من يتحكم في تطوير العلاقات الخرطوم أم واشنطون؟ … بقلم: أبوذر على الأمين ياسين

 


 

 

Abuthar Ali [abuzzzar@yahoo.com]

ظل المؤتمر الوطني منذ قدوم حكومة الانقاذ غير راغب في التعامل مع أي قوى أو طرف داخلي، معتبراً ذلك واحداً من أقوى سبل بقائه وضمان استمراره وفعاليته وتسيده للساحة السودانية. لذلك ظلت تعاملات الموتمر الوطني مع القوى والاحزاب والاطراف السودانية تتم ان فرضت نفسها (بقوة السلاح كما في حالات) عبر وسيط اقليمي أو دولي. وتقديرات المؤتمر الوطني التي رسخت لهذه السياسية تستند على أن التعامل مع أي طرف داخلي يمثل خصماً عليها ويوجد منافس لها!!؟، وعليه فإن الرؤية والمنهج المعتمد لدى المؤتمر الوطني  يجعل أوجب واجباته سد أي منفذ وتجفيف كل منبع قد يؤدي إلى بروز قوة أخرى منافسه له في الساحة. داخلياً ومنذ بدايات الانقاذ طرح ونظم المؤتمر الوطني كحزب وحيد، وروج له على أساس أنه الكيان الجامع، وظل المؤتمر الوطني طيلة العشرين سنة الماضية هو الحزب الوحيد الذي له حق النشاط والعمل دون أي قوى أخرى، متحولاً إلى أداة فاعلة في اضعاف باقي القوى السياسية عبر تشقيقها عبر مراحل وادماج بعضها ضمنه، وأبقاء الاخرى بعيداً عن الحزب أو القوى الام ضمانا لإستمرار النسخة الاولى الاساسية للكيان الجامع قوي ومتفرد ومستحوذ على الساحة ومنع ظهور أي مركز قوي قد ينافس المؤتمر الوطني في اي مرحلة من المراحل. لم تنجو من هذه السياسة حتى الحركة الشعبية رغم الاتفاق المحروس عالمياً، ولذلك دلالاته التي تفتح اذهاننا لفهم ما يجري بين السودان وواشطن.

 

لماذا أثار اتفاق التفاهم بين المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية ردة فعل المؤتمر الوطني التي قضت باعتقال زعيمه حسن الترابي قبل سنين؟، ولماذا يثير اتفاق حزب الامة القومي مع حركة العدل والمساواة كل هذه الضجة والانكار من قبل المؤتمر الوطني؟. شئ واحد فقط...!!؟. أن هذا منهج لا يجب أن يظهر على السطح، وأن لا تتاح له فرصة ليقدم نموذجاً لتفاهمات أطرافها سودانية. ولكن لماذا؟. نعتقد أن هذا هو مدخل القراءة الصحيح لطبيعة العلاقات الامريكية السودانية التي تبدو مقبولة لدي المؤتمر الوطني في عهد قرايشن.

 

قفل المؤتمر الوطني لأبواب الحوار والتفاهم والتعاطي مع الاطراف السودانية انتهي به إلى التطرف القاضي بأنه مهما كان الموقف متأزم ويستوجب تسوية ما فإن التفاهم المباشر سياسة غير رشيدة وغير مرغوب فيها الا مع الاطراف السودانية اذا كان التفاهم أو الاتفاق يضمن ادماج كامل أو جزئ لطرف الاتفاق الآخر. ولكن اذا استدعي الحال صيغة لتفاهم أو اتفاق ما، فيجب أن تأتي المبادرة عبر وسيط غير سوداني أقليمي أو دولي!!، لآن ذلك سيمكن المؤتمر الوطني بما أنه الممسك بزمام الامور داخلياً بدفع الوسيط إلى رؤيته أو بلوغ الوضع الذي يمكنه بعد ذلك ووفقاً لمعادلة الداخل الذي يمثل هو كل اطرافها ومفاعليها وتفاعلاتها وكل مفاصلها بيده من فعل أي شئ بلا وجل أو تحسب ذو بال. ولعل آثار ذلك لا تحتاج إلى شرح توضيحي فالاتفاقيات منذ اتفاقية الخرطوم وحتى التراضي الوطني مروراً باتفاقية السلام الشامل وبأبوجا، ظل كل جهد المؤتمر الوطني إما أدماج الطرف الآخر ضمنه، أو الايغال في تشقيقه واضعافه والعمل على ابقاء كل الاتفاقات على الورق وبعيداً عن الارض. تلك هي استراتيجية المؤتمر الوطني التي لا ترى في الوساطة الاقليمية أو الدولية أي خطر أو تهديد طالما ظل المؤتمر الوطني هو الطرف المتحكم داخلياً وأن الاطراف الاقليمية أو الدولية تتعامل معه من منطلق رسمي كونه الحكومة وأنه الممسك بزمام الامور. بالمقابل أتاحت هذه السياسة فرصاً ومداخل للقوى الاقليمية والدولية لتكون هي المؤثر الافعل على مستوى الداخل السوداني بأكثر مما هي القوى السياسية أو الحركات المتمردة أو حتى المؤتمر الوطني نفسه.

