نجلس للمؤتمر الوطني بدون “لحمة” ريدة .. بلحمة وطن

 


 

رباح الصادق
22 December, 2009

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الأسابيع الأخيرة الماضية كانت فارقة في نظرنا في التاريخ الوطني، فقد سار كما قلنا الحماس الوطني المولود بجوبا على قدميه، وأثبت أن الشارع السوداني لم يمت وأنه قادر على الرفض وعلى المطالبة بالحقوق، واجتمعت القوى السياسية المعارضة والمشاركة في الحكم فيما عدا المؤتمر الوطني حول رايات محددة، رايات بدفع استحقاقات السلام الشامل والعادل والتحول الديمقراطي الكامل. ولكن علت أصوات داخل هذا التجمع تنادي بعزل المؤتمر الوطني وانتزاع السلطة منه بالقوة وتعتبر أن الجلوس معه والتفاهم معه خيار خائب. وفي المقابل علا صوت يقول إن الحل هو جلوس الجميع بمن فيهم المؤتمر الوطني لحل قضايا الوطن.. والأسطر التالية تفريعات على هذا النقاش الذي لن يحسم ولكن دعنا نخوض مع الخائضين.

المؤتمر الوطني فرخ مدرسة لم يخطيء مرجعوها للجبهة الإسلامية القومية. مدرسة فكت الارتباط بين الدين والروح، والعمل السياسي والوجدان، والخطابة والمعنى، وهذا لو جاز لنا إنجاز ضخم! لأن الدين بدون روحانيات يأتي جافا وتحضرني استنكارات المسيح للفريسيين ومعلمي الشريعة اليهود الذين انشغلوا بدقائق العلم والفقه ونسوا أهم ما في الدين وهو الروحانية. والسياسة بدون وجدان ومحبة لشعب ولأرض هي صيد رخيص للسلطة ويحضرني قول الدكتور منصور خالد ذات مرة أنه يروح عن نفسه من سخافات السياسة وأظنه مثلهم –أي الإسلامويين- يتعاطى سياسة لا بد سخيفة لو مورست بدون وجدان دافع ومحبة قال الإمام المهدي عليه السلام أن الذي يفتقرها يفتقر الحبة! والخطابة يمكن أن تصير أداة فاعلة لتوجيه القلوب والعقول وحشد الطاقات متى ما نفذت إلى لب المعنى أما أن تقيم انفصاما أساسيا بينهما فهذا مما حذر منه حكيم الصين كونفوشيوس باعتباره أول منفذ لذهاب ريح الأمم.. وخطابات الإسلامويين أو أنصار المدرسة التي فرّخت المؤتمر الوطني هي التي قادتنا لحديثنا اليوم.

ففي تأبين أقامته جميعة شندي الريفية  لفقيد العلم والقرآن الأستاذ عبد الرحمن أحمد دقة رحمه الله الذي أقيم بمنزله بالجمعة الماضية (18/12) تحدث متحدثون من الأنصار وحزب الأمة ومن اليسار ومن الإسلامويين، ومن قبيلة الجبلاب، فقد كان للفقيد علاقة بكل من تلك الدوائر باعتباره أنصاري وحزب أمة ومن الفاعلين في رابطة أساتذة الأمة إبان الديمقراطية الثالثة وعضوا سابقا بلجنة مسجد الهجرة (مسجد الأنصار) بودنوباوي، ومن جهة أخرى باعتبار ماضيه كملحق ثقافي بسفارة السودان بموسكو إبان العهد المايوي ولكنه لم يستجب حينها للتوجيهات بإهمال الطلبة الشيوعيين فكان يرعاهم باعتبار أنهم أبناء السودان برغم ما جره ذلك عليه من غضب، وباعتبار مساهمته في تأسيس جامعة القرآن الكريم وفي رعاية القرآن وأهله، وباعتباره قائدا في قبيلته الجبلابية ونشطا برابطتها. تلونت الكلمات المؤبنة له وطرأ لنا أن الخطاب الإسلاموي الذي قدم برغم حشده بالسور والآيات والأشعار العربية وهي ومضامينها جاذبة ومفيدة إلا أنه خطاب يحدث نوعا من الانفصام بين الخطابة والمعنى. فهو يغرف من المحفوظ أكثر من غرفه من الواقع، وإذا رجع للواقع رجع رجوع الوعاظ هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل فإنه في الغالب يتخذ صوتا أو قل نبرة متشابهة لخطبائه  ترسم شكلا معينا في ذهن السامع/ السامعة مع متلازمات اللحية والتقطيب. انطباعات تقدم الدين في شكل سلطوي متعال كأنما أهله ليسوا بشرا من بين البشر.. ولكن المشاركة نفسها لكل الطيف المختلف في ذلك التأبين أكدت حقيقة ساطعة أن السودان يجمعنا، وحتى لو لم يكن خطاب الإسلامويين حبيبا، وحتى لو كانوا يحرصون على تلك التفرقة بينهم والآخرين، فهم جزء من هذا البلد.. لم يجمعهم معنا فقط الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله!

