مفوضية اليابا!

 


 

رباح الصادق
12 January, 2010

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

كثيرون اهتموا بلغة النساء في السودان أو قل في وسطه وكيف شاعت فيها ألفاظ وتراكيب، وأنها تستخدم لإزالة الفوارق وتطمين السامع أحيانا خاصة حينما تحتشد بحلو الكلام والدعاء فلو ندهتك امرأة وقلت نعم قالت: نعم الله عليك، ولو قلت لها تفضلي قالت: إنت الفضيلة وهكذا، ولكنا اهتممنا ببعض التراكيب لوصف أمور لا تبلغ ألفاظ مبلغ الوصفات النسائية بالطريقة التي تقال بها وهي مصحوبة عادة بأسارير معينة أو حركات ترسمها الوجوه واليدين أحيانا، وما برحت معجبة بمقال الأستاذة لبنى أحمد حسين "عربات تتعاطى الكحول" والذي يظن البعض أنه كان وراء الأربعين جلدة والهيصة حول البنطال ذلك لأنها استخدمت تعبيرا نسائيا شائعا لا يمكن كتابته لكنها تجرأت وقربت إليه بعض الحروف ثم أرسلته في المقال مكررا بشكل جعلك كأنك تسمعه  وتراه لا تقرأه فحسب.. ومن ألفاظ النساء لفظة اليابا هذه إذا أردن وصف شيئ وصفا سلبيا يقلن كلام اليابا، وفعل اليابا، وحاجة اليابا، وهكذا، وكن بعض النسوة الأنصاريات يقلن في زيادة التأكيد:  "اليابا سيدي ود المهدي"! ولم نجد وصفة أبلغ منها لوصف المفوضية القومية للانتخابات، ونحن لا زلنا برمين بما تقوم هذه المفوضية من أعمال وما تتخذه من  اجراءات هبطت بتوقعاتنا منها من الثريا لما دون الثرى!

من لم يستبشر بأن رئيس المفوضية هو مولانا أبيل ألير صاحب الخطوات المستقيمة –وقيل إن مشي الواحد والواحدة ينم عن شخصيته- والسيرة المحمودة، وصاحب الكتاب الشهير الذي ينفر من نقض المواثيق والعهود؟ ومن ممن عرف سيرة الدكتورة محاسن حاج الصافي في معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية وكيف كانت الأمور تسير تحت رايات إدارتها على أتم التمام، لم يستبشر بعضويتها، أو ممن عرف بابتعاد الدكتور مختار الأصم عن دوائر المؤتمر الوطني وأهليته الإدارية المشهود بها لم يسعد باختياره عضوا بها؟، وكذلك من ممن يعلم سيرة البروفسر أكولدا مانتير في كلية القانون لم يستبشر بتعيينه عضوا بالمفوضية وهو قانوني أكاديمي ضليع ظل بعيدا عن الشبهات عشرات السنين؟.. وذكر هؤلاء ليس تقليلا من الآخرين ولكن ربما كانوا الأكثر شهرة بينهم وربما كان من يعرف زملاءهم الآخرين أيضا لاحظ استقامة نهجهم السابق، وجودهم كأعضاء للمفوضية وعلى رأسهم جميعا ألير نظيف المظهر والمخبر كان كفيلا باحتفال وحشد من الآمال، أن الانتخابات في أيد أمينة، وأنها ستسير برغم الموج المتلاطم في طريق سليم لأنك أمنت القبطان وبعض طاقمه.. وبالرغم أن البعض تشكك منذ البداية وتوجس من اختيار ذوي الملفات النظيفة هؤلاء في مفوضية لخدمة  المؤتمر الوطني، فقد كتب كاتب في منبر سايبري: "أرجو ألا يكون كتاب أبيل ألير القادم: المشاركة في نقض المواثيق والعهود". لقد قابلنا تلك التشككات من قبل بحموضة ورفض مصدق بالمفوضية مؤمل فيها. ولكن المفوضية وما إن قدمت عملية التسجيل حتى أطلت علينا بضلالاتها التي وصفناها هنا بمقال في هذه الزاوية..  ثم انقشعت سحب التسجيل وغبار الانتهاكات الواسعة الذي سد الأفق، وظللنا كل يوم نرى من المفوضية العجب.

