبل رحيله بأشهُر ذكَّرني الصَديق ( النيَّل عبد الرحمن المُقدم ) بأن (الشيخ علي المبارك المادح ) سيؤنِس مساءنا الخميس القادم ، ويُعطرنا بمديح رسول الله . قلت له : ـ دوماً تُحدثني عنه وألقاه أنا دوماً على عجل ! . عند التلفزة أحياناً ، يأخذني وهج الإيحاء فأتسمَّر مُشاهداً له ، أنسَ الدُنيا ومن عليها . يُمسِك هو بأحرُف كلمات الشِعر، يستنطقها، ويرُويها من سلسبيل صوتِه الريَّان الذي تضمَّخ بالتجويد القرآني . تشتدُ أوتار الحُنجُور ، وتُرفرِف ريح الصدر وتهتز الأوتار صعوداً مُستغرِقة ، وهبوطاً غارقة في نعيم التصوف الشجي . على مجلس الكِبار حجزتُ مكاناً وثيرا في المُقدمة مع أعمامنا نُطِّل على الباحة أمام الدار . الطقس أنعم علينا وتجلى ، أمسك قبضة من نسيم الربيع المفقود ونثر بَوحه علينا . فُرِش السجَّاد من تحت أقدامنا وغطى الباحة أمامنا . (5) توسط الشيخ ( علي المادِح ) المجلس مُتقرفِصاً وعلى اليمين واليسار جلس الأحباب معه في الإنشاد . الإيقاع الرشيق رويدا يأخذ بالأسماع. بدأ ( الشيخ علي المادح ) بإنشاد قصيدة الشيخ ( أحمد ود سليمان ) : ( ضوء الليالي السود ) : صاحب اللواء المَعقُود ضوء الليالي السود أعطوكَ الشَّفاعة وحوضَك المورود صاحب اللواء المعقُود بسم الله ابتديتْ بالواحد المعبود الصَّمد القديم الباقي حي موجود صاحب اللواء المعقود بدأ واضح النبرات ، أضاء المكان بصوت يتلألأ . غرَّد المُحب العاشق ، شقَّ الليل بأنواره ، يُعرِج بك في الصفاء : سماء تتلوها سماء ثم أُخرى ، وتغرف أنتَ من النعيم و تشرب. تقشعِرَّ الأجساد من مُلامسة الإيقاع التصويري وتهتزّ الرؤوس وتطرب القلوب . يُمسك ( حاج أحمد السماني ) بعصاه يتوسط الباحة راقِصاً ، تدور العصا في هالة قُرص من حول رأسه و ( يَعرِضْ ) . قليلاً ثم تتكئ العصا قُرب خصره ، وبدأ ( رقص الحمام ) . زغاريد النسوة تشَق عنان السماء ، ونحن نغُوص في مقاعدنا الوثيرة تعصُف بنا الأشجان . اضطراب للنفس عظيم حين يموج جسد الشيخ الكهل بنضار شباب اليوم !. لم يكُن : ( من تُقل المَرَجرَج و الخايض الوَحل ْ )، بل غُصن يتلوَّى مع النسيم ! . يصدح البُلبل العاشِق : سنَّيت بالرسول ضوء الليالي السود مصباح الظلام الفَضلو ما مجبود صاحب اللواء المَعقُود يوم هَول القيامة النار لِسانا يقود جانا المُصطفى وخمَّدها لينا خمُود صاحب اللواء المَعقُود يوم وُضِع الرسول النور هِلال ضوى حَاضرات فِي النِساء مَريَم معَ حواء صاحب اللواء المَعقُود لولاك يا الرسول لا كان ولا كُنَّا لولاك يا الرسول ما بَانت الجنَّة صاحب اللواء المَعقُود لولاك يا الرسول الدُنيا ما كانتْ لولاك يا الرسول الآخرة ما بَانتْ صاحب اللواء المَعقُود .................... (6) .لم يكن ( حاج أحمد السماني ) مسخاً أو يتوسط قاسماً مشتركاً بين الذكورة والأنوثة أو حتى خصياً ، بل رجل مُكتمِل التكوين ويفيض كما يقول العامة !. بل له نظرة تُخيف أكثر من المُعتاد في نظر طفولتنا ، فلا سنه ولا صحابته يمكننا أن نجالسهم في صغرنا أو حتى نطَّوَف بقربهم ، فقد كان من عالم كبار السن الذين نتلصص على مجالسهم بمسافة متوارية عن الملاحظة . يتضاحك حاج أحمد مع أقرانه عند السمر، وهو ما لا نراه في حياته التي نعتاد معايشتها . صورة تُناسب ( سي السيد ) الذي يعيش وسط السودان ! . في المآتم والأفراح هو ورفاقه في العُمر يُثقلون علينا بخدمة الأضياف . الشارب عنده كثٌ مُبيَضّ ، والجسد متوسط الطول ، ضَمُر في مسيرة العُمر ، إلا أن قبضة يده كمخالب صقر . إن أمركَ وتراخيت فقبضة حديد يده كمقبض آلة . بينه وبين الأنوثة في زعم الخيال تجديفاً ما بعده تجديف . فكيف ( لصاحب اللواء المعقود ) ومحبته القادمة من قاع الذاكرة التي شربت من صفات المُصطفى ما جمَّل الحديث عنه فأضحى المصطفى بجمال صورة ونقاء سريرة : نحت باهر في جمال ذكوري مُترف ، أخذ من ملامح النبي يوسف من ستر ومن خلف ظهر