ذكريات جامعة الخرطوم
30 January, 2010
1967-1972
Gibriel47@hotmail.com
توطـئة
هذه المقالات محاولة لاسترجاع الذكريات في جامعة الخرطوم في الفترة من أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، حين كان العود أخضرا. وكان كل شيء سليما ينبض حيوية ونشاطا في (قهوة النشاط) وغيرها من مرابع الصبا والشباب آنذاك. لقد كانت تلك فترة عصر ذهبي في السودان بكل المقاييس.
لقد أضفت بنات جامعة الخرطوم – آنذاك – السمر والبيض من السودانيات وغيرهن من الأجنبيات وبنات الفرنجة على الجامعة ألقا ونضارة وحلاوة وجمالا.
وقبيلة (البراكسة) هي مجموعة الطلاب الذين كانوا يسكنون الثكنات التي غادرها جيش المستعمر وأصبحت داخليات الطلاب بالقرب من سينما النيل الأزرق ومستشفى العيون.
ولا يعني الحديث بضمير المتكلم أن تلك التجارب والمعاناة العاطفية والأزمات النفسية المذكورة في هذه المقالات قد مر بها المؤلف، فرافق الليل وسهر الليالي الطوال وسبح مع موج الذكريات. بل مر ببعضها ومر بها بعض الأصدقاء الأعزاء، وكنت شاهد عصر عليها وعايشتها معهم.
كانت هذه التجارب تبدو في تلك الأيام معضلات جسام عصي حلها، ومتاهات صعب الخروج منها. كما يجب أن أنوه بأن أسماء الأبطال المذكورة هنا، والذين مروا بتلك المواقف، ليست حقيقية.
ومر الزمان وعدنا بذاكرتنا إليها، فوجدناها ليست بتلك الصورة التي كانت عليها آنئذ، سبحان الله!!! وعندما قرأ الأبطال المواقف الآن ضحكوا كثيرا بأسنان ليست كاملة، وتضاريس زمان أظهرت بجلاء مسيرة الأيام عليهم!!!
اقتضت بعض المواقف إخراجا أدبيا، ولم تكن الأمور حقيقة بتلك الصورة لأسباب عديدة احتفظ بها لنفسي، وأستميحكم العذر في ذلك.
فإلى كل الأصدقاء من الجنسين، وكل الذين عاصروا تلك الفترة الذهبية في أي كلية من كليات جامعة الخرطوم أهدي هذه المحاولة الطريفة علها تضع على ثغورهم بسمات وآهات رضا، وعلى صدروهم تنهدات شوق دفين، فقد وضع الفرسان (رجالا ونساء) أو على وشك أن يضعوا أسلحتهم، وقد (ذهب النوار وبقي العوار).
سفهاء الجامعة
أ- فندق الشرق
عادوا بعد منتصف الليل بعد سهرة عامرة في "فندق الشرق". ويبدو أنهم اختاروا "فندق الشرق" على "صالة غردون للموسيقى"، و" سانت جيمس"، و "فندق الليدو"، و "أبو العباس"، حسب (عمران) الجيب.
سلكوا شارع الجمهورية يغنون، ويرقصون، و"يخيطون" الشارع من جانب إلى آخر، ويأتون بحركات سكارى آخر الليل. لم يكتفوا بذلك، بل سولت لهم أنفسهم أن يخرجوا شتلات الورد والأزهار من الزهريات في وسط شارع الجمهورية، ويبعثروا ترابها!!!
عكفوا على هذه العملية "السخيفة"، كلما أخرجوا زهرة رموها وبعثروا ترابها وهم يضحكون حتى أوشكوا على الوصول إلى داخليات الطلاب.
ولسوء حظهم، شاهدتهم دورية من السواري "شرطة الخيل الليلية" تعس الخرطوم وهم على مقربة من البوابة التي أسفل جسر بحري - الخرطوم الحديدي المؤدية إلى داخليات البركس "ثكنات الجيش الإنجليزي سابقا" وهم يؤدون تلك المسرحية "البايخة".
داهمتهم دورية " السواري" مشهرة أسواطها. أمرتهم بأن يضعوا كل زهرة في مكانها، ويعيدوا التراب إلى الزهرية وهم عائدون إلى "فندق الشرق" حيث بدأوا هذه اللعبة. استمرت هذه العملية حتى أصبح الصبح وهم في شغل شاغل.
أكملوا عملهم، ورتبوا الزهريات، وعادوا إلى الجامعة. لقد طارت السكرة، وكانوا متسخين نفسيا أكثر مما بدا عليهم!!!
ب-لسان طلعت
لسان طلعت هنا هو قطعة أرض ممتدة من الشاطئ إلى النيل الأزرق أمام وزارة التربية والتعليم حين كان السيد طلعت فريد – ذلك المربي الوطني الجسور - وزيرا للتربية والتعليم.
ذهبت مجموعة من سفهاء الجامعة إلى "لسان طلعت". عمرت جلستهم بالمسكر والحشيش "البنقو". ويبدو أنهم ثقلوا "العيار" وزادت "السطلة" حبتين. نزل أحدهم إلى النيل، وجرح نفسه في منطقة حساسة، وأوشك أن يغرق في النيل. لا ندري لماذا فعل ذلك بنفسه؟ فقد كان مثار حديث الجامعة، الطلبة والطالبات على حد سواء. ألم يجد غير ذلك "العضو الحساس" ليحاول قطعه؟!!
على كل حال استقر ذلك الطالب في مستشفى الخرطوم الملكي تحت العناية. شفي بعد مدة، وعاد إلى قواعده سالما. لكنه لا يدري إلى الآن لماذا أقدم على تلك الفعلة الغريبة!!!
طالب آخر راح يرقص ويغني ويقفز في شارع النيل، وهو عريان إلى مشارف القصر الجمهوري. تخطفته أيدي شرطة السواري، وأعملوا فيه أسواطهم. استقر في سجن أم درمان لأكثر من أسبوع، وثلته في الجامعة تبحث عنه. فقد اختفى من راداراتهم تماما.
كان ذلك الشقي يدير حوارا غريبا من نوعه مع ضابط الشرطة في سجن أم درمان، سيء السمعة. يسأله الضابط غير مصدق أنه طالب بجامعة الخرطوم:
اسمك مين يا ولد؟
معاوية محمد أحمد
المهنة؟
طالب جامعي
أتكلم كويس يا ولد!
والله طالب بالجامعة
في تلك اللحظة يكون ضابط الشرطة قد ضاق ذرعا بإجابته غير المقنعة والمستبعدة تماما، فيصفعه صفعة تلقي به من كرسي الاستجواب. ثم يبدأ معه من جديد، ويصلان إلى النهاية ذاتها. فليس هناك ما يثبت صدق كلامه، لأنه حين ألقي القبض عليه كان عاريا (ملط).
يأمر الضابط العسكر بأخذه من أمامه، ويعود الطالب الجامعي إلى ثلة المساجين التي لم تصدق أيضا أنه طالب من جامعة الخرطوم المحترمة!!!
أخيرا وعن طريق الصدفة اهتدت ثلته إليه. شهدت أمام ضابط الشرطة، وأحضرت بطاقة (كارنيه) الجامعة، وكل الأوراق التي تثبت أنه طالب بجامعة الخرطوم، فأطلق الضابط سراحه غير مصدق، ومستهجنا أن يكون أحد طلاب هذه الجامعة العريقة والمحترمة بهذه الصورة. عاد "فرعون" العاري إلى جامعة الخرطوم تزفه الثلة المجنونة!!!
ت-حركات الجيش
للجيش حركات كثيرة من بينها: (القيام راقدا) و(الزحف أرضا) و(صفا وانتباه) و(ضرب النار) وغيرها. استعار السفهاء في جامعة الخرطوم جملة هذه الحركات وأطلقوا عليها اسم "حركات الجيش".
كان الطلاب يرتادون "أبو صليب" وأماكن بعينها تجاور كلية الطب في الأمسيات وأخرى في أم درمان تجاور السينما الوطنية وثالثة في بحري بالقرب من (سعد قشرة والديوم) وغيرها من الأماكن "سيئة السمعة" الموزعة في العاصمة المثلثة.
فقد دأبت الحكومة البريطانية على تخصيص أماكن وأحياء محددة لهذه الممارسات في كل مدن السودان. وأصبحت سمة كل مدينة إلى أن بعثرها النميري (رحمة الله رحمة واسعة) بدون تخطيط كالعادة، فعم بلاؤها كل الأحياء. وأختلط الحابل بالنابل وأصبح من العسير أن تميز بين الحرة والبغي.
العجيب أن الحكومات المتتالية التي تعتبر أنفسها حكومات إسلامية لم تعر هذه الظاهرة اهتماما. اعتبرتها واقعا، وتعايشت معها كأن شيئا لم يكن!!!
لم تتخذ أي حكومة من الحكومات إجراء جادا لحل هذه المشكلة الاجتماعية التي تعرف بأنها " أقدم مهنة في التاريخ" إلى أن دخل " ثور" مايو مستودع الخزف فحطمها مع غيرها من الخمارات في لحظة تجلي يقال أنها مجرد "حسادة" لأن الأطباء منعوا النميري – رحمه الله رحمة واسعة - من شرب المسكر، فآثر ألا يتوقف عن الشرب وحده. أحب أن يشاركه كل المسئولين التوقف عن الشرب حسادة منه، فأراق الخمر في النيل وأسكر الأسماك. وأصدر قراراته الغريبة "الحكومة الرشيدة"، و"العدالة الناجزة"، و"تطبيق الشريعة" وغيرها!!!.
كان الناس يتحلقون كل مساء حول التلفاز لسماع فضائح الذين أنزلت بهم عقوبات كما كان يقول العامة "الشريعة والجلدة السريعة". طبقت الحدود – كيفما اتفق - وقطعت أيدي المساكين، ونجا كبار " الحرامية" من المسئولين في حكومة النميري من العقاب.
واستبسل بعض أدعياء الفقه في تطبيق الشرع، وأوجدوا المبررات له وهم يعلمون علم اليقين أن مجموعات بعينها من كبار رجالات الدولة قد أثرت بالحرام، ونبت لحمها من السحت، ولم يتخذوا أي إجراء حيالها!!!
هذا النوع من الفقهاء والإسلاميين المتشنجين سبب ظهور الأحزاب اليسارية في كل الوطن العربي والإسلامي. حقيقة هم الذين يصدون عن سبيل الله. نسمع الكثير من الجعجعة الإسلامية ولا نرى طحنا. يتميزون بالعداء الشديد للأحزاب اليسارية. فاليساريون لم يؤتوا علما في الشرع، واجتهد زعماؤهم في إيجاد العدل على الأرض بشكل يرونه مناسبا، وقد أفلحوا في إقامة دولتهم في روسيا لأكثر من سبعين عاما. فما حجتكم أنتم أيها الإسلاميون وقد نزلت الآية الكريمة: (اليوم أكلمت دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) يا أدعياء الإسلام الذين سقطتم في أول امتحان للسلطة والثروة في معظم التجارب الإسلامية في الحكم – باستثناء تجربة مهاتير في ماليزيا ورجب أردوغان في تركيا وحسن نصر الله في لبنان - حيث تقبلون على السحت غير مبالين بالشرع الذي تتشدقون به!!!
بعد قلة الأدب والانتهاء من "حركات الجيش" وقضاء الوطر يثير بعض الطلاب المشاكل في تلك المناطق، ويتعرضون للضرب، وأحيانا للاعتقال. ويتسلل البعض الآخر في هدوء إلى تلك الأماكن ويعود "ولا بنشاف ولا بندري". وبعضهم ممن كان حظه سيئا تصفر الصافرة وهو في تلك الأماكن، فيحتل مكانا مرموقا في كوامر (شاحنات) الشرطة التي تجوب به الشوارع إلى المخافر. وكلما مر تحت مصباح كهربائي من مصابيح الشوارع غطى وجهه حتى لا يتعرف عليه أحد من المارة.
ث-السفيهات
يبدو أن المسألة ليس قصرا على الطلاب فقط. فبعض الطالبات قليلات أدب وسفيهات بمعنى الكلمة. كانت منهن من تضع داخل حقيبة يدها "فتايل"صغيرة من (الكرفوازير)، وعلب السجائر، وأشياء أخرى. لم نكن نصدق أعيننا، ولكنها الحقيقة!!!
وكانت بعض السفيهات يقصدن الأندية وجمعيات الصداقة المنتشرة في الخرطوم (جمعية الصداقة السودانية الألمانية)، و(جمعية الصداقة السودانية الفرنسية)، و(جمعية الصداقة السودانية الإنجليزية) التي تسمى الراينو "أي وحيد القرن"، وخد يا رقص و" مساخر أخرى". والبعض الآخر له حيله وحياته الخاصة داخل الحرم الجامعي وخارجه.
في عصر يوم من أيام الامتحانات المحمومة، خلا أستاذ الفلسفة الأجنبي بواحدة من الطالبات الأجنبيات في مكتبه. ويبدو أنها (همت به وهم بها ولم يريا برهان ربهما). لسوء حظهما شاهدهما بعض الطلبة المنتشرين فوق سطح مبنى المدرج 102 المجاور من خلال النافذة المفتوحة. ساد الهرج والمرج مما استدعى تدخل الدكتور الحازم مصطفى حسن، عميد كلية العلوم أو رئيس شعبة الكيمياء آنذاك، الذي أمهلهما ثمانية وأربعين (48) ساعة فقط لمغادرة السودان.
وفي أحيان كثيرة كنا نسمع عن بعض الأحداث المتفرقة التي كانت تضخم نوعا ما وتنتشر في الجامعة انتشار النار في الهشيم.
ضحكت يوما إحدى السفيهات عندما رأتنا نبحلق (نمعن النظر) في إحدى الجميلات أمام كلية الآداب. وقالت:
والله أنا لو ولد ما أخلي واحدة من بنات الجامعة ديل إلا و(أشحدها)!!!
لم نصدق آذاننا. دهشنا، وتساءلنا في قرارة أنفسنا: ماذا تقصد هذه الآنسة؟!! أهي دعوة صريحة، أم ماذا؟!!
فيما بعد كانت تلك الآنسة (تخالل) أحد أساتذتنا السفهاء وقيل أنها حملت منه سفاحا!!!
ج.هيفاء علم الاجتماع
كانت أستاذتنا في علم الاجتماع غادة هيفاء من الفرنجة. كانت كعادة بنات جنسها لا تغطي جسدها بثوب سوداني أو أي قطعة قماش أخرى فوق الفستان الرائع.
وكانت عندما تقتحم علينا المدرج، كنا نتفرس في جسدها أكثر مما تلقي علينا من علم الاجتماع. وأي اجتماع هذا الذي يجمع بنات الفرنجة بخليط مثلنا!!! كان البعض يكتب شعرا والبعض الآخر يرسم جسدا وهلم جرا.
ولكن حصدنا ما زرعنا آخر العام. فقد حلت بنا مذبحة وأيما مذبحة!!!! كان على أكثر من ثلاثة أرباع الفصل أن يعيدوا السنة الثانية. أسف رئيس شعبة علم الاجتماع "السيد كافيندش " الأمريكي لما حدث أشد الأسف على هذه النتيجة. لكنه كان لا يدري أن الهيفاء هي السبب!!!
كان الطلبة يحصدون جهلا مع هذه الغندورة في مشيتها وكلامها. فقد كانت محاضراتها عبارة عن استراحة للطلاب من المحاضرات الأخرى أكثر منها تحصيلا علميا!!!