تلك الأيام في سجون نميري (8) … بقلم: صدقي كبلو
4 June, 2009
ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
الاعتقال الثاني ديسمبر 1973 - يونيو 1974
وعدنا، الخاتم عدلان وشخصي للجامعة. الخاتم ليجلس لإمتحان بديل للإنتقال للسنة الرابعة ولتأكيد تأهيله لدرجة الشرف، وأنا للإلتحاق بالسنة الرابعة بعد أن جلست للإمتحان من داخل السجن كما ورد في الفصل السابق وأكدت تأهيلي لدرجة الشرف. وكانت جامعة الخرطوم منذ قيام إنقلاب مايو قد إتخذت سياسة عدم فصل الطلاب لأسباب إعتقالهم سياسيا، وظلت تحفظ لهم مقاعدهم الجامعية إلى حين يطلق سراحهم. وقد أستفدت أنا من تلك السياسة عدة مرات حتى تخرجي في يناير 1976 .
وعدت لقاعات الدراسة بعد عامين من الإبتعاد وألحقت بدفعة جديدة تعرفت فيها على أصدقاء جدد بعضهم لم يكن شيوعيا والبعض الآخر لا علاقة له بالسياسة، وحرصت على حضور المحاضرات والسمنارات والقيام بالواجبات الأكاديمية وكان البروفسير محمد هاشم عوض كثيرا ما يمازحني عندما أجاوب سؤالا أوأبدي رأيا بالإشارة لفترة إعتقالي وأنها لم تضع سدىً. وقد تلقيت العلم في تلك الفترة على أساتذة أجلاء من بينهم البروفسير محمد هاشم عوض والدكتور على محمد الحسن والأستاذ خالد عفان والدكتور سيد نميري.
ولكن الجديد كان إشتراكنا في العمل السياسي، فقد رحب بنا مكتب الجامعات والمعاهد العليا ودعانا لإجتماع خاص، حضره الزميل يوسف حسين من سكرتارية اللجنة المركزية، وتم ترتيب توصيلنا لفرع الجامعة، وكلف الخاتم للعمل بالمكتب بينما كلفت أنا بمواصلة عمل بدأته قبل ثلاث سنوات وهو العمل مع مركزية الجباه الديمقراطية بالجامعات والمعاهد العليا.
وبمجرد إلتحاقنا بفرع الجامعة لاحظنا أن العمل كان مقيد بأطر تأمينية عالية غير مناسبة مع جو الحرية النسبية بالجامعة، فبدأنا حوارا جادا لتغيير ذلك والإستفادة من تجربتنا قبيل يوليو حيث كنا نعمل كفرع سري ولكننا كنا الرئة التي تتنفس من خلالها الحركة الديمقراطية، وأقترحت العودة لمهرجانات الجبهة (كانت الجمعيات الفكرية قد إختفت بعد إستبدال نظام التمثيل النسبي بالإنتخاب الحر المباشر الذي سمح للأخوان بالسيطرة على الإتحاد) وأتفقنا على أن يكون أول مهرجان إحتفالا بذكرى 19 يوليو وأن يتكون ذلك المهرجان من موكب بداخل الجامعة يتحرك من تمثال القرشي أمام المكتبة العامة إلى القهوة حيث سيكون هناك معرض وليلة شعرية وليلة سياسية.
وبدأ الموكب كما مخطط له وفي قهوة النشاط ألقيت كلمة قصيرة إفتتحت بها المعرض باسم القادة الوطنيين وباسم الشهداء وكان المعرض رائعا وقد قام الزملاء بكلية الفنون الجميلة والذين تعرفت عليهم أثناء الإعداد للمعرض وظلت تربطني صداقة وطيدة معهم ومنهم الزملاء أحمد البشير والباقر موسى وحسن موسى وغيرهم وحوى المعرض إلى جانب صور الشهداء وماكتب عنهم من شعر والكتاب الأسود عن محاكمات الشجرة وسرد للأحداث وبيانات حزبية وتدافعت جماهير الطلاب من الجامعة والجامعات الأخرى والمدارس الثانوية بالعاصمة وجماهير العاصمة بزيارة المعرض، وكانت الندوة الشعرية ناجحة، وكذلك كانت الندوة السياسية والتي تحدث فيها الزميل الخاتم عدلان حديثا رائعا عن الوضع السياسي وعن 19 يوليو وعن المعتقلات.
