ولتبق أبيي في قلب الوطن فلا شمال بلا جنوب ولا جنوب بلا شمال! … بقلم: د. محمد وقيع الله
22 July, 2009
لا هزيمة ولا انتصار
حبس الناس الناس أنفاسهم في انتظار قرار محكمة التحكيم الدولي، بشأن أبيي، وبقوا متربصين يتقلبون بين التفاؤل والتشاؤم، ويتوقعون النتيجة بلا مؤشرات واضحة.
فما كان مساندو الإنقاذ على شيئ من التفاؤل، رغم قوة المستندات التي عرضتها الحكومة على محكمة التحكيم الدائمة. ذلك أن تسييس مثل هذه المحاكم وارد لاسيما في شأن دولة مستضعفة كسودان الإنقاذ الذي لا يريد المجتمع الدولي، حتى الآن، أن يعامله يالموازين القسط.
الظلم الدولي ليس القدر المطرد:
ولكن جاء قرار المحكمة مبشرا ومؤكدا أن الظلم الدولي ليس هو القاعدة المطردة الدائمة، بل هنالك استثناءات بارزة تخرج منها وعليها، فما زال على رأس بعض مؤسسات النظام الدولي، بضع رجال شرفاء، يتحركون بوحي ضمائرهم الحرة، ويحكمون بحكم القانون، ولا ينصاعون لتوجيهات طغاة السياسيين المعربدين بأقدار القوة، وغير الآبهين بمعايير العدل.
وهكذا تنفس الناس الصعداء إثر إذاعة الحكم من لاهاي، وعجب البعض لمجيئه متسقا مع سنن العدل، وجهش البعض بالبكاء، واستبشر كل مخلص بغد وضئ مشرق، يخلص الوطن من الضغن، وداء الحماقة، ومنازع التطرف والتنطع وتعجل الشر.
منقو قل لا عاش من يفصلنا:
وقد كان حسنا بل رائعا ما قاله صديقنا القديم وزميل دراستنا بمدرسة مدني الثانوية الوزير الجليل السيد دينق ألور الذي عرفناه حينها باسم غير هذا الاسم، واشتهر بسلوكه السياسي المعتدل في أوساط الجبهة الديمقراطية بالمدرسة.
فإنه قد عبر عن شعور وطني طيب وأبان عن توجه وطني قومي حكيم مسؤول، بمبادرته العاجلة بالإعلان عن قبول حكومة الجنوب لنتيجة التحكيم الدولي، مع تأكيده على أن هذا الحكم حكم نهائي ملزم بصورة أبدية للطرفين معا.
قال السيد ألور ذلك بعد أن صافح زميله في الوطنية والأريحية النضالية السودانية السيد إبراهيم محمود محمد وزير الداخلية، الذي اتجه إلى أبيي لحضور إعلان الحكم هناك، والإشراف على حالة الأمن فيها، خشية أن تهددها أي مظاهر عنف أو شغب، فكان ذلك سلوكا يقظا مسؤولا محمودا نحمده له.
وإذا علمنا بأن السيد الأخ دينق ألور هو أحد أعيان أبناء إقليم أبيي، وهو من هو من حيث الوزن والقوة والتأثير في صنع القرار السياسي من قمة هرم القيادة في حكومة الجنوب، فإننا نطمئن غاية الاطمئنان إلى أن معضلة أبيي قد انحلت الآن الحل المرضي لطرفي الحكم معا، ولأطراف الوطن جميعا، ولا مجال للمزايدة فيها بعد اليوم من قبل المعارضة بمؤتمر جامع أو دستوري أو غير ذلك من التعلات!
سنة الهدى والرشد:
فلقد تصرف طرفا الحكم أخيرا بسنة الرشد، بإحالتهما لمسألة أبيي للتحكيم الدولي العادل، غير المتحيز، والبعيد عن الغرض السياسي.وهو تحكيم لا يشابه في أي منحى له تحكيم لجنة الخبراء المغرضة القديمة، التي تطفلت وتهجمت على المسألة، من غير أن تدعى إلى الفصل فيها، وأتت بحكم غير عدل، نقضته الآن بحكمها هذه المحكمة الموضوعية العادلة، التي يمكن أن تصبح في المستقبل ملجأ للطرفين معا، لحسم أي نزاع ذي صفة قانونية، بينهما، بحيث لا يهدر دم برئ بسبب نزاع طارئ بعد اليوم، ولا تمارس العنتريات في شؤون يمكن أن تحسم بغير العنتريات!
