الإقتصاد الإسلامى: ما له وما عليه!

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإقتصاد الإسلامى: ما له وما عليه!

 

بقلم: محمود عثمان رزق

morizig@hotmail.com

 

لم تكن هناك أسس علمية للإقتصاد عموما ولاقواعد ولانظريات إلا فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر تزامنا مع ظاهرة النمو الصناعى لبعض الدول الأوربية وخاصة ألمانيا وفرنسا و إنجلترا.  وما زالت  تلك الأسس والنظريات العلمية  فى  تطور وتحول مستمر حتى هذه اللحظة التى يشهد فيها العالم ركودا إقتصاديا مخيفا بسبب الأزمة المالية الأمريكية.  فقد سمعنا وقرأنا لعدد من القادة السياسيين منهم رئيس الوزراء الفرنسى وكذلك سمعنا عددا من علماء الإقتصاد  والفلسفة يتحدثون عن ضرورة مراجعة الفكر الإقتصادى الرأسمالى.  وهذه المراجعة ليست بعيب ولا غريبة ولا مستنكرة لأنّ الحركة وتراكم التجارب هى التى تولد الفكر والفقه الصحيح،  وبالتالى تصحح حركة المراجعة مسار المعرفة لأنّ المعرفة ليست يقينا نهائيا وكاملا، بل هى عملية إنتقال من عدم  الي وجود، وإنتقال من مرتبة أدنى إلى مرتبة أعلى،  صعودا نحو الكمال النسبى لأنّ الكمال الحقيقى فى المعرفة لا يتحقق للإنسان كائنا من كان و لو كان نبيا!

فإذا، قد كانت مسائل الإقتصاد الرأسمالى مجرد أفكار وملاحظات وإشارات ومقترحات مشتتة بين عدد من العلوم الأخرى منها الفلسفة على وجه الخصوص ، والهندسة ، والرياضيات ، وعلم اللاهوت ، وعلم الإجتماع.  وقد تأثرت حركة تكوين مدرسة رأسمالية حديثة بحدثين عظيمين فى أوربا هما:

-  حركة التنوير فى غرب أوربا بقيادة كل من فرنسا وإنجلترا ، وكانت تلك هى الفترة التى بدأت تنفك فيها العلوم من قبضة الكنيسة وتروج لنظرياتها وتجاربها بعيدا عن التأثير الكنسى والبعد الغيبى.  وأهم تلك النظريات هى نظرية " القانون الطبيعى" التى أوجدتها مدرسة الفيزياء فى نهاية القرن السابع عشر بقيادة العلامة الإنجليزى إسحاق نيوتن.  وقد تأثر بهذه النظرية عدد من علماء الإقتصاد فى النصف الأخير من القرن الثامن عشر فنهضوا ليجمعوا المسائل الإقتصادية المتشابهة من بطون الكتب الصفراء المتفرقة على صعيد واحد لاكتشاف القوانين الطبيعية التى تحكم وتنظم حياة الناس الإقتصادية كما فى قوانين الفيزياء. وكذلك عمدوا لفك مسائل الإقتصاد من الفلسفة وغيرها من العلوم من أجل دراستها دراسة علمية متأنية ومن ثم تأسيس علم منفصل يختص بدراسة الإقتصاد. 

- و ثورة مارتن لوثر فى ألمانيا ضد الكنسية الكاثولكية التى هيمنت بصورة أحادية على تنظيم الحياة الأوربية حيث كان رجال الدين ومعهم طبقة النبلاء يسيطرون على الإقتصاد والسياسة والتربية لأكثر من ألف عام بحجة أن عامة الناس لا يعرفون مصلحتهم ويحتاجون دوما لتدخل الكنيسة فى حياتهم الخاصة والعامة!! وبهذه الثورة تأثر المؤسسين الأوئل لعلم الإقتصاد الرأسمالى فعمدوا لتحرير (ليبرالية) الحياة الإقتصادية من التأثيرات الكنسية الكاثولكية على منهج مارتن لوثر قائد الثورة البروتستانية.

 

وأكثر هؤلاء العلماء نجاحا فى مجال التأطير النظرى للإقتصاد الرأسمالى الليبرالى هو الفيلسوف الأسكتلندى السيّد/ آدم إسمث الذى استطاع فى كتابه القيّم المسمى "ثروة الأمم" إيجاد رؤى إقتصادية صاغها بصورة علمية كانت هى الأساس الفلسفى للمنهج الرأسمالى الكلاسيكى الذى من أهم مبادئه مبدأ حرية الأسواق المحلية والعالمية على السواء ، وكذلك مبدأ تقسيم العمل من أجل تحديد الأجور والقيمة، ويعرف هذا المنهج بمنهج السوق الحر. وقد عاش آدم إسمث فى الفترة بين الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية وتأثر بأطروحاتهما فى مسألة الحريات السياسية.

