ملامح الفكر السياسي للشيخ محمد الغزالي 5-8

 


 

 

 

نظرات في فكر الرواد

 

محمد وقيع الله

( 5 من 8)

 

(إهداء إلى فضيلة أستاذنا البروفسور عمر أحمد العوض .. مع الإعزاز)

 

 

 

تقترن موضوعات العدل الاقتصادي، بقضية الشورى اقترانا شديدا، فلا يكفي تفعيل آليات الشورى وحدها لاستقرار المجتمع، وإنما لا بد من التوازن أو التعادل الاقتصادي. وقد أثبتت الدراسات المسحية لعلم السياسة الحديث، أن اتّباع سياسات اقتصادية تهدد مكتسبات فئات بعينها في المجتمع، تكون نتيجته قيام حركات احتجاج واسعة من هذه الفئات تنذر باختلال نظام العمران برمته.

بل إن بعض النظريات تنحو إلى تقرير نتيجة مفادها أن شدة بطش النظام الحاكم، واتجاهه نحو الدكتاتورية، يتماشى، حذو القذة بالقذة، مع مستوى توزيع الثورة في المجتمع، فبطش الحاكم يتوالى طردياً مع تركيز الثورة في يده، وحرمان جموع الشعب من التمتع بنصيب معقول منها.

آراء الغزالي في العدل الاجتماعي:

واهتداءً باكراً بهذه الأفكار كتب الشيخ الغزالي أقدم وأحد أشهر ثلاثة كتب ظهرت بالعربية عن فلسفة النظام الاقتصادي الإسلامي؛ أما كتاب الغزالي فهو (الإسلام والمناهج الاشتراكية)، وأما الكتابان الآخران فهما (العدالة الاجتماعية في الإسلام) لسيد قطب، و(اشتراكية الإسلام) لمصطفى السباعي. وقد جاءت الكتب الثلاثة إبان صعود المد الفكري الاشتراكي في العالم العربي في الأربعينيات وما بعدها، وتميزت ثلاثتها بالأصالة الفكرية والإضافة إلى الفكر الإسلامي، وذلك على الرغم من أن مصطلح (الاشتراكية) ظهر في عنوانيْ كتابين منها، بينما آثر سيد قطب نَحْتَ مصطلح (العدالة الاجتماعية) الذي شاع استخدامه بعد ذلك.

وقد يبدو الآن أن تلك الكتب ما كانت سوى كتب مرحلة متقادمة، لأن زمان الاشتراكية قد ولّى بعد انهيار نظريتها ودوال الأنظمة السياسية التتي تولت فرضها. وهذه نظرة قاصرة بالطبع، لأن

الفكر الاشتراكي فكر أصيل عتيق، أسس معالمه الكبرى أفلاطون، وما تزال الكتابات تتنوع وتتالى فيه،

 والحاجة إليه تتجدد وتشتد، ولا يضير أن تسقط بعض الصور المتطرفة لذلك الفكر. فطالما ظل هناك استغلال وظلم في هذه الدنيا (والظلم من شيم النفوس، كما تقرر عند الحكماء)، فإن الحاجة إلى العدل والمساواة تظل إحدى الحاجات الملحة للإنسانية.

ولأن دراسة السياسة بلا اقتصاد هي من قبيل دراسة اللغة بلا نحو، فقد تحتم على الغزالي ولوج الميدان الاقتصادي لإعطاء آراء أصيلة حول تقسيم الثروة في المجتمع. وقد كان الرأي الشائع حينها أن الإسلام يقرُّ التفاوت الهائل في توزيع الثروات، ويحابي الأغنياء، ويسكّن ضغائن الفقراء المغبونين. هذا الرأي التبسيطي تناوله الغزالي بالنقض في كتابه الإسلام والمناهج الاشتراكية، ثم قارن ما بين حلول الإسلام للمشكل الاقتصادي، وحلول المدارس الاشتراكية على اختلاف منازعها ومشاربها.

ومع أن آراء الغزالي الاقتصادية قد تشعبت لتشمل قضايا المساواة، والحرية، والكرامة الإنسانية، إلا أننا سنقصر هذا العرض على ما يهم الناس عادة عند التطرق لقضايا الاقتصاد وتنظيم الحياة الاقتصادية، وفي هذا المقام فإن أهم ما يهم هو:

حق العمل:

 الذي يكتسب في ظل النظام الإسلامي أهمية خاصة، إذ إنه الحق الذي تترتب عليه حقوق الملكية، وهو كذلك هدف مقصود من غايات الخلق، وتكليف من تكاليف الرسالة . ولحكمة عليا جعل الإنسان يكدح لابتغاء الرزق: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ (الأنبياء:8). ويقرر الإسلام لكل أفراد المجتمع حق اختيار نوع العمل الذي يوافق مواهبهم، ونوع التدرب الذي من حقهم أن يحصلوا عليه، بيد أن العمل قد قيد بأطر تشريعية تمنع الغش فيه والسرقة والاحتكار والاستغلال وسائر أنواع الكسب الحرام.

حق الأجر:

 ويقرر الغزالي أن العمل سلعة مثله مثل أية سلعة أخرى. والسلع جميعاً تترك في ميدان السوق لقانون العرض والطلب، وقلَّما تتدخل الدولة لتحديدها: " ونحن نرى أن الموظفين والعمال أصحاب خبرة ودراية ومهارة، وأن الخدمات التي يؤدونها للمجتمع لا تعدو أن تكون هي الأخرى سلعاً يرتفق الناس بها، ولا يستغنون عنها. فهل تترك هذه المواهب والمنافع المقرونة بها، في مهب الريح ترتفع وتنخفض دون ضابط عدل؟

لا!! إن الجهد البشري الذي يبذله موظف أو عامل في إنجاز أمر من الأمور، أو إتقان سلعة من السلع، له عوض مالي يمكن جعله ثمناً مقبولاً له، فإذا تدخلت ظروف مصطنعة لبخس هذا الثمن أو المغالاة فيه، فإن العدالة التي قررتها الشريعة فمنعت المتبايعين في الأسواق عن التغرير والخداع والاحتكار، تنتقل هنا لتمنع كذلك الغلو والحيف، أو الجشع والانكسار.

 والواقع أن الخدمات العلمية والفنية واليدوية يجب أن تلقى مقابلاً مجزئاً، لا يشعر معه الموظف أو العامل أن جهده أُهدِر، وأن مواهبه بيعت بثمن بخس". فالدولة الإسلامية ملزمة – إذن- بحماية العمال ضد تغول الرأسماليين الذين أثبت لهم التاريخ طبيعة الجشع والاستغلال.

حق الملكية:

 والملكية تثبت عادة اكتساباً عن العمل، ولكن الإسلام لا يمنع وسائل التملك الأخرى كالميراث والهبة، ولكن يبقى العمل هو وسيلة التملك الأساسية، ومن هنا تنتفي وسائل السخرة والاستغلال والاحتكار والربا. وقد احترم الإسلام حق الملكية ووضع الضوابط الكثيرة لحمايته وتعزيزه، إذ :

" أنه أثقل هذا المبدأ بالواجبات الاجتماعية النبيلة حتى يكون المال في يد صاحبه مصدر خير له وللناس".

 ففيه حق للفقراء المحرومين من الزكاة، وفيه حقوق أخرى للمجتمع غير الزكاة، وهو مجرد استخلاف على المال، المحتاج إليه أحق من التلوي عليه في بعض الأحيان، كما عبر سيدنا عمر بن الخطاب عند استنكاره لسلوك بعض الناس عند حرمانهم ابن السبيل من الماء، فقال: " إن ابن السبيل أحق بالماء من الثاوي عليه ".

والضمان الاجتماعي مبدأ قديم قدم الدولة الإسلامية، قرره رسول الله r عندما كفل الفقراء والمعدمين، وقرر لهم حق (العطاء) الثابت في بيت المال، بما يكفي حاجاتهم، يدفع عوزهم، وإذا كانت الدول جميعاً، بما فيها أشدها تطرفاً وغلواً في الرأسمالية، قد رأت أهمية مستوى حياتهم، فإن هذا المبدأ قد تقرر من قديم الزمان في الإسلام، وما كان سوى اشتقاق طبيعي من مبدأ العدل الإسلامي العام؛ وما كان الإسلام ليحتاج إلى أن يكتشف، اكتشافاً متأخراً، أن مبدأ فائض القيمة بما يؤدي إليه من إفقار متزايد للفقراء، وتوسيع لهوة التباين الطبقي في المجتمع، يمكن أن يولد شرارات الثورة والاحتراب الاجتماعي؛ فقد كفى الإسلام المسلمين شر بلايا تلك التجربة الوبيلة، وبالتالي عصم مجتمعاتهم من أن تنشأ فيها صور الإقطاع والظلم الطبقي الفادح كما اعترف بذلك بعض المنظرين الماركسيين.

وبما أن الدولة الإسلامية مكلفة بإرساء قواعد المساواة والعدل، فإنه لا ينتظر منها أن تقف تلقائياً في صف أصحاب الملكيات وأرباب العمل، كما تفعل الدولة الليبرالية، وإنما عليها أن تصغي إلى العمال والمستخدمين وتمكنهم من الضغط على مستخدميهم لاستيفاء حقوقهم وامتيازاتهم.

وهنا لا يمانع الشيخ الغزالي من أن تنشأ نقابات مهنية قوية في المجتمع المسلم، تكون بمنـزلة جماعاتِ مصالح ومراكز ضغطٍ، تعمل في سبيل انتزاع حقوق منسوبيها. وإن كان الغزالي لم يفصل كثيراً في موضوع النقابات – وهو تفصيل ليس مطلوباً منه بالطبع- فإنه يمكن القول إن فكرة إعطاء النقابات حظاً من القوة التي تستطيع بها التأثير في عملية اتخاذ القرار، إنما هو فرع من عملية الشورى في المجتع المسلم، وهي العملية التي تتوخى توزيع القوة توزيعاً عادلاً في المجتمع، وبداية ذلك إنما تكون بتخفيض قوة الدولة والرأسماليين، وتزويد الطبقات المسحوقة بشيء من أدوات الضغط لتمكينها من الإسهام في صياغة القرار.

دور النقابات:

هذا وربما صلح لتطوير تلك الفكرة النظر في اقتصاديات الأقطار الصناعية التي تصوغ سياساتها النقابات (corporatism)، وهي التجربة التي ثبت نجاحها في أقطار كثيرة مثل النمسا، والنرويج، والسويد، والدانمارك.

 وتنال تلك التجربة اهتماماً متزايداً من علماء السياسة المقارنة بحسبانها تشكل منظوراً اقتصادياً جديداً يسهم في ضبط إفراط النظام الليبرالي، ويعالج أمر تفريطه في حقوق الفئات المستضعفة، وتتوافق الفئات الاقتصادية جميعاً في اتخاذ السياسات العامة للدولة، وخصوصاً فيما يتصل بتحديد الأسعار، وتوجيه الخدمات، وذلك بما يحقق - إلى أقصى مدى ممكن- مصالح جميع الفئات. وعادة ما تكون العلاقة هنا بين النقابات علاقة تنسيق وتوفيق بين المصالح، على العكس مما عليه الحال في المجتمعات الليبرالية حيث العلاقة هي التنافس وهيمنة الأغلبية على حظوظ الأقلية.

ولا يتسع المقام هنا للتفصيل أكثر في شأن الـ “comporatism”، ويا حبذا لو يتخصص بعض طلاب الاقتصاد الإسلامي أو العلوم السياسية في دراسة جوانب هذه التجربة الخصبة وإغناء الفكر الإسلامي بها. وذلك مع ملاحظة أن المناخ الاجتماعي الإسلامي بما فيه من خلال التساند والتكافل خليق بإنجاح التجارب التعاونية. ولعله من المناسب أيضاً ملاحظة أن الأقطار الغربية التي نجحت فيها تجارب الـ comporatism كانت هي الأخرى بمنجاة من عقابيل تجارب الإصلاح الديني، وما يسمى بالأخلاق البروتستانيتية، وصورالليبرالية والرأسمالية المتطرفة، مما هيأ مناخاً صالحاً لنجاحها.

الاستفادةة من الغير أمر لا يعاب:

إن النظر في مثل هذه التجارب أمر لا يعاب، إنما يُعاب النقل الفكري الحرفي انبهاراً بما عند الآخر وجهلاً بغنى الذات.

 وبعض تجارب الفكر الإنساني والمجتمعات الإنسانية يمكن أن نستصحب منها أجزاء تتلاءم مع معتقداتنا وثقافاتنا ومقررات الشرع.

 وعلى العموم فما سبق استعراضه هو جوهر ما أسماه الغزالي بالاشتراكية الإسلامية؛ وفي الحقيقة إنه لم يستنبط شيئاً عجباً من نصوص الإسلام ولم يَقْسِر تلك النصوص قسراً ليتمخض عنها ما تأباه طبيعتها، وإنما يمكن أن نجد أمثلة ونظائر كثيرة لهذا الفكر منثورة في كتب الفقهاء القدامى كابن حزم، وابن القيم، والماوردي وسواهم.

 وقد كان جهد الغزالي هو أن كيَّف هذا الفقه بصورة جديدة ليتوافق مع أفهام المعاصرين، حيث أصبح العرض الفكري المقارن، وأحياناً استخدام المصطلحات السائدة، ضرورة لا مهرب منها.

وفي هذا المنحى فقد عُوتب الغزالي كثيراً على ترخصه في استخدام مصطلح الاشتراكية، كما جرت مؤاخذة الشسخ مصطفى السباعي على ذلك. وكثيرمن القراء الإسلاميين يبدون حساسية شديدة من استخدام المصطلحات الأجنبية، هذا الاستخدام الذي يستدعيه منهج العرض الفكري الموزان.

 وأحياناً يثيرون السؤال الآتي: أليس الإسلام منهجاً إلهياً مستقلاً بذاته يمكن عرضه كما هو باستخدام مصطلحاته الخاصة به، بعيداً عن الموازنة بالأديان والنظم الأخرى؟ أم أنه لا بد من مقارنته بالأنظمة الأخرى، الأمر الذي قد يتطلب استخدام مصطلحات وتصورات غريبة عنه؟!

وفي نظري إنه لا ضير في استخدام أي من الطريقتين، فالمهم هو عرض الإسلام عرضاً عصرياً حياً، يخاطب حاجات الناس، ويجيب على إشكالاتهم، فإن أمكن ذلك بالموازنة أو بسواها فقد تحقق المقصود.

والشيخ الغزالي كان ميالاً للأخذ بأسلوب الموازنة في كثير مما كتب، وله شفيع – أي شفيع- في استخدام القرآن منهج الموازنة بين عقائد التوحيد وعقائد الشرك، وعرض المنهج الإسلامي على غيره من المناهج، والموازنة بين مصائر المؤمنين والكفار في الآخرة وغير ذلك.

 وفي العصر الحديث فقد كانت أقوى عروض الإسلام هي العروض التي استخدمت المنهج المقارن، وتحدثت بلغة العصر، وفي ترخص الغزالي في استخدام مصطلح الاشتراكية مراعاة لكل هاتيك الحيثيات.

 

آراء