بعض الناس داخل الأحزاب الحريصة على الانتخابات ومنهم وربما على رأسهم حزب الأمة القومي ظلوا يتحينون الفرص للتقرب من المفوضية والتعامل اللين معها كما يفعل الخطيب مع والد العروس المرتقبة.. ولكن صدقوني، اتضح أن ألير والصافي والأصم ومانتير ومن شئنا من أسماء سيقت لتجعلنا نتأكد من "أهل العروس" إلا أننا نؤكد أنك لا تعرف الحق بالرجال (والنساء) كما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.. إعرف الحق تعرف أهله! هذه المفوضية ليست المفوضية التي تقودنا للانتخابات الحرة النزيهة، وسنقول لماذا..

نحن مقدمون على انتخابات غاية في التعقيد، وفي الخطورة، وتحيط بها خطوب ومطالب عديدة، وهي انتخابات تجري في ظل سلام هش في الجنوب واتفاقية تحيط بها المدلهمات فتارة تترنح على حد تعبير السيد سلفا كير وتارة تسقط كما حدث في عتبات مختلفة، وفي دارفور تسري الطوارئ، وفي الخرطوم وسائر البلاد تسري قوانين الأمن والجنائي لتحيل الأمر لطوارئ غير معلنة. والإعلام الرسمي في جبة المؤتمر الوطني وأحضانه الباردة الماسخة ومشروعه الحضاري الآفل.. والأحزاب المناط بها الدخول في المنافسة مراقبة ومعاقبة ومصادرة ممتلكاتها وملاحقة حتى غدت الانشقاقات داخلها في بعضها جزء من العمل الرسمي تخطيطا وتمويلا وتغطية إعلامية على النحو الذي أبرزنا في كتابنا (الاختراق والانسلاخ في حزب الأمة).

ونحن في عالم مليء بالعبر وبالتجارب، فهناك تجارب انتقال شبيهة حدثت في لبنان وكينيا وجنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، وهناك تجارب الديمقراطيات الراسخة في الغرب، وكلها ترسي قيما محددة حول مطلوبات الانتخابات الحرة والنزيهة، وتلك التجارب بالإيجابي فيها والسلبي تؤكد معنى وحيدا: أن لانتخابات في حد ذاتها ليست الهدف، فهناك استحقاقات معينة للانتخابات في التمويل والإعلام والحرية والمشاورة وجمعية القرار وانعدام الاستقطاب في الجسم السياسي إذا نفذت تلك الاستحقاقات تصير الانتخابات وسيلة للتداول السلمي على السلطة ولحل النزاع في المجتمعات، أما لو لم تقم الانتخابات مع دفع الاستحقاقات المذكورة أو جاءت لتكون جزءا من الاستقطاب وتغذيه فمثل هذه الانتخابات تصير هي نفسها سببا للنزاع والإطاحة بالاستقرار في البلاد التي تجري فيها..

ومثلما كان الحكم الثنائي اسما بريطاني فعلا فإن الحكم الحالي مؤتمروطني فعلا مهما كانت المسميات، والمؤتمر الوطني جابه من قبل مشاكل واستقطابات فانحنى لعاصفة حتى تمر هنا وزاغ هنا وتنازل هنا وظل ممسكا بكل شيء فعليا يقدم تنازلاته على الورق، وهو متوهم تماما من أن الانتخابات القادمة ليست إلا جزءا من هذه اللعبة التي أجادها، فهي في نظره وسيلة للالتفاف على ضغوط ومطالبات المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فيجب أن يكسبها بكافة السبل، وهو غير مستعد لتقديم أية تنازلات، وليكن ما يكون!

المفوضية الجليلة تدير الانتخابات وكأنها في السويد لا السودان! كأن الحال ليس كحالنا المذكور، وقد شرحنا من قبل خطورة مثل هذا السهو الظاهر في تصريحات بعض منسوبي المفوضية. أما الطريقة التي أدارت بها التسجيل فتدعو لريبة أكبر من الاسترابة من الخلط السويدي المذكور..  مثلا ما حدث من تسجيل القوات النظامية عبر منشور من الأمين العام وخارج صلاحياته القانونية وبخرق صريح للقانون كما جاء في مذكرات متتالية أذكر منها مذكرة الأستاذ علي السيد المحامي ثم مذكرة حزب الأمة القومي التي سلمها للمفوضية في آخر أيام الطعون 19/12.