 

لم يدهشني استبشار المؤتمر الوطني بما راج عبر (الاعلام) مما قدمه المبعوث الامريكي أمام الكونغرس، خاصة وأن كل التصريحات التي سبقت جلسة الكونغرس الاخيرة والتي اطلقها كبار ساسة المؤتمر الوطني كانت تحرص على تصويرها كخطر قد يطيح بأفضل مبعوث أمريكي خاص للسودان كما (يراه) المؤتمر الوطني. لكنه أثار أهتمامي ودفعي لتتبع التفاعل الاعلامي الغريب الذي جري بالخارج والداخل ومحاولة اكتشاف الخلفيات التي تمرر هذا المنهج ولماذا في هذا الوقت؟. لكن الذي أثار استغرابي صراحة مواقف وتصريحات حركة العدل والمساواة التي جاءت رد فعل على الترحيب الفرح الذي عبر عنه المؤتمر الوطني، بأكثر مما هي رد على مواقف المبعوث أو تثبت من توجهاته وسياساته التي قد تصب في صالح حركة العدل والمساواة بدرجة أو أخرى ضمن عالم الفعل ورد الفعل مع الاطراف الدولية الرائج هذ الايام.

الذي قد يدعو للدهشة في موقف المؤتمر الوطني هو أن ماجرى ضمن جلسة الكونغرس تلك ليس فيه شئ يدعو المؤتمر الوطني بالذات للإستبشار أو حتى يدفعه للإطمئنان!!. ولذلك السؤال هو لماذا هذه الاحتفائية وكل هذا التبرك بالمبعوث الامريكي قرايشن؟. نطرح هذا السؤال على خلفية أن الاهداف الامريكية ظلت كما هي منذ قيام الانقاذ بل أصبحت الآن ملحة لدرجة الابقاء على تغيير النظام (كلياً أو جزئيا)ً هدف لا محيد عنه، وأن مُقبلات رفع اسم السودان عن قائمة الارهاب أو رفع العقوبات كلياً أو مرحلياً عنه ماهي إلا مداخل لبلوغ هدف تغيير النظام خاصة وأن التحولات الماثلة خلال العاميين القادميين لا تشئ، لا ببقاء السودان دولة واحدة، ولا تُطمئن بأن تماسك الاستقرار فيه سيظل ولو على المستوى الحالي.

يبدو أن هناك أعادة توظيف للحملات الاعلامية، والاطراف الدولية والاقليمية ولكن هذه المرة لدعم خط داخل وضمن المؤتمر الوطني، ضد خط آخر رافض جملة وتفصيلاً لتقديم أي تنازلات ولو بلغت 0.05% لأي طرف داخلي، بل هي تري وتعمل على أن يستمر الحال والوضع كما كان وضمان استمراره بل وتدعيمه بعد الانتخابات وعبرها. فالخط أو المجموعة التي تتقوى وتعتمد على الدعم الاقليمي والدولي تحاول تمرير سياسة ظلت محل رفض قاطع لا مجال فيه لأي تنازلات أياً كانت. ولكي تمرر خطها استعانت بالاطراف التي ظلت تلعب أدوار الوساطة وطرح مبادرات الحلول، وهي الان تتبنى خط أعلامي (يرسم) ملامح انتصار كبير واجبار أمريكا ليس على تحسين علاقاتها مع السودان فقط بل أن تتبنى رؤية وسياسة المؤتمر الوطني بلا تعديل أو حذف أو إضافة!!. وكل ذلك لحل الاشكالات التي تورط فيها المؤتمر الوطني وأصبحت مخارجته منها في ظل المجموعة المتنفذة الرافضة لكل حل أو تنازل بغض النظر على ما يترتب عليه من مكاسب ضرورة ملحة تضمن للمؤتمر الوطني البقاء والاستمرار مع آخرين وضمن وزنة لا تجعل له كل الفعل والتاثير كما كان الحال مع اتفاقية السلام ونسبة ال 52%.