وبالطبع فلا مجال إلى أن نوجه اللوم إلى أحد فيما مضى من فصول النزاع، فسنة الغي والبغي كانت هي السنة السائدة قبل اليوم، ويكفينا بشيرا أن انبثقت فينا اليوم سنة الهدى والرشد، وأملنا وطيد أن تبقى هي السنة الماضية بنا إلى حل عقد الوطن جميعا، والرقي به في درج التقدم والحضارة والحداثة.
إحياء شراكة دينق ماجوك وبابو نمر:
وحقا فما أحرى شريكا الحكم أن يستلهما هذا الدرس جيدا، وأن يقدرا خطة هذا الخطو المستقيم الرشيد، الذي ابتدأ اليوم، أو قل إنه اتضح اليوم، وإن كان قد ابتدر قبل أعوام بتوقيع اتفاق الهدنة الصلح بالعهد النيفاشي.
وما أحرى شريكا الحكم أن يعودا إلى سنة سودانية خالصة من سنن الرشد، وهي سنة الشراكة الوطنية الحقيقية، التي أسسها زعيما المنطقة التاريخيان: الزعيم الجليل دينق ماجوك، والزعيم الجليل بابو نمر، اللذان لم يلتحقا بالمدارس، ولم يتلقيا قسطا من تعليم نظامي، ولكنهما برزا في مجال القيادة والسياسة والإدارة بحكمة لم يبدها من نالوا أرقى شهادات الجامعات!
فلقد رفض السيد الجليل دينق ماجوك أن ينفصل بمنطقته عن الشمال، بعد عرض تلقاه من مدبري الفتنة من الإنجليز والبلاد تخطو نحو الاستقلال، واحتج لذلك بأن أخوة الوطنية والزمالة والعشرة والتمازج القبلي مع عرب المسيرية الكرام تأبي عليه ذلك. وأكد أن تفكيره المصلحي في مستقبل أبنائه الكرام يمنعه من ذلك، فالخير كل الخير لأبناء دينكا نقوك الأماجد أن يبقوا هناك، لوجود فرص أفضل للتعليم الذي هو مفتاح الترقي التحضر.
وقد صدق، إذ تعلم أبناؤه في الشمال ونبغوا، في كل علم وفن، وكان بذلك خير حكيم تقدمي، يراهن على المستقبل الزاهر لأبناء الإقليم، من دون أي تشبث بدعاوي (الوطنجية) الساذجة، التي يجيد التشدق يها أشباه المثقفين.
تدعيم ثقافة السلام:
فلتبق لنا حكمة دينق ماجوك وحكمة بابو نمر إذن، بل فلتبق لنا حكمة الإنسان العادي (غير المسيس!) في ديار المسيرية، وديار دينكا نقوك. لتبق لنا حكمة هادية، ونبراسا يضيئ لنا الطريق إلى الغد المأمول.
ولتكن هذه المناسبة السعيدة انطلاقا لجهود جديدة قوية لبرامج ثقافة السلام التي تقوم عليها جهات شتى في بلادنا، على رأسها معهد ثقافة السلام، بجامعة جوبا، الذي أرجو أنه ما يزال على رأسه صديقنا الراسخ في الثقافة السودانية والحكمة الوطنية الوحدوية البروفسور أبو القاسم قور.ونرجو أن تلقى برامج هذا المعهد كل الدعم من حكومتي الجنوب والشمال معا، بحيث ألا ينحصر أداؤه في الإطار الأكاديمي الجامعي الصغير. فالوطن بكامله في حاجة ماسة إلى مثل هذه الجهود العلمية المخلصة المبرورة، لاسيما في هذه الظروف العصيبة الذي تمر بها البلاد. فليدعم سياسيو الوطن هذه الجهود المخلصة، وليفسخ لها أخونا وصديقنا وزميلنا في الدراسة الأستاذ محمد حاتم مدير الإذاعات والتلفزات السودانية حيزا مقدرا في وسائط الإعلام حتى يعم أثرها الخير الجميع.