من الغيبوبة الى الوعى
29 December, 2009
عودة الوعى للثقافة والمجتمع السوداني
"ابريل 2004"
د-عبد السلام نورالدين
جامعة اكسترُ
(1)
يبدو ان لم ينعم السودان الشمالي والاوسط والجنوبي بقسط من الاستقرار الاداري والسياسي ليتفرغ الي تنمية قواة البشرية والطبيعية ومنذ سقوط السلطنة الزرقاء تحت سنابك الغازي المصري التركي 1820م- وهزيمة سلطان دار فور ابراهيم حسين في موقعة منواشي 1874م على يد النخاس المعتمد لدى اسرة محمد على باشا – الزبير بن رحمه – الذي كان يحارب بالاصالة عن نفسه وبالوكالة عن دولة والي مصر ، التي انعمت عليه بلقب ورتبة الباشوية للخدمات الجليلة التى اداها لها فامدته بالسلاح الناري الفاتك المجهول لدى القبائل النيلية انئذ ، ليقتحم به مجاهل الغابات الاستوائية ويجتاح السلطنات المسلحة بالعصى ، والحراب والكرابيج والسيوف والسهام في دار فور ووادي وبا قرمي لادخالها تحت هيمنة الباشا محمد على الذي اعد نفسه لبناء وقيادة امبراطورية ضاربة تمتد من افريقيا الى الشرق العربي الي حدود البابا العالي في الاستانة لم ينعم هذا السودان منذئذ ( وحتي هذه اللحظة التي تنداح فيها دوامات الحروب الاهلية دوائرا لتتسع بانتظام وظل الاستثناء الفاقع اللون في خضم ذلك الاضطراب تلك المفارقة الهازئة التي تؤكد باستفزاز ان الاستقرار الاداري والتنمية الاقتصادية والتعليمية المحدودة التي شهدها السودان في تاريخة الحديث قد اتفق لها ان تتحقق على يد الاستعمار البريطاني 1898- 1956م وليس الحكم الوطني من قبل ومن بعد ، فعرف السودان لاول مرة الخطوط الحديدية 1892-1912 ، ، كلية الطب 1924، ، مشروع الجزيرة ،1926 كلية الخرطوم الجامعية، والمطبعة والصحيفة، وقلم الرصاص ولوح الاردواز كشارات ومعالم في طريق الحداثة السودانية . وتمضي المفارقة قدما وعلى نهج فضائحي تماما كراقصة عارية تداهم على حين غرة عبادا وزهادا في عقر معبدهم الديني المقدس بكامل عريها وفتونها فتقسرهم مفاجأة الذهول على الاستسلام والاستغراق في تامل جسدها العارم لا يلوون على شيء . المفارقة الفاجعة ان كل ما توغل السودان متباعدا من الفترة الاستعمارية كلما تقهقر بانتظام الي الخلف ادارة وسياسية واقتصاد وثقافة وعقلانية . اذا كان ثمة شيء قد تحقق منذ الاستقلال وحتي الان يستحق التوقف والنظر فان الذين حكموا السودان عبر ما يقارب نصف قرن من الزمن ( 48عاما) قد بذلوا كل ما فى وسعهم للبرهان على فرضية جد اسطورية تدحض مباديء علم الطبيعة التي تقول بان للزمان بعد واحد لاغير هو الاتجاه صوب الامام - من الحاضر الي المستقبل ومن ثم يصبح من العبث بمكان - السير عكس اتجاه حركة الزمن.
ان تجربة الحكم الوطني السوداني منذ الاستقلال وعلى وجه خاص تجربة دولة الازمة ( بلغة د.حسن الترابي في اطروحته للدكتوراه بجامعة السربون اغسطس 1964م) او دولة الانقاذ – دولة الخيار الحضاري – هي سعي متصل دؤوب للسير بالزمان في السودان في اتجاه معاكس لبعدة الطبيعي صوب الماضي- هذا التقدم المستحيل الي الماضي – لم يتسن له بكل اسف ان يضع السودان على اعتاب شعل انوار النبوة ايام الرسول (صلعم)، ولم يتسن له ان يضع السودان على اعتاب سني الراشدين من الخلفاء ابوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي ، ولم يتسن له ان يضع السودان على اعتاب العصر الذهبي للفتوحات الاسلامية الاموية والعباسية اليانعة التي امتدت من بحر قزوين شرقا الي جبال البرنيس غربا ، ولم يتسن له ان يضع السودان على اعتاب السلطنة الزرقاء فى سنار او سلطنة دارفور على ايام السلطان تيراب وعبدالرحمن الرشيد ومع ذلك والحق يقال فقد عاد السودان تكلأه عناية ورعاية رجالات المجلس الاربعيني للجبهة القومية الاسلامية 1989 الي ايام الجهدية ومجاعة سنى سته 1306هجرية في المهدية 1885-1898م مجتازا الي ايام التركيه الاولي 1820-1885 حيث تمنى السودانيون انئذ والخازوق امامهم والباشبو زق من خلفهم ان يحشروا عشرين في تربه ولا ريال في طلبه.
يبدو ان اليسر والاستسهال الذى بدت به قابلية فكرة التقدم الى الخلف قد اغرت الرئيس عمر احمد البشير ان يوجه نداءه الشهير الي علماء الباطن والعالم السفلى ان يستعينوا بالجن في الاعمار والتنمية المستدامة ونقل التكنولوجيا الي السودان.
ويبدوايضا ان قوانين علم الفيزياء لم تستجب لرغبات الانقاذ في السودان وبقي الزمان على بعده وضلاله القديم ، ويبدو ان الجنيات لاسباب فوق ادراكاتنا البشرية القاصرة لم تستجب لنداءات واوامر علماء الباطن والعالم السفلى وفقا لتعليمات وطموحات الرئيس عمر احمد البشير وبدلا من نقل التكنولوجيا الغربية واعمار السودان على يد شياطين الانس والجن فقد تحول السودان على يد شياطين الانس في الجبهة القومية الاسلامية - الانقاذ – والمؤتمرين – الشعبي والوطني الي ركام وحطام تمرح فيه الخرافات والاساطير والسحر الاسود والخوارق وتراجعت العقلانية والفكر التنويري ومؤسسات المجتمع المدني واضحت للغيبوبة دور رسمية وبرامج ثقافية واتباع ومريدين وشيوخ واقطاب وقبل ذلك مؤسسات لتدريب السودانيين لاتقان فنون ومناهج اللاوعي والغيبوبة والتخاطب مع القوى الخارقة للطبيعة.
هذا العجز الكامل والتضارب فى الاراء والبيانات والمواقف والاضطراب والتراقص والفوضى الذى تظهر بة دولة الانقاذ هذة الايام على مرأى من كل العالم وكبرى منظماتة وقبل ذلك امام الصابرين من شعب السودان وعلى وجة خاص ابناء دارفور الذين فرضت عليهم هذة الدولة القتل والقتال-يجسد ببلاغة قاتلة فكر الانقاذ الغيبوبى وسلوكها المراوغ فى محك عملى مسموعا ومرئيا ومذاعا وبكل اللغات التى يتحدثها البشر. يبدو ان قد اكملت الغيبوبة واللاوعى دوراتها الكاملة فى السودان وان افولها ومحاقها وقد ان ايضاالاوان لهذا الاصم الاعمى المقعد-الذى اطلق على نفسة-الانقاذ- ان يرى الجميع عرض اكتافة حيث لا يتم السرور الا بغيابة.
(عودة الوعي)
(2)
إن اولى المهام التي تواجه قوى التنوير والعقلانية في السودان وعلى وجه خاص – مؤسسات المجتمع المدني في الداخل والمهاجر- العمل على عودة الوعى للحياة الاجتماعية والثقافية ومؤسساتها وذلك ليس بالامر اليسير – حيث تحولت اللاعقلانية – اللاوعي – الخرافات والاساطير الي ايدولوجية لها شيوخ وحواريون يبذلون جهدا غير مقدس لتأصيلها في التربة السودانية بحسبانها هوية للفرد والمجتمع والدولة.
تبدأ الخطوة الاولى في كشف قناع ايدولوجية الغيبوبة فى فضاء الثقافة بالاقتراب من الهوية السودانية المتعددة التي تم حصرها وحصارها في واحدية اللغة والدين-و الثقافة العربية الاسلامية- على الرغم من ان استقراء الجغرافيا والتاريخ والانثربولوجيا الثقافية تؤكد بالبيان الاحصائي - ان التعددية قسمة جوهرية في هوية الفرد والمجتمع السودانى - فالسودان متعدد القوميات – متعدد الاديان - متعدد الثقافات – متعدد اللغات – متعدد الهوية حتي على مستوى الفرد الواحد Multiple Identity - هذا التعدد غير قابل ان يبتسر فى الاحادية و ليس جريا مع التبسيط نتاجا للدمج القسري الذي فرضه محمد على باشا باحتلاله في عام 1820م بحثا عن الذهب والعبيد ومطاردة المماليك كما اذاع وليس نتاجا للحكم الثنائي الذي اعاد استعمار السودان في 1898م ولكنه يمتد الي مجرى ومسارب ابعد غورا من القرن التاسع عشر الي الاف السنين التي صاغت شعوب وثقافات واديان ولغات واقاليم ما يعرف حاليا بالسودان. يكتسب مفهوم السوداني – متعدد الهوية- بعدا هاما في بناء مجتمع مدني فى السودان واعادة
صياغة وتحديد الوظيفة والاطار للدور الذى يلعبه المجتمع السياسي( او الدولة – في مجتمع متعدد الاديان والثقافات واللغات –) حينها يضحى من الضرورة بمكان الاعتراف بكل اللغات الحية التي يتحدثها السودانيون – والاعتراف – يعني كتابتها وتدوين ادابها وتاريخها وتدريسها في المدارس للناطقين بها والراغبين في التعرف عليها - ويضحى من الضرورة ايضا فصل الاعلام عن مؤسسة الدولة - ولا مناص من ان يكون الاعلام قوميا او استثمارا لمن اراد.
واذا كان الاقتصادي يقترب من الثقافة ومؤسساتها ومفرداتها كاليات لتعزيز مجرى التنمية البشرية الشاملة –فأن المعنى بالوظيفة الثقافية للتنمية لا يفصل بينهما الا فىاطار ترسيم الحدود بين التخصصات على المستوى الاكاديمى الصرف. .ترى الشواهد ان التجربة السودانية منذ انتصار الثورة المهدية1885 ، فالحكم الثنائي 1898 – والحكم الوطني منذ الاستقلال 1956 وحتي غيبوبة الانقاذ 1989 قد تضافرت بمستويات متفاوتة في اختصار واختزال وابتسار الثقافة بدرجات متفاوته اما في الدين او اللغة العربية او اللغة الانجليزية ا و وزارة المعارف او وزارة التربية والتعليم اذاعة هنا ام درمان، المسرح القومي، الفرق الشعبية الغناء والموسيقي، المجلس القومي للاداب والفنون، – المدائح النبوية، – حلقات تجويد القران، – الي الخ وكلها تجرى لتخضع الثقافة لالة المجتمع السياسى(الدولة) - تؤكد تلك التجربة بشواهدها
ان اهمال الثقافة بمعناها الواسع اواقصائها او اخضاعها كتابع ذلول لاتجاهات الادارة السياسية والايدولوجية قد كان جزئا مكونا للمعضل السوداني العام الذى دفع بالبلاد الي هاوية المجاعات والهجرات الجماعية والتطهير العرقي والثقافي ودوامات الحروب الاهلية، لذا لا بد كمدخل سليم يتجنب ابتسار الثقافة او اقصائها في سودان المستقبل ان نضعها في اطارها الطبيعي كاحدى مقولات المجتمع المدنى الاساس ومن مداخلها للتنمية البشرية الشاملة. ساحاول بايجاز ارجو ان لا يكون مخلا ان اتلمس معالم الثقافة في التالي:
1. التراكم والاستمرارية الثقافية .
2. التعدد الثقافي ( الاقاليم الثقافية ) .
3. الاعتراف بكل لغات السودان وبذل الجهد في كتابتها وتدريسها
4. تنمية دور الصحافة والطباعة والفنون الجميلة والموسيقي والمسرح والسينما كمؤسسات انتاج ثقافية يصبح بمقدورها ان تساهم بفاعلية في استثمار وتراكم الثروة .
5-فصل الثروة والثقافات والاديان والاعلام عن مؤسسات المجتمع السياسى(ألدولة)
(تراكم الثروة والتراكم الثقافي)
(3)
لقد نجح الاستعمار البريطاني في ارساء قدر من الاستقرار السياسي في ارجاء السودان وادخال التحديث بالقدر الذي يسد حاجياته الضرورية لسببين – الاول – ان كانت له رؤية واضحة لما يريده من السودان كمزرعة كبرى لانتاج القطن وان تاتي كل الخدمات الاخري التعليمية والادارية والصحية والثقافية لتصب في مجرى تنمية المشروع الكبير الذى يلبي حاجات صناعة النسيج في الامبراطورية – التي تنبهت في وقت باكر لاهمية استعمار السودان في عشية اندلاع الحرب الاهلية في امريكا عبر التهديد الذى اصاب امدادات القطن من جراء تلك الحرب.
السبب الثاني - ان الادارة البريطانية – تعاملت مع المستعمرة السودانية – كما يدير صاحب المستودع التجارى – حانوته – استدرار اكبر قدر من العائد المالي – باقل قدر من التكلفة الادارية ودون ان يخل بكل المظاهر الاجتماعية والاخلاقية في رفع الروح المعنوية للعاملين وتحفيزهم لزيادة الانتاج والتعاون مع صاحب العمل حتى لا يتوقف او يت ، لكل ذلك فان الدائرة التي مسها التحديث البريطاني لم يتجاوز مشروعاته الاساس والخدمات اللازمة لتسييرها مع بعض اللمسات التزويقية لاغراض المنافسة مع الدول الاوربية ذات الطبيعة المشابهة والشريك المصري الذى تحت حمايته اصلا - اما الجزء الاكبر والاعظم من السودان فقد بذل الاداري البريطاني جهدا ذهنيا خارقا ان يبقيه على هيئته التقليدية مع اضافة تعقيدات جديدة 00000 من لا ترى بالعين المجردة لتؤدي وظائفها المنوطة بها عند الضرورة - لذلك فان تنمية الانسان السوداني لم تك واردة في الاجندة البريطانية وكان طبيعيا ان يتخرج على ايدى المؤسسة البريطانية نماذج سودانية بالغة التشوة والشذوذ- ابدع الاستاذ الطيب صالح في تصويرها ( مصطفي سعيد في موسم الهجرة الي الشمال )
الذين ال اليهم استقلال السودان - في الادارة المالية والسياسية والثقافية قد بدا لهم ان الاستقلال غنيمة وتصوروا ان عائدات المشروعات الاستثمارية التي رحل عنها مؤسسوها لن تنضب الي الابد فتقاتلوا ( وهم النخبة ) للاستئثار بكل الغنيمة - السلطة والثروة ، واضحى سباق مبادلة السلطة بين العسكريين والمدنيين اولمبيادا دوريا لا يتخلف ، وحينما نضب معين الغنيمة لم يتوقف السباق ولكنه اضحى بدور هذه المره حول نهب ثروات المواطنين ونهب الموارد الطبيعية الشيء الذي ادى الي تحويل السودان الي ميدان كبير تدور فيه رحى المعارك من كل شاكله ونوع - يبدوا ان الذى اضاب الثروة فى السودان قد اصاب الثقافة ايضا
فالثقافة كالثروة تماما – في حاجه الي شروط اساس لتبقى وتنمو وتزدهر :
1. تنوع وتعدد المصادر الثقافية
2. التراكم التدريجي.
3. الاستقرار والاستمرارية.
4. القوة البشرية ذات التجربة الفاعلة.
5. الرؤية الواضحة لمعالم طريق مستقبل السودان
د-عبدالسلام نورالدين
لستر ابريل
2004