المشهد السابق ينقلنا مباشرة للحديث حول الممكن مع المؤتمر الوطني والمستحيل.

هل من الممكن تجاوز المؤتمر الوطني كلية في الخارطة السياسية الراهنة؟ وما هي أثمان أو استحقاقات هذا التجاوز؟

هل يمكن للمؤتمر الوطني في المقابل أن يتجاوز الجميع كما فعل على مدى عشرين سنة ماضية؟ وما هي أثمان واستحقاقات هذا التجاوز؟

يجيب على السؤال الأول بعض صغار أحزاب قوى الإجماع الوطني أن نعم. وعلى الثاني السيد نافع علي نافع ومن شابهه داخل (الإنقاذ) بنعم. ومصيبة السودان أنه يمشي خلف أصحاب الرؤى الفطيرة. أو قل الذين يخلطون الفكر بالهوى.

كلنا –في معسكر المعارضة- نحب أن يمسح المؤتمر الوطني من على ظهر الأرض، ونعتقد أنه أس البلاء في بلادنا، ولكن بعضنا يعرف أن المؤتمر الوطني قد رهن مصير البلاد بمصيره. وأنه جعل دون الإطاحة به انفصام سبيكة السودان ذاتها، وجعل المجتمع الدولي ذاته جزءا من هذه المعادلة المجنونة! بل إن التفريط الذي تمت به إدارة البلاد جعلت الهدوء الحالي هو الأفضل من أي تغيير غير محسوب الخطوات، وبالتالي علا الصوت القائل إن علينا أن نجعل المؤتمر الوطني يسير معنا باتجاه الاتفاق على الحل السلمي الشامل والعادل والتحول الديمقراطي الحقيقي والكامل، وذلك لا يكون إلا عبر الضغط الشعبي المتصل ليرى المؤتمر الوطني بأم عينيه أن الشعب السوداني قادر على الرفض وعلى التوحد وأنه قد انتهى زمان فرّق تسد وللأبد!

كل الناس في معسكر المؤتمر الوطني يحبون أن تتضاعف سنونهم العشرون وتتمدد، ويظل حال المعارضة السودانية والشارع السياسي كما هو في خانة التفرق والتشتت والانذهال والإحباط، ويحبون أن يكسبوا الوقت ليظلوا على كرسي السلطة الفعلية متربعين بإعطاء تنازلات شكلية وكراسي وهمية فتكون أسماء سمتها اتفاقيات السلام ما أنزل المؤتمر الوطني بها من سلطان! ولكن نقول للمؤتمر الوطني بالفم المليان وبدون أدنى مواربة أن هذا الزمان قد فات حتى وإن كان "غنايه" السيد نافع وأمثاله حي لم يمت! إن الذي ظهر في مسيرتي الاثنين السابقتين هو مجرد رأس جبل الجليد.. إن الذي دب في روح الشارع السوداني لا يمكن كبته بعد الآن، وهو كفيل بالإطاحة بالتوازن القلق الذي يعيش عليه المؤتمر الوطني في ظل اتفاقيات السلام والرعاية الدولية لها.