وأثار المهرجان والندوة ضجة كبيرة وتعرض لها نميري في حديثه الشهري في نهاية يوليو، وحذر من إستغلال الجامعة للعمل المعارض، وأدى حديثه لإثارة الطلاب، ولم يفعل الإتحاد شيئا، فبادرنا في الجبهة الديمقراطية لقيام لجنة سياسية من كل التنظيمات عدا الأخوان وتقدمنا بمذكرة للإتحاد نطلب منه التدخل لحماية إستقلال الجامعة ولإستنكار تصريحات نميري في التلفزيون. ووزعت المذكرة على الطلاب وقرأت في قهوة النشاط.
إنتفاضة أغسطس (شعبان) وإغلاق الجامعة
أدت الضغوط على الإتحاد على تحركه وقرر تقديم مذكرة لمدير الجامعة في موكب داخلي، وذهب الموكب لمكتب المدير البروفسير مصطفى حسن إسحاق، وهو عالم كيمياء مبرز وأكاديمي ممتاز وإنسان شديد الإعتزاز بنفسه وعلمه، وقد حاول خلال فترة إدارته للجامعة أن يلعب الدور الذي لعبه البروفسير النذير دفع الله في فترة خكم عبود بأن يحافظ على إستقلال الجامعة ويبعدها قدر المستطاع من الإضطرابات بأن يترك للطلاب حرية العمل السياسي والثقافي داخل الحرم الجامعي، وبالطبع لم يكن نظام نميري يرضى بذلك، فأقاله وعين البروفسير عبدالله الطيب ولكنهم لم يستطيعوا تحمله هو الآخر فعينوا البروفسير عبدالله أحمد عبدالله (الذي أصبح وزيرا للزراعة وسفيرا بعد ذلك) وخلفه البروفسير على فضل الذي باعهم الجامعة بثمن رخيص (أصبح وزيرا للصحة) وهو في تقديري أسوأ مدير مر على جامعة الخرطوم فترة نميري.
قلنا ذهب الموكب لمكتب المدير هادرا وقدم المذكرة ورغم محاولات قادة الإتحاد ضبطه، إلا أن الموكب خرج لشارع الجامعة وكانت تلك بداية ما سمي بإنتفاضة أغسطس (شعبان)، وقد برز في هذا الموكب لأول مرة شعار "لن يحكمنا البنك الدولي" وقد كنا نردده فسخر منا الأخوان حتى قال متحدثهم في ليلم سياسية "هو دولي، يبقى يحكمنا كيف؟" وكان أن رددت عليه في ندوة من ندوات الجبهة مقدما شرحا لتوزيع الأسهم والتصويت في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وعن شروطهما.
كان رد فعل المظاهرة كبيرا، ويبدو أن قادة الجبهة الوطنية التي كان يقودها الشريف حسين الهندي قد وجدوا في تذمر الطلاب فرصة فقرروا بسرعة، أخلت بالتنظيم، أن يستغلوا إنتفاضة الطلاب فحركوا قياداتهم بالداخل للتحرك مستفدين من أن إتحاد الطلاب، الذي كان بيدهم، بقيادة أحمد عثمان مكي ، فتحدث زكريا بشير وأبراهيم أحمد عمر الأستاذ بشعبة الفلسفة في ندوة بدار الإتحاد كانت فقيرة في محتواها الفكري والثقافي والسياسي فمتلا عندما تحدث عن الأزمة الإقتصادية تحدث عن الجبن والفاكهة!
