ادخل عالَم الإنجليزية الساحر … بقلم: عبدالله الشقليني
17 September, 2009
abdallashiglini@hotmail.com
القاعة تعُج بالحضور. تقاطر الجميع وامتلأت هي عن آخرها وفاضت . ومَنْ حضر متأخراً آثر الوقوف فهذا هو اليوم الذي يفتتح فيه الدكتور " سليمان " المُحاضرة الأولى للقادمين الجُدد من طلاب وطالبات الثانوية إلى التعليم الجامعي . يُجرجرون هِممهم بين الدهشة وخوف الدخول لعالم جديد أول مرة .
تُرى كيف يكون الافتتاح ؟.
المنهاج غير الذي اعتاده القادمون الجُدد . الكُتيبات المختصرة للروايات الإنجليزية في المرحلة الثانوية كانت تتخير الكلمات التي تُناسب ثقل التعليم ودرجته التي ارتضاها الذين أداروا أمر اللغة الإنجليزية وسطروا مناهجها . هنا يظهر الفارق بين هؤلاء وبين الذين تعلموا إنجليزية الستينات قبل التعريب الأول عام (1965) م ، لنشهد الآن فراقاًُ أبدياً للغة الجزلة الرصينة وأدبياتها . هجمت الأيديولوجية السياسية للتعريب على التعليم الثانوي في ذلك الزمان دون دراسة ودون استعداد كافٍ ، ووصم السياسيون اللغة الإنجليزية حينذاك بأنها يد المستعمر التي تقبض على المفاصل . فدخلت اللغة العربية عالم الرياضيات والأحياء والفيزياء والكيمياء والجغرافيا ، على حساب الإنجليزية !. بَعُُد الفارق بين اللغة الإنجليزية في المرحلة الجامعية عنها في الثانوية . فمن أسفل السفح ودون عتبات ودرج يصعب عليك الصعود للقمم العالية ، إذ يتعين عليك الصبر والجلد ، فصارت اللغة المُبدعة كما قالت شاعرية جماع في موضعٍ آخر: " كالسماء بدت لنا واستعصمت بالبُعد عنا ".
مَنْ غير المحبة تُعيد النضار إلى الجفاف؟ ،
فهي أصدق عاطفة حين تبلغ النظرة الأولى مُبتغاها و تتبين سحرها .ستجعلك تحفر بأظافركَ مكاناً لصعودك في جبال اللغة الغريبة ، وستعطيك اللغة كُنوزها عن طيب خاطر، وإن تتبعت الخُطى، ستصعد أنتَ رويدا... ، فتتخطُفكَ أضواء الشمس المُشرقة فتدخل اللغة "الشكسبيرية" وتجد أشواكها تُحيط بالثمار الحلوة. تزحمُكَ في البداية بإنجليزية مضى عليها قرون ، وتنتقل بخطوٍ بطيء إلى بستانها النضير آخر المطاف ، ثم تدلف " لديكنز" و"وبرنارد شو"، و "وليام بليك " و" جاين أوستين" و"جورج أورويل " و " توماس هاردي" و " جورج غريفث " و " جراهام غرين " و " هنري رايدر " و" تي اس إليوت " و " آرثر كونن دويل " ...الخ
هنا "الدكتور سليمان " ، ذاك القادم من " بخت الرضا " متنقلاً عبر الفيافي والأرياف إلى أن وصلنا يلمعُ بالبريق. تجده يُخبئ سيناريوهات القص والمسرح المرئي على لدائن رقمية وفق أدوات العصر . لتكن نظرة المحبة الأولى إذن هي الصيد الشهي لطلاب وطالبات الأرياف الذين يتقلبون في دهشة أن تكون الدراسة في قاعات تتسع للجنسين ، ودهشة أخرى في عَمائر ابتناها المُستعمر منذ أول القرن الماضي مدرسة أولية لتخليد ذكرى" غردون باشا " ثم ارتقت لكلية ثم جامعة من بعد الاستقلال . البنيان يحمل بصمات حضارة أخرى ، كمُجسم يقْصُر عن الأصول العتيقة التي نُقل عنها في المملكة المتحدة . الآن أصبحت عندنا أثراً يتعين الحفاظ عليه قبل أن يجور "زمان الهَدْم المؤسس" فيكمل ما بدأه من خراب.
السابع عشر من يوليو هو يوم المحاضرة الأولى ، والعاشرة صباحاً هو ميعاد البداية . انتصب الدكتور " سليمان " وحيا الجميع بعبارات مقتضبة ، مملوءة بالبِشر والفأل ، وهو على وعده للجميع بالدخول معهم لعالم الدهشة الحالم ، شريطة أن يكون الصمت مطبقاً. طلب من الجميع الجلوس على المقاعد وأمّنَ على أنها تَسِع طلاب السنة الأولى في آداب جامعة الخرطوم بكل أفرعهم وتفيض ، أما الأضياف الذين دعوا أنفسهم للحضور ، فقال إن عليهم الجلوس ، وإن لم تتسع لهم المقاعد ،فعليهم " بالجابرة " أو المُغادرة، لأن الافتتاح الذي تم التخطيط له لا يقبل الزحام العشوائي ، والضبط والنظام والهدوء هو أول المداخل .
