الدولة المدنية هي الحل للسودان … بقلم: د.سعد عثمان مدنى

 


 

 

saadosman2002@yahoo.com

 

"لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" الشيخ محمد عبده

 

و نقصد بالدولة المدنية تلك الدولة التي تبعد المقدس من متاهات السياسة و تؤسس لحكومة مدنية تعني في المقال الأول بتقديم الخدمات المختلفة من صحة و تعليم وامن داخلي و خارجي و غيرها لمواطنيها، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية و المذهبية والعرقية و اللغوية. تلك الحكومة التي من أهم مبادئها أن قادتها و طاقمها التنفيذي لا يدعون القداسة او أنهم ظل الله علي الأرض، او ما ينفذونه من خدمات يجب يكون مرضاة للشعب لأنه هو الذي أوجدهم و صرف عليهم من  ماله.   فالدولة المدنية في السودان ضرورية للغاية و خاصة في تحت الظروف الحالية، التي أظلمت بانتهاكات الإسلام السياسي و توجه البعض نحو العنف المقدس و رفض الآخر. فالمجتمع في السودان يتشكل من طيف عريض من الديانات والطوائف والمذاهب الدينية التي يختلف فهمها لمفهوم الدولة من طائفة الي اخري. و إذا اعتمدت الدولة علي فكر احدي الطوائف الدينية او الأحزاب الاسلاموية، فان هذا يؤدي لا محالة الي اضطهاد باقي المجموعات الاخري، و علي الأخص الذين يدينون بديانات اخري، و في هذا انتقاصا لمبدأ المواطنة الحقة التي نريد و التي أقرت كذلك في ميثاق اسمرا لقضايا المصيرية و اتفاقية السلام الموقعة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. و يؤدي الانفراد بصبغ الدولة بالدين الي استعداء باقي المواطنيين الذين لا ينتمون الي الحزب الحاكم، و ظهور الفتن الدينية و الطائفية في كل أرجاء البلاد.  فبعضهم سوف يشعرون أن الدولة لا تمثلهم و لا تمثل دينهم او فهمهم للدين، مما يولد المرارات و الأحقاد و العنف، و في المحصلة الأخيرة الي زرع التفرقة والكراهية و الفتن و النزاعات الطائفية والدينية. فالدولة لا يمكن أن نسميها إسلامية او مسيحية او أي مسمي ديني آخر، بل هي- في ابسط مفهمويتها -  حدود جغرافية يوجد بها شعب بمختلف ديانتهم و عقائدهم و ميولهم، يريد هذا الشعب حكومة تسير أمور حياته المختلفة، و توفر له الأمان لممارسة مختلف اعتقاداته. هذه الاعتقادات الدينية  تجد التقدير و الاحترام من أفراد الشعب لبعضهم البعض، و كذلك من الحكومة المدنية التي تكون محايدة لخدمة أفراد شعبها. فالدولة لا يكون ضد التدين او ممارسة الدين، و إنما في ظلها يتجه كل صاحب دين او طائفة الي ممارسة ما يعتقد انه الصحيح في ضميره، الي انه الطريق الي الخلاص في الحياة الاخري، محترما في الوقت ذاته كل الاختلافات لكل الطوائف و الجماعات الدينية المختلفة. و لابد أن تتأسس الرابطة بين أفراد الشعب علي رابطة المواطنة و احترامهم لمعتقدات و أفكار بعضهم البعض و علي إعلاء قيمة العقل و علي التعاضد الاجتماعي من اجل العيش الكريم و الاتجاه الي السعي في الحياة كل حسب مقدرته الفكرية و العضلية و المالية لكسب العيش. و تستمد الدولة شرعيتها من المواطنيين في اختيار ممثليهم لينوبوا عنهم في تقديم الخدمات المختلفة. الفئة المختارة للحكم معرضة للمساءلة و المحاكمة علي الأخطاء، و يمكن تغييرها سلميا في حالة حدوث أي اختلالات في الشفافية و أسس الحكم الرشيد. أن المصلحة العامة لجميع أفراد الشعب السوداني، هو تحقيق مصالحهم المشتركة في تلقي الخدمات المختلفة من الدولة، و في توفير مأكلهم و مشربهم و حرياتهم الفردية التي لا تتعارض مع مصلحة المجموعة، أما التدين، و الانضمام الي الطوائف المختلفة، فهو من حريات الضمير، كل يعتقد انه يمتلك الحقيقة الكاملة التي تجعله سعيدا في الحياة الدنيا و الآخرة، علي أن لا تتعرض اختلافات الفهم هذه، لتغذية الإكراه علي تقبل معتقد آخر،او تفضي الي العنف المقدس الذي يدعي أصحابه أنهم آهل الحق وحده.والدولة المدنية يجب أن توفر و تحمي أماكن العبادة و ممارسة الطقوس الدينية، و لا تتدخل في اعتقاداتهم، او تقف مع جهة ضد اخري.  


