السودان: حين تصبح البنادق خياراً حضارياً .. غرب السودان كحالة..!!
8 January, 2010
د. عبد السلام نور الدين
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk
كان استقلال السودان عام 1956 خطوة الى الأمام وخطوتين الى الخلف في إقليم كردفان، اذ امتدت الخطوط الحديدية الى ابو زبد عام 1956 لتصل نيالا عام 1960. وزاد عدد المدارس والآبار الارتوازية بقدر لا بأس به، وإن لم تلامس الزيادة الحد الادنى من تطلعات وتوقعات الاقليم الذي لم يحظ في كل فترة الاستعمار 1956 ـ 1898 سوى بمدرسة ثانوية يتيمة ـ خور طقت ـ أما الطفرة فقد حدثت في مجالي التوسع في مساحات الفول السوداني مع استقدام الفصيلة الامريكية المحسنة بدلا من فصيلة الفول الأولى ذات الحجم الصغير والزيت القليل مع عسر اقتلاعه من باطن التربة والتوسع التدريجي في زراعة مساحات واسعة من الذرة في جنوب كردفان.
لم يكن للتوسع الهائل في زراعة الفول في شمال غربي كردفان ذلك الاثر المدمر كالذرة في مناطق الزراعة الالية، ومع ذلك فإن الازدهار الاقتصادي فى سني عقد الستين وبدايات السبعين 1960-1970 الذي شهدته بعض القرى ذات الانتاجية العالية في زراعة الفول قد حفز وكلاء شركات الحبوب الزيتية ان ينافسوا المنتج الصغير في عقر دارة او يدخلون معه في نظام المزارعة الشائع في الارياف بين الكردفانيين والعمال الزراعيين المحليين وأولئك القادمين من دارفور وجنوب السودان، ولما كان التاجر القادم من المدينة ليكون مزارعا في موسم الخريف يملك كل شيء المال النقدي: البذور، ناقلات الماء، الدقيق، البامية، البصل، الزيت،(الشرموط،) السكر، الشاي، اضافة الي خدماته التي تجمل وتحدد اولا ـ ثم يوزع عائد الحصاد طبقا لحصص المشاركين في التمويل والادارة والعمل الزراعي المباشر، ويقوم التاجر الذي يلعب اكثر من دور ويمثل في ذات الوقت شركة الحبوب الزيتية او من ينوبها بشراء حصص المزارعين المحليين والعمال الزراعيين بسعر الحقل يوم الحصاد بعد خصم مستحقاته التي تصل أحيانا الى اكثر من 90% من إجمالي نصيب شركائه قبل تسديد الديون؛ والنتيجة ان يخرج المنتج الصغير والعامل الزراعي من كل الموسم كما ولدتهم امهاتهم أحرارا من كل عائد، ومع ذلك هنالك كلمات التاجر الطيبة الذي نجح في تشغيل كل آلياته من حبال وجوالات وأبر، ومسلات، وصفائح وطواحين وبراميل وناقلات الى جانب ترويج كل سلعه البائرة منها والتالف والعثور في ذات الوقت على عمل يجلب دخلا مجزيا للمتبطلين والمتسكعين من أقربائه في دروب المدينة بضربة وعملية واحدة والتجارة شطارة والحساب ولد
.
هذا التاجر الذي تفنن بشهوة لا تباري شراهة في أكل لحم أخيه المزارع حيا الى حد التلاشي ـ يطلق عليه الكردفانيون ـ، الجلابي، والدارفوريون، الجلخاسي، والجنوبيون، منداكورو، والهدندوة اسما آخر، ـ وينحت له الكاتب عبد الله علي ابراهيم وصفا ـ الشمالي القبيح ـ أما خبراء علم الاجتماع الريفي في العالم الاول فيعدونه مسخا شائها للرأسمالية في العالم الثالث.
اما الوجه التخريبي الآخر للتوسع في زراعة الفول إن فقدت التربة الرملية غطاءها النباتي والشجري، وتماسكها وخصوبتها واضحت في مجرى الابتزاز الزراعي الجائر ـ ارضا خرابا وامتدادا لاحقاف رمال القيزان. وللتوسع في زراعة الفول أوضار أخرى عادت بالبلاء المتلاحق على اقتصادات التدبير المنزلي للمزارع التقليدي الذي أهمل زراعة الدخن والذرة البيضاء والبامية وتجفيف الطماطم وعلى وجه خاص ـ نظام المطامير ـ حيث يقوم بخزن كل مؤونته من الذرة لمدة عام علي الأقل تجنبا لتقلبات الخريف ومفاجآت الجفاف ليشتري كل ذلك بعدئذ من السوق ـ فسقط ضحية لاغراءات الفول ـ كمحصول نقدي سريع ولذلك الازدهار المفتعل (BOOM) والانقلاب المفاجئ الذي أحدثه في أسلوب حياته ـ قبيل ان يتنبه الشمالي القبيح ـ فيسارع بـ(لهف) المزارع ـ والفول ـ والارض ـ طازجا وليرمي بالبقايا قي دمنة النفايات.
