الحقيقة المفقودة .. فى قرار محكمة التحكيم حول منطقة أبيى .. الغنية بالبترول
20 January, 2010
بقلم / آدم جمال أحمد – سدنى
إن بلوغ موقف الانصاف الكامل يعتبر هدفاً سامياً ، فهنالك قضايا لم يتم التوصل الى تسوية بصددها الى هذه اللحظة ، حتى على نطاق اتفاق سلام نيفاشا المبرم بين الحكومة والحركة الشعبية ، وعدم إيفاء والتزام الطرفين بتطبيق بنود الاتفاق الموقع بينهما ، مما أدى الى خلاف كبير وتراشق بالكلمات وتبادل الاتهامات بينهما.
فلذلك تعتبر قضية منطقة أبيى الغنية بالبترول من اكثر الموضوعات المثيرة للجدل وقاصمة الظهر التى كادت أن تنسف الاتفاق برمته لولا صدور قرار محكمة التحكيم المتوازن والموفق من لاهاى ، والذى أدى الى خفة حدة التوتر نوعاً ما ، ولكن سرعان ما تعالت النبرات وطفت على السطح الاختلافات نسبة لبعض التصريحات غير المسئولة من قبل بعض المسئولين من الجانبين ، وإعلان الخرطوم وقف دفع نصيب الجنوب من عائدات النفط من حقل هجليج الذى يتم استخراجه من حدود منطقة أبيى ، وتصريحات الحركة الشعبية بتبعية هجليج لولاية الوحدة والاستفتاء فقط لدينكا نقوك دون اشراك الآخرين ، وهذا ما يعارض بروتوكول أبيى فى نيفاشا.
وتعتبر أبيى منطقة تداخل بين المسيرية ودينكا نقوك ويدعى كل طرف سيادته التاريخية على المنطقة ، وهو تداخل يعود تاريخه الى منتصف القرن الثامن عشر ، وقد ظلت المنطقة تتبع إدارياً الى المناطق الشمالية ( جنوب كردفان ) .. لكنها تحولت الآن الى منطقة نزاع بين الحكومة والحركة الشعبية التى تريد ضمها الى الجنوب . أما الحركة الشعبية فتقول إن أبيى كانت تابعة للجنوب قبل سنة 1905 ، ولكنها ضمت من قبل الحاكم العام البريطانى الي مديرية كردفان بقرار إدارى وتطالب باعادتها الى الجنوب.. وحينما طرأ أمر أبيى على الساحة فى مشاكوس ، كنا نأمل أن يكون الموضوع مدروساً ومعلوماً بالداخل قبل وروده من الخارج ، ونحن نأخذ على كل الحكومات بما فيها حكومة المؤتمر الوطنى الحالية على عدم الاهتمام بأمر المنطقة مما دفع أبناء أبيى للتمرد وأصبح جلهم قيادات مؤثرة فى الحركة الشعبية .. وأصبحت أبيى منطقة تتنازع عليها ولايتى جنوب كردفان والوحدة منذ عهد الرئيس الأسبق جعفر نميرى والذى ضم منطقة هجليج الى الشمال عام 1978 بسبب النفط ومنها بدأ النزاع حول المنطقة بين الجنوب والحكومات المركزية ، وأن ترسيم الحدود التى فشلت فيها لجنة الحدود الوطنية تحتاج لاجراءات ، ولا سيما سيتم قريباً ترسيم حدود جنوب السودان استعداداً للاستفتاء فى يناير 2011 ، ليختار الجنوبيين بين البقاء ضمن السودان الموحد أو الانفصال وتكوين دولة جديدة.
والحديث عن الحدود الجغرافية يقودنا الى رفض منظمة الوحدة الافريقية في فترة ما لمبدأ مناقشة الحدود وذلك لما يترتب عليه من تفجير الصراع ، أما الانجليز أنفسهم قبل خروجهم من البلاد فقد تركوا الحدود التالية .. الرنك تابعة لاعالى النيل وحفرة النحاس لبحر الغزال وأبيى لكردفان للحفاظ على وحدة السودان شعباً وأرضاً ، لأن هناك علاقات تاريخية ووحدة ترابط وقواسم مشتركة بين معظم القبائل السودانية ، وخاصة بين هذه القبائل المتداخلة فى مناطق التماس فى حلها وترحالها ولا يمكن الفصل بينها أو ترحيل أحداهما ، فلذلك لا بد من خيار التعايش السلمى والاحترام المتبادل بينها وتناسى الخلافات وتجاوز المرارات والدعوة الى الوحدة والحفاظ على تراب الوطن ، ولا غرابة فى ذلك ونحن نشاهد شعوب العالم كلها من حولنا تتجه نحو الوحدة والاندماج والتعايش كشعب واحد.