 

  ويقابل منهج السوق الحر فى الفكر الرأسمالى المنهج التجارى الذى ينادى بضرورة تدخل الدولة فى الأسواق لضمان توفر الثروات والمعادن والمواد الضرورية لعملية الإنتاج.  و على كل، فقد هيمن المنهج الكلاسيكى القديم  (منهج السوق الحر) على الساحة الإقتصادية فترة من الزمن ثم تطورت أطروحاته على يد كل من ديفيد روكاردو و توماس روبرت مالتوس فى نهاية القرن الثامن عشر ، والفريد مارشال فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وجون إستيوارت فى بداية القرن التاسع عشر، وغيرهم من العلماء – قديما وحديثا - الذين قاموا بكثير من الشروح وتفرعت على أيديهم فروع كثيرة من علم الإقتصاد لكل فرع منها أسس علمية واضحة.

 

  ومن الملاحظ أنّ المسائل والأفكار الإقتصادية كانت كلها مرتبطة بل نشأت فى كنف الدين والفلسفة وغيرها من العلوم  إلا أنّها لم تجمع فى علم مستقل بذاته،  وكل الذى فعله الإقتصاديون فى القرن الثامن عشر هو خلق كيان مستقل عن تلك الكيانات بحجة إكتشاف القوانين العلمية المستقلة التى تتحكم فى معاش الناس.  والإستقلال لا يعنى أبدا أن تلك الكيانات التى إنفصل عنها علم الإقتصاد مثل ( الدين ، والفلسفة ، وعلم الإجتماع ....الخ) هى كيانات غير علمية كما يحاول البعض إثبات ذلك ، وإلا لكان غوص علماء  الإقتصاد فى بطون كتب  الاهوت والفلسفة القديمة الصفراء لجمع الأفكار الإقتصادية منها عبثا لا نفع منه.  وبالرغم من أن الإقتصاد الرأسمالى الحديث قد إنفصل عن الدين فقد أثبتت وثائق التاريخ أنّ بداياته قد ترعرعت فى حضن الدين والفلسفة وعلم الإجتماع حتى بلغ أشدّه فاستقلّ بنفسه شأنه شأن كثير من العلوم التى خرجت من تحت عباءة علوم أخر.

 

وتلك الحقيقة تؤكد لنا أنّ التضاد المزعوم بين علم الإقتصاد والدين من جهة ، وبين الإقتصاد والفلسفة وعلم الإجتماع وغيرها من العلوم الأخرى لا وجود له أبدا فى تاريخ غير المسلمين ولا فى تاريخ وواقع المجتمع المسلم المعافى. ولكننا لا ننكر أن هناك مجتمعات قديمة إشططت فيها الأيديولوجيا الميتافيزيقية أو العقائد الدينية وأصبحت عقبة في طريق تقدم العلوم ، ولعل أوروبا المسيحية فى العصور الوسطى خير مثال لذلك ، وقد سجل لنا التاريخ أسماء عدد كبير من العلماء الذين أعدموا بسبب مقولات علمية خالفت معتقدات رجال الدين والدولة آنذاك!.  ولكن فى نفس تلك العصور الوسطى التى كان يقف فيها رجال المذهب الكاثوليكى عائقا أمام العلوم فى أوربا، كان العالم الإسلامى يؤلف المؤلفات ، ويخترع المخترعات ، و يؤسّس المكتبات ، ويفنّد الخرافات ، ويصحح النظريات ، وكل ذلك بتشجيع من الدولة ورعاية من رجال الدين الإسلامى – إن صح التعبير- بل كان من رجال الدين هؤلاء من أشتهر بنبوغه فى علوم الكيمياء والفيزياء بالإضافة لعلوم الشريعة والفقه. ّ فإن كان الدين منع أوروبا وغيرها من التقدم فإنّ حضارة المسلمين صنعها الدين بلا خلاف ، وقد شهد الأعداء قبل الأصدقاء على أنّ الدين الإسلامى قد دفع أمة العرب لولوج علوم ما كان لهم بها معرفة من قبل!

