هل يكون الإستفتاء بجولتين هو الحل؟ … بقلم: عمر الترابي
8 December, 2009
تمر بلادنا بفترة صعبة ومصيرية، خاصةً و أنها تقبل على استحقاقات السلام الدستورية المناط بها تحقيق التحول الديمقراطي، وتعقبها تراتيب الإستفتاء الذي سيُقرر استمرار وحدة الدولة السودانية من عدمها، لذلك كان لزاماً على الجميع توجيه كل جهودهم الفكرية و السياسية لمساعدة شريكي الحكم في ترسيم الطريق إلى السلام المستدام.
ان تقرير المصير مبدأ وحق قانوني متجذر ومتأصل في غالب الوثائق القانونية الحديثة، ولكنه ليس حقا قانونيا معزولاً عن منظمومة المبادئ القانونية الأخرى ولا ينفذ من طرف أحادي، وانما المستقيم هو تفسيره وتنفيذه في سياق المباديء الاساسية الاخرى للقانون الدولي. أي أن يحفظ الحقوق والمبادئ الأخرى، و مما لا شك فيه ان أية شعب أو كيان حين يتقدم بمطالبه استنادا الى حق تقرير المصير قد يتصادم مطلبه هذا و تتقاطع مع حقوق ومطالب اخرى، فاحيانا تقتضى هذه المطالب اجراء تغييرات في هيكلة الدولة والتي بدورها تؤثر في حقوق الجماعات الاخرى و لربما تؤثر على حقوق ومصالح خارج حدود الدولة المعنية ايضا . وقد يتعارض مع العقد الإجتماعي المكون للمجتمع أصلاً وميثاق الشرف الراعي والداعم له، وبناء على ذلك، يجب اقامة التوازن بين الحقوق والمباديء الاساسية المتعارضة للقانون الدولي أو المصطلح الإجتماعي أو لهوية الدولة، وأن تؤخذ الظروف الخاصة والمحيطة بكل قضية بنظر الاعتبار، فيجب اقامة التوزان بين الحقوق كلها ولكن الحصيلة النهائية يجب أن تكون في صالح الشعب.
نأتي على معنى الإستفتاء اصطلاحاً ونمر على نظرة تاريحية له،فالإستفتاء (كما يقول الباحثون) هو ممارسة او مبدأ يسمح لشعب دولة ما أن يعبر عن رأيه حول قضية معينة سواء اكان لصالح هذه القضية او ضدها. وربما يكون الشعب المختار أوسع من ذلك أو أضيق، فقد يكون لشعب قبيلة أو إقليم أو يكون لشعب قارة، وكما هو متفق عليه ان الاستفتاء وسيلة ملائمة لمعرفة رأي الشعب أو أمة بشأن قضية معينة، وهو سلوك انساني حميد و وسيلة سلمية وديمقراطية لتسوية النزاعات السياسية. ويُصنف الاستفتاء حسب الغرض الذي يجري من اجله الى اصناف عدة قد تختلف أيضاً وفق للجهات التي تجريه. إلا أن ما يعنينا هنا هو الاستفتاء الذي ينظم من أجل تقرير المصير و وهو "الاجراء الشكلي الذي يتم من خلاله تسجيل وتوضيح رغبات افراد الشعب في اقليم معين بشأن تحديد وضعه وتقرير مصيره".