وقرر الإتحاد أن يقدم مذكرة لرئاسة الجمهورية وسار الموكب حتى قلب الخرطوم ولم يصطدم معه البوليس وذهب نحو القصر وظهر ضباط أمن، بعضهم كنت أعرفه من الإعتقال السابق، وكنا نتقدم الموكب عباس برشم وكان سكرتيرا للإتحاد وشخصي وسمح للموكب بتقديم المذكرة لضابط بالقصر، وعرفت فيما بعد أن كل ذلك كان تدبيرا حكيما من اللواء محمد الباقر أحمد النائب الأول لرئيس الجمهورية ووزير الداخلية فهو لم يكن يريد للأمور أن تتطور، وبعد تقديم المذكرة طلب منا التفرق ثم أطلقت علينا الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع وتفرغ الموكب لمظاهرات صغيرة وعند عودتنا وجدنا قوات الأمن قد إحتلت الجامعة، وأن الجامعة قد تم إغلاقها إلى أجل غير مسمى، وبدأت الإعتقالات، ولجأت لأهل لي في الخرطوم، وبدأت في محاولة لتجميع قيادة الفرع والجبهة، ووجدت وقتا لقراءة البيان الذي وزع في المظاهرة والذي كان يمثل مطالب الجبهة الوطنية، فجلست لطاولة وكتبت تحليلا للبيان والأوضاع، وفي هذا الوقت حددنا مكانا للإجتماع بأمدرمان لقيادة فرع الجامعة، وقبيل الإجتماع أعطيت ما كتبت للزميل الخاتم وكان مسؤولنا السياسي، فقرأه وقال لي: بالضبط هذا تحليلي للأحداث والمدهش أن الحزب الشيوعي أصدر بيانا في اليوم الثاني عنوانه "للتتحد قوى المعارضة الشعبية" ولم يختلف كثيرا عما توصلنا إليه، لقد كان يجمعنا جميعا في الحزب الشيوعي منهج فكري يجعل تحليلنا للأوضاع متطابقا مهما إختلفنا في التفاصيل، هذه هي قوة المنهج الماركسي في التفكير والتي كانت هي أساس وحدتنا الفكرية بينما التنظيم كان يوحد إرادتنا، ولذا كنا رغم صغر حجم حزبنا قوة مؤثرة ورقما لا يستهان به في الحياة السياسية. كان واضحا من برنامج الجبهة الوطنية أنها لا تريد تصفية نظام مايو ولكنها تريد أن ترثه ذلك إن دستور 1973 لم يكن يمثل سوى مشروع دستور 1968، دستورا للديكتاتورية المدنية المقننة، الإختلاف أن دستور 1973 يرفع شعارات فارغة عن الإشتراكية ودستور 1968 يرفع شعارات الدستور الإسلامي.
وإمتدت المظاهرات لتشمل مدن أخرى ودخلت بعض النقابات في إضرابات، وكان نميري غائبا في زيارة رسمية للمللكة المغربية، فأعلن نائبه الباقر حالة الطوارئ وبدأت الإعتقالات.
تمثل إنتفاضة أغسطس شعبان حدا فاصلا في تاريخ نضال الشعب السوداني ضد ديكتاتورية نميري، لا لأن كل القوى المعارضة شاركت فيها من مواقعها، ولكن لأنها أول معارضة شعبية جماهيرية تتم في الشارع وتشارك فيها القوى الحديثة والتقليدية، قبلها كانت المعارضة تؤخذ شكل التآمر العسكري، داخل أو خارج القوات المسلحة، ولعله من المهم أن نقول أن الشكل الأخير إستمر أيضا بعد إنتفاضة أغسطس، غير أن السمة العامة للنضال ضد نظام نميري أخذت شكل جديد هو النضال الشعبي والجماهيري وسعي تلك القوى نحو الوحدة. ويذكرني ذلك ببيان الحزب الشيوعي الملهم "فلتتحد قوى المعارضة الشعبية" ولقد كتبت في ورقة لي عن البديل أنا قش موقف الحزب من الإنتفاضة فقلت:
" انتفاضة اغسطس 1973 تفجر قضية البديل
وكانت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973، منعرجاً هاماً في تطور الحركة الجماهيرية: فهي اول حركة جماهيرية معارضة بعد ردة 22 يوليو ، اول مظاهرات واسعة واول اضرابات عامة! لقد كسرت حاجز الصمت والترقب. ولكنها طرحت السؤال: ما البديل؟