 

ذلك لأن ما عرض من الحيثيات أمام الكونغرس ليس فيها ما يدفع لإطمئنان المؤتمر الوطني لهذه الدرجة. فقد عرض قرايشن أهدافه أمام الكونغرس وعددها في: بلد يحكم بمسؤولية وعدالة وديمقراطية، وعلى سلام مع جيرانه، وتحقيق السلام  شامل ومستدام في دارفور، وتنفيذ كامل لاتفاقية السلام، وبعد الاستفتاء ضمان السلام سائداً بقي السودان واحداً أو أضحي دولتين. أما وسائله لتحقيق ذلك فتضمنت الدبلوماسية والدفاع والتنمية وحتى القوة الامريكية، واصفاً تبنيه منهج الحوار والتواصل من أجل العمل على تغيير الأوضاع على الأرض. والواضح من أهداف قرايشن ووسائله أن مشروعه الذي يجب أن يضمن استقرار السودان خلال وبعد العامين القادمين خاصة بعد الاستفتاء، أنه يستدعي جملة تنازلات تدفع بتغيير جوهري على هيكل السلطة وأنماط عملها واشتغالها. وأنه تبعاً لذلك لن يتم شئ تجاه السودان بلا مقابل. وأن رفع اسم السودان عن لائحة الارهاب الامريكية ورفع العقوبات الاقتصادية يستوجب أثمان وتنازلات وصولاً لأهداف قرايشن.

 

هذه التفاصيل تؤكد أن هناك صفقة ما؟!!. سيتم عبرها إمضاء التغييرات على النظام، وأن مرحلة تسليك هذه الخطة مرت بنجاح ولكنها ما تزال عرضة لتهديد مصدره بكل تأكيد المجموعة الاخرى التي دائماً ما تصفها واشنطون ب (المتشددين). ولكن وضمن تفاصيل ما عرضه قرايشن أمام الكونغرس هناك ما يشيء بأن حتى هؤلاء المتشددين باتوا طرفاً في هذه الصفقة. فقد كشف قرايشن أمام الكونغرس عن تعاون السودان الذي قاد لتنفيذ اسرائيل حملة جوية ضد تهريب السلاح الايراني عبر السودان وعلى سواحل البحر الاحمر تحديداً. وهذه مرحلة متقدمة من التعاون (إن لم تكن من الانبطاح) الذي يشي بأن كل شئ الآن بات تمريره على حكومة المؤتمر الوطني ممكن!. كما أن هذه المعلومة تفسر لنا سر الحملة التي تزامنت مع تلك الاحداث واستهدفت وصم خليل ابراهيم زعيم حركة العدل والمساواة بالعميل الاسرائيلي وروجت لتعاونه مع اسرائيل، و أنها كانت مجرد تغطية عبر حملة اعلامية لما يقوم به حقيقة المؤتمر الوطني من تنسيق مع اسرائيل ذاتها ومباشرة. وهو موقف متقدم على موقف عبد الواحد محمد نور الذي مثلت زيارته لآسرائيل كفر بواح سار به المؤتمر الوطني عبر البلاد محاولاً استثماره ضده اضعافاً لموقفه الذي لم يجد عندها تفسير ولو عبر الوسطاء كون الرجل ظل بعيداً عن الحوار وجلسات التفاوض ومشاريع التسويات ممسكاً بشروطه تحقيق الامن أولاً على الارض واعادة النازحين واخراج من جلبوا من دول أخرى ليستوطنوا أرض من طردتهم مليشيات الجنجويد الحكومية. ولكن ما هي الصفقة وما هو هدفها أو (للدقة) أهدافها؟.

