تصورات ومقترحات الصادق المهدي طموحة ولكن ! … بقلم: حاج علي
17 June, 2009
ما نشرته صحيفة آخر لحظة بتاريخ 13 /6 /2009 م , من تصريحات نُسِبت إلى السيد الصادق المهدي في خطبة له ـ كما ورد ـ ألقاها بمسجد ودنوباي أمام المصلين في صلاة الجمعة والتي تضمنت جملة من التصورات والمقترحات حول العديد من القضايا التي تؤرق الشارع السوداني , حقيقة أنها أمور تلفت النظر وتشد القارئ المتابع لمجريات الأمور في هذا البلد الذي ظلت تنقصه وعلى مدى عقود رؤية موحدة نحو البناء والاستقرار , ومن بين ما جاء في تلك الصحيفة المشار إليها وددت أن أتوقف قليلاً مع القراء الكرام أمام فقرتين فقط مما ورد لما لهما من حساسية وخطورة بل أحسب أنهما تشكلان صلب الأزمة السودانية منذ استقلاله وحتى اللحظة الراهنة وهما : أولاً : { اقتراحه تكوين هيئة للمصارحة والإنصاف تتناول ملف المظالم بالسودان منذ الاستقلال وحتى الآن ... } , ثانياً : { قوله : أن مطلب تسليم رأس الدولة " البشير " يجلب من المفاسد ما يضاهي ما يحقق من المصالح , ولذلك أقتَرَحَ معادلة توفيقية بين العدالة والاستقرار .. } , هاتان هما النقطتان اللتان وددنا التوقف عندهما مع وجود تفصيلات ملحقة بأي منهما لا نرى أهمية لإيرادها هنا , وسنحاول من جانبنا أن نستعرض رؤيتنا حول الفقرتين في النقاط التالية : أولاً : من البديهي أن السيد المهدي يُعد أحد الأركان الأساسية في الحياة السودانية وبالتالي فإن خطبه وخطاباته يكون لها ما لها من التأثير السياسي والاجتماعي على قطاع واسع من الشعب السوداني أياً كان موقفهم من الرجل , بل إنَّ أفضل من يجيد الاستماع إلى خطابه ويتدارسه هم هؤلاء , من يحكمون الآن , فهم يولون الرأي الآخر ما لا يوليه قائله نفسه من الاهتمام وخصوصاً إن كان صاحب ذلك الرأي من طراز الصادق المهدي , فالرجل لا يمثل نفسه كما يعلم الجميع وهنا تكمن الخطورة , قصدنا من هذه الفرضية المعممة أن نصل إلى ما يلي : فعندما يخاطب الصادق جماهير المصلين الحاضرين في المسجد " بأنّ تسليم رأس الدولة يجلب المفاسد " فهذا لا يعني أن الرسالة قد انتهت بانتهاء الخطبة , بل بالعكس فهي تكون قد بدأت بالانتشار إلى كل شبر في ربوع المليون ميل مربع , إلى كل جماهير كيان الأمة والأنصار ومن شايعهم وتصبح بالتالي ضمن المرتكزات المنهجية والخطوط الحُمر التي لا يمكن المساس بها أو القدح في قدسيتها , وهذه ليست الخطر الوحيد بل إنَّ الطرف الآخر ونعني حزب المؤتمر الوطني سيسارع وبكل خفة لتلقف هذه التصريحات ليحولها إلى سياسات وتكتيكات مرحلية لتضيف إلى حسابه رصيدٌ مجاني هم الجماهير التي أشرنا إليها آنفاً , إذاً بصورة أو أخرى قصدها الصادق المهدي أم لم يقصدها يكون قد كَرَسَ جهود من تبقى من كيان حزبه الممزق لخدمة مآرب حزب المؤتمر الوطني وهذا بالضبط ما يراهن عليه المؤتمر الوطني في بقائه في السلطة كما يراهن عليه بأن يكتسح بموجبه الدوائر الجغرافية التقليدية للأنصار في الانتخابات المزمع عقدها في فبراير شباط القادم . ثانياً : ومن خلال التصريح الثاني ـ للمهدي ـ أي اقتراح معادلة توفيقية بين العدالة والاستقرار ومن قبل ذلك بالطبع الدعوة لعدم تسليم الرئيس , وقبل أن نعلق على هذه النقطة نود أن نوضِّحَ أمراً مهماً وهو : ما الغاية من المطالبة بتسليم الرئيس لدى من يطالبون بذلك ؟ هل هي لأجل الانتقام الشخصي من البشير ؟ أم أن الشعب ومن عقدين من الزمان كان يحكمه مجرماً أياديه ملطخةً بالدماء ؟ لا أحسب أن الأمر كذلك بل على العكس ربما كان البشير ـ كشخص ـ مثله في ذلك مثل سائر الآباء السودانيين وأن ما صدر عنه من أحاديث أغضبت الكثيرين , قد كانت محض انفعالات دافعه فيها الخير وحب الإصلاح , لكن الأمر ليس كذلك , أي ليس الانتقامات الشخصية أو الانفعالات الأبوية , القضية أن هنالك حزباً يترأسه البشير قد أغتصب السلطة بليل ومن بين يدي سيدنا الصادق نفسه الذي يدعو الآن لحماية من أجرم في حقه شخصياً وفي حق الشعب السوداني طوال عشرين عاماً , وذلك بوضع معادلاتٍ و حلول توفيقية لأجل إنقاذه ! , أعتقد أن من حق الصادق أن يمثل نفسه أو أن يتنازل عن إرثه أو يتخلى طوعاً أو كُرهاً عن عرشه لكن لا أحسب أنه يملك الحق في أن يساوم في مصير الشعب السوداني في حضرة بلاط الخصم والحكم , ثم ليس هنالك من عاقل يتصور أن حزب المؤتمر الوطني قد سعى في يومٍ من الأيام أو هو ساعٍ الآن أو فيما يأتي من أيام لحقن الدماء السودانية لأجل أنه قد وثب إلى السلطة لهذه الغاية بل على العكس من ذلك فهو ـ أي الحزب ـ قد أسس كل أمجاده وأرسى دعائم بنيانه على حساب هذه الدماء البريئة والأدلة على ذلك لا تحتاج إلى تفصيل فقط يكفي ما سالت من دماء في الجنوب وفي دارفور وفي أطراف السودان الأخرى , أرواحٌ أُزهقت في هذا العهد لم تزهق حتى في عهود المستعمر وإلا لأنقطع دابر الأمة السودانية وأنمحَ ذكرها عن الوجود وانتفى بالتالي الصراع , إذاً ومن خلال هذه المعطيات الجزئية لما تم ارتكابه من جرائم , أين هو موقع الحلول والمعادلات التوفيقية ؟ وفي حضرة من ؟ أي من القاضي ومن المقضي عليه ؟ المتضرر واحد وهو الثابت الوحيد ـ الشعب السوداني ـ , لكن المتحولات كثر وهي أساليب الجريمة ومن ينسجون خيوطها على مر تاريخ الحكم الوطني وأكثرها بشاعة السلطة الحالية , في رأينا إنَّ الدعوة للحلول التوفيقية والمعادلات الهادفة للاستقرار في غياب المحاسبة الجذرية عن كل صغيرة وكبيرة ارتكبت في حق الشعب السوداني هو محض هروب من المواجهة ومحض تدويخ عاطفي تتم ممارسته بشعاراتٍ دينية , بل الدين نفسه لم يدعو للسكوت عن الجريمة أو المحاباة والتوسل فيها " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها " , فأين نحن ممن سرق أمة بأكملها وأبادها وباع تاريخيها ؟ , ربما أجاب الصادق المهدي عن هذه التساؤلات في مقترحه الأول الذي أوردناه آنفاً في صدر المقال وهو : " تكوين هيئة للمصارحة والإنصاف ..