فتاوي وضلالات الترابي (الأخيرة) … بقلم: بابكر عباس الأمين

 


 

 


abass_a2002@yahoo.com

المقدرة علي إيجاد سند ديني للشيء ونقيضه, لا تقتصر علي حسن فقط كقوله إن إستقلال الجنوب حق ديني, رغم جهد الملائكة التي كانت تحارب مع المجاهدين. بل هي أيضاً متوفرة لدي بطانته وحوارييه. يقول تلميذه النجيب, علي عثمان, بعد توقيع إتفاقية الهزيمة في نيفاشا, وعودته للخرطوم مُبشِّراً بها: "جئتكم بحبل الله المتين وقاعدة البناء الوطني الشامل فيه العدل والمساواة."

وبما أن شيخهم كان يكفيهم عناء أن يقول الرأي وضده ناسخاً له, فإن هذا الدور قد تقاسمه التلاميذ لاحقاً, بحيث يقول أحدهم رأياً, ثُم ينقضه الاّخر. بعد أن أضفي علي عثمان قدسية علي الإتفاقية, فإنّ قطبي المهدي, قد نقض قوله بعد قوة أنكاثا قائلاً: "إن الحكومة تعرف جيداً أن كثير مما اتفق عليه في نيفاشا, قد تم الإعداد له في مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن. وأن هناك أشخاص من هذا المركز تمّ تعيينهم من قِبل هذه الدوائر كخبراء في الإيقاد, قاموا بكل هذا العمل الذي تم. وأن الحكومة قبلت بذلك بناءً علي سياسة الأمر الواقع لأن هناك ضغوطاً لا قِبل لها بها, ولا قدرة لها علي مواجهة هذه القوة الدولية المتربصة بها." (الصحافة 26\2\2005). وما أقوي من حبل لله ذلك الذي يُفتل في واشنطن!

وكما مررنا بالتناقض والتأرحج والتذبذب لدي شيخهم, فإنها أيضاً خِصال تلاميذه, ومن شابه أباه فما ظلم. أستمع إلي غازي, الذي كان ينوي حمل شعلة الإسلام إلي أفريقيا, فانطفئت في كوستي بحبل الله المتين, متحدثاً عن دول الإستكبار: "عندما إنفتحنا علي العالم, وضح لنا أننا أكفاء للقوي التي تهيمن علي العالم, وفي مقدورنا أن نتحداهم بأفكارنا, ويمكن أن نكون نداً قوياً لدول الإستكبار." (أخبار اليوم فبراير 1995). هؤلاء القوم يقولون ما لايفعلون ويفعلون ما لا يقولون, لأنه كرّر في زيارته إلي أمريكا مؤخراً, بأن نظامه يتعاون معها إستخبارياً في مكافحة الإرهاب. والتعاون الإستخباراتي لا يمكن أن يكون تحدي فكري أو تعامل ند مع ند, أو دليل كفاءة, إنما دليل إنبطاح وعمالة. والحقيقة أن هذه عمالة لوجه الله, لأنها بدون مقابل وغير مدفوعة الأجر. وذلك لأنه بعد أن أدّي فروض الطاعة, مدَّدت الإدارة الأمريكية عليهم العقوبات, كما رفضت إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

والتعاون الإستخباراتي في مكافحة الإرهاب لا يعرف القيم والأخلاق والدين. وذلك لأنه يشمل التجسس علي المسلمين, وأخذهم بالشبهات, والوشاية بهم. وتم تجديد العقوبات رغم أن المُحافظين الجُدد ظلّوا يقدمون فروض الطاعة مُذ منتصف التسعينيات, عندما طردوا بن لادن. بالإضافة إلي تقديمهم معلومات, "للقوي التي أصبح في مقدورهم تحديها فكرياً", عن الجماعات الإسلامية التي هاجرت إلي مدينة الرسول الأفريقية, رغم منحها الجنسية السودانية بتعديل قانون الجنسية عام 1991, بحيث بات الشرط الوحيد لها قول "لا إله إلا الله."