 ولهذا فإنّ أى إدعاء ينفى صفة العلمية عن أى فكرة صغيرة أو كبيرة تخص حياة الناس بحجة أنّ لها أبعادا دينية غيبية هو إدعاء غير علمى فى حد ذاته ، والتاريخ كواحد من معاول العلم يكذب التعميم فى مثل هذه المقولات.  وأصحاب هذا الإدعاء عليهم أن يثبتوا لنا "علميا"، لماذا إذا تجردت الفكرة عن الدين تصبح علمية ، وبمجرد أضافة البعد الدينى لها تسقط عنها "أتوماتيكيا" صفة العلمية؟  وهل للعلم  - الذى هو إدراك حقيقة الأشياء يقينا - معيارين للتعامل؟ أم ان الحقائق العلمية هى حقائق ثابتة  لها معاير ثابتة متفق عليها لا تتأثر بالأيدلوجيات ؟  كما نريد أن نعرف منهم أيضا: أى دين يقصدون؟ وذلك لأنّ الأديان كثيرة وبعضها يسير فى خطوط متوازية لا تلتقى أبدا إلا فى الإسم! ومبدأ " لكم دينكم ولى دين" قصد به دين الإسلام ودين المشركين وهما ضدان إشتركا فى الإسم فقط!!

 

و لقد سقت هذه المقدمة الطويلة لرفع الروح المعنوية عند المسلمين لأنّ خصومهم من أصحاب المبادئ الإقتصادية الأخرى  ما زالوا يرددون ليلا ونهارا ويقولون: إنّ الإقتصاد الإسلامى هو مجرد كلام لا أصول ولا فروع  له.  ولعلى أجد لهم العذر فى ذلك لأنّ أول مؤتمر عالمى عقد لمناقشة قضية الإقتصاد الإسلامى جاء بعد قرنين من الزمان من تأليف كتاب "ثروة الأمم" الذي نشره صاحبه فى عام 1776م ، و بيّن فيه نظرية السوق الحر ووضع فيه أسس المذهب الرأسمالي الحديث، كما جاء هذا المؤتمر بعد تسعين عاما من نشر كتاب "رأس المال" لماركس  الذى نشره صديقه انجلز سنة 1885 بعد وفاة صاحبه الذى تركه فى شكل مخطوطات وكراسات من الملاحظات ، وقد عقد المؤتمر بمكة المكرمة فى عام 1976 تحت إشراف كلية الإقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز. وفى ذلك المؤتمر بالتحديد بدأت خيوط الموضوع تتجمع وبدأت رحلة الكشف عن مذهب إقتصادى يخص الإسلام ويميزه عن غيره من الفكر الإشتراكى والرأسمالى أول خطواتها. والفارق الزمنى بين ذلك المؤتمر وزمن كتابة هذا المقال هو 23 عاما فقط ، رأينا فيها تقدما كبيرا فى مجال الفكر الإقتصادى الإسلامى على المستويين النظرى والعملى ، وما زال أمامنا كثير من الوقت لتجويد المستويين أيضا.  

 

وعل كل ، إذا علمنا  إنّ الإطار العام لأى إقتصاد هو تنمية المال وتوزيع الثروة من أجل  إعمار الأرض لصالح رفاهية الإنسان وفقا لمبادئ محددة ، نعلم أيضا أنّ داخل هذا الحوش الكبير تتفرق مواضيع الإقتصاد فيتخصص نفر من الإقتصاديين فى معالجة موارد التمويل ، ومنهم من ينبرى لمعالجة مسألة الإستهلاك ، وثالث ينشغل بمعالجة مسألة توزيع وإعادة توزيع الثروة ، ورابع يعالج مسألة التنمية، وخامس يعالج مسألة الأمن الإقتصادى و المخزون الإستراتيجى، ومنهم ومنهم ، وكل هذه الأمور الفرعية هى أمور إجتهادية صالحة للتبديل والتطوير والإزالة تحت مظلة المذهب الإقتصادى المتبع إشتراكيا كان أو رأسماليا، أو إسلاميا. فإذا علمنا ذلك سيسهل علينا تلمس هذا الإطار وتلك المبادئ فى مصادر التشريع الإسلامى لنعلم  أصدق المسلمون فى مقولتهم الإقتصادية أم كانوا من الكاذبين؟

 

وعندما نتوجه لمصادر التشريع الإسلامى من قرآن وسنة ونستنطقها فى مسألة الإقتصاد، نخرج منهما بفلسفة إقتصادية واضحة تقوم على أبعاد ومبادئ كثيرة نذكر منها هنا تسعة أبعاد على سبيل المثال لا الحصر وهى:

 

البعد الأول: هو رفض فكرة الفصل  بين حياة الناس والدين ، وهو رفض مبني على أسس علمية ومنطقية. والأسس العلمية هى أنّه لا يوجد أى دليل مادى يثبت أنّ  إضافة البعد الغيبى والأخلاقى يؤثّر سلبا على مسألة تنمية الأموال ، أو على عملية البحث عن الموارد ، أو على الإستهلاك ، أو على عملية توزيع و إعادة توزيع الثروة.  وعلى  العكس تماما فإنّ هناك أدلة مادية على أن  إضافة البعد الدينى يشجّع على التوسط فى الإنفاق وعدم الإسراف، ويعيد توزيع الثروة فى المجتمع، ويمنع الغش بوازع الضمير وليس خوفا من القانون، ويمنع المرء من الفساد عندما تغريه الفرص التجارية، ويحث الأغنياء على مساعدة الفقراء شاكرين أنعم الله عليهم، ويمنع الإحتكار والإستغلال بالربا ، ........الخ.  فهل مثل هذه الإضافات تضر بالإقتصاد والمجتمع فى شئ؟ فإذا كان الجواب بنعم، فنحتاج لدليل علمى مادى على ذلك.  كما يحق لنا أيضا أن نسأل هؤلاء: هل غيرت الأبعاد الغيبية والأخلاقية من المعادلات الرياضية فى علم الإقتصاد شيئا؟ فمثلا، هل تغير قانون العرض والطلب بسبب البعد الغيبى؟ أم هل تغيّرت العملية الحسابية للربح والخسارة بسبب البعد الأخلاقى؟ لاشئ تغيّر ولن يتغير. فإذا، إضافة البعد الدينى للإقتصاد هو عامل قوة وليس عامل ضعف وهذا أول أساس من الأسس التسعة.

 

البعد الثانى: هو البعد الإنسانى فى إدارة الإقتصاد، ولذلك تجد الإسلام يمشى بعيدا ومنفردا فى تشخيص الفقر.  فهو لا يجمع الفقراء فى طبقة واحدة فقط  فيسميها "البروتاريا" وكفى .  لا ، إنّ الإسلام يأخذ هذه الطبقة الفقيرة ويشرّحها تشّريحا دقيقا  ليلفت نظر الناس لكل شريحة منها على انفراد، وليثبت بفعلته هذه أنّه جاء لشن حرب شعواء على  الفقر عموما ما ظهر منه وما بطن:  ففى تشّريح القرآن للطبقة الفقيرة نجده يحدثنا عن:

 

 الفقراء عموما  (نحتاج لتعريف معاصر للمصطلح)

والفقراء من الأقارب

 

المساكين عموما (نحتاج لتعريف معاصر للمصطلح)

والمساكين من الأقارب

 

اليتامى عموما

واليتامى من الأقارب

 

الأرامل عموما

والأرامل من الأقارب

 

أبناء السبيل

 

أسرى  الحرب

 

الرقاب (وقد شرّع سهمهم لدفع عجلة حقوق الإنسان إلى الأمام بحيث لا تستطيع الرجوع للوراء وبالتالى يسقط هذا السهم تلقائيا أو يحول لهدف مماثل فى مجال حقوق الإنسان)

 

السائلين

 

الغارمين (وهم أصحاب الديون وهنا رائعة من روائع الإسلام لا بد من ذكرها وهى أن الفقهاء نصوا على أن الغارم بسبب إصلاح ذات البين يعطى من الزكاة ولو كان الإصلاح بين طائفة اليهود وطائفة النصارى فى ظل الدولة المسلمة، وذلك لأن السلام فى المجتمع المسلم حق للجميع ولا يتحقق إلا بمشاركة الجميع!!)

 

المحرومين (نحتاج لتعريف معاصر للمصطلح )

 

تلك أربعة عشر (14) شريحة تضمها طبقة الفقراء!!   فهل تجدون مثل هذا التدقيق فى مذهب من المذاهب الإقتصادية الأخرى قديما وحديثا؟ والجدير بالذكر أن اللسان العربى ليس فيه مترادفات ، ونقول ذلك حتى لا يعترضنا معترض فيقول لنا إنّ المسكين هو الفقير والفقير هو المسكين، والسائل هو المحروم ، والمحروم هو السائل!. لا، هذه درجات متفاوتة فى التردى الإقتصادى يمكن أن تقاس قياسا علميا فى وقتنا الحاضر.