 أن واقع النظام السوداني الآن لهو واقع متخلف، وتخلفا يجعله عاجز أمام التحديات الكبرى، التي تطرح على جميع المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. و هذا التخلف سمة أساسية للانفراد بالرأي و ادعاء القدسية في حكم الدولة و انعدام الشفافية اللازمة، لتستر الجميع تحت عباءة الحزب الاسلاموي الذي لا يأتيه الباطل من أمامه او خلفه. يقول عبد الرحمن الكواكبي  ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقاما ذا علاقة بالله.. ! «

 

 

 

و الخروج الي بر الأمان، يرتبط ارتباطا جذريا بفكيك الفكر الحالي الذي يدعو الي الحق الإلهي في السلطة، و إدارة الدولة تحت ضوء فكر آخر يرتبط بدعم الدولة المدنية تفصل ما بين ما هو ديني و دنيوي.

 

و السودان الذي يعتبر من الأمم الناشئة، و التي تتطلع الي الاستقرار و التنمية، كان لابد من المرور بمراحل الثورات و الحروب و تصادم الأفكار و تلاقحها.  و تبقي أهمية الوعي المجتمعي بأهمية الدولة المدنية هو المرتكز و مقصد التنوير لفئات الشعب المختلفة.

 

فالفكر الذي بدا مع أبو الاعلي المودودي و سيد قطب و قاد الي تكفير الدولة و أقامة ما يسمي بالخلافة الإسلامية، هو ما جر السودان الي مزالق التهلكة والفرقان، عبر انتقال هذه الأفكار الي ممثلي الإسلام السياسي في هذا البلد. و يعتبر المخزون الديني لدي فئات الشعب المختلفة هو المحرك الأساسي للإسلام السياسي الذي ينهل من معينه في الوصول للسلطة، عبر ترديد الشعارات التي تدغدغ هذه العواطف الدينية و تجرها نحو تأبيد الحكم الثيوقراطي و حكم الطاغية باسم الله. و النقد الموجه لهذا الشكل من الدول الثيوقراطية، مبثوث في مختلف كتابات و أفكار المفكرين القدماء و المحدثين الذين يتحدثون عن المالات غير السوية التي يمكن أن تؤدي إليها تكوين ما يعرف بالحق الإلهي في الحكم.

 و المجتمع المدني و الأحزاب (المدنية) في السودان لا تمارس الوعي الكافي بين أفراد الشعب لكشف أكاذيب و تشويهات الإسلام السياسي التي تؤدي التهلكة و الفتن و دمار الحريات و الحقوق المدنية. و تبرز هنا إشكالية الدعوة و التنوير في مجتمع ناشي في السودان يثمل الجزء الأكبر منه مجتمع أمي و آخر لا يرتبط بوسائل التنوير او الوعي المبثوثة عبر الوسائط الإعلامية المختلفة.  فارتباط الوعي التاريخي بالإسلام لدي الأغلبية الغالبة من أهل السودان، والأمية و الجهل المتفشي بينهم، كان العقبة الكوؤد في طريق التنوير نحو إقامة الدولة المدنية و دولة المواطنة، التي لا تستعين لقضاء حوائجها باستغلال الدين لصالح السياسة. وما لم ينشر وعي من مختلف المنظمات و الأحزاب العلمانية وسط القطاعات المختلفة في السودان، في البادية والحضر، وسط القطاعات المثقفة و طلاب الجامعات، فأن التحول نحو تكوين الدولة المدنية بما تتضمنه من سن لقوانين المساواة و حقوق الإنسان، يكون ضربا من الخيال و نوعا من أحلام اليقظة. فالعمل نحو تأكيد الحريات الدينية و حقوق الإنسان و التداول السلمي للسلطة، لابد من يكون مضنيا و مخططا له علي أكثر من جهة تري الخلاص في هذا الأمر.  و هذا معناه العمل اليومي وسط الجماهير و إقامة الندوات و المناقشات الدورية التي تخدم هذا الهدف. 

 

آراء