والسؤال كما قلنا في مقدمة هذه الورقة كان يطرح من الجماهير كما كان يطرح من السلطة واعوانها الانقساميين والأخوان الجمهوريين. ولقد تجاوز بيان الجنة المركزية للحزب الشيوعي في اغسطس 1973 "لتتحد قوى المعارضة الشعبية" ذلك السؤال بطرحه مباشرة قضية وحدة قوى المعارضة الشعبية حول شعارات اساسية:
ضد قانون امن الدولة
توقف التشريد وارجاع المفصولين
ضد الغلاء والسياسة الاقتصادية
لتحرير النقابات والاتحادات من سيطرة الدولة
لإطلاق سراح السجناء السياسيين
واوضح ذلك البيان ان سبيل الحركة الشعبية لتحقيق هذه المطالب هو البرقيات، المذكرات، عرائض الاحتجاج، الوفود الشعبية، المواكب والاضرابات. وتوجهت سكرتارية اللجنة المركزية بنداء إلى كل منظمات واعضاء الحزب ومؤيديه والقادة النقابيين وكل القوى في الشمال والجنوب:
"واجب الساعة الذي لا يتقدمه واجب امام كافة الشيوعيين والتقدميين، استنفار صفوف الطبقة العاملة والجماهير الشعبية وتنظيم صفوفها والسير بجسارة واقدام الثوار في طليعتها لتوسيع حركة المواكب والمظاهرات واستمرارها تحت الشعارات والاهداف الوطنية الديمقراطية الواضحة القاطعة لتبديد جو الغموض والترقب الذي تنشره دوائر المعارضة اليمينية والمتاجرين بسخط الشعب" (بيان سكرتارية الجنة المركزية- 30 اغسطس 1973)
وتناولت اللجنة المركزية في دورة يناير 1974 [1] انتفاضة اغسطس وقضية البديل. وبدأت بانتقاد الذين يطرحون مسالة البديل لاخافة الحركة الثورية والشيوعيين بان البديل لمايو هو الاحزاب الرجعية موضحة ان هؤلاء يريدون الحفاظ على بقاء السلطة الحالية وما حققته لهذه الجماعات من مكاسب شخصية وان "الحركة الثورية ما عاد يشغلها" ان ذهاب هذه السلطة "معناه عودة تحالف الاحزاب الرجعية التي سوف تنتقم من الحركة الثورية وتدخل البلاد في حمامات دم جديدة"( ص )4 واوضحت الجنة المركزية بحزم ان الحركة الثورية السودانية"قد وصلت مستوى من النضج والقدرة على الصمود فى وجه حمامات الدم، وفر لها تصميمها على مواجهة كل اعدائها الان وفي المستقبل، وتصميما على السير في طريق ثورتها الوطنية الديمقراطية. واقتنعت الحركة الثورية ايضا ان بقاء هذه السلطة يشكل اكبر عقبة في طريق الثورة الاجتماعية، وان ازالتها ستفتح الطريق لتطور الثورة الديمقراطية بهذا القدر أو ذاك"(نفس المرجع ، خطوط التركيز مني)
واوضحت اللجنة المركزية قضية هامة اخرى
" فما عاد من الممكن في ظروف توازن القوى الحالي وتجارب الحكم منذ الاستقلال، تجاهل وزن الحركة الثورية التقدمية، وعلاقتها بهذه الدرجة أو تلك بالحكم" (نفس المرجع، ص 4)
وتناولت اللجنة المركزية مسالة البديل كما تطرحها جماهير حريصة على التمايز بين الحزب والحركة الثورية والمعارضة اليمينية الممثلة في الجبهة الوطنية حينها فاوضحت ان الحزب ليس طرفا في الجبهة الوطنية "ليس ذلك نتيجة ترفع أو انغلاق طائفي انعزالي، بل لان البرامج مختلفة، والمصلح الطبقية متباينة متعارضة، وبالتالي مختلفة ايضا التصورات عن المستقبل والاهداف البعيدة."(المرجع السابق ص 5)
وانتقدت اللجنة المركزية برنامج الجبهة الوطنية الذي يهدف للاحتفاظ بنظام مايو مع تغيير قيادته واوردت مقارنة بين ذلك البرنامج وميثاق اكتوبر واوضحت انهم يتمسكون بالدستور الاسلامي والجمهورية الرئاسية وسياسة العداء للشيوعية والسير في طريق التطور الرأسمالي. وبالتالي لا يمكن ان تطرح المسالة كأنما هي "الخيار بين ديكتاتورية سلطة الردة الحالية أو ديكتاتورية سلطة الاحزاب اليمينية ودوائر اليمين العسكري"(ص 6).
وامام هذا امسكت اللجنة المركزية بخيط جدل البديل:
"البديل تبدأ صياغته اليوم قبل الغد. بديل المستقبل يتبلور في نضال الجماهير. الاهداف والشعارات والمطالب الوطنية الديمقراطية التي تطرحها الجماهير اليوم للنشاط السياسي والجماهيري اليومي هي التي تحدد البديل في المستقبل"(ص 7)
وانتقدت اللجنة المركزية اقسام من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية "التي تظل بعيدة وبطيئة الحركة في هذه الظروف"، وفي نفس الوقت "تميل للجدل المطول عن البديل تعويضا عن كسلها في النشاط وفي العمل، وتكاد تطلب من الحزب الشيوعي والحركة الثورية تقديم ضمانات قاطعة لنجاح كل المعارك، أو فلما تسجيليا لتفاصيل لوحة البديل"(ص6). كما أن "هناك المجموعات المسحوقة من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية بين صغار التجار والحرفيين والموظفين وصغار المزارعين في المناطق الحديثة، وفي اوساط الجيش والمشردين وهي تريد حلا سريعا ناجزا ولا صبر لديها على"المطاولات"، تريد الخلاص والسلام! انها لا تطلب في سؤالها عن البديل سوى شكل الحكومة القادمة وكأن كل شئ قد اعد للاطاحة بالسلطة الحالية ولم يبق سوى شكل الحكومة الجديدة" (ص 8 خطوط التركيز مني) وامام كل ذلك فان اللجنة المركزية طرحت العملي والممكن في "حدود قدراتنا ومستوى تقدم الحركة الشعبية"(ص 10)
وطرحت دورة يناير 1974 قضية قيادة الحركة الجماهيرية واوضحت ان هذه المسالة تحسم وسط الجماهير في العمل اليومي "فقضية القيادة لا تنحصر فقط في مستوى قيادة الدولة، بل تعتمد في الاساس على قيادة النضال اليومي للجماهير وتحمل مشاقه في ظروف الردة والتراجع والبطش والارهاب" (ص14). كما طرحت الدورة مجددا ان الاضراب السياسي هو الاداة للاطاحة بديكتاتورية مايو.
ولعل اهم ما جاء في تلك الوثيقة هو محاولة استقراء احتمالات المستقبل، اذ تقول
"قد تسقط السلطة الحالية قبل اكتمال نضج الأزمة الثورية أو خلالها، وتصل إلى الحكم هذه الفئة أو تلك من معسكر اليمين، وقد ينجح انقلاب عسكري لمغامرين أو محافظين، وقد تفرض دوائر الاستعمار والرجعية العربية الافريقية صيغة مصالحة بين دوائر اليمين في الحكومة وقسم من المعارضة كجزء من عمليات التسوية في المنطقة العربية كما فعلت في الجنوب، وقد تواصل المعارضة الشعبية انفجاراتها وتقود إلى تعديل في تركيب السلطة، أو قيام حكم مؤقت، أو غير ذلك من الاحتمالات الواردة في الافق السياسي"
وازاء هذه الاحتمالات
"وفي كل حالة لا يجوز للحزب الشيوعي ان يستبق الاحداث أو يلائم ويوفق، بل يبني موقفه بما يوسع من امكانيات تطور الحركة الثورية، واستعادة حقوقها الاساسية، ويحدد اساليب النضال والشعارات لمواصلة النضال الوطني الديمقراطي من اجل سلطة وطنية ديمقراطية"( ص 12).
لقد فتحت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973 امكانيات جديدة لمحطات يمكن ان يمر بها النضال الوطني الديمقراطي."