 

قد لا تتعلق تلك الصفقة بالتطبيع مع أسرائيل وإن كان ذلك وارداً عبر مراحل وزمن أطول يتم الترتيب له ضمن آخرين وفقاً لقاعدة (الموت مع الجماعة عرس). لكنه حتماً يتعلق بقوات آفريكوم!!؟، ذلك أولاً لأن أفادة قرايشن تطرقت لذلك وأنها ستشارك في عملية ارساء وتدعيم السلام بدارفور. وثانياً لان تصريحات مصطفي عثمان تحدثت عن مساومة (سابقة) حاولت عبرها أمريكا فرض استضافة تلك القوة بالسودان قبل نقلها لألمانيا. ولما كانت الولايات المتحدة الامريكية تبني أكبر سفارة لها بأفريقيا بالسودان (وبالتحديد بالخرطوم – سوبا) فإن إعادة المساومة أو تلطيفاً (المقترح) واردة ولكن عبر مراحل تبدأ بالدور الذي ستضطلع به بدارفور.

وقد تتعلق الصفقة (بإبعاد الرئيس البشير) وربما ضمان عدم محاكمته لاحقاً عبر اعمال وتجديد التأجيل تلو التأجيل عبر استخدام المادة 16 الشهيره، والسماح له بالبقاء بالسودان. وإبعاد البشير عن رأس الدولة هو الضمانة الوحيدة لعدم  محاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية، خاصة وأن هناك دولاً (أوربية) لن تقبل أو تمرر المادة 16 بأقل من هذا الثمن والذي يجب أن يأتي بعد إتمام واستتباب السلام بدارفور وبمشاركة كل اطرافها. كما أن الرئيس البشير لم يترك مساحة لتعامل دبلوماسي مع تلك الدول بعد أن جعلها (تحت حذائه) وظل يكيل لها السباب علناً دون مراعاة لا لموقعه أو لمكانة تلك الدول وما تتطلع به من أدوار على مستوى العالم.

وقد تكون كل هذه الصفقات مجتمعة هي المدخل الرئيس لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة فالحديث عن أثمان لا يستبعد شئ بل يفتح الباب لكل شئ. كما أن أمريكا ظلت بعيدة عن ملف محكمة الجنايات الدولية وامتنعت عن التصويت للقرار الذي احال ملفات المتهمين لمحكمة الجنايات الدولية. وهذا موقف محسوب يسمح لها اليوم بلعب دور الوسيط كونها ظلت رغم عدم التصويت ممسكة (دبلوماسياً) بضرورة مثول المتهمين أمام المحكمة وهو موقف يسمح لها بلعب دور الوسيط الذي يمكن لمصالحة ويمرر أهدافه بعيداً عن شبه كونه طرف (أصيل) في موضوع محكمة الجنايات الدولية. وهذا بتقديري أقوى مفسرات الدور الجديد والسياسية الجديدة التي أتى بها قرايشن.

 

ولكن هل ستسير الامور كما تريد لها أمريكا ومبعوثها الخاص قرايشن؟، وكيف سيكون رد فعل (المتشددين) الذين يرون أن الحكومة والمؤتمر الوطني خلفها " ... لن تسمح بحرية لقلب النظام أو التحريض ضده"  كما صرح نافع على نافع مؤخراً بكوستي ضمن احتفال تخريج طلاب عزة السودان بحسب قدس برس 25 يوليو الماضي. وهل سيتحمل المؤتمر الوطني أبعاد أهم رموزه بالساحة السياسية هذه الايام؟، أم هل سيحتمل أن يكون شريك بالحكم له الثلث أو الربع ضمن آخرين اذا ما جرت الانتخابات وفقاً للترتيب الامريكي الذي يباشره قرايشن؟ كل الاحتمالات مفتوحة... ولكن ليس هناك ما يدعو لفرحة المؤتمر الوطني بإفادات قرايشن أمام الكونغرس إلا لتمرير شئ على بعضه الآخر!!!؟.

 

آراء