وما كان الإنقلاب في الأساس لتأسيس (مشروع حضاري) أو (الثوابت), أو (لتطبيق شرع الله), إنما هذه عبارات ظلّ المُحافظون الجُدد يمضغونها كمضغ اللبان لدي شريحة إجتماعية معينة. بل كل مافي الأمر تأسيس سلطة بلا مجتمع, بقهر السودانيين وفعل كل شيء في سبيلها. بعبارة "كل شئ" نقصد البطش والتجويع وإهدار الكرامة الإنسانية لشعبنا. وبتلك العبارة نقصد فعل أي شيء في سبيل الكراسي حتي لو تعارض مع الأعراف السودانية والدين والأخلاق. وكمثال علي ذلك, فإن نافع كان قد أشرف شخصياً, علي تعذيب دكتور فاروق محمد ابراهيم, الأستاذ الجامعي, ركلاً وتهديداً بالقتل في بيت الأشباح رقم واحد, رغم أن نافعا كان من طُلابه في جامعة الخرطوم. ولم يقتصر التعذيب علي الفترة الدموية الأولي لحكمهم بل إستمر فيما بعد, وما زال. فعلي سبيل المثال, تعرض الأمير نقد الله, القيادي في حزب الأمة, عام 1998 لتعذيب, كان من ضمنه منعه من إستبدال ملابسه لمدة 108 يوماً. كما عُذب علي محمود حسنين, القيادي الإتحادي, بأسلوب مُماثل رغم تقدمه في العمر, ورغم تعدد أمراضه. وبكتابة هذه السطور فإن ياسر عرمان قد تعرض للضرب في السجن لمجرد تنظيم مسيرة سلمية.

ولقد كان إنقلاب السحر علي الساحر رحمة للبلاد والعباد, "وَلاَ يُفلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أتي." ليس لأن السحر بأفضل من الساحر, بل لأنهما لا يجتمعان علي خير كإبن العاص ومعاوية. بينما كان المسلمون سائرون إلي غزوة تبوك, إنفرد ابن العاص ومعاوية جانباً يتحادثان, فقال الرسول للصحابة: "إن رأئتموهما إجتمعا ففرِّقوا بينهما, فإنهما لا يجتمعان علي خير." وصدقت نبوءة النبي الكريم, لأنهما عندما إجتمعا في صفّين, تسبّبا في إسالة دماء مائة وعشرين ألفاً من المسلمين من الجانبين. وكذلك أدي إجتماع السحر مع الساحر لإراقة أنهار الدماء في الجنوب, ثم إتجه السحر يسفك الدماء غربا.

وكل سياسات المُحافظون الجُدد تتمثل في إبطال الحق وإحقاق الباطل. وهم لا يتناهون عن مُنكر فعلوه, بل إنهم يضفون مسحة دينية علي المُنكر. فحسب المُفكر الإسلامي الأمين, د.الطيب زين العابدين, فهم يدّعون أنهم يعبدون الله بالتجسس, والإعتقال والتعذيب ونهب المال العام, وبتزوير الإنتخابات, وفصل الناس من عملهم وقتلهم. (الصحافة 27\3\2005). وما فتئ نافع شخصياً - هذه الأيام - يعبئ سيارته بالمليارات من النقد, كأنها نصيبه من ميراث, مُتفقداً الرعية طائفاً عليها, يوزع منه للعارضين ذممهم في سوق الإنتخابات. وكان نصيب أحد أقربائي الإنتهازيين منها مبلغ خمسة ملايين من الجنيهات, كما أفادني.

وقد فعل صحابة الخرطوم بالسودانيين مالم يفعله اليهود بفلسطينيي 1948. وذلك لأن هؤلاء الفلسطينيين لهم أحزاب وصُحف ومنظمات مجتمع مدني, ونواب في الكنيست, وكل الحقوق المدنية. ولأنهم يعلمون أنهم منبوذين لأن هذا الشعب يشمئز من الطُغاة, فقد إنتهجوا سياسة تجويعه ليجروا إليهم الذين العناصر الرخوة, عملاً بمبدأ "جوِّع كلبك يتبعك." وأدي إحتكارهم التام للثروة, ضمن ما أدي, إلي الفقر المُدقِع, بحيث أصبح الكثير من طالبات الجامعات يبعِنّ الشاي, ويعملنّ خادمات في البيوت لدفع الرسُوم الدراسية الباهِظة. رغم أنهم وشيخهم قد تلقوا تعليماً جامعياً رفيعاً أفضل من الغرب, لأن التعليم الجامعي ليس مجاناً في الغرب. وكان نظام تعليمياً راسِخاً, دعمه دافعو الضرائب, الذين ردّوا إليهم العِرفان تشفّياً وإساءات وحقداً (شحاتين\يفني ثُلثي السودانيين ليبقي الثُلث الأصلح). وكنا نتوقع أن تتهذب لُغة الغطريس الذي وصفنا بالشحاتين, فإذا بها تنحط إلي عاميّة ركيكة واصفاً مؤتمر جوبا ب "اللمة." (سودانايل 16\10\2009).