 

 وإذا كان الإسلام لا يحتوى على موجهات إقتصادية ولا علاقة له بالإقتصاد أصلا كما يدعى البعض ، فلماذا يهتم كل هذا الإهتمام ويذهب بعيدا فى تشريح طبقة واحدة من طبقات المجتمع كل هذا التشريح ؟   وإذا كان لا يملك لهؤلاء الفقراء حلولا فلماذا يثير قضاياهم أصلا ؟ وإذا نجح فى  إثارة  قضاياهم فكيف أو لماذا يفشل فى إيجاد الحلول لها؟ وبكلمات أخر، ما الذى يجعل الإسلام ينجح فى إثارة قضايا الطبقات الفقيرة ولا يجعله ينجح فى إيجاد الحلول لها ؟

 

إن المثل السودانى يقول: "الجواب من عنوانو معروف" وببساطة أنّ إثارة القرآن الكريم لقضايا الفقر و الفقراء هى مؤشر واضح على وجود حلول إسلامية لها " ولكن يمكن للمسلم أن لا يفهمها ويختلف فى تفسيرها بسبب عدم إلمامه بالظروف الصحيحة والمتطلبة لصحة هذه المبادئ ومن هنا كانت أزمة الإقتصاد الإسلامى" (ص 10 المذهب الإقتصادى فى الإسلام، الفنجرى)

 

البعد الثالث: هو الإبتعاد عن الإسراف.  وكما هو معروف أن الإسراف والجشع مضر بإقتصاد الفرد وإقتصاد الدولة على السواء فى أى زمان ومكان. فالفرد الذى ينفق بلا تدبر وتدبير يقعد ملوما محسورا فى وقت قليل.  وكذلك الدولة التى تسرف وتنفق من غير تدبر وتدبير تقع فريسة للديون الدولية والكوارث الإقتصادية الداخلية، وكذلك تكون عرضة للمؤمرات الدولية الطامعة فى خيراتها.  ولا نجد حاجة للتدليل على هذا البعد بآيات من القرآن الكريم لأنّ الأمر فى أشد الوضوح ونصيحة سيدنا يوسف الإستراتيجية للملك الذى رآى سبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سمان دليل واحد وكاف على وجوب التدبر والتدبير وعقل الأمور بعد وقبل التوكل .

 

البعد الرابع:  هو التكسب عن طريق الإنتاج الحقيقى والبيع الحقيقى و الإبتعاد عن التكسب من  السلع الضارة وغير الأخلاقية كالتكسب من الدعارة الذى قال فيه الله تعالى : " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " وقد كان ملاك الرقيق فى الجاهلية وأوائل الإسلام يتكسبون من الدعارة ولا يجدون فى ذلك حرجا، فنزل الوحى  ليلغى هذا النوع من التكسب المتبطل لأنّه عمل غير أخلاقى ولا إنسانى  فى المقام الأول، وعمل ليس فيه إنتاج حقيقى فى المقام الثاني.  ونهى أيضا عن التكسب عن طريق الربا لأنّ القرض الحسن يجب ألا يتبعه أذى ولا ثمن، فهو قرض أخلاقى وإنسانى فى المقام الأول ولذلك سمى حسنا .  وإذا كانت الفائدة فى نظر المرابين هى ثمن لعملية الإقراض فهى فى الحقيقة كذلك ولكنها ثمن لعملية إقتصادية ضارة تنفع جزءا من المجتمع وتضر بالآخرين كثمن البغاء والخمر والمخدرات وغيرها من الممارسات التجارية التى نهى عنها القرآن الكريم وإن صحت فى نظر أصحابها!.  وهذا النوع من التكسب فى نظر الإسلام  نشاط إقتصادى سلبى متبطل يضر بالمجتمع ولا ينفعه ولذلك نهى عنه غير ملتفت لحجج أصحابه لأنّه نشاط لا يتكسب من ورائه إلا المرابون والخمارون والقوادون وتجار المخدرات والمجرمون فى الوقت الذى  يتضرر فيه الكادحون الشرفاء والمجتمع عموما.