والإستفتاء حق قديم أُستخدم في الكثير من الحضارات القديمة وهو أصيل حتى في مجتمعاتنا الشرقية، ولا يسع المقام للتطرق لأصالته تفصيلاً و لكنا نعد ببسطها في مقام آخر، وقد بدأ في التنفيذ في العهود التاريخية القريبة منذ الثورة الفرنسية وأُتخذ و سيلة لإلحاق أقاليم بفرنسا وكان الشعار الشهير "لا الحاق من دون استفتاء"، ومضت القوانين في الثبات إلى ظهور المجموعة الدولية التي أكدته كحق أصيل في خمسينيات القرن المنصرم، وتم اجراء العديد من الإستفتاءات لأغراض تقرير المصير من المستعمر الخارجي لتحقيق الإستقلال أو تقرير المصير لفصل إثنية لها تركيبة ثقافية ولغوية متجانسة لتحقق الإنفصال من الدولة الأم، فبذلك مارست هذا الحق دول مثل كمبوديا والجزائر وكاميرون البريطانية، ومارسته أقاليم عدة أيضاً لاتفيا 1991 ، اذ صوت 73.68 % من الناخبين لصالح الاستقلال، استونيا 1991 صوت 77.83 % من الناخبين لصالح الاستقلال، ليتوانيا 1991 ، صوت 90.47 % من الناخبين لصالح الاستقلال، التيمور الشرقية 1999 وكانت النتيجة 78.5 % من الناخبين صوتوا لصالح الاستقلال، اريتريا- 1993 اذ صوت 99.5 % من الناخبين لصالح الإنفصال. وغير تلك من الجماعات والأمم التي مضت لإستخدام ذلك الحق، إذاً هو حق أصيل للشعوب –في المنظور السياسي الحديث- و تقيده موجهات حفظ حقوق الجماعة و حفظ سيادة و وحدة الدول.
بل إن دولاً عالمية ذات صيت وفي هذا الزمان لا تزال تعالج مثل هذه المشكلة وخير مثال لذلك مطالب _كيوبيك_ للانفصال عن كندا وقد تم إلى الآن استفتاءين في 1980 و 1995 ولم يتم الإنفصال، و مازال مبدأ تقرير المصير يُخاطب العقول القانونية هنالك و قد نُشرت في هذا الصدد عشرات البحوث (الهامة) التي يصح لها ان تكون أساساً لحل مثل هذه المشاكل بعيداً عن ضيق المصالح السياسية الآنية، تقول المحكمة العليا الكندية حول قانونية انفصال اقليم كوييبيك مبينة للرأي في ما يجب أن يستند إليه الإنفصال: (أن تصوت اغلبية واضحة من الناخبين في عملية استفتاء تنظم لهذا الغرض لصالح الانفصال وان تكون هذه الاغلبية تعبيرا عن ارادة مواطني اقليم كيوبيك بشأن الانفصال) ، و هو محتكم حميد لمن تنازع في شئ من هذه القضايا.
هذه المقدمات سقتها ليبدو لنا الأمر أقل تعصباً و لأزيح كم التوتر و الإستعجال الذي أخشى أن يودي بالبلاد ويضر بقضايا الشعوب، فأمر الإستفتاء يحتاج لنظرات حكيمة وهادئة، وأنا واثق من أن البلاد إذا استصحبت تجارب الآخرين و راعت تفرد الحالة السودانية تستطيع الخروج من هذا المأزق بإذن الله وعونه، فعقول المفكرين وقادة الأحزاب السياسية السودانية تستطيع إنتاج العديد من الحلول التي تستطيع انتشال مصلحة البلاد والحفاظ عليها، المطلوب فقط هو قراءة واعية للواقع و تخطيط للمستقبل وبسط حرية التفكير و إقحام المجتمع السياسي و الديني للإسهام في الحل، فالمسؤولية التي على عاتق الشريكين الآن هي مسؤولية أجيال، و تحملهما لها يفوق طاقاتهما فينبغي أن يوسعوا هم هذه المسؤولية ليشاركهم فيها أغلب أهل السودان، واحمد فيهم اتجاهاً لهذا المسعى قد بدأ بالظهور.