تعديل قانون الإجراءات ليسمح بالإعتقال التحفظي
وتمت كل الإعتقالات بموجب قانون الطوارئ وقانون أمن الدولة وكان المعتقلون بقانون أمن الدولة يتطلب تقديمهم لمحاكم لأن قانون أمن الدولة لم يكن حينها يبيح الإعتقال التحفطي، وقطع نميري رحلته وفي تحدي رفع حالة الطوارئ ولكنه عدل المادة 93 (ه) في قانون الإجراءات الجنائية التي أعطت وزير الداخلية ورئيس جهاز الأمن القومي ومدير جهاز الأمن العام السلطة لإعتقال أي شخص يشك بأنه بصدد القيام بعمل معادي لأمن الدولة لمدة عشرة أيام، ويحق لمجلس الأمن القومي أن يجدد ذلك لفترتي إعتقال طول كل منهما 3 شهور على أن يطلق سراح الشحص يعد نهاية الفترة الثانية.
ورغم إعتقال عدد كبير من الطلاب والنقابيين والسياسيين لم يستطع الأمن إعتقال قيادة فرع الجامعة، فقد إختفينا بمساعدة عائلات سودانية، بعضها لا علاقة له بالسياسة أو بالحزب الشيوعي، وبما أن عصر الديكتاتوريات لم ينته فلن يكون من الحكمة ذكر أسمائهم.
وتقرر فتح الجامعة في نوفمبر وسبق ذلك إجراءات بفصل عدد كبير من الطلاب، وتم إعطائهم فرصة لتقديم إستئنافات، فقدمنا جميعا إستئنافات وقبلت جميعها، ولكننا إكتشفنا أن الخاتم عدلان رفض تقديم الإستئناف، فإجتمعت لجنة الفرع وقررت أن يكتب إستئناف وكلفت، لعلاقتي الحميمة بشئون الطلاب (عملت سكرتيرا للشئون الإجتماعية ورئيسا للجنة الطعام) أن أحمله وأناقش الأساتذة على مصطفى ومحمود عبدالله وكنت قد عملت معهما أيام إتحاد عبد العظيم حسنين تحت إشراف الأستاذ الكبير أروب يور، وذهبت للأستاذ محمود فطمأنني وقال المسألة مجرد إجراءات فتوجيه المدير أن تقبل كل الإستئنافات وحمل إستئناف الخاتم ودخل للمشرف الجديد الدكتور عبدالله أحمد عبدالله، الذي أصبح مديرا للجامعة فيما بعد وكاد أن يمنعني من الإمتحان النهائي لولا حصافة الأستاذ كمال خضر المسجل في ذلك الوقت ، وأندهشت عندما جاء الدكتور عبدالله لمقابلتي في مكتب محمود وكانت أول مرة أقابله فيها فهو أستاذ بكلية الزراعة وللحق كان ودودا جدا وقال لي أن أبلغ الخاتم بأن إستئنافه قد قبل وقال لي أن مكتبه مفتوح لنا في أي وقت. وقد إمتدت علاقتي بالأستاذ محمود طوال فترة عمله بشئون الطلاب وحتى بعد تخرجي وتركه هو للعمل وإلتحاقه بجامعة الجزيرة، وأذكر، كما سيرد في هذه المذكرات، أنه قال عني كلمات طيبة عند البروفسير عبدالله الطيب عندما أصبح مديرا.
ولكن لم تكن المسألة الوحيدة هي الطلاب المفصولين وكانت هناك قضايا طلابية أخرى تتعلق بالطلاب المعتقلين ولائحة سلوك الطلاب ومسألة إستقلال الجامعة وحرية النشاط الطلابي بها، فقرر الإتحاد التصدي لتلك المسائل ولكننا في الجبهة الديمقراطية والتنظيمات الأخرى غير الأخوان طالبنا بتكوين لجنة لقوائم الإتحاد (لجنة تضم كل التنظيمات) لقيادة المعركة، لأن الفترة القانونية للجنة الإتحاد قد إنتهت، ولكن لجنة أحمد عثمان مكي لجأت لتكتيك ذكي بأن قدمت توصية للجمعية العمومية بمد فترتها حتى تحيم المسألة وتكتلنا لنصوت ضد التوصية ولكن التوصية فازت لأن الطلاب كانوا يريدون لإتحادهم أن يستمر في معالجة المسألة.