 

البعد الخامس: هو الإستمرارفى توزيع وإعادة توزيع الثروة، وللإسلام فى ذلك عدة آليات منها توزيع تركة الأموات على الأحياء فى الأسرة. وهنا نرى كيف تدير عجلة الموت عجلة الحياة عن طريق توزيع وتفتيت رأس المال الموروث بين الناس بصورة منتظمة لصالح نمو الطبقة الوسطى التى هى أساس أى إقتصاد متين ، والجدير بالذكر أنّ علماء الاقتصاد والاجتماع والتاريخ مجمعون على أن الطبقة الوسطى هي صمام أمان المجتمع.  وبالطبع ينجح فى تنمية المال الموروث بعض الناس ويفشل آخرون ، إلا أنّ الفرصة فى إعادة التوزيع قد عمتهم جميعا!! ومن الآليات خارج الأسرة لإعادة توزيع الثروة  وعدم تجميعها فى قليل من الأيدى، تحذيره للذين يكنزون الذهب والفضة والأموال عموما ولا يشاركون فى تنمية المجتمع بدفع الزكاة والصدقات ودعم المشاريع الخيرية والإستثمار الحلال بخطاب شديد اللهجة عاقبته خسرانا مبينا.  وباختصار إن فلسفة الإسلام الإقتصادية هى توسيع دائرة الطبقة الوسطى وتقليص دائرة الطبقة الفقيرة. و من فلسفته  كذلك الإنحياز التام لمشاريع المجتمع الخيرية وأمن المجتمع المسلم ورفاهيته عموما.

 

البعد السادس: هو التأمين الإقتصادى ويقصد به حفظ ثروة المجتمع والفرد على السواء. وذلك يتمثل فى حفظ الحقوق وردها لأهلها ، وعدم تسبيب الضرار و الأذى للآخرين بحجة ممارسة التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو غيرها من الأنشطة التجارية.  ولهذا نجد أن أطول آية فى القرآن الكريم جاءت لمعالجة تأمين وتوثيق الديون لترد إلى أهلها تامة سالمة من أجل الإنتفاع بها مرة أخرى فى دورة إقتصادية بعد أن كانت مالا راكدا فى ذمة شخص آخر. و بالإضافة لذلك نجد الإسلام قد منع الإحتكار، والغش فى البيع والتصنيع، ومنع التزوير وتطفيف الميزان ، وحذّر من منع الماعون، وحذّر من قصد الآخرين بالضرر ، وحرّم علينا  إعطاء أموالنا للسفهاء....الخ.  وكل هذه الموجهات هى جزء من منظومة آليات لحفظ ثروة المجتمع والفرد من الضياع وهى موجهات تحمى الإقتصاد بلا ريب ولا مراء.  ومن هذه التوجيهات يتضح لنا أنّ الهم الإقتصادى هو من هموم الدين الأساسية مثلها مثل الهم العقائدى، والأخلاقى، والأسرى ، والدفاعى ، والعلمى، وغيرها من هموم المجتمع.

 

البعد السابع: هو التمتع ، وهو الثمرة الحقيقية لأى جهد إقتصادى، وقد أكد الإسلام على هذا المبدأ نفيا ومحاربة لفكرة الزهد المتطرف الذى إبتليت به بعض الديانات السماوية والوضعية. فلا يعقل أن يعمل الإنسان ويكد ويحتهد ويسافر ويتعلم ثم يمنع من بعد ذلك من التمتع بنتيجة جهده بحجة الزهد فى الدنيا!!  ولذلك إستنكر الله تعالى هذه الدعوة المتطرفة وسأل الداعين لها بقوله: " قل من حرم زينة الله التى أخرجها لعباده؟!" وأردفها بتوجيه مخالف فقال : " كلوا وأشربوا ولا تسرفوا..." وأردف قائلا : "ولا تنس نصيبك من الدنيا..." ثم أردف قائلا : " كلوا وأشربو وتمتعوا ..." وقال أيضا: " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا (فى الأكل إتباعا لشهوة البطن ولا تسرفوا فى العطاء بعاطفة الدين ) إنّه لا يحب المسرفين"

 

البعد الثامن: دعم وتشجيع الناحية الجمالية فى المجتمع. ولقد كان رسول الله (ص) دائم الإستنكار للأشياء القبيحة التى يراها بعينه حتى وصل به الأمر لتغيير أسماء الأشياء إذا كانت أسماء قبيحة أو محزنة . فإذا رأى رجلا رث الثياب أمره بتغيير ثوبه إن كان يجد، ويتطيب ويأمر أصحابه بذلك، وكذلك كان يحث الناس أن يتصدقوا بالثياب الجديدة إن إستطاعوا. وإذا رأى رجلا أشعث سأل أصحابه مستنكرا: ألا يجد هذا ما يهذب به شعره؟  إذا الهدف من الإقتصاد فى رأى الدين دعم الجمال على مستوى الأفراد و على المستوى العام أيضا إذا "وجدوا".  فمن وجد فعليه بترتيب وتهذيب نفسه ومحيطه أسرة كانت أو مجتمعا. والدولة التى تجد عندها عفوا من المال فلا بأس أن تهتم بالناحية الجمالية لمدنها وقراها.