ثم ماذا فعلت دولة ما بعد الاستقلال لانتشال المزارع الكردفاني من حصار الذبابة التعيسة ومصاص الدماء وزحف الصحراء؟
من عجائب دولة ما بعد الاستقلال السودانية أن قد كانت جوادا هزيلا تمطى عليه تاجر المحاصيل والمواشي والفحم ومالك المشروع الزراعي مستعينين بخبرات السائس ـ الافندي المتخم بوجبة السودنة الدسمة ثم لحق بهم ضابط الجيش الذي كان يتلمظ لتبطن السلطة، وعلى الطريق التقي بهم رجل الادارة الأهلية ليتحفهم بمفارقاته وطرائفه وشواء ذبائحه والعلف المجاني الذي يتملق به جوادهم الذي قصموا ظهره بتداولهم عليه جميعا مرة ونصفهم تارة أخرى ـ تلك الدولة قد سقطت منها الذاكرة التي ورثتها من بريطانيا ولم تعد تذكر حتى واجباتها الاولى في كردفان التي شبت عليها في المهد منذ 1898 كمكافحة الآفات الزراعية من ابابيل الطير والجراد والفئران وحماية الحيوانات الوحشية ووقاية النباتات وصيانة التربة وانشأت لها المصالح والادارات والوزارات وكلها تجري لتصب في حماية البيئة والتصدي لزحف الصحراء.
لم يكن في وسع المنتج الصغير والسيارة من البقارة والأبالة في كردفان ان يغيروا ما بأنفسهم وما بوجودهم في غياب ما يمكن ان نطلق عليه ـ الكتلة التاريخية في المجتمع السوداني، تلك القوة الاقتصادية والاجتماعية الضاربة التي كان من المتوقع منها في حال وجودها بالفعل وليس بالقوة، ان تستجيب بجسارة لتحديات التنمية البشرية الشاملة، كجزء اصيل من تكوينها البنيوي، لترقية ذاتها وشرائحها وفئاتها وطبقاتها الاجتماعية ذات الطابع المدني. وان يتأتى لها في سياق ذلك ان
تستقطب كل مؤسسات المجتمع الاهلي من طرق صوفية وطوائف دينية وتجمعات اقليمية وقبلية لتسهم قدر مستطاعها في ذلك النهوض التنموي العام.غابت الكتله التاريخيه في المجتمع السوداني وغاب معها مشروع النهضه ولم يتجاوز "الافندي" عتبات غنيمه السودنه في جهاز الخدمه المدنيه والعسكريه الي أفق الانتلجنسيا وهكذا تقدم الرأسمالي الشائه ـ الجلابي ـالسمسار- كنائب الفاعل ليحل محلها في غيابها. ولما لم يكن أمام المنتج الصغير والسيارة من البقارة والابالة من خيار سوى ان تمضي على النهج التقليدي الذي نشأت وتدربت عليه في كسبها للمعاش وما اعتادت عليه من نظام ملكية الارض والزراعة المتنقلة (Shift Cultivation وتقنيات الماضي ـ في اعداد الارض وتحضيرها للزراعة بقطع الاشجار وحرقها،( الجوادة)، وطرائق طبخ الطعام ـ حفر الابارو نشل الماء ـ تربية المواشي ـ بناء المنازل ـ الصيد وادواته ووسائله ـ والتعامل مع الحيوان البري والنبات والاشجار.
من مفارقات المأزق ان اسلوب كسب المنتج الصغير والسيارة من البقارة والابالة في كردفان ـ للمعاش وثقافة العيش وتقنيات الماضي البالية تدور لتحكم عليه حلقات الحصار وتجرده من قدرات العبور من المجتمع الاهلي(علاقات القرابة) الي المجتمع المدني (علاقات العمل).
أضحى المنتج الصغير محاصرا بالذبابة التعيسة من جنوب كردفان ـ وبالصحراء والجفاف من الشمال والفئران والجراد والطير الابابيل من كل الجهات وفوق كل ذلك أضافت اليه دولة الخيار الحضاري خازوق العهد التركي القديم،:المكوس والاتاوات والضرائب والزكاة والاكراميات الاجبارية.
لقد تداعى البناء الذي ظل المزارع الكردفاني يسند ظهره عيه وقد تكشف له انه اضحى عالة على نفسه التي ينبغي ان يهرب منها إما الى المقابر او الى النهب الفردي المسلح، او الى المدينة التي تكن له احتقارا فظا، اذ تنكره مواطنا وتعترف به عابر سبيل عليه ان يعود فورا من حيث أتى،ا وأن يتقبل البقاء الى أجل مسمى داخل معسكرات المتسولين على اطراف المدن لتلقي الاهانات مع توزيع الاغاثات، او ان يبيع نفسه بثمن بخس لمن يشتريه خادما او قاتلا مأجورا. أما الخيار الآخر الذي يفضل ويتجاوز كل ذلك ويبدو حضاريا بمصطلحات الحاكم بأمر الله والتاجر، أن يحاور الاثنين معا عبر موسيقى فوهات البنادق، فهي إذا تحدثت اسمعت واذا انطلقت فلا راد لها، وهي أحفظ لكرامة العقل والوجدان والبدن، (عش عزيزا أو مت وأنت كريم).
ومع ذلك، فلا تزال ثمة سانحة أمام الحاكم والتاجر لتدارك الموقف قبيل البدء في حوار ليس بعده سوي، أما ان تكون قاتلا أو مقتولا الذي يفضي ألي الدمار الذي لا يبقي ولا يذر.
عبدالسلام نورالدين
أكاديمي سوداني
الثلاثـاء 26 شعبـان 1427 هـ 19 سبتمبر 2006 العدد