ألخ .. " , لكن حتى هذه الرؤية نجد أن المهدي قد نسفها وقضى عليها بدعوته للحلول التوفيقية ومعادلات العدالة والاستقرار من قبل أن نجيب نحن عليها في الفقرة السابقة . ثالثاً : وإذا سلمنا مع المهدي أن الدعوة إلى تكوين لجنة أو هيئة بهذه المواصفات والصلاحيات أمر جيِّد ويمكن أن يقود إلى استقرار ـ على قرار " لجنة الحقيقة والتصالح " , التي لجأت إليها جنوب إفريقيا بعد الصراع الطويل بين البيض والسود ـ وهي ذات الرؤية التي أشار إليها دكتور منصور خالد في كتابه " السودان : أهوال الحرب وطموحات السلام " , حيث قال : { إنَّ الذي يحتاج إليه السودان الآن , أكثر من الندم والاعتذار , هو رصد الحقائق وتوثيقها بهدف تنقيح التاريخ مما لحق به من تلويث , ثم تطهير النفس } , ثم عضد هذه الرؤية بالدعوة إلى الأخذ في الاعتبار تجربة جنوب إفريقيا التي أشرنا إليها آنفاً , وأياً كانت الدعوتين , المصارحة والإنصاف أو الحقيقة والتصالح هي الأجدر بأن يؤخذ بها أو تلتحمان معاًُ , وأيٍ من سيكون وراءهما ويدعم خطهما عليه أن يأخذ في الحسبان خصوصية الشأن السوداني وتشابك أزماته وتفردها عن غيرها من التجارب , فلو اختزلنا كل الأزمات السودانية في ثلاثة محاور فقط : أزمة الجنوب , أزمة دارفور وأزمة السلطة المركزية وصراع الهيمنة عليها لما أمكن الاتفاق حول واحدة منها في ظل واقعنا الراهن واقع يسوده الغبن وتحكمه الشحناء وتحدد مستقبله سياسات تقوم على الإقصاء , هذا هو ما يحدث تماماً فقيادات المؤتمر الوطني لا يأخذها الحرج ولا يمنعها الحياء في أن تعلن للملأ بأن لن يحكم السودان " من لا لون له أو طعم أو رائحة " ! , ولا نريد أن نسألهم عمن هو فاقدُ هذه الصفات من أبناء الشعب السوداني , ولكننا نريد أن نسأل السيد الصادق ألهؤلاء تريد أن تدفع بتصوراتك ؟ , حزب في أعلى قيادته يتحدى الجميع بأنه سيفوز بنتيجة الانتخابات حتى لو أجتمع الجميع ضده ؟ , وإذا افترضنا أنَّ هذه التصريحات كلها كانت من باب الانفعالات الحماسية التي تتسم بها الشخصية السودانية في معمعة الصراعات السياسية , فهل يليق بأن تصدر عن شيوخ طاعنين في السن راسخين في العلم أو أنهم يزعمون كذلك ؟ , وإذا غضضنا الطرف عن كل هذا الكم النظري الرديء فماذا نقول عن ما تتم ممارسته عملياً من تزوير لنتائج التعداد وتزوير للحقائق حولها , والالتفاف على نيفاشا ومحاولة القضاء عليها بطرق أقل ما يقال عليها أنها ماكرة خبيثة ؟ , هذه هي مؤسسة الرئاسة بشقها الوطني , أيها : الصادق الأمين التي تود أن تحتكم إليها مؤسسة ليست جديرة بالاحترام لأنها لم تحترم الشعب , وليست جديرة بالمخاطبة لأنها ألغت وجود غيرها , وأخيراً : نحسب أن تصورات السيد الصادق طموحة ونبيلة وتنطوي على حكمة سنين وخبرات رجل صنعته الأحداث وصنعها لكننا نحسب في الجهة الأخرى أنها ليست لهؤلاء , وإذا كان للسيد الصادق ما يقدمه للشعب السوداني فعليه أن يرفع شعار إدانة النظام الحالي ومحاسبته على كل جرائمه صغيرها وكبيرها والضغط عليه بالكشف عن الحقائق حول التعداد السكاني وأكثر من ذلك الالتزام بشفافية ونزاهة الانتخابات وعقدها في مواقيتها التي حُددت لها لأنها أصبحت الآن الخيار المطروح أمام الشعب السوداني لاستعادة حقوقه واستردادها فكفى تغييب للعقول وكفى تزييف للحقائق .
حاج علي ـ Wednesday, June 17, 2009