سودانات تصطرع وغياب المشروع الوطني في كلٍ (1)
مؤيد شريف
5 June, 2009
5 June, 2009
مؤيد شريف
السودان القديم يؤشر لمجموع المفاهيم والممارسات السياسية والاجتماعية الاسمنتية والمتحجرة والتي تسببت طويلا في إنسداد قنوات التطور الطبيعي منذ فجر الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة من تاريخ السودان .مواعين السياسة الخاصة به أو ما اصطلحنا علي تسميتها بالاحزاب السياسية كانت ولازالت للاسف عاجزة عن رسم وتجذير رؤية واضحة وصالحة للتطور فيما يخص كيفية ادارة العمل الداخلي فيها! فكيف وعلي أي اساس يُنتظر منها أن تستوعب وتعالج أزمات قطر كالقارة مساحة وتنوعا وهي المقيدة بامراض الطائفية والقبيلية والمناطقية والمحشورة في فكرها الاحادي والاقصائي والغير قادرة علي التعامل مع الآخر !! .. فضلا عن ذلك تعاني ذات المواعين السياسية في السودان القديم انقطاعا في علاقات الاجيال وغيابا في القيادات الوسيطة والوسطية الجديدة وتخثرا في دمائها منذ قرابة فجر الاستقلال وحتى اللحظة ، والماعون السياسي الذي تفشل دينامياته الداخلية في تجديد قيادته لاكثر من قرابة النصف قرن من الزمان لا يمكن قطعا أن يسهم في أي نوع من التغيير الايجابي علي مستوى القطر.هذا الواقع المتكلس علي مر السنين أوجد نخبا سياسية وطبقة حاكمة تحيط بها مجاميع من أصحاب المصالح والمتحلقين أطبقوا ولازالوا يطبقون علي المشهد السوداني والحياة عامة اطباقا وجثوا علي مداخله واحتلوا ممراته لا يردعهم رادع أو وازع من استخدام كل الوسائل خارج الشرعية والمشروعية للحؤول دون أي بارقة أمل للتغيير بهدف الدفاع عن مصالحهم المرتبط استمرارها ببقاء الاوضاع علي ما هي عليه . ومن خلال السيطرة علي أجهزة (الدولة) ومؤسساتها وعبر الفساد المنكشف تارة والمتستر تارة أخرى صنعوا لانفسهم ولمواعينهم السياسية راس مالية سلطوية تعمل تحت ظل وحماية الجهاز السياسي للـ(دولة) ويتكفل الجهاز السياسي برعايتها وتسهيل معاملاتها في الداخل والخارج تحت اشتراطات معينة تتصل بتوفير الدعومات لتجمعهم السياسي في فترات الانتخابات . هذا الواقع المصلحي ، قطعا ، لا يمكن أن ينتج نخبة سياسية حقيقية وذات وعي ودراية بمشاغل الناس وصاحبة رؤى وابداع في تشريح الأزمات والمبادرة بتصورات الحلول ، بل كان من الطبيعي أن تمثل الزعامات القبيلية والعشائرية والجهوية المصلحية الغالبية الأعظم كماً في واقع تسيطر عليه الانتهازية السياسية والطفيلية الاقتصادية والتنطعية الايدولوجية ، واقع يستميت في التقوقع والالتفاف حول نفسه ويرفض بعنف كل مبادرة ناشئة من خارج أطره التقليدية وأشبكته المصلحية الضيقة والمتسعة .كان نتيجة لما تقدم من وصف أن ظل تصورهم للسودان سنينا طويلة قاصرا عن احتواء كل أجزاءه البعيدة عن مركز سلطتهم ونفوذهم ومصالحهم ، فضعف الشعور بالانتماء للوطن في الأطراف جميعها وإن بدرجات متفاوتة وتُركت الازمات للزمن ليطيبها فازدادت احتقانا علي احتقان وتمددت نيرانها ووصل أوارها كل بيت وفرد ،،، كل ذلك حدث وهم لازالوا عاجزين عن التخلي عن مشاريعهم السلطوية الخاصة والضيقة وتبني مشروع الدولة وان أرادوا أن يفعلوا ، افتراضا ، لما قدروا علي الانتقال لمشروع وطني للدولة بسبب البنية المتخشبة والجامدة لمواعين السودان القديم والتي ليس بامكانها أن تميل ميلة خفيفة عما أختط لها تاريخا من مسار مسبق .