 

البعد التاسع: الحفاظ على البيئة ، وذلك واضح فى أمره تعالى بتعمير الأرض حيث قال: " هو الذى أنشأكم من الأرض وإستعمركم فيها "، وقال الإمام الجصاص تعليقا على هذه الآية : "وفيها دلالة على وجوب عمارة الأرض بالزراعة والغراس والأبنية"  وكذلك بالصناعة  وإستخراج المعادن وغيرها من كنوز الأرض لأنّ الرسول (ص) قال : "التمسوا الرزق فى خبايا الأرض" وقال أيضا " من أحيا أرضا ميتة فله رقبتها" ، والأمر بالإعمار جاء  مرفوقا بالنهى عن إستخدام الأموال فى إفساد البر، والبحر، والجو، و إهلاك الحرث والنسل وتغيير خلق الله الذى أحسن الخلق. فإذا المقصد هو تعمير الأرض مع الحفاظ على بيئتها والإستمتاع بها نظيفة جميلة كما خلقها الله تعالى.  وذهب الإسلام أبعد من ذلك ليجعل إزالة الأذى عن الطريق صدقة! وغرس الأشجار صدقة! والرفق بالحيوان صدقة! وحفر الآبار ليشرب منها الإنسان والحيوان والأشجار والطيور صدقة! والإسراف فى الصيد حرام! وقتل الحيوانات المفترسة من غير أن تهاجمك أو تشكل خطرا راجحا على أمنك حرام! والتبول فى المياه الجارية والراكدة حرام! ومراعاة كل هذه الأشياء لا شكّ أنّه يصب فى صالح الأرض إعمارا وفى صالح المجتمع الإنسانى أمنا وعافية ورفاهية.

 

 

التحديات التى تواجه الإقتصاد الإسلامى:

 

- نضوب مقولات الفقه الإسلامى القديم: فمما لا شك فيه أبدا إن الأنابيش فى كتب الفقه القديم ما عادت تكفى لمعالجة المسائل الإقتصادية العصرية. وعليه، فلا بد من إجتهادات عصرية تستلهم روح الدين وروح العصر معا، ولابد من فهم القضايا الإقتصادية المعاصرة و الإلمام  بها إلماما دقيقا، وكذلك لا بد من معرفة أصول الفقه و أسباب النزول من أجل فهم عميق لقضايا العصر، وكذلك لا بد لنا من فهم النواحى الفنية والنظم الإقتصادية المعاصرة  والسياسات الدولية المؤثرة فى عملية إقتصاد الدول أفرادا وجماعات. ولا شك عندى أن الإحاطة بكل هذه العلوم سوف تمكن المفكر الإسلامى من إبداء رأيّه وهو واثق من نفسه ومن صحة رأيه .

 

- قلة دراية معظم الفقهاء المعاصرين بشئون الإقتصاد وإحاطتهم به علما: ولذلك نجدهم قد حصروا أنفسهم فى مصطلحات قديمة ومفاهيم قديمة وتركوا مسائل العصر التى بين أيديهم من غير هدى ولا كتاب منير، وإن أفتوا فيها تجدهم يفتون والمفاهيم القديمة متحكمة فيهم تمنعهم من الرؤية بوضوح ، ولهذا يجب أن ينهض هؤلاء الفقهاء ليعيشوا فى أحداث يومهم لا وقائع أمسهم

 

- ضعف التنظير والتأطير والتفصيل: ما زال العلم التفصيلى الذى ينزّل المبادئ العامة للإقتصاد الإسلامى لواقع المجتمع يحتاج لكثير من التنظير والتأطير والتأسيس والمراجعة. والايديولوجيا إن كانت مستمدة من الفكرى الدينى أو الإنسانى عموما فهى نظام من المبادئ يتميز عن العلم بكونه يحمل موجهات عامة تعكس الحالة العقائدية أو الفكرية للمجتمع،  ولكن العلم فى المقابل غير ذلك، فهو يأخذ المنحى العملى تجريبيا وعقليا من خلال التفاعل مع الطبيعة لتسخيرها وتنظيمها لمصلحته وهو بالتالى يثبت – قصدا أو من غير قصد - صحة أو خطأ بعض المقولات الأيديولوجية التى تدخل فى نطاق التجربة!. وعليه، فلا بد للمسلمين من بذل جهد علمى فى مجال الإقتصاد يتبث صحة مقولاتهم الأيدولوجية المستمدة من الدين. وإذا كان الفيلسوف الماركسى الميجرى جورج لوكاش يعتقد أن الصراع الطبقي في الميدان هو أكثر فاعلية من الصراع على الصعيد الأيديولوجي، فنحن أيضا  نتفق معه على أنّ الميدان ضرورة لإثبات صحة المقولات الإسلامية فى عالم الإقتصاد.