أُظلمت القاعة وفق الترتيب المُسبق، وفي منتصف الواجهة التي أمامنا بدأ الفلم يضيء بالصور المتحركة والأصوات : تتابع أنت الكاميرا تتخير عجلات الطائرة دون غيرها وهي تحتك ببلاط ممر الإسفلت الطويل و تئن ، ثم تصعد و تغادر الطائرة مدرج مطار الخرطوم . صوت نسائي يتحدث . صاحبته قد حزمت أربطة المقعد على جسدها النحيل قبل الإقلاع وفتحت دفتراً صغيراً وبدأت تكتُب وكأنها تُخاطب أخاها " عماد" الذي رحل في غيبته الكُبرى وهو في الثامنة من عُمره:
{ اليوم أخي تصعد بنا الطائرة . أول تجربتي معها وبدون الخوف ، لأن روحك بجانبي وكنتُ أنا دائماً قدوتُك و لن تُضعفني رهبة التجربة الأولى أبداً . تيسر لنا نحن المتفوقون والمتفوقات من طلاب السنة الرابعة الذين قد تخيروا " اللغة الإنجليزية وآدابها " تخصصاً لهم أن يسافروا على متن "الخطوط الجوية البريطانية " من الخرطوم إلى المملكة المتحدة بربع ثمن تذكرة السفر الشبابية . أعرف أن روحك الآن معي هنا ، وتحاول النظر من النافذة وأنت تُلاحقني بالأسئلة :
ـ لِم كان اسمها الطائرة ونحن نعلم أن الطيور صغيرة الحجم ؟ .
ـ أيمكنني أن أفُك الحزام فهو ثقيل يقبض النفس ؟
ـ لِمَ الشجر والنهر العظيم والبيوت أصغر كاللُعب ؟
كنتُ أعلم أنك صديقي الأوحد في بيتنا . تُكثر أنت من الأسئلة ، وتتعجب كيف يتصرف عالم الذكور بمثل تلك الغلظة معي ومع رفيقاتي في البيت وخارجه . سأحدثك سيدي عن أول رحلة بالطائرة تيسرت بواسطة شركة الطيران المؤتلفة مع " المجلس البريطاني" لتساعد بعض طلاب اللغة الإنجليزية في الجامعة لقضاء عشرين يوماً في مدينة " كورن وول " ليتعلموا لغة الشارع الإنجليزي واللهجات ، للتمييز بين انجليزية التدريس والإنجليزية المُتداولة بين العامة هناك . سنتجول في المقاصف والمتاجر ونزور الأسواق ودور السينما والمسارح ، و عندما نصل " لندن " قادمين من " هيثروا " من بعد وصولنا و طوافنا عبر الريف الإنجليزي الذي وصفته لنا الروايات ، سنهبط ونصعد لمحطات المترو ، وسوف نتعلم حين نجلس في مقاعدنا كيف نقرأ مثل كل الجالسين من حولنا و نُدير الوقت كما يديره الذين سبقونا في سلم الحضارة . وسنزور بيت " شكسبير " ومسرحه في "استراتفورد". ونقضي البقية الباقية في الريف الإنجليزي . وسوف أشتري لك آخر المطاف هديةً من " سوق اليهود " رغم أن لي موقفاً من صنائع الصهاينة في الشرق الأوسط ، فأنا لا أحكم على الأبرياء بجرائر المُذنبين ، فقد كان أبي يذكرنا دائماً بالنص القرآني :
{.....وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }الأنعام164
تلك سيدي الصغير خلاصة ما أدونه لك قبل أن نصل لأنوار حضارةٍ جثمت على أنفاس أهلنا في زمان غابر ، أخذت منا أكثر مما أعطت ، وجئنا اليوم برؤية جديدة غير التي تطلب القصاص . جئنا بعيون " عسلية " لتشاهد العيون الزُرق بأفق جديد ، ونشهد إمبراطورية غَرٌبت شمسها وقد كانت تضرب سمعتها الآفاق. ونتحسس كيف نبتت الأجناس المهاجرة مثلنا من أبناء وبنات أهل المستعمرات القديمة . خضّبت ألوانهم البشرة البيضاء ، ونثر القادمون بُهارهم على أطعمة الثقافة فصاروا هوية لها وزن ومِقدار....}
بدأ الدكتور " سليمان " في ترجمة الرسالة الرقيقة التي كانت تقرؤها الطالبة " وردة " لروح شقيقها " عماد" أثناء رحلتها الأولى بالطائرة من الخرطوم إلى لندن ، ثم أعقب ذلك بمقدمة موجزة عن تاريخ " وليام شكسبير " وإبداعه منذ التاسع عشر من عمره وأعماله القصصية ومسرحياته وعرّج لنص مقتطف من " روميو وجوليت" عند وداع العاشقان بعضهما، ليربطنا برباط المحبة الوثيق ، بلغة إنجليزية طلقة الروح ، واضحة النبرات ، وببطء يتسع لإفهام الحضور هم على العتبات الأولى ليتعرفوا تذوق تلك الإبداعات الإنسانية الرائعة ومدّ جسور المحبة بين لغة أضحت تُهيمن على العالم من جديد ولكن من وراء بحر الظلمات . تزحف الآن في أذهان مُتفتحة تحلم بالقفز من خلف سياج ما خربته "الهمج ".
أُنيرت القاعة من جديد بعد انتهاء العرض ، وأعاد الدكتور" سليمان " ترحيبه مُجدداً بالذين سيتخذون اللغة الإنجليزية خيارهم المُفضل ضمن خياراتهم المتاحة في كلية الآداب . وخرجنا من حلم القاعة الساحر إلى الطريق ، ثم إلى المكتبة الرئيسة في الجامعة . نسير بصمت ومن فوقنا الأقواس المتقاطعة في بطن سقف الرواق الممتد يساراً، ونحن نُحدث أنفسنا :
هذا صنيع الإنجليز : بُنيانٌ يقف أكثر من مئة عام ، ولغة تبتلع في جوفها لُغات الأمم الأخرى ، فماذا يا تُرى نحن فاعلون ؟
عبد الله الشقليني
17/9/2009 م