إن الجلوس بين الجميع في حد ذاته مشكلة، وبالرغم من أن المؤتمر الوطني جلس للجميع على حدة ووقع اتفاقيات ثنائية إلا أنه يهاب العزلة لو واجه الجميع مجتمعين. كذلك بالنسبة لكثير من المعارضين فإنهم ما جلسوا للمؤتمر الوطني إلا و(ليمونتهم) في يدهم، وكانت (قرفنا) هي التعبير الأضخم عما يدور بين المؤتمر الوطني وبين البقية، قال السيد مني أركو مناوي كبير مساعدي رئيس الجمهورية في ندوة الثلاثاء 8/12 بدار الأمة: عليهم بعد اليوم أن يقولوا: طرشنا (أي استفرغنا من شدة القرف)، وقال إن اسمه كبير المساعدين ولكن قد يكون هناك "مساعد حلة" أكبر منه!

نعم الجلوس مشكلة، والجميع يحتاج لجلسة مع النفس وتطمينات من الطرف الآخر.. المعارضة عليها أن تجلس مع نفسها وتحسم خيارها بأن الحل الوحيد هو اعتبار أن هذه البلاد بلادنا جميعا وأن المؤتمر الوطني جزء منا وأن جلوسه بنية صافية مع الآخرين لحل قضايا البلاد يجب  أن يكون كافيا لإنهاء العدائيات (مع بحث المساءلة عبر آليات كالحقيقة والمصالحة في بعض القضايا والمحاكم الهجين في قضايا دارفور) بل لو جلس المؤتمر الوطني جلسة صدق مع البقية فإنه يستحق تحية كتلك التي استحقها دي كليرك الذي كان يقود النظام العنصري البغيض في جنوب أفريقيا. والمعارضة تحتاج لتطمينات من المؤتمر الوطني أنه لن يسعى لكسب الوقت من جديد والاتفاق على اتفاقيات جديدة ثم بلها وتجريع المعارضة مائها!

المؤتمر الوطني عليه أن يجلس مع نفسه ويحسم خياره بأنه قد انقضت مباراة التسويف والزمان الضائع فيها، ولا مهرب من بحث قضايا البلاد قوميا وتقديم التنازلات.. إن أحلامه بأنه يمكن الاستمرار في قسم المعارضة الداخلية من جهة، واستخدام الانتخابات لنيل شرعية لمجابهة المحكمة الجنائية الدولية من جهة أخرى لن تجدي فتيلا.. إن هذه المواجهة باقية ولو فاز السيد البشير بأغلبية في انتخابات نزيهة لا غبار عليها، أما كل الإجراءات المتخذة لتزوير الإرادة الشعبية عبر انتخابات مطبوخة فإنها لن تمر على اللاعبين الداخليين ولا الدوليين، والحل الوحيد هو البحث عن حل إجماعي يوفق بين العدالة والاستقرار ويضمن مباركة الجميع لخطة يخاطب بها مجلس الأمن الدولي.. غدا (21/12) تقدم لجنة حكماء أفريقيا برئاسة السيد ثابو أمبيكي تقريرها لمجلس الأمن، وهو تقرير دعمته القوى السياسية السودانية، ويتوقع أن يدعمه مجلس الأمن الدولي وقد سبق ودعمه مجلس السلم والأمن الأفريقي، هذا هو المخرج الممكن، أو أن يدخل المؤتمر الوطني في متاهة أولها المواجهة الدولية وآخرها مآلات مدمرة للبلاد لا سمح الله. على المؤتمر الوطني أن يحزم أمره ويتوكل ويجلس للآخرين.. وهو بالمقابل يحتاج لتطمينات أنه لن يعزل ولن تنفرد به المعارضة لتشفي غيظها، وأن الجميع سيتعالى على الجراح الخاصة من أجل الوطن.

على المؤتمر الوطني الآن وفورا أن يسعى مع الآخرين لتنظيم المنبر القومي المناسب لحل قضايا البلاد المتأزمة وإنهاء الاستقطاب الراهن.

نعم المؤتمر الوطني بقي عشرين سنة في السلطة يسومنا أصناف العذاب، والمؤتمر الوطني مقتنا وأراد أن يقبرنا، ومقتناه وودنا لو عن ظاهر الأرض مسحناه.. لكننا اليوم وبدون أية (لحمة ريدة) تجمعنا علينا أن نجلس من أجل لحمة الوطن!

 

وليبق ما بيننا

 

نشر بصحيفة الأحداث الاثنين 21/12/2009م

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء