مفكر فقدناه بلا أسف: سعد حمد البراك … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

2-2

 

 

للدكتور سعد البراك حب شديد للسودانيين، وهو يباهي بهم الأمم، ويراهم أهل قيم وشمم، وأريحية وكرم، ولكنه لا يبالي أن يجترح أحيانا بعض اللمم، فيعرضهم  لسخرياته  شديدة التنكيل والألم، مقتنصا بعض الشوارد والأوابد، من سلوكياتهم ومن تهجينهم للكلم.

كلام ساكت:

وله في ذلك قفشات ووخزات لا تحصى، منها ما كان يلاحق به أخا عزيزا، كان من لوازمه أنه كلما ما انتقد شيئا وفنده، قال غاضبا، محتدا، وهو شبه كظيم: (دة كلام ساكت)!

 فيعجب له سعد ويقهقه قائلا: عجبا لكم أيها السودانيون حتى الكلام جعلتموه ساكتا!

ولا يكتفي بذلك حتى يترجم كلام أخينا إلى اللغة الإنجليزية، ليقيم الحجة البالغة، على مشهد من الناس جميعا، على خلو الكلام من أي معنى، وعلى تناقضه مع مقدمات المنطق والقياس العقلي طرا!

الهندسة والتقانة والغيد الحسان:

 وقبل أن يصبح سعد مشهورا بهذا المستوى، التقيته ذات مرة في إحدى العواصم الإسلامية، وكنت أدرس العلوم الاجتماعية بإحدى جامعاتها، وانتهزتها فرصة حسبتها سانحة، فدعوته لكي يحاضر طلابي ساعة من الزمان، يحدثهم فيها عن صلة الهندسة والتقانة بالعلوم الاجتماعية، وقضايا النهضة وشروطها.

 واعتذر سعد بآخر ما يجوز أن يعتذر به إنسان مثله، إذ خاطبني ساخرا: أراك تريد أن تعرضني للفتنة بعرضك هذا الذي تعرضنى به على مشهد من طالباتك الغيد الحسان.

قال هذا وهو الذي قطع جل حياته الأكاديمية بديار الغرب، فقد بدأها هنالك يافعا، بهزيع من الدراسة الثانوية، ثم أتبعها بالدراسة الجامعية، وما فوقها.

ولكنه خرج في النهاية من عالم الغواية بأسره: غواية فتنة الغيد الملاح إياها، وغواية فتنة الفلسفة المادية، وإلحادها المتسرب والمنساب سما ناقعا في مواد العلوم الطبيعية والاجتماعية على السواء سليما غير مصاب.

 إذ تمكن أن يلتقط الحب من شباك صيادي الغرب المهرة، ودهاته السحرة، بتوفيق الله تعالى، ولم تصبه حبائل الشراك.

 بل خرج كما خرج سلفه النهضوي العظيم، وفخر الأمة الإسلامية، الدكتور محمد إقبال، الذي قال عن حاله يوم ذاك: يشهد الله أني قد من أتون التعليم الغربي سالما كما خرج إبراهيم من نار النمرود!

الهندسة والفكر الخلاق:

ولم تكن دعوتي لسعد لمحاضرة طلابي يومها، إلا رجاء أن يعديهم بفكره الحي الوثاب، ويحفزهم بنشاطه العقلي، فيتجاوزوا معه طلاسم النصوص الأكاديمية المغلقة الجافة، إلى ما هو أرحب منها وأرجى نفعا للعالمين.

وقصدت من طرف خفي أن أقدم لطلابي أنموذج  فكر سعد الحيوي وديناميكيته، بديلا عن نمط (الشطارة الأكاديمية) الحرفية الاستاتيكية الساذجة، التي كثيرا ما تعجب الأساتذة عندما يرون مخايلها وأماراتها في أداء تلاميذهم، ولكنها تبدو لي في أحيان كثيرة قرينا للبلادة، والانغلاق، والانشطار، لأن صاحبها لا يعرف شيئا أبعد مما يقرأ في السطور المقررات.

إن حيوية فكر سعد البراك، لا محض شطارته الدراسية الأكاديمية، هي التي أخرجته من معتقلات القوالب الهندسية التقنية، وأعانته على استيعاب عوالم الاقتصاد، والتجارة، والخدمات، فلم يكن التخصص الأكاديمي قيدا مكبلا لخطوه، وإنما اتخذه سلما يقفز من عتبته العليا إلى ما يجاوره من تخصصات.

وهكذا أخذت مملكته الاقتصادية (زين) تتمدد بتمدد فكره، وتتجدد بتجدده.

وآخر مثال لذلك ما وصفته العديد من الأوساط الاقتصادية والتقنية العالمية، بأنه واحد من أهم المشروعات التي نفذها قطاع الاتصالات، في العالم قاطبة، وهو مشروع الشبكة الواحدة، الذي يقدم خدمات الاتصالات، بين الدول التي تعمل فيها مجموعة (زين)، بدون رسوم تجوال دولي، وذلك أثناء تنقل العميل، وسفره عبر التخوم والأقطار.

السياسة أم الاقتصاد:

وليس بعيدا عن مدارات عالم الفكر ومؤثراته أن سعدا اندفع اندفاعا، وركض ركضا، إلى عوالم الاقتصاد المتقدمة، حيث لم تحصره أو تحجزه عنها مطبات الآيديولوجيا والسياسة.

وقد سمعته مرة يبرر استحواذ عوالم الاقتصاد والنهضة على جل اهتماماته حاليا، بقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس: إن الاهتمام بالسياسة لا ينبغي أن يكون من أجل السياسة نفسها، وإنما من أجل الاقتصاد.

وفحوى كلمة الفيلسوف الكبير أن تغيير معادلات عالم الاقتصاد الكلي لا يتم إلا إذا تمكن المناضلون من السيطرة على الأوضاع السياسية، وسخروها من أجل ذلك الغرض.

وهنا قال سعد تعقيبا ما معناه إن اهتمام القادة الحضاريين، في العالم النامي، ينبغي أن ينصب على عالم الاقتصاد إذ تاح لهم ذلك.

وشرح ما هو فيه من شأن فقال إنه قد أتيح له أن يلج توا إلى قلب عوالم الاقتصاد ونجي بذلك من لجاجة السياسة ومكرها وغيها وفسادها.

وأقول تعقيبا على ذلك من دون اعتراض جوهري على المحتوى: إن النجاح الفائق في عالم الاقتصاد، قد يغري أربابه بولوج عالم السياسة، من أجل السيطرة عليه، وتسخير مؤسساته لإصدار قرارات وتشريعات لصالح المستثمرين، ولتمكين قوة رأس المال وتشديد قبضتها على البلاد  والعباد.

وغالبا ما تكون هذه الخطوة جائرة مفسدة، وقد يكون فيها التمهيد العملي لنشوء (لوبيات) خطرة، تسيطر على السياسة، وتجهض فعاليات الأحزاب، ومؤسسات العمل الديمقراطي، الرسمي وغير الرسمي، من قبيل ما هو مشهود جليا في بعض تجارب الغرب الرأسمالي حاليا.

فقدناه حتى الحين بلا أسف:

ولذا فيا حبذا أن ينزه سعد البراك نفسه من مجرد التفكير في ترشيح نفسه لأي منصب سياسي في بلاده.

 فقد سمعت أنه فكر في هذا قبل حين قليل، وعرفت أن البعض ما يزال يدفعه دفعا لكي يتقدم فيرث مقعد شقيقه الراحل في البرلمان الكويتي، فيالها من خطوة غير موفقة إن خطاها.

فقد رضينا بوداعه مفكرا بعد أن رضي الاعتصام بعوالم الاقتصاد، أما إن زلت قدمه بعد ثبوتها، وانزلقت إلى مهاوي السياسة، ومطاويها، فحينها سنودعه بأسف عميم.

لقد فقدنا سعدا مفكرا يحاضر ويحاور ويسطر الصحائف، ورضينا ما اختاره حين اختار طريقا عمليا، تطبيقيا، وكرس همه لمهمة تطوير العالم الإسلامي، وما تاخمه من أقطار العالم الثالث الإفريقي.

في درب الثراء والنماء:

ولهذا السبب بالذات تركته ولم أضغط عليه لكي يقدم المحاضرة المنشودة للطلاب، وقبلت عذره، أو قل تغاضيت عن انتحاله العذر، الذي ما هو بعذر، وبت اظن أنه  ما عاد يرضى أن يبحث، أو يتكلم، أو يحاضر، في هذه الأيام، في غير ما يزيد شركته ثراء، ويزيد العالم الثالث نماء.

 لقد قبلت اعتذاره عن الكلام المباح، بعد أن كانت الخطابة المصقعة، بالعربية والإنجليزية، ضمن هوايته الأثيرة، إن لم تكن آثرها عنده.

وكدت أن أقول بصدد حاله ، في يوم ذاك، وفي يوم الناس هذا: كفى بانشغاله بالعمل الحضاري، التقني، التجاري، من مكسب لقضية التنمية، وتوطين التقنية، وتعجيل إنهاء عهود التبعية والهيمنة، على حواضر عالمنا الإسلامي.

مراجعات في شروط النهضة:

 ولكني أطمح اليوم، من منزع آخر، إلى مبتغى آخر، وهو أن يجعل المهندس الحضاري سعد البراك، في جملة اهتماماته، كتابة مذكرات يومية، ولو بصورة متقطعة، يسجل فيها بعض تأملاته وانطباعاته، التي نرجو أن تنتج لنا في النهاية سفرا لطيفا بعنوان (مراجعات في شروط النهضة) تكون حاشية على متن ابن نبي.

 لقد كتب العلامة مالك بن نبي كتابه الفذ (شروط النهضة) من زاوية نظرية ثاقبة، ومن وحي تجربته الخصبة الطويلة في فرنسا.

 أما حينما كتب كتابه (مذكرات شاهد القرن) فقد أضاف جانبا تطبيقيا على شروط النهضة، من وحي تجربته في المجتمع الجزائري ومن حياة الطلب هناك وفي الغرب، وهي تجارب محدودة، ومختلفة في ازمان والمكان.

 لذا نأمل أن نظفر بكتاب جديد، يسجل شروط النهضة، ومحفزاتها، ومعوقاتها، من وحي تجربة تنموية أوسع، ونرشح لهذا الصنيع سعد البراك.

 

mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

آراء