المراجع . ففي مُخيلة الضراوة البدوية الملامح للحاج أحمد هنالك جمال باهر لصورة رسول الله وخاتم النبيين ، فترتج العادة من حلاوة العبادة ، وترتخي شمائل الذكورة لدى الحاج أحمد ساجدة عند مدح النبي الأكرم ولُغة التطريب الشجية لمُداح رسول الله . من هزّ النخل يتساقط الرُطب جَنياً : من فارس تلتفُ عصاه لولبية من حوله ، و فتنة منْ لا يُشقُ له غُبار في وسط الحلبة ، تأتيه رياح الخضوع في انعطاف الطرب في حضرة ذكر صاحب المقام الرفيع فتنخفض الذكورة وتحني رأسها طوعاً ، وتستدعي مفاتن الخضوع الأنثوي الباهر ، فتتقمصه رياح شيطانية في قالب ملائكي لا يُثير حفيظة قرون الاستشعار الشرعية . ينقلب الساحر من رقص ذكوري إلى رقص الأنوثة وهي تتثنى !. في جلال ينخفض الثور للذبيحة في عيون الأشهاد . تستنفر الأنوثة المُجتمعة التي جذبتها المُشاهدة وقد قدِمت بعد اكتمال طقوس الإطعام من مآكل ومشارب تُليق بليلة المديح النبوي ، قدمتْ وقد استبد بها النصر المؤزر .إن الأنوثة : ذاك الجسد المطمورة ألاعيبه وقد فاح من جسد ذكورة " حاج أحمد " وقد قارب هو السبعين من العُمر وهي شاخصة تفوح . يتماوج الجسد كغصن أخضر العود في طوره الأول يُراقص النسمة قبل الريح . السولفيج الإيقاعي : رسمٌ تلعبُ به الأصابع المُبصرة تنقُش النفائس ، تغوص بِكَ في بحور التصوير المُبدِع . تشتبك الصورة التي تقبعُ قاع الذاكرة بإيقاع وموسيقى تشُد عَصب النفوس . حُنجُور ( علي المادِح ) ، ذاك المِزمار الرباني يتلألأ زُمُرُّدةً في سينمائية مُبهِرة . وتنطلق الزغاريد ... صورٌ من تآلف المؤنث والمذكر في شمس العلن ، تمُر مرور الكرام تحت أشرعة تعبُدية تُظللها . ساكتة عن الحق هُنا دون أن تنبس ببنت شفة !. ُ (7) (سارة ) طفلة في الرابعة ، مرفوعة على كَتف الجَدة ، تُشاهِد دراما الحدث العاصف في قمته . تتكاثف في الصورة المُتحركة للجَد ( حاج أحمد السماني ) على باحة الرقص الأنثوي الفادِح . عيناها تتجول تجوُّل السائحين في أزقة الصناعة اليدوية ، لا يُميزون المُقَلَد عن غيره . فاغرة فاهاً والعيون على حَورَها ملوَّنة بأضواء المكان . قطعة هشة تجلس على كتف و تُمسِك بها يدٌ معروقة من فعل السُنين ، إنها الجَدَّة ( صَفيَّة ) ، سُلَم ترتقيه الصغيرة لتنظر الحفل . إن تتبعت جسد الجَدة وهي في سن تُفارق الأنوثة نضارها بفعل الزمن ، لم يتبق منها غير هيكل سُليمان : أنا تبحث عنه لن تجده !. قبضة يدها وهي تُمسك ( سارة ) ، يدٌ رحلت أنوثتها منذ زمان فبقيت أنوثة الروح تُرفرف في البعيد وما أعجبها أنوثة! . الجدَّة ( صفيَّة ) تاريخ في البناء الأنثوي . قصرٌ من قصور ( سَواكن ) القديمة و قد جاءها هازم اللذات و حكاوي الجن والمَرَدة التي تلبس فرو القطط ! . ففي الزمن الغابر حين كانت تمثال إثارةٍ في هيكل الإغراء بجزعها المَجدول ، كانت مُنية المُتَمَني !. فطحين الذكورة في زمان النشوة قد طاف عليها طواف أيام النضار وقبل أن يبذر فيها بذور اللقاح كانت هيَّ : ( سيدة وجمالها فريد .. خلقوها زي " ماتريد " ) تراخت الفتنة الآن إلى كوم لحم يملأ الخاصرة ، وفوقها ومن تحتها كذلك وتهدل الهندام .لا الحناء تُصلِح ما أفسده الدهر ولا نظرها الذي هدته البصيرة لقادر أن يُلملِم أطراف الأنوثة الراحلة إلى البعيد . فعلت السُنين فعلها ، وبقي الحنين وبقايا صوت تَجرَّد من هُرمون الأنوثة فحلَّ صوت أمومة أكثر شفقة على الصغار كي تعوض الأمومة الحقيقية التي محاها الزمان بخطوه الغليظ . رأت الجدَّة الفُحولة الغاربة في " حاج أحمد السماني " وهي تنفلت من الجسد الضامر المعصوب بالشدَّة التي روَّتها سنين العُمر ، وشعرت بحسرة كيف أن اللقاء الحميم الذي كان هو ملك صولجانه وقد لفحته نسائم الأنوثة ، وتبدى لها تفسير كل شيء : لِمَ تغيرت الدُنيا وتبادل الأنيسان أدوار الأنوثة والذكورة : هيَّ في الخفوت وهو في العلن ؟ . سُبحان الله ! عبد الله الشقليني 08/05/2007 م