 

 

-  قبضة الإقتصاد الرأسمالى على المجتمع المسلم المعاصر:  مما لا شكّ فيه أبدا أن الفكر الرأسمالي يلقى بظلاله على التجربة الإسلامية وذلك بسبب سيطرة هذا الفكر عبر الإستعمار وغيره من الوسائل على أسواق المسلمين ومؤسساتهم التعليمية لفترة طويلة من الزمن، فلذلك لا بد من الإجتهاد لتحريرالإقتصاد الإسلامى من قبضة الفكر الرأسمالى بدراسات علمية حديثة لا بدراسات فقيهة تاريخية لا علاقة لها بالواقع شيئا. فوجود مقولات رأسمالية جنبا إلى جنب فى المجتمع الإسلامى خلق نوع من البلبة  وعدم الإستقرار فى تلك المجتمعات، وهذه البلبلة نتيجة طبيعية للجمع بين المتناقضات.

 

- التشكيك فى أصل الفكرة:  يقود التيار العلمانى فى البلاد الإسلامية حملة تشكيك قوية ضد  الفكرة فى أصلها وأصولها ، كما يشكك فى تجربة المؤسسات الإسلامية التى قامت عليها  بالتقليل من أثرها فى عالم الإقتصاد محليّا ودوليا بالإضافة لتضخيم أخطائها ، وهذه عقبة يسهل تجاوزها بل هى فى الحقيقة دافع جيّد يدفع علماء المسلمين للبحث والإستزادة وتجويد العمل.

 

- التردد فى دخول مشروعات إقتصادية كبرى:  واحدة من أكبر نقاط ضعف المؤسسات الإسلامية الإقتصادية هى عدم المخاطرة والدخول فى مشروعات عالمية وكبيرة تعود على المجتمع بفائدة عظيمة من جهة وتكتسب منها تلك المؤسسات خبرات علمية وعملية تنافس بها المؤسسات الرأسمالية العالمية. فمثلا لا نجد مؤسسة إسلامية تختص فى صناعة توليد الكهرباء أو إستخراج النفط ، أو صناعة الطائرات.

 

- ضعف كثير من القائمين على هذه المؤسسسات علميا وفقهيا وثقافيا:  ولا شك أنّ الذى يؤدى عمله وهو ملم بأبعاده العلمية والفقهية والثقافية لا يشبه الذى يتخذ من المؤسسة وسيلة رزق له ولعياله. فالأول يجتهد ويجد لذة فى الإجتهاد لتطوير المؤسسة ويحرص على ذلك ، والثانى ينتظر اليوم بفارغ الصبر ليخلص وينقلب إلى أهله مسرورا ليأتى فى اليوم الثانى وكأنّه يقاد للموت يتململ ليمارس نفس العمل بروح ميّتة لا يلتفت لعيب ولا يأتى بأفكار جديدة.  وهذا السلوك فى المؤسسات الإقتصادية خاصة يؤثر على سمعة المؤسسة وينفر منها العملاء ويعطى فكرة سيئة عنها.

 

الريادة فى مجال الإقتصاد الإسلامى ما زالت للأحزاب الإسلامية وليست للمجتمع وحكوماته.  وهذا الإحتكار يؤدى لإحتكار فى الوظائف أيضا بسبب التبعية التنظيمة أو الحزبية، كما يمنع كثير من أهل الإختصاص والإبداع من المشاركة وبالتالى يتأخر التقدم وتكثر الأخطاء وتفقد التجربة التأييد الشعبى اللازم لنجاحها وبالتالى ينظر إليها وكأنها تجربة خاصة تخص تنظيما أو حزبا معيّنا.  ولذلك لابد من العمل الجاد لدفع المجتمع من جهة ودفع الحكومات من جهة أخرى لخوض التجربة من أجل توسيع دائرتها وتثبيت أركانها وتصحيح عثراتها وتطيرها إستعدادا لنقلها لمرحلة العالمية وما ذلك على الله ببعيد إن صدقنا النية وبذلنا الجهد!

 

 

 

خلاقى \\لللأاا

 

آراء