وأبلغ ما جاء من ريب حول المفوضية كان بسبب ردها على مذكرة حزب الأمة القومي. ذكر حزب الأمة عشرين نقطة من انتهاكات التسجيل: لا قانونية تسجيل القوات النظامية في أماكن العمل أو حشود خاصة- المشاكل في نشر السجل في مواعيده وبشكل صحيح- ضعف توعية المواطنين بالتسجيل والمراكز- عدم الالتزام بالمراكز المعلنة وأعدادها- بعض المراكز في بيوت قادة المؤتمر الوطني- استغلال المؤتمر الوطني لموارد السلطة- تجاوزات اللجان الشعبية- الإرهاب بحشد أفراد جهاز الأمن في المراكز- تسليط الجهاز على كادر الأحزاب- قسر بعض موظفي الدولة على التسجيل- إسقاط حق بعض الرحل- انحياز الإعلام الرسمي- ربط خدمات الدولة بالمؤتمر الوطني كدعاية انتخابية- التسجيل المتعدد بسبب التساهل- إخراج دفاتر التسجيل من بعض المراكز مع منع وكلاء الأحزاب من الاطلاع- الفروق أحيانا بين أعداد المسجلين المعلنين عن الأرقام التي دونها المراقبون- التسجيل خلال العيد بدون إعلان- إهدار حقوق المهجريين الدستورية وحصر مشاركتهم في انتخابات الرئاسة- محدودية مراكز التسجيل في المهجر مما جعل النسبة المسجلة ضئيلة للغاية- وكذلك تأخر التسجيل بالخارج. وطالب حزب الأمة في النهاية بتكوين لجنة قومية لتنظر في تلك الخروقات وكيفية تصحيحها..

لكن المفوضية ردت بخطاب وقعه للأسف مولانا أبيل ألير نفسه، سيضاف لكتابه الجديد الذي تنبأ به كاتب الفضاء السايبري المذكور.. رد الخطاب في عشرين نقطة إما بالمراوغة أو بالإنكار أو بالمماطلة  وأخوات هذه المفردات البغيضات والأسوأ أنه ساق الكذب القراح الصراح حينما تفضل الخطاب المذكور بمعلومة لحزب الأمة ليعبر عن أن المفوضية قامت بنشر السجل على أكمل وجه وأنها أعطت حزب الأمة قرصا بالسجل الانتخابي وهو ما لم يتم حتى الآن! بل إن المفوضية لم تنشر حتى الآن في موقعها الإلكتروني السجل الأولي ولا التعديلات عليه مع إنها أنجع وسلة لضمان وصول المعلومة، ومع إنها كانت نشرت معلومات مغلوطة ومتباينة حول أعداد المسجلين.. ومن أبلغ محن المفوضية أنها قالت في خطابها إن أفراد  الأمن قد يتواجدون (لأغراض الحماية) إذن ما هو دور الشرطة؟ أولم تسمع المفوضية من قبل في مضابط الانتخابات العالمية والإقليمية بهذا المفهوم حتى ترد بهذه الجملة المؤلمة؟  إنها ليست في السويد!..

قالت المفوضية: (إن تسخير إمكانيات الدولة وموارد القطاع العام في تقديم خدمات للمواطنين امر مطلوب) فهل اشتكى حزب الأمة من ذلك أم من ربط الخدمات بدعاية حزبية لجهات ظلت محرومة وهذا ما يشكو منه الآن القاصي والداني!!!  إنها ليست في السودان!

قالت المفوضية إنه ليس هناك إهدار لحق المغربين فهذا ما نص به القانون ومذكرة حزب الأمة تحدثت عن الحق الدستوري ومعلوم أن القوانين المؤتمروطنية أدمنت انتهاك الحقوق الدستورية.. هل في هذه المفوضية أبيل ألير.. وأكولدا مانتير؟!

ونادت المفوضية لاجتماع تشاوري للقوى السياسية والإعلاميين والمهتمين في آخر يوم في السنة الآفلة حول الإعلام أثناء الانتخابات بمشروع لائحة سنجعلها محور مقالنا القادم بإذن الله.. لكنها أثبتت في الاجتماع مدى قصور معرفتها بالسودان وظروفه الإعلامية وكذلك بالتجارب  العالمية.. ووقوعها لقمة سائغة في مشروع المؤتمر الوطني لإفراغ الانتخابات من مضمونها..

إنها وحتى إشعار آخر، إذ لربما –ونتمنى وندعو الله مخلصين وجهنا له وللوطن- أن يفيق أعضاء المفوضية وينظرون بعدسات غير عدساتهم الحالية، ويدركون أن المهمة التي على عاتقهم هي مهمة انتزاع الشعرة من رأس الغول المتيقظ لا السير وراء ركبانه والأكل من عصيدته.. أقول وحتى ذلك الحين، فإن المفوضية القومية للانتخابات وبرغم من فيها من كفاءات، ومن أسماء لمعت في قلوب السودانيين أولا قبل أن تلج هذا النفق المظلم، هي مفوضية اليابا السودان!

 

آراء