قام المُحافظون الجُدد أيضاً بإستيراد السلاح من جنوب أفريقيا قبل تفكيك نظام الابارتهايد, رغم قرار منظمة الوحدة الأفريقية بمقاطعته.  وبعد تفكيك نظام الفصل العنصري, قال مانديلا: "ما كنت لأصاب بالإحباط والغضب لو لا أن هناك أنظمة سودانية قبلهم قدمت لنا دعماً سخيا." وعندما حدثت فضيحة هجوم حركة العدل والمساواة علي أم درمان, أمرت قيادتهم بإخلاء كل وحدات الجيش من العاصمة القومية, لتواجهها قوات الأمن ومليشياتهم. وحسب مصادرنا, من داخل الحكومة, فإن السبب كان عدم ثقتهم في ولاء الجيش, وإحتمال إنقسامه بحيث يؤدي إلي نهاية مملكتهم. وقد أصبح الحفاظ علي السلطة, لدي صحابة الخرطوم, أهم من حماية أرواح وممتلكات المواطنين في قلب العاصمة.

ورغم ثبوت فشلهم وعجزهم أخلاقياً وسياسياً في إدارة البلاد, إلا أنهم ما يزالوا يكابرون ويصرون علي إشباع شهوة السُلطة وما يتبعها من نهب لموارد الأمة. بعد توقيع إتفاقية حبل الله المتين مباشرة, خطّط صحابة الخرطوم للإستمرار في الحكم عن طريق الإنتخابات, ليشبعوننا ثرثرة وهرهرة بعدها عن شرعيتهم. أول ما قاموا به - لضمان فوزهم - هو منح الأموال وحق الإستيطان والجنسية, بطرق غير قانونية, للقبائل المشتركة في كل حدود السودان, بما فيها الشمالية. ولهذه الغاية صرفوا من موارد الدولة لتغيير التركيبة السكانية في العديد من أقاليم القطر, كإعادة توطين المسيرية في جبال النوبة. 

وسياسة صحابة الخرطوم - حسب فلسفة شيخها - مبنية علي إستعداء السوداني وإسترضاء الأجنبي. يتضح ذلك بأن شيخهم بينما كان يدعو لجبهة أهل الكتاب, كان في نفس الوقت يبطش بقادة كيانات إسلامية سودانية, بإيداعها السجن, ومصادرة ممتلكاتها, والإساءة إليها بألفاظ مقذعة. وتماماً كشيخهم, فهم ينكلون بالسودانيين, في الوقت الذي يسترضون أمريكا في مجال الإستخبارات. إضافة إلي إسترضاء مصر التي أهدوها حلايب, كأنها من ممتلكاتهم, وسلّموها إسلاميين مطلوبين من قِبلها, رغم أن الكافر يُستجار حسب الاّية "وَإن أحَدٌ مِّنَ المُشرِكِينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ." (6) التوبة. ويستغرب المرء من سياستهم الخارجية التي تقدم التنازل تلو التنازل للأجنبي رغم (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) و(الرد بالسد).

يستغرب المرء أيضاً الرضوخ لمصر التي همت طائفة منهم بإغتيال رئيسها في السابق. وتلك حادثة تكشف روح المغامرة لدي الذين خطّطوا لها. بعد أن تسرب العملاء الذين قاموا بالمحاولة إلي السودان, تم تهريبهم خارج البلاد, بدلاً عن إقتراح بتصفيتهم, وهذا شيء لم يعرفه تأريخ السودان السياسي ناهيك عن الدين. وحتي لو كان لديهم مرجعية دينية مُستمدة من فقه الإسلامبولي في الإغتيال, فإن تصفية العملاء لن يجدوا لها تبرير أخلاقي إلا في "فقه" المافيا واّل كابون. وهذا, في الحقيقة, تصرف مراهقين سياسياً, لأن إغتيال أنور السادات لم يؤدِ إلي إنشاء دولة إسلامية في الفسطاط, أو إلغاء إتفاقية كامب ديفيد.

المذكور أعلاه عن تنظيم صحابة الخرطوم - الأفضل من تنظيم صحابة يثرب - هو غيض من فيض وسطر من قمطر وقطرة من بحر. لماذا تسلك تلك الفئة سلوكاً منافياً للدين والأخلاق والأعراف السودانية؟

الإجابة أنهم تلقوا تربيتهم من باقوانهم Bhagwan)) وهو بتلك المراوغة والفهلوة, التي مررنا عليها خلال هذه السلسلة, ومن شبّ علي شئ شاب عليه. وقد كانوا مفتونين به ويعجبهم باطله حين يزيِّن لهم زُخرُف القول ليضلهم عن سواء السبيل. وقد كادوا أن يضعونه في مرتبة الأولياء والمرسلين, حسب قول تلميذه عمر البشير: "لقد وصلنا مرحلة في السابق كدنا أن نقول لا إله إلا الله والترابي ولي الله." (أخبار اليوم 2\9\2004).

وأخيراً, نختم هذه الحلقات بهذه الأبيات:

هل طَرقتُم بابنا إذناً كما أوصي الرسول؟

هل أذنّــــاكم وفــــــي الإذن الـدخــول؟

أم قفزتُم بالنوافذ مِثلما أفتي الترابي؟

 

آراء