وقرر الإتحاد الإضراب عن الدراسة وإحتلال الجامعة حتى يستجاب لمطالبه فقررنا الخضوع لرأي الطلاب والإشتراك في الإحتلال فقررت لجنة الإتحاد، وكان ذلك تكتيكا ذكيا آخرا من أحمد عثمان مكي تمثيلنا في جميع لجان الإحتلال: الحراسة والإعلام والطعام وتقرر أن أكون منسقا بين الإتحاد والجبهة الديمقراطية وممثلا للجبهة في لجنة إعلام الإحتلال، وقد أدى ذلك لتعرفي عن قرب لإثنين من قيادات الأخوان حينها: أحمد عثمان مكي و بابكر حنين الذي عملت معه في لجنة الإعلام والإذاعة. وأحمد عثمان مكي (وقد توفى بالويات المتحدة) شخص قيادي مرتب التفكير وخطيب ممتاز وهو لا يشبه الأخوان التقليديين أما بابكر حنين (والذي أصبح مذيعا بالتلفزيون أو مقدم برامج) فقد كان شخصا مرحا ومثقفا ومدخنا شرها (وهي نادرة عند الأخوان).
ولقد كان الإحتلال ناجحا بكل المقاييس، وقد قامت لجنة الطعام فيه ببطولات مدهشة لتهريب الطعام للطلاب المعتصمين، بل أن بعضهم تنكر في شكل رعاة يسوقون خرافا لقطع الكبري وهربوها داخل الجامعة لإطعام المعتصمين.
وعبر مفاوضات مضنية كان أحمد عثمان مكي حريصا على إبلاغي بتطوراتها وسؤالي عن راي ورأي الجبهة الديمقراطية خلالها حتى تم الإتفاق على معظم القضايا. ورفع الإحتلال وعدنا للدراسة والإستعداد لإنتخابات الإتحاد.
لقد كان إحتلال الجامعة وما حققه من إنتصار هو أول إنتصار لحركة الجماهير الشعبية في مواجهة نظام نميري، وقد فتح ذلك الإنتصار شهية الجماهير لمزيد من المعارك والإنتصارات وكان من إنتصارات الحركة الطلابية إنتصار طلاب الثانويات في ديسمبر من نفس العام بإنتزاعم حقهم في تكوين إتحادات ديمقراطية مستقلة عن شعبة الطلاب بالإتحاد الإشتراكي.
وعدت لممارسة حياتي الروتينية ومن بينها مواصلة دراستي للغة الروسية بالمركز الثقافي السوفيتي الذي كان لا يبعد عن الجامعة سوى خطوات ويقع على شارع الجمهورية. وكنت قد إلتحقت بالدراسة فور خروجي من المعتقل. وكان أستاذي هو الشاعر الرقيق عبدالرحيم أبو ذكرى وكنا نتقدم بسرعة في الدراسة مستفيدا من الأساس الذي تعلمته من فاروق كدودة في المعتقل.
وبعد حوالي أسبوع من فض الإحتلال، ذهبت للمركز الثقافي السوفيتي وحضرت حصة اللغة الروسية، وكان المركز يعرض فيلما في ذلك اليوم فحضرت الفلم وأنا خارج وجدت الصديق طالب الهندسة حينها مصطفى زكي، ومصطفى حينها كان من الجيل الجديد في الجبهة الديمقراطية وسرنا معا في طريق الرجوع للجامعة وعندما تقدمنا عدة أمتار في الشارع إذا بعربة فوالكس واجن برتقالية اللون تقف أمامنا وتفتح بابها وإذا بشخصين يحملاني من الخلف إلى العربة فحاول مصطفى التدخل فدفعهم أحدهم حتى وقع على جانب الشارع وأندفعت العربة إلى مكان أعرفه جيدا، جهاز الأمن حيث كان في إستقبالي السيد خليفة كرار وسلم علي ولم يقل شيئا ودخل مكتبه وبعد قليل جاء الشاويش المعروف لدينا بإسم الجو وقال لي لقد تقرر ترحيلي لكوبر.