ان من المثير للشفقة ان كل هذه القوى التاريخية والمتطاولة بها العهود في السلطة فشلت وقعدت عن الاتيان في أي من مراحلها العديدة والمتكررة بمشروع للدولة الوطنية تُثبت من خلاله دستورا وعرفا صيغة للحد الادنى من التوافق الوطني ويأخذ الالتزام بها شكلاً صارما يحمي الدولة من نزواتهم المتوالية ومناوراتهم الهدامة ويحصنها من قفزات ومغامرات العسكر من داخلهم ومن خارجهم . لكنهم لم ولن يفعلوا شيئا مما تقدم : فهم المستفيدون من هشاشة الدولة وضعفها بحيث تكون كل الخيارات مطروحة أمامهم ليأخذوا بأيسرها عليهم وأكثرها خطورة وتدميرا علي الدولة ووحدة ترابها واقوامها.اذن ، مفهوم السودان القديم لا يُحد بالطائفية التقليدية والطائفية الجديدة المُرتد اليها الاسلام السياسي بمسايرته ومواكبته لممارسات السودان القديم حذوا بحذو بل وزاد عليها الكثير من الطارئ ليرتد الي طائفية ذات ملامح اثنية وعرقية واضحة ولا يختلف فيها اثنان ، بل يسع المفهوم حتى ما اصطلحنا علي تسميتها بالقوى الحديثة وكل تجمع سياسي تواجد في اطار اللعبة السياسية للسودان القديم واستخدام ادواته الاجتماعية والسياسية والعسكرية ولم يمتلك تصورا واضحا ومناهضا لادوات التكلس والتخثر في السودان القديم ، بهذا يتضح أن السودان القديم لا يقتصر ظله الثقيل والممتد علي الطائفية التاريخية التقليدية فقط وانما يتسع ليشمل حتى القوى الحديثة التى ارتضت بالتواجد والعمل من خلال ادواته والخضوع لمسلماته وعدم العمل علي تغييرها والخروج عليها .لم تعد شماعات وتبريرات المتاح والممكن تقنع أحدا بعد أن رأينا تجارب ناجحة لدول قريبة منا نجحت في أن تُوجد صيغة الاستقرار السياسي وتلتفت من بعدها لعملية التنمية والنمو الاقتصادي ، والان وبلادنا تدخل مرحلة انتقالية مهمة ان لم تكن الاهم علي اطلاق تاريخه ، نجد أن مواعين السياسة في السودان القديم لم تتقدم تصوراتها ومسالكها السياسية قيد انملة ، كل شيء فيها ثابت وغير قابل للتغيير ، هذا ان لم يكن قد أصابها القهقري ، فالزعامات النصف قرنية لازالت جاثمة كأنما تريد أن تقول أن الله قد اختطها قدرا علينا ما دامت فوق الاديم سائرة ، وطرائق العمل عندهم لازالت تقوم علي المناورة والتذاكي وهو اسلوب لا مصلحة للبلاد فيه ، فضلا عن استمرار افتقار أي منهم لمشروع وطني للدولة ، وقواعد المريدين السياسيين هم من ابناء ذات البيئة التقليدية في غالبيتهم وأي محاولة للخروج بجديد واصلاح حالة التكلس والقعود التاريخيتين لا يجد الزعيم او الشيخ عناءاً كبيرا في امتصاصها وتدجينها وتوجيهها وجهته التي يرمي.الان ، وبعد أن فشلت قوى السودان القديم ،بتغير معطيات المشهد الداخلي والدولي، في المحافظة والابقاء علي أوضاع السودان القديم وبعد أن تآكل عنها بقدر كبير السند الشعبي الكثيف والذي طالما استندت عليه ، لجأت لاستخدام الاوراق الخطرة والتي ان لم تؤوب عنها سريعا وتنفض يدها من آثامها فستحرق بها كل اخضر ويابس ؛ وكأنها تريد أن تقول : اما سوداني القديم ونفوذي المعهود والمطلق والغير قابل للرقابة أو أن تحرق البلاد وتصبح أثرا بعد عين !!..ما تجري الان من تحالفات سياسية غير متسقة السياقات وغير معلنة الاهداف لا يمكن الا أن تقع في مجال محاولات إعادة إنتاج السودان القديم من خلال نفس الشخوص النصف قرنية بذات المحمول الاجتماعي والسياسي المتطبع والذي ثبت فشله وعدم جدواه المطلقة ما دام علي حالته الاولى لا يبرحها .الموضوع في صميمه لا يتصل بمسألة الدين والدولة أو مسألة عرقية وان اُجتهد في حشرها ، بقدر ما يعبر عن ممانعة وتنازع شديدين لطبقة سياسية وعسكرية تاريخية ذات سمات متماثلة ومتطابقة (قوى السودان القديم) لا تستنكف عن فعل كل كبيرة وصغيرة في سبيل الابقاء علي أوضاعها وأدواتها المنقرضة وإعطاب مسيرة التغيير عبر التخويف الاثني والارعاب الديني وكل ما ترى فيه ، بافقها المحدود بمحدودية سقوفها للعمل ، محددا للانطلاقة المأمولة والمنتظرة ... ويتصل