اتفاقية نيفاشا -عمل بذل فيه جهد ضخم- ولكنه بشري فهي ليست منزلة من السماء وقطعاً يمكن تعديلها بما يوافق مصلحة إنسان السودان ويتراضى عليه الشركاء، وترسيم قوانين تدعوا إلى الوحدة هو من صلب مطالب نيفاشا، فالمطلوب الآن إيجاد عصف ذهني إما بمؤتمر علمي سياسي قانوني ليبحث مقترحات لإفراز قانون استفتاء (عادل) يحفظ لنيفاشا مطالبتها بالعمل نحو الوحدة الجاذبة، و يُقر لأهل الجنوب حقهم في وسيلة تقرير مصير مناسبة، معلوم أن تقرير المصير ينفذ عبر وسائل و الإستفتاء واحد من جملتها، ولكن ما دام الشريكين اتفقوا عليه يبقى ولكن لا مانع من تحديد كيفيته بما يمنح الوحدة فرصةً أكبر.
المقترح و الأسباب الداعية:
وهنا تأتي الكثير من الأفكار و التطبيقات التي ينبغي أن يناقشها الشريكين، فآنست أن أقترح في هذا المقال حلاً عله يولد حلولاً أنجع وما أطرحه ما هو إلا حث لعقول أبناء البلاد لينتجوا الأصوب والأكمل، فبناء على واقع ما يرشح عن تمسك الإخوة في الحركة الشعبية بنسبة 55% كأغلبية كافية للإنفصال و تمسك الإخوة في المؤتمر الوطني بنسبة تفوق ذلك وهذا اختلاف جوهري، و بالأخذ بالإعتبار بأن الإحتقان السياسي الذي تضافرت عوامله يُخشى أن يطل بآثار تُدَّعم من فرضيات الإنفصال (مما يناقض الدعوة للوحدة الجاذبة)، وبما أن الإستفتاء ينبغي أن يكون بأغلبية معقولة. وبما أن الجميع أقتنع بأن العمل للوحدة يحتاج لوقت إضافي:
فلماذا لا تُتبنى مبادرة تدعوا إلى إقامة استفتاء مشروط بجولتين؟!
بحيث تكون الفترة بينهما نوع من أنواع الدعم لمساعي الوحدة، بحيث يتم (الإستفتاء) الأول في موعده المتفق عليه (الآن) وتكون فيه الأغلبية الكافية للإنفصال 80% (أو أي نسبة عالية يقترحها الشركين بشرط أن تفوق 75% المنصوص عليها في كثير من الدساتير) .
وإذا جاءت النسبة (بين 55-79.9)% (النسبة الدنيا هي التي ارتضتها الحركة الشعبية حسبما رشح في الأنباء)، يُقرر إجراء استفتاء آخر يُجرى مع انتخابات رئاسة الجمهورية أي في نهاية عمر الحكومة المنتخبة القادمة، أما إذا جاءت النتيجة أقل من (55%) فإن الأمر ينتهي بوحدة، ويمنح لبرلمان الجنوب الحق بالمطالبة بإستقتاء مع نهاية الفترة الديمقراطية القادمة بشريطة أن يفوز المقترح بثلثي أعضاء أعضاء برلمان حكومة الجنوب.
هذا لب المقترح الذي يجعل الفعاليات السياسية كلها مسؤولة مسؤولية تامة عن أمر الوحدة إذ انه سيضطر الفائز في الإنتخابات القادمة –كائناً من كان- للعمل على دعم الوحدة وبرنامجها وسيُعطي الإخوة في جنوب السودان أيضاً الفرصة لتحديد مراسم حقيقة لموجهات العمل في المرحلة ودراسة الخيارات واختبار الإرادة الشعبية للسودان.
هذا المقترح دعوة للعمل الجاد من أجل إيجاد حل لمشكلة السودان، وهو اتساق مع مساعي المجتمع الذي يريد الخروج بالسودان من الوضع الراهن، وتأمين على الزعامات التاريخية بأن على الجميع العمل الإيجابي لتحقيق آمال وطموحات الشعب عبر الإسهام الحقيقي في دعم أطروحات السلام، فالوقت ينفذ و يجب إيجاد حلول استثنائية لواقع استثنائي. والله هو الموفق به الإعانة بدئاً وختماً.
الصحافة : الثلاثاء 8 ديسمبر 2009م، 21 ذو الحجة 1430هـ العدد 5911