وحينما فشل خبراء لجنة التحكيم فى تحديد حدود منطقة أبيى التى أضيفت الى مديرية كردفان عام 1905 ، وكانوا فى شك من مرجعيتهم ، فالدلائل تشير بأن الحكومة والحركة الشعبية استغلتا ذلك الغموض ليتبنا مرجعية تقوم على اتفاق سرى بينهما بالتراضى وعرضه على خبراء لجنة التحكيم لتصبح مرجعية جديدة لتفادى الحرب بينهما ، وما يؤكد ذلك تلك التصريحات التى سبقت صدور قرار المحكمة من الجانبين بقبول القرار مهما كانت نتائجه. وهذا يقودنا أيضاً الى التحالف الثنائى الذى سعت اليه الحكومة والحركة الشعبية منذ البداية بتفويض منبر الايقاد لمناقشة قضية أبيى وادراجها فى مفاوضات نيفاشا ، التى جرت بينهما فى ظل غياب بقية القوى السياسية الفاعلة وعدم اشراك الجميع وأهل المنطقة فى اتخاذ القرار بشأن المنطقة ، كأن السودان ضيعة يخص الطرفين .. لأن الحكومة كانت تريد سلاماً يحفظ لها حق الاستمرار فى السلطة ، ويكون مصحوباً بتحالف سياسى .. اقتصادى مع الحركة الشعبية. وقرار المحكمة باعطاء الشمال حقوقه فى النفط وتمليكه كل مناطق البترول وتبعيتها له ، وفى المقابل اعطاء دينكا نقوك حقوق أساسية ومساحات شاسعة للأراضى تعادل مساحات دول فى اوربا والوطن العربى .. لم يكن لهم بها وجود لا فى عام 1905 ولا حتى فى عام 1965 ، ولقبائل المسيرية حقوق ثانوية فقط فى منطقة أبيى وعدم أخذ أى اعتبار لحقوق أهالى جنوب كردفان ، فهذه فكرة لا أساس لها فى القانون أو فى الاعراف القبلية التى سادت فى كردفان ولا تدعمها حتى الوثائق والوقائع التاريخية.
فلذلك هناك بعض العوامل المؤثرة على قضية أبيى وكثيراً من الحقائق الغائبة والمفقودة حول هذه المنطقة وسكانها ، قبل أن تشهد شداً وجذباً بعد اكتشاف أبار النفط بها لتعكس حالة التوتر التى تسيطر على مواقف الاطراف بشأن النزاع حول منطقة أبيى والتى تتمثل فى الآتى:
أ- أبيى جزء أصيل من مديرية جنوب كردفان: تؤكد الوثائق والخرائط التاريخية بأن أبيى جزء من ولاية جنوب كردفان ، والاستفتاء المزمع قيامه لسكان المنطقة له محاذيره ولكنه ليس خطأ ، لأنه يعطى المواطنين الحق فى اختيار ما يريدون ليقرروا رغبتهم فى التبعية الى كردفان أو الجنوب.
ب- علاقة المسيرية بأبيى ودينكا نقوك: هاجر المسيرية من مملكة وادى الواقعة بين الكفرة ودارفور ، ووصلوا لمنطقة المجلد وأبيى ووجدوا قبائل الداجو وامتدت هجراتهم الى بحر الغزال قبل اكثر من خمسة قرون . وتميزت العلاقة بين المسيرية والدينكا فى منطقة ابيى بالمتينة ، مما يؤكد التعايش السلمى والاحترام المتبادل حتى قبل عام 1965 حيث كان الجميع ينطرون اليها بوصفها جسر العبور للثقافات كما تحدث عن ذلك البروفيسور فرانسيس دينق مجوك ، ولكن التمرد أدى الى افساد العلاقات فى أبيى وصار سكانها ضحايا استغلال بشع ولحق بهم اضرار بالغة بسبب الحرب ، التىولدت الاحقاد والضغائن والحكومة فاقمت المشكلة بسياساتها وافرزت ثقافة سيئة واضرار اقتصادية كبيرة.
ج- مبايعة الدينكا للامام المهدى: تميزت العلاقة بين الدينكا والمسيرية فى تلك الفترة بالحميمة وبايع المسيرية والدينكا الامام محمد أحمد المهدى , وذلك عبر وفد ضم الناظر على الجلة والسلطان أروب بيون ، وتلك الرحلة تؤكد بأن الاحلاف والتحالفات بين المسيرية والدينكا جعلتهم يشكلون وفداً واحداً لمقابلة المهدى والذى لم يجبر الدينكا علي اعتناق الاسلام وإنما منحهم حربته الشهيرة ، ولقد أكد تلك المعلومة الاستاذ فرانسيس دينق مجوك فى كتاباته.
د- انضمام الدينكا الى ريفى مجلس المسيرية: تطورت العلاقات بين المسيرية والدينكا وترسخت واصبحت أنموذجاً للتعايش السلمى وتوجت تلك العلاقة بموافقة الدينكا فى عام 1953 على الانضمام لمجلس ريفى المسيرية بدلاً من مركز قوقريال.
كما أسلفنا أن قضية أبيى تعرضت للمزايدات السياسية ، وأن المعالجات الجارية اليوم بشأن منطقة أبيى ستؤثر سلباً فى تماسك وحدة البلاد لأن البترول دخل الآن كعامل مؤثر فى قضية أبيى وأن بعض الافراد الذين جذبتهم الحركة يعتقدون وبناءاً على اعتقادات خاصة بهم أن أبيى جزء من الجنوب ، وما نخشاه أن يؤدى حدة النزاع بين الطرفين الحكومة والحركة الشعبية من شد وجذب الى اتساع بؤرة الصراع فى بداياته ، ودوى للانفجارالذى قد يؤدى الى دق طبول الحرب من جديد إذا لم تتدارك الاطراف الموقف وتضع وحدة تراب الوطن والشعب فى الاعتبار.
سدنى – استراليا - 4 أغسطس 2009 م