ذكريات جامعة الخرطوم … بقلم: بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
13 February, 2010
1967-1972
Gibriel47@hotmail.com
توطـئة
هذه المقالات محاولة لاسترجاع الذكريات في جامعة الخرطوم في الفترة من أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، حين كان العود أخضرا. وكان كل شيء سليما ينبض حيوية ونشاطا في (قهوة النشاط) وغيرها من مرابع الصبا والشباب آنذاك. لقد كانت تلك فترة عصر ذهبي في السودان بكل المقاييس.
لقد أضفت بنات جامعة الخرطوم – آنذاك – السمر والبيض من السودانيات وغيرهن من الأجنبيات وبنات الفرنجة على الجامعة ألقا ونضارة وحلاوة وجمالا.
وقبيلة (البراكسة) هي مجموعة الطلاب الذين كانوا يسكنون الثكنات التي غادرها جيش المستعمر وأصبحت داخليات الطلاب بالقرب من سينما النيل الأزرق ومستشفى العيون.
ولا يعني الحديث بضمير المتكلم أن تلك التجارب والمعاناة العاطفية والأزمات النفسية المذكورة في هذه المقالات قد مر بها المؤلف، فرافق الليل وسهر الليالي الطوال وسبح مع موج الذكريات. بل مر ببعضها ومر بها بعض الأصدقاء الأعزاء، وكنت شاهد عصر عليها وعايشتها معهم.
كانت هذه التجارب تبدو في تلك الأيام معضلات جسام عصي حلها، ومتاهات صعب الخروج منها. كما يجب أن أنوه بأن أسماء الأبطال المذكورة هنا، والذين مروا بتلك المواقف، ليست حقيقية.
ومر الزمان وعدنا بذاكرتنا إليها، فوجدناها ليست بتلك الصورة التي كانت عليها آنئذ، سبحان الله!!! وعندما قرأ الأبطال المواقف الآن ضحكوا كثيرا بأسنان ليست كاملة، وتضاريس زمان أظهرت بجلاء مسيرة الأيام عليهم!!!
اقتضت بعض المواقف إخراجا أدبيا، ولم تكن الأمور حقيقة بتلك الصورة لأسباب عديدة احتفظ بها لنفسي، وأستميحكم العذر في ذلك.
فإلى كل الأصدقاء من الجنسين، وكل الذين عاصروا تلك الفترة الذهبية في أي كلية من كليات جامعة الخرطوم أهدي هذه المحاولة الطريفة علها تضع على ثغورهم بسمات وآهات رضا، وعلى صدروهم تنهدات شوق دفين، فقد وضع الفرسان (رجالا ونساء) أو على وشك أن يضعوا أسلحتهم، وقد (ذهب النوار وبقي العوار).
جنوبيــــات
أ-جيمـس والبلابل
كان جيمس طالبا من جنوب السودان دمث الخلق ظريفا لطيفا ومحبوبا بين الزملاء من الجنسين. كان يتميز بأنه من أفضل لاعبي كرة السلة في السودان، وليس الجامعة فقط. وكان يتميز أيضا بمهارة فائقة وإبداع فريد في لعب كرة السلة.
أخذ جيمس موعدا من إحدى البلابل (الطالبات) – كما كان يسميهن – لمرافقته إلى سينما النيل الأزرق الرومانسية التي تقع على شاطئ النيل الأزرق التي تتسم بالهدوء، ويؤمها المثقفون، ورجال السلك الدبلوماسي، وطلاب جامعة الخرطوم في الغالب الأعم. وكانت لا تعرض الأفلام العربية والهندية آنذاك. فهي سينما صفوة، والجالسون على المقاعد الشعبية هم طلاب جامعة الخرطوم التي يقال أنها كانت تحتل الرقم الحادي عشر (11) عالميا، وليس محليا ولا إقليميا.
كان طلاب جامعة الخرطوم من كل الدنيا: من اليابان شرقا إلى الولايات المتحدة الأمريكية غربا، ومن السويد شمالا إلى أستراليا جنوبا. وكذا الحال بالنسبة للأساتذة العاملين فيها. لقد كانت فعلا قلعة من قلاع التعليم العالمي الراقي جدا، قبل أن تعبث بها أيدي الآثمين – قاتلهم الله.
بات جيمس تلك الليلة يحلم بليلة الغد الرومانسية وهو بصحبة تلك الفتاة الغندورة الحلوة. ازداد شوقي بعدما أخبرني عن الموعد المرتقب، فبت أيضا أترقب طلوع فجر ذلك اليوم.
التقينا صباح ذلك اليوم في حرم الجامعة، وتزاملنا إلى قهوة النشاط. بعد ما تناولنا المرطبات، عدنا إلى مدرج 102 لاستئناف الدراسة. وانقضى اليوم بطيئا، حتى جاء المساء.
كنت عائدا مساء ذلك اليوم من مشوار بشارع النيل مع بعض الزملاء، فإذا بي أمام جيمس الظريف وجها لوجه. ابتدرته بالتحية، لكن لم يعجبني أسلوبه في رد التحية. لم أعهده كذلك. فقد كان في منتهى البرود. فعلمت أن شيئا ما قد حدث في برنامج المساء. ودارت بخلدي أشياء عديدة، وقلت في نفسي لابد أنها أخلفت الموعد:
- خير يا جيمس؟!!
- ما جات، تصور!
كان وقع إجابته علي كوقع الصاعقة. فإنا أعرف تلك الغندورة، ومقالبها (خدعها) الكثيرة. لكن هذه المرة الوضع مختلف تماما. لأن معظم الإخوة الجنوبيين يتحرجون من مرافقة الطالبات الشماليات بسبب العقد الاجتماعية الكثيرة. لذا من النادر أن تجد جنوبيا مع طالبة شماليه في مشوار داخل الجامعة أو هما جالسان سويا في قهوة النشاط - وحدهما.
فنظرة المجتمع للجنوبي لم تزل متخلفة جدا. ويبدو ذلك جليا عندما تكون النساء في البيوت ويدخل عليهن جنوبي- أيا كان- لا يكترثن لوجوده حتى ولو كن متبرجات. أما إذا دخل عليهن (ود عرب) حتى ولو كان يبيع الحطب، أو الفحم، أو اللبن فتراهن يعدلن من حالهن ويتغطين. هو أرث متخلف جدا ساهم فيه الرجل الأسود بتخلفه عن بقية أطياف المجتمع الإنساني و(السوداني) خاصة. ولن يزول هذا الإرث قريبا.
لقد قطعت الحقوق المدنية شوطا طويلا في الولايات المتحدة الأمريكية بعد مقتل (مارتن لوثر كنج) و(جون كنيدي) في الستينيات من القرن العشرين. ولم تنفرج تلك الحال – نسبيا - إلا في أوائل القرن الحادي والعشرين، وكان من مؤشراتها تولي باراك حسين أوباما – ذو الأصل السوداني الكيني - لسدة الرئاسة الأمريكية.
وهذه هي المرة الأولي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية التي يدخل فيها رئيس أسود البيت الأبيض. وربما يكون هذا أول الغيث، ثم ينهمر في كل بقاع الأرض. فالرجل الأسود كان دائما في قاع السلم الحضاري. لماذا؟ لا أدري. ولله في خلقه شئون!!!
ذهبت وجيمس إلى بوفيه داخلية الحقوق. وعلى العشب الأخضر وضوء القمر هدأت ثورته. سكت عنه الغضب بعد جهد جهيد، وعاد إليه أخيرا ظرفه وملاحته وردد قولته المشهورة: (بلابلكم ديل ما بحبونا). ضحكنا وقلت له: (تعيش وتاخد غيرها)!!!
ب-(أكيج) والسـحور
استيقظ (أكيج) - الطالب الجنوبي الجديد - صدفة في ساعة السحر. فوجئ بطابور طويل من الطلاب أمام السفرة (قاعة الطعام). استغرب الأمر للحظات. لماذا يقف الطلاب في ساعة متأخرة من الليل أمام قاعة الطعام. كانت تلك هي المرة الأولى التي يشاهد فيها شيئا كهذا!!
فما كان من (أكيج) إلا أن أيقظ صديقه (إدوارد) بسرعة. نهض (إدوارد) منزعجا. وبلهجة إنجليزية جنوبية قال أكيج:
- انهض يا (إدوارد). هؤلاء العرب يخدعوننا. إنهم يأكلون في منتصف الليل. (Edward, wake up. These Arabs are cheating us. They are eating midnight).
هبطا درج الداخلية ركضا حتى وصلا إلى طابور السحور، وانتظما فيه. إلا أن أحد الطلبة فطن إلى أن الأخوين لابد وأنهما غير مدركين لهذه المناسبة الكريمة.سألهما قائلا:
- أنتو صايمين؟
استغرب (إدوارد) السؤال. لكنه عندما نظر إلى المنتظمين في الطابور شك في الأمر وأدرك أنهما في شهر رمضان المبارك. نظر إلى (أكيج)، ويبدو أنهما أدركا الموقف. فأجاب قائلا:
- لا مش صايمين.
خرجا إثر ذلك من الطابور وبدءا في ضحك هستيري، وهما عائدان إلى غرفتهما.
ت-غردون وبيتـر
لقي (غردون) -أحد الطلبة الجنوبيين - صديقه (بيتر) بعد عام من دخولهما كلية العلوم واختبار التصفية الذي يوزع بموجبه الطلاب إلى كلية الطب والصيدلة والبيطرة والزراعة ويظل الباقون في كلية العلوم.
ذهب (غردون) إلى كلية الطب ومضى (بيتر) إلى كلية الزراعة في شمبات. وعندما التقيا ابتدر (غردون) صديقه بيتر قائلا:
- أين كنت يا (بيتر) طوال هذه المدة؟ (Where have you been Peter all this time?)
أجاب (بيتر) قائلا:
- تعرف يا (غردون)، إن جماعة علم الحيوان قد جاءوني بسمكة. أخطأت في قطعها.
فأرسلوني بعدها إلى شمبات. (You know Gordon; these people of Zoology had brought me a fiss (fish). I cut it the wrong way. So, they sent me to Sambat (Shambat).
ث-الجنـوبي وقهوة النشاط
جلس يوما أحد الطلبة الجنوبيين الجدد على (دكة) قهوة النشاط في يوم ماطر ندي النسيم. احتسى كوب شاي ساخن رفع من روحه المعنوية. فقال لصاحبه الذي كان بجواره:
- أخيرا هذه هي الجامعة. وهؤلاء هن الطالبات! (At last, this is the university. And these are the ladies).
وكانت ثلة من الطلبة على مقربة منه؛ فضحكت حتى دوت قهوة النشاط بضحكتها. أدركنا من مقولة الطالب الجنوبي مقدار معاناته، ومعاناة الطلبة الجنوبيين عموما في الوصول إلى الجامعة.
ج-أول طالبـة جنـوبية
كان الطلبة الجنوبيون – في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي - يعانون من عدم وجود طالبات جنوبيات في تلك الفترة. ولحسن الحظ ومع إطلالة العام الجديد أطلت عليهم إحدى الطالبات الجنوبيات. فاكتمل عقدهم، وكانت واسطة العقد.
فكانت تلك الطالبة لا تغدو أو تروح إلا وحولها حاشية من الطلاب الجنوبيين مزدانة بجمعهم الممشوق القوام، وبقامتها الفارعة وسطهم. فلم نكد نراها تمشي وحدها أبدا.
منذ تلك اللحظة التي أقبلت فيها تلك الطالبة الجنوبية، شهدنا تقدما ملحوظا في أناقة الطلبة الجنوبيين. تنوعت عطورهم، وربطات العنق، والأحذية، وموضات بناطلين (الشارلستون) في خزانات ملابسهم.
سألت صديقي (مايكل):
- الحكاية شنو؟ أيه الحاصل؟ شايفكم مش على بعضكم!
- أجاب قائلا: الحمد الله أول الغيث قطر ثم ينهمر.
لقد كانت فعلا بداية سعيدة لدخول الطالبات الجنوبيات اللائي كان يتوق الطلبة الجنوبيون لدخولهن جامعة الخرطوم. وصدق صاحبي في حدسه. فقد بدأ الغيث ينهمر، وما انقضى عامان حتى زاد عدد الطالبات الجنوبيات زيادة ملحوظة.
ح.الخبيـثة
تقول الشائعات أن إحدى الطالبات الخبيثات قررت بعد دخول أول طالبة جنوبية جامعة الخرطوم أن تلعب بأعصاب الطلاب الجنوبيين. فقامت بطباعة بطاقات دعوة وزعتها على الطلاب الجنوبيين تدعوهم لحضور احتفال آخر العام في نادي طلاب الجامعة، والاحتفاء بقدوم أول طالبة جنوبية.
أكدت هذه الطالبة الخبيثة على ضرورة الحضور، وأن اللجنة المنظمة لهذا الاحتفال لن تفصح عن نفسها إلا في الاحتفال كمفاجأة سعيدة.
وكما ما قال عادل إمام (عينك ما تشوف إلا النور). فقد تجهز الطلبة الجنوبيون عن بكرة أبيهم نظافة وأناقة وعطورا وأحذية وبناطلين شارلستونات وربطات عنق. ثم انساب هذا الشلال الأسود إلى نادي الطلبة في الوقت المحدد. معنويات مرتفعة أظهرتها الضحكات المجلجلة السعيدة بهذه المناسبة الفريدة.
بعد انقضاء ساعة، ولم تظهر أي دلائل على إقامة الحفل المزعوم، شك الطلاب الجنوبيون في الأمر. بدأ يسأل بعضهم بعضا. ممن تتكون هذه اللجنة المنظمة، لاسيما أن البطاقات قد وصلتهم في وقت متأخر من مساء أمس فقط؟!
اهتدى الطلاب الجنوبيون إلى أن الأمر كله عبارة عن مقلب (خدعة) ليس إلا. ضحكوا لهذا المقلب السخيف/اللطيف الذي جمعهم في صعيد واحد وقرروا تحويل المناسبة إلى احتفال حقيقي، وكان لهم ما أرادوا.
عاد بعدها الطلبة الجنوبيون بعضهم ساخط وناقم، والبعض الآخر مبتهج يبحث عن (فاعل الخير) الذي رتب لهذه المناسبة اللطيفة السعيدة التي لم تكن متوقعة!!!
ذكريات جامعة الخرطوم
1967-1972
بